مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل العلم سلما إلى معارج المعلوم. والمعلوم فضلا مسلما عند عصابة المنطوق والمفهوم وسرح أبصار البصائر في رياض الفنون والمعارف رياض زهت فيها أزهار المعاني والبيان فتفتحت بنسائمها أنوار الفضل التالد والطارف. فاجتنت منها أيدي المنى فواكه القلوب وأقوات الأرواح واقتطفت منها جني الحقائق والدقائق من بين أقاحي الصباح فهو قوت الفؤاد ومراح الأشباح وروح جثمان الكمال وحادي النفوس إلى بلاد الأفراح. به فضل الذوق الروحاني على الماق الجسماني فضلا لا يعرفه إلا من تضلع منه أو ذاق ولا يدرك كنهه إلا من غاص في قعر بحاره وسبح في ثبج١ أنهاره ثم برع وفاق. والصلاة والسلام على سيد العلماء سند الفضلاء تاج الكملاء محمد النبي المصطفى أحمد الأمي المجتبى المؤيد من السماء الموحى إليه بالقرآن الذي فيه هدى وشفاء. الذي أكمل الله تعالى به علوم الأوائل والأواخر وخصه من بين خلقه بمزايا المعارف وخبايا المفاخر. فيا له من نبي رفيع القدر ما ترقى رقيه الأنبياء ورفيع كريم الذكر ما طاولته السماء. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وحزبه المتأدبين بآدابه الذين تفتحت لهم كمائم المنقول والمعقول. وتحلت بعقود علومهم أجياد الفحول حتى اشتفت نفوس الإسلام والمسلمين من داء الأعداء وزال كلب الكفر ومرض الإشراك بما أريق من دمائهم تحت أديم السماء على وجه الغبراء. فهم مخازن الفضائل والعوائد ومعادن الفواضل والفوائد ومجامع المكارم والمحامد ومناحي المعارف والمقاصد. لا زالت سحب الرحمة هاطلة على مراقدهم وتحايا الرضوان نازلة على معاهدهم. ما طلعت شموس العلوم من أفلاك الدواوين والدفاتر وسطعت نجوم الفنون من مشارق الأقلام والمحابر. وبعد: فهذا بث لما وقر في صدري من أحوال العلوم العالية وتراجم الفنون الفاخرة وأثر بعد عين في تحصيل ما نيطت به سعادة الدنيا والآخرة وردت من بحارها الطامية ماء عذبا فراتا حاليا وكرعت من _________ ١ ثبج كل شيء: معظمه ووسطه وأعلاه.

1 / 16

أنهارها الصافية ما كان عن القذى طاهرا وعن الأكدار خاليا. حررته إحرازا لما تشتت من أحوال العلوم وتراجم أسمائها وسماتها وجمعته إفرازا للفنون مع بيان مباديها وأغراضها وغاياتها. مستمدا في ذلك من كتب الأئمة السادة وصحف الكبراء القادة بعد أن عرفت مجاريها وتعلمت الرمي من القوس وقد كنت باريها. لأني لما وقفت على كتاب عنوان العبر وديوان المبتدأ والخبر١ لقاضي القضاة مؤيد الدين أبي زيد عبد الرحمن ابن خلدون الأندلسي وجدت مؤلفه رحمه الله تعالى قد عقد في الكتاب الأول٢ منه فصلا سادسا في العلوم وأنواعها وسائر طرقها وأنحائها وما يعرض في ذلك كله من الأحوال ثم رأيت خواجه خليفة زاده ملا كاتب الجلبي٣ لخص منه تلك العلوم وأحوالها في مقدمة كتابه كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون وأضاف إليه أشياء من مفتاح السعادة٤ لأبي الخير ثم اطلعت على كتاب مدينة العلوم للأرنيقي٥ تلميذ قاضي زاده موسى بن محمود الرومي شارح جغميني٦ وفيه بيان أنواع العلوم وتراجم بعض علماء الفنون ثم عثرت على كتاب كشاف اصطلاحات الفنون للشيخ الفاضل محمد علي بن علي التهانوي الهندي وقد ذكر فيه أنواعا من العلوم المتداولة وطرقا من الفنون المتناولة. ورأيت المترفين قد عجزت هممهم عن معرفة هذه العلوم والفنون ووجدت العلماء قد قنعوا بالطل من الوابل الهتون فكل واحدة من هاتين القبيلتين في غنى عن جباتها وقصور عن بلوغ غايتها إلا ما شاء الله تعالى من شواذ القبائل وأفراد الإنسان. موضوع الكتاب الأول٧ تاريخ أحوال العالم. وموضوع الكتاب الثاني٨ جمع أسامي الكتب التي صفنها بنو آدم. فالأول ليس فيه ما خلا ذكر تلك العلوم في فصول خاصة إلا أحوال العمران وأمم الإنسان ووقائع الدهور والأزمان. والثاني٩ ليس فيه ما عدا تراجم تلك العلوم والخطب إلا الكشف عن أسامي الكتب. والثالث مقتصر على ذكر أنواع العلوم وتراجم المصنفين فيها. والرابع١٠ مختص بذكر اصطلاحاتها المتداولة في كتب الفنون. _________ ١ عنوانه الكامل: العبر وديوان الميتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر. وتوفي مؤلفة ابن خلدون سنة ٨٠٨هـ =١٤٠٦م. ٢ يريد به مقدمة ابن خلدون. ٣ اسمه: مصطفى بن عبد الله، كاتب جلبي، المعروف بحاجي خليفة، تركي الأصل، مستعرب وهو مؤرخ بّحاثة، مولده ووفاته بالقسطنطينية: ١٠١٧-١٠٦٧هـ = ١٦٠٩-١٦٥٧م. ٤ عنوان الكتاب مفتاح السعادة ومصباح السيادة، وهو في موضوعات العلوم. مؤلفة هو المولى أبو الخير أحمد بن مصطفى المعروف بطاشا كبري زاده المتوفي سنة ٩٦٨هـ - ١٥٦١م. ٥ هو: محمد بن قطب الدين الأزنيقي الرومي، محيي الدين، عالم مشارك في بعض العلوم، توفي سنة ٨٨٥هـ = ١٤٨٠م. ٦ هو كتاب الملخص في الهيئة البسيطة لمحمود بن محمد الجغميني. ٧ أي العبر لابن خلدون. ٨ أي الكشف لحاجي خليفة. ٩ أي مدينة العلوم للأزنيقى. ١٠ أي كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي.

1 / 17

فأردت أن أفرد منها أحوال العلوم وتراجم الفنون في تأليف مختصر تقريبا للبعيد وتحصيلا للتجريد مضيفا إليه ما حصل الوقوف عليه في أثناء ملاحظة الكتب الشاذة وعطفها واجتناء ثمار الفوائد من الصحف الفاذة وقطفها. ليكون هذا السفر التام المقصود وكوكب المراد الطالع من أفق السعود سهل الحصول لمن رام الوصول إليه ويسير النتاج لمن أراد الحصول منه والتعويل عليه لأنه دراسات عديدة في كراريس محدودة وفراسات سديدة في قراطيس مشهودة تحلت بعون الله وحسن توفيقه بكل زين ورتبت على قسمين: الأول: في بيان أحوال العلوم. والثاني: في تراجمها المنطوق منها والمفهوم وكل قسم من هذين القسمين اشتمل على مقدمة وخاتمة وأبواب على أكمل وضع وأجمل أسلوب تسوق ناظريها من طلبة العلوم إلى أعز مقصود وأعز مطلوب وأنت تعلم إن كنت ممن طالع الكتب المشار إليها واطلع عليها أن بعد هذا التجريد مما فيها لم يبق من المقاصد العلمية إلا القليل من تراجم الكتب وأهليها لكن الذي أهمني أني رأيت أبناء هذا الزمان لا تتوجه طبائعهم إلى إدراك العلوم ومبانيها واقتباس فوائد الفنون ولو بفهم بعض معانيها. فضلا عن أن يحيطوا بجميع المقاصد والغايات ويبلغوا من معرفتها وضبطها إلى النهايات. إلا واحدا من الألوف المؤلفة وفردا من الأحزاب المتحزبة ممن لهم همة شامخة وروية دارية في كسب المعارف والعلوم. أو دولة باذخة وقدرة سارية في جمع المقسوم. فإنه قد يرفع الرأس إلى معرفة العلم بدء وغاية وينحو إلى استعلام أمر الأول والنهاية وكل الخلق وجلهم مغمورون في اللذات العاجلة الخاطئة الكاذبة الفانية. ويؤثرونها ولو كان بهم خصاصة على النعم الآجلة الدائمة الباقية. إلا من عصمه الله تعالى. فكأن الناس كلهم قد صاروا أجناسا بلا فصول أو إناثا بلا فحول. مع أن الإنسان إنما تميز عن الحيوان بالنطق والعلم والعرفان. ولو لم يكن العلم في البشر لكان هو وجميع الحيوانات سواسية في كل شان. فإنا لله على ذهاب العلم وأهليه وفشو الجهل وعلو ذويه. وبالجملة: فهذا المؤلف الذي جمع أحوال العلوم وتراجمها في كن١ واحد وأوعى أشتات الفنون في وعاء صامد. قد تجلى نوره في آخر الزمان من عمر الدنيا حين ولى شبابها ولم يبق من بحار حياتها إلا سرابها وتوالت فيها الآفات والفتن وعمت بأهلها البلوى والمحن. ولذلك كان أثرا بعد عين أو حديثا من خفي حنين. ومع ذلك قد جاء بحمد الله تعالى في بابه بديع المثال منيع المنال مبدئ العجب العجاب. إذا سئل أعطى وإذا دعي أجاب كأنه سماء علوم شرفت كواكبها عجائبها وأرض فنون أمطرت بالغرائب سحائبها شامة في وجنات النكات تميمة في أجياد الفحول الأثبات جنة أشجارها مورقة حديقة أزهارها مونقة أكلها دائم وظلها قائم نعيمها مقيم ومزاجها من تسنيم. سفينة نجاة يعبر بها الأبرار بحارا بعيدة الأغوار وفلك مشحون يسيح العابرون في قاموسه المحيط التيار وحسبك به مطية يصل بها الراكب إلى رياض _________ ١ الكن: البيت.

1 / 18

الجنان ويشرب هنالك الشارب من حياض العرفان. جمعته لتفنن خواطر الولدين الكريمين السعيدين وتمرن ضمائر الابنين الشريفين الحميدين: السيد نور الحسن الطيب والسيد على حسن الطاهر بارك الله لهم وفيهم وعليهم في الدنيا والدين وجعل لهم لسان صدق في الآخرين وسلك بهم مسلك السلف الصالحين خصوصا ولمن عداهم من أهل العلم والفضل عمومًا. وسميت القسم الأول من هذا الكتاب: الوشي المرقوم. والقسم الآخر السحاب المركوم والكتاب نفسه أبجد العلوم. وكان وضعه وجمعه في بلدة بهوبال المحمية في سنة تسعين ومائتين وألف الهجرية وطبعة وينعه في سنة خمس وتسعين ومائتين وألف القدسية في المطبعة المنسوبة إلى ذات المحامد السنية والمكارم العلية من أخجلت بجودها السحاب فصب عرقا وأرعدت بسياستها الرعد فارتعد فرقا لاح نور رأفتها من سواد بلاد مالوة الدكن كما لاح نور الباصرة من سواد البصر. فوصل كذلك إلى القريب والبعيد من أهل الوبر والمدر. من نزل بأعتابها نسي الأوطان والأصحاب ومن لاذ ببابها أتاه المطالب من كل باب قد جمعت بين الصورة الملكية والسيرة الملكية وقرنت بين الحكمة الأيمانية والحكومة اليمانية. وهنا أنشدت مخاطبا للصبا والشمال على ما هو دأب أرباب الوجد والحال: وصلت حمى بهوبال يا نفس فانزلي ... فقد نلت مأمول الفوائد المعول ويا حبذا ساحاتها نلت إنها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل تذكرت عهدا بالحمى وبمن به ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وما هو إلا حضرة العزة التي ... تخاطب تاج الهند عند الأماثل معاذة أهل الفضل من كل حادث ... ملاذة أعيان العلاة الأفاضل مغيثة أرباب الفواضل والحجى ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل هي البحر جودا فيضها شمل الورى ... وقد نال من معروفها كل سائل هي الشمس إفضالا يعم نوالها ... جميع الرعايا من صنوف القبائل أفادت كرامات بهمتها التي ... لها ليس مثلا عند كل مماثل أفاضت فيوضا أخجلت جود حاتم ... أسالت إلينا هاطلا بعد هاطل قفوا أخبرونا من يقوم مقامه ... ومن ذا يرد الآن لهفة سائل قفوا أخبرونا هل لها من مشابه ... قفوا أخبرونا هل لها من مشاكل فما هي إلا رحمة مستطابة ... تعم البرايا من غني وعائل أدام لها رب البرايا مكارما ... تقصر عنها لك حاف وناعل وزاد لها الإقبال إقبال عزة ... وكان لها عونا لدى كل نازل أعني بها ملكية العالم أهل بيتي نواب شاهجان بيكم طابت أيامها ولياليها ونامت عيون الدواهي عن معاليها. هذا والله أسأل أن يصعد هذا الكتاب ذروة القبول ويجعله خالصا لذاته الكريمة وينفع به أهل العلم

1 / 19

ومن أخلفه من السادة الفحول ويرخي على زلات جامعة من عفوه وعافيته وغفرانه ورضوانه أطول الذيول. وحين بلغ القول مني إلى هذا المبلغ أخذت في سرد مقاصد الكتاب أبوابا ورفعت عن وجوه عرائس العلوم وتراجمها حجابا وأبديت فيه عللا وأسبابا ونزعت عن محيا فنونه جلبابا وسلكت فيه مسلكا غريبا واخترت من بين المناحي منهجا عجيبا وبالله الاستعانة ومنه التوفيق في كل ما أحرر وأقول وعليه التعويل وله الحمد على كل حال وهو خير مسئول ومأمول.

1 / 20