CHECK [أدب الغرباء]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمدا برضيه ويوجب المزيد من فضله، وإياه نسأل إيزاع الشكر على ما أولى من نعمه

ودفع من نقمه. وصلوات الله ورضوانه على سيدنا محمد وآله لطاهرين من كل دنس، وبركاته

وتسليمه.

أما بعد، فإن أصعب ما ناب به الزمان ولقي في عمره الإنسان، عوارض الهم ونوازل الغم، نعوذ

بالله منهما. وحدوثهما يكون بأسباب أتمها حالا في السورة وأعلاها درجة في القوة: تغير الحال من

سعة إلى ضيق، وزيادة إلى نقصان، وعلو إلى انحطاط، والله سبحانه أخبرنا أن ذلك إحدى العقوبات

التي تهدد بها وخوف منها، فقال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال

والأنفس والثمرات وبشر آخر (اب) الصابرين} ولهذا الباب بين الناس من الشهرة والتعارف،

والظهور والتكاشف، ما يغني عن إقامة الدليل على صعوبته، وتقوية الشاهد على صفته، وربما قاد

الفراغ إلى التشاغل بغير مهم، ودعا التفرد إلى مقاربة النغص، وحملت الحاجة على تورط الحتوف،

وسهلت المحن ركوب كل مخوف. والذي بي من تقسم القلب، وحرج الصدر، يسومانني إلى مثل ما

ذكرته، ويبعثانني على مثل ما قدمته. فأشغل النفس في بعض الأوقات بالنظر في أخبار الماضين،

وأحاديث السالفين، فربما أسلت ذا شجن، وتأسى بمتضمنها ممتحن، فأنا في ذلك كغريق اللجة بما يجد

يتعلق، ويتشبث طلبا للحياة بما لحق. وقد جمعت في هذا الكتاب ما وقع إلي وعرفته، وسمعت به وشاهدته، من أخبار من قال شعرا في

غربة، ونطق عما به من كربة، وأعلن الشكوى بوجده إلى مشرد عن أوطانه، ونازح الدار عن

إخوانه، فكتب بما لقي على الجدران، وباح بسره في كل حانة وبستان، إذ كان ذلك قد صار عادة

الغرباء في كل بلد ومقصد، وعلامة بينهم في كل محضر ومشهد، فأرى الحال تدعو إلى مشاكلتهم

وحيف الزمان يقود إلى التحلي بسمتهم.

Page 1

ونسأل الله خير ما قدر وقضى، والمعونة على الدين بالدنيا، وعلى الآخرة بالتقوى، إنه على كل

شيء قدير. فمن ذلك ما حدثني به أبو عبد الله أحمد بن جيش التمار قال: حدثني أبي، عن بعض ولد

أحمد بن هشام، عن أبيه قال:

كنت في جملة عسكر المأمون حين خرج إلى بلد الروم، فدخل وأنا معه إلى كنيسة قديمة البناء

بالشام، عجيبة الصور. فلم يزل يطوف بها، فلما أراد الخروج قال لي: من شأن الغرباء في الأسفار

ومن نزحت به الدار عن إخوانه وأترابه، إذا دخل موضعا مذكورا، ومشهدا مشهورا، أن يجعل لنفسه

فيه أثرا، تبركا بدعاء ذوي الغربة، وأهل التقطع والسياحة. وقد أحببت أن أدخل في الجملة، فابغ لي

دواة. فكتب على ما بين باب المذبح هذه الأبيات:

يا معشر الغرباء ردكم ولقيتم الأخبار عن قرب

قلبي عليكم مشفق وجل فشفا الإله بحفظكم قلبي

إني كتبت لكي أساعدكم فإذا قرأتم فاعرفوا كتبيوروي لنا عن إسحاق بن عبد الله قال:

كنت في خدم أبي جعفر. فدخل قصر عبدويه وأنا معه. فقال: أعطني فحمة. فناولته، وكتب هذا

الشعر على الحائط:

المرء يأمل أن يعيش وطول عيش قد يضره

تودي بشاشته ويعقب بعد حلو العيش مره

وتسوؤه الأيام حتى لا يرى شيئا يسره

كم شامت بي إن هلكت وقائل لله دره

قال: فما لبث إلا قليلا. والشعر للبيد.

وحدثني أحمد بن زياد الكاتب، شيخ لقيته ببغداد، من أهل همذان قال: حدثني أبو الحسن علي بن

يحيى المنجم، عن أبيه قال:

أخذ الواثق يوما بيدي يتكئ عليها، ويطوف على الأبنية بسر من رأى ليختار منها بيتا يشرب فيه

في ذلك اليوم. فلما انتهى إلى البيت المعروف بالمختار استحسنه، وجعل يتأمله وقال لي: هل رأيت

Page 2

أحسن من هذا البيت؟ قلت: يمتع الله أمير المؤمنين به، وتكلمت بما حضرني. وكانت فيه صور عجيبة، من جملتها صورة بيعة فيها الرهبان، وأحسنها صورة شهار البيعة، ثم أمر بفرش الموضع

وإصلاح المجلس، وحضر الندماء والمغنون، وأخذنا في الشرب، فلما انتشى أخذ سكينا لطيفا كانت

بين يديه، وكتب على الحائط كأني أراه: ما رأينا كبهجة المختار لا ولا مثل صورة الشهار

مجلس حف بالسرور والنرجس والآس والغنا والبهار

ليس فيه عيب سوى أن ما فيه سيفنيه نازل المقدار

فقلنا: يعيذ الله أمير المؤمنين ودولته من هذا. ووجمنا. فقال: شأنكم وما واتاكم، فما يقدم قولي خيرا

ولا يؤخر شرا.

قال: واجتزت منذ سنيات بسر من رأى، فرأيت بقايا هذا البيت وعلى حائط من حيطانه مكتوب:

هذي ديار ملوك دبروا زمنا أمر البلاد وكانوا سادة العرب

عصى الزمان لهم من بعد طاعته فانظر إلى فعله بالجوسق الخرب

وبركوارا وبالمختار قد خليا من ذلك العز والسلطان والرتب

وحدثني أبو عبد الله الواسطي الشاعر المعروف بابن الآجري قال:

كنت أعاشر جماعة من أهل الظرف وأولاد الرؤساء ونجتمع على الشراب دائما. فدعانا فتى منهم

إلى العمر الذي في أسفل مدينة واسط، ويعرف العمر بعمر سفر يشوع. فمضينا ومعنا من الغناء

والآلة والشراب كل شيء ظريف، وأقمنا بالعمر ثلاثة أيام، ومضت لنا به أوقات طيبة، وانصرفنا

في اليوم الرابع وتفرقنا بعد ذلك للمعايش والمتصرفات. فلما كان ذلك بشهور دعينا إلى العمر، فلما

حصلنا في القلاية التي كنا شربنا فيها في تلك الدفعة قال لنا الفتى: ألا أخبركم بحالي بعدكم؟ قلنا:

Page 3

بلى. قال: إنكم لما انصرفتم من عندنا جاءني شاب له رواء ومنظر حسن، ومعه غلام نظيف الوجهفي مثل زيه، أحسبه حبيبا له. فقال لي: أين الفتيان الذين كانوا عندك مجتمعين؟ فقلت: غلسوا في الانصراف. فحزن وتبينت الكآبة في وجهه. ثم سألني عن حالكم، وما صنعتم، وكم أقمتم. فحدثته،

فانبسط، واستدعى ما أكل هو وصاحبه، وأخذا في الشرب، وطربا، وأقاما على حالهما ثلاثة أيام،

ففعل مثل فعلكم. فلما كان في اليوم الرابع ودعني وأخذ فحمة وكتب على حائط البيت شعرا، وقال:

إن عادوا أوقفهم عليه، وانصرف. فنهضنا إلى البيت فإذا هو:

إخوتي إني سمعت بكم فقصدت العمر من طرب

فوجدت الدهر فرقكم وكذاك الدهر ذو نوب

وسألت القس ما فعلوا فأجاب القس بالعجب

ففعلنا مثل فعلكم وشربنا من دم العنب

بنت كرم عتقت زمنا منذ عهد اللات والنصب

وجنينا الحلو من ثمر وأكلنا يانع الرطب

وتفرقنا على مضض كلنا يدعو بواحربي

فلما عدنا إلى واسط بحثنا عن الرجل فلم نعرف له خبرا، فعلمنا أنه غريب اجتاز بالبلد.

وقرأت في كتاب: خرج عبد الله بن جعفر متنزها، فأدركه المقيل فقال تحت شجرة. فلما أراد

الركوب كتب على الشجرة:

خبرينا، خصصت يا سرح بالغي ث بصدق، والصدق فيه شفاءهل يموت المحب من ألم الحب وهل ينفع المحب اللقاء

ثم ركب متنزها، فرجع فقال تحتها، وإذا أسفل كتابته مكتوب:

إن جهلا سؤآلك السرح عما ليس يوما عليك فيه خفاء

ليس للعاشق المحب من العيش سوى منظر الحبيب دواء

حدثني أبو الطيب أحمد بن محمد المخرمي قال: حدثني بعض بني نوبخت قال: لما اجتاز الرشيد

في طريقه إلى خراسان أقام بحلوان أياما، ثم رحل فوجد بخط على حجر كان بالقرب منه:

حتى متى أنا في حل وترحال وطول سعي وإدبار وإقبال

ونازح الدار لا أنفك مغتربا عن الأحبة لا يدرون ما حالي

بمغرب الأرض طورا ثم مشرقها لا يخطر الموت من حرصي على بالي

Page 4

ولو قنعت أتاني الرزق في دعة إن القنوع الغنى، لا كثرة المال وحدثني أيضا قال: قال لي رجل من أهل الشام: اجتزت بمنارة الإسكندرية فدخلتها لأرى عجيب

بنائها وما أسمع من صفتها، فإني لأطوف فيها فمررت بموضع في أعلاها فيه خطوط الغرباء

والمجتازين قديمة وحديثة. وإذا في جملة ذلك موضع مكتوب بحبر بين: يقول محمد بن عبد الصمد:

وصلت إلى هذا الموضع في سنة سبعين ومائتين. وصلت إليه بعد نصب وشقاء، وملاقاة ما لم

أحسب أني ألقى. ولم أحب الانصراف عنه إلا بعد أن يكون لي به أثر، فقلت هذه الأبيات وكتبتها

فيه: شردتني نوائب الأيام ورمتني بصائبات السهام

فرقت بين من أحب وبيني ويح قلبي المتيم المستهام

لهف نفسي على زمان تقضى فكأني رأيته في المنام

وتحته مكتوب: يقول فلان بن فلان - وقد محا الاسمين طول العهد - وصلت إلى هذا الموضع في

رجب سنة ثلاث وثلاث مئة، على مثل حال المشرد عن إخوانه ، المطرود عن أوطانه، وقرأت

الأبيات، وما أعرفني بالغرض فيها وأوقعني بمعانيها إلا أنني جربت الدنيا فوجدتها غرورا،

والأحباب زورا، والرجوع إلى الله تعالى في النائبات أولى بذوي العقول من ارتكاب التهلكات. ولم

أحب الانصراف عن هذا المكان إلا بعد أن يكون لي به أثر. فقلت هذه الأبيات مجيبا لهذا الأخ رعاه

الله حيا وميتا. وإذا الأبيات:

أيها المدعي على الأيام أن رمته بصائبات السهام

خف من الله واعتزل كل زور وتجنب مواقف الآثام

تجد الله عند كل مخوف كاشفا للهموم والآلام

فله الحمد والخلائق طرا وهو رب الدهور والأعوام

وقرأت على فناء المسجد الجامع بمتوث، وهي مدينة بين سوق الأهواز وبين قرقوب، عند اجتيازي

Page 5