بسم الله الرحمن الرحيم

نحمد الله حمدا نستعجل به مزيد قبوله ورضوانه، ونستقبل به جديد روحه وريحانه، ونتوكل على سعة رحمته وغفرانه، ونبذل الوسع في خدمة النبي الأمي الذي أعلمنا برفع شانه، ونستعمل ألسنتنا في مدحه الدال على حبه الذي هو أحد واجبات المرء في إيمانه، وندخل بعظيم بركته ويمن منقبته في أمن الله وأمانه، ونحصل في الدنيا في رضاه وفي الآخرة في غرفات جنانه، ونجعل خاتمة عمرنا في ذكر خاتم النبيين وسيد المرسلين بما يطابق من سر الذكر وإعلانه، صلى الله عليه وعلى آله صلاة تمكنه من درجة الوسيلة في رفيع مكانه.

أما بعد:

Page 199

فإن الواجب الاشتغال بكتاب الله المنزل، وبما صح من سنة النبي المرسل؛ فإنهما الأصلان اللذان يقربان إلى الله تعالى بالقول والعمل، وقد ألفت في ذلك كتبا عديدة، قطعت لها من العمر مدة مديدة، رجوت فيها ثواب الله تعالى في الأخرى وما يقرب منه يوم الزلفى، وقد رأيت الآن أن أختم ذلك بما خص الله به أعضاء رسوله، وما مدحها به في محكم تنزيله، وما ظهر لها من المعجزات، المسندة الطرق والروايات، مما استفدته شرقا وغربا من ذوي الدرايات، لينفعني الله به والقارئين له في المحيا والممات، فهو كتاب يزهو على المصنفات، لم يأت أحد بمثله ولا هو آت، فأقول والله حسبي ونعم الوكيل:

AUTO إن الله مدح وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال جل من قائل: {قد

نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها}، فبسبب تقلب وجهه حول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة جهرا، بعد أن صلى إليها ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، على ما ثبت باتفاق، عند علماء الآفاق.

فكانت بركة وجهه في التقلب معطية لرضاه، في إعطائه قبلة يرضاها فيما اقتضاه.

وفيه كرامة عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث أعطاه الله ذلك ولم يسأل ولا صرح ولا تكلم.

وفي قوله تبارك وتعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} تأويلات ثلاثة:

Page 200

أحدها: أن معناه تحويل وجهك في السماء، قاله أبو جعفر الطبري وأبو إسحاق إبراهيم بن السري المعروف بالزجاج.

الثاني: أن معناه تقلب عينيك في النظر في السماء، قاله الزجاج.

Page 201

الثالث: ذكره القاضي أبو الحسن علي بن محمد الماوردي فيما حدثني به الوزير الكاتب أبو بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور، حدثنا القاضي الشهيد أبو علي الصدفي، حدثنا أبو [غالب] شجاع [بن] فارس بن الحسين الذهلي السهروردي عنه أن معناه:

قد نرى تقلب وجهك في السماء، وإن كان الله تعالى يرى من كل مكان ولا يتحيز إلى مكان، فالمراد بذكر السماء إعظام تقلب وجهه لأن السماء مختصة بتعظيم ما أضيف إليها.

{فلنولينك قبلة ترضاها} يعني الكعبة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضاها ويختارها لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم.

ومعنى الرضا هاهنا لا يقدح في كونه صلى الله عليه وسلم مؤتمرا بما كان الله تعالى أمره به من التوجه إلى بيت المقدس، بل ذلك الرضا المتعلق بالكعبة هو محبتها وإرادتها حتى فعل الله له ما أراد إكراما، وقضى بإرادته إعظاما.

AUTO ومدح عينيه فقال جل من قائل: {ما زاغ البصر وما طغى}.

وما: حرف نفي.

والبصر: رفع بزاغ.

وما طغى: عطف على ما زاغ.

Page 202

وصفه جلت قدرته بالثبوت والتحقيق، وصحة نظره بالتصديق.

ومعنى ما زاغ: ما عدل عما أريه ليلة الإسراء.

وما طغى: ما طلب أن يرى غير ذلك ولا جاوز ما أمر به فطغى أي فارتفع عن الحد الذي حد له، وهو قول ابن عباس وجماعة من العلماء.

وقد تكلمنا على ذلك في كتاب ((الابتهاج في أحاديث المعراج))، وسأذكر في بصره ما جاء ثابتا بالاتفاق عن علماء الآفاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه، مما يزيد به أجر المرء في إحكامه.

AUTO ومدح لسانه فقال وهو أصدق القائلين: {لا تحرك به لسانك لتعجل

Page 203