بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف

الحمد لله الذي أظهر كمال جماله في مرآة بيته القديم، وأبرز يد قدرته في وضع الركن العظيم، وأشرف قدم خليله النبي الكريم، حيث كان قائما بالدين القويم، وواقفا على الصراط المستقيم.

والصلاة والتسليم عليه، وعلى أعلى ذريته، بدىء به في عالم الأرواح، وختم به في عالم الأشباح، من بين الأنبياء والرسل الكرام، وعلى آله وأصحابه الذين اقتدى بهم الأنام، في معرفة أحكام الإسلام.

أما بعد، فيقول الملتجئ إلى أذيال كرم حرم ربه الباري، علي بن سلطان محمد القاري: إن هذه الرسالة، نبذة من المقالة، في الدقائق المتعلقة بالحج وأسراره، التي هي تذكرة لمن يتذكر، وأنواره التي هي عبرة لمن اعتبر، فقيل: الحج حرفان، فالحاء: حلم الحق، والجيم: جرم الخلق. والإشارة في تشديد الجيم مع نقطته: إلى أن الحق يغفر أنواع جرم الخلق مع كثرته. وإيماء أن رحمته سبقت غضبه في مرتبة أزلية، لكن بشرط أن يكون الحج مبرورا، [ 198 أ] وسعيه مشكورا، بأن يكون سيره بتحسين النية، وتزيين الطوية، والخروج عن المعاصي بالكلية، وأن يكون زاهدا في الدنيا، وراغبا في العقبى، وطالبا لمرضاة المولى، مخلصا في طاعته، عن ملاحظة

Page 11

-51- ***

ريائه وسمعته، فقد روي عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (يأتي على الناس زمان يحج أغنياء أمتي للتنزه، وأوساطهم للتجارة، وقراؤهم للرياء والسمعة، وفقراءهم للمسألة)(1) ذكره ابن جماعة(2)، وسيأتي.

وعن بعض السلف أن رجلا جاءه، فقال: أريد الحج، فقال: كم معك؟ قال: ألفا درهم، قال: أما حججت؟ قال: بلى، قال: فأنا أدلك على أفضل من الحج؛ اقض دين مدين، فرج عن مكروب، فسكت، قال: مالك؟ قال: ما أريد إلا الحج، قال: إنما تريد أن تركب وتجيء، ويقال حج فلان.

ويروى أن بعض أهل الصلاح رأى فيما يرى النائم: أعمال الحج تعرض على الله، فقيل: فلان، فقال: يكتب حاجا، فقيل: فلان؟ فقال: يكتب تاجرا، حتى بلغ إليه، فقال: يكتب تاجرا، قال:

Page 12

***

فقلت: ولم ولست بتاجر. فقال: بلى حملت كتبة (1) غزل تبيعها على أهل مكة.

وفي الجملة ساق الشوق في محبة الله سبحانه إلى حرمه، رجاء جوده وكرمه، بحسب ما قرر كل أحد في قضاء الله وقدره، فقيل إن سبب هذا الشوق والغرام دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} (2). قال جمع من المفسرين، أي: تميل إليهم، وتحن عليهم، وتقف لديهم، ولو قال: فاجعل أفئدة الناس تهوي: جميعهم، ثم عبر عنهم بالأفئدة إيماء إلى أنهم خلاصة الخلق، وزبدة طلبة الحق، كما يومئ إليه قوله سبحانه: {يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا} (3).

وروي أن الله سبحانه يلحظ الكعبة المشرفة في كل عام لحظة من ليلة نصف شعبان، فعند ذلك تحن إليه قلوب أهل الإيمان.

Page 13

وروي أن الله تعالى أخذ الميثاق من بني آدم ببطن نعمان، وهي عرفة(4) وما حولها/ من المكان، فاستخرجهم هناك من صلب [ 198 ب ] ***

أبيهم ونثرهم بين يديه، كهيئة الذر، ثم كلمهم فقال: {ألست بربكم قالوا بلى} (1)، فكتب إقرارهم في رق، وأشهد فيه بعضهم على بعض، ثم ألقمه الحجر الأسود.

ومن أجل ذلك استحب لموافيه أن يقول: اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، وهذا يشير إلى أن حب الأوطان من الإيمان، فإنه دل على أن ذلك المكان أول وطن في عالم الإمكان، ونعم من قال:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى /وحنينه أبدا لأول منزل

وقيل لذي النون المصري (2): أين أنت من قوله: {ألست بربكم} (1)، قال: كأنه بأذني.

Page 14

***

ويروى أن الله تعالى أوحى إلى الكعبة عند بنائها، وظهور صفائها، وبهائها، إني خالق بشرا يحنون إليك حنين الحمام إلى بيضته، ويدفون إليك دفيف (1) النسر إلى فرخه، يعني: ويؤوبون إليك رجوع الطفل إلى حجر أمه، كما يشير إليه قوله تعالى: {أم القرى} (2)، فإنها تؤم للقرى.

قال العز بن جماعة: غلب علي الشوق إلى الحج والزيارة والمجاورة بمكة، والإقامة هنالك، وعزمت على ذلك وأنا في منصب القضاء بمصر، فأشار علي بعض أحباء لي بعدم السفر، شفقة منه ومخافة علي ممن يخشى أذاه بمكة المشرفة إلي، فأنشدت لبعضهم:

قالوا توق رجال الحي إن لم/عينا عليك إذا ما نمت لم تنم

إن كان سفك دمي أقصى مرادهم/فما غلت نظرة منهم بسفك دمي

والله لو علمت نفسي بمن هديت/ سارت على رأسها فضلا عن القدم

Page 15