كان في قرية القرن: القابلة، البيطري، مجبر العظام، المنجم، وكانت الجدة «نعيم» متخصصة بنزع اللوزتين بظفر سبابتها المعقوف، تركته لهذا الغرض. لها حكاية غريبة مع الجن؛ حيث تعتقد أن ابنها عبد الرحمن اختطفه الجن، ولم يمت كما يعتقد أهل القرية، ولم يدفنوه لكنهم دفنوا جذع شجرة بدلا عن جثته، تقول إن ابنها حضر بعد موته بشهرين وطلب منها شربة ماء، فأعطته وبعد ذهابه تبعته وهي تنادي: وا عبد الرحمن ارجع، وا ولدي ارجع ... هكذا ظلت نعيم طول حياتها تنتظر عودته، مثل زهرة التي ظلت تنتظر عودة ابنتها الجميلة سماح بعد موتها. كانت تعتقد أن الجن خطفوها كما أخبرتها حليمة إحدى المشعوذات.
المداح كان أيضا عرافا يقرأ المستقبل بواسطة كتاب سحري يخبرهم بمجرد معرفة اسم الشخص ووالدته ونجمه. وفي القرية المجاورة يعيش سعد أحمد الذي كان يداوي جميع الأمراض بخمسة أنواع من الأعشاب، ويصرف الجن عنهم، بورقة يحرقونها ويتنسم المريض عرفها. لديه الكتاب الثلاثي الذي يقال إنه وضعه في التنور لكنه لم يحترق. وهناك السيد عبد الرحيم الذي يقرأ القرآن على الذين أصابهم المس من الجن، ويستعمل الحذاء لعلاج اعوجاج الفم. أما من يصاب بالريح الأحمر (الشلل) فالعمة تفاحة تقوم بتدليكه بزيت الولي سعيد طه، فالزيت يساعد في طرد الجن من المشلول.
في اليوم السابع من مولد عبده وهو ميعاد ختانه، دعا زربة أهل القرية؛ لقراءة مولد للولي ابن علوان. اقترض المال من عمه قاسم. هو رجل نحيف، متوسط القامة، أسمر اللون، أهل القرية وأصدقاؤه يحبونه لظرفه وطيبته. امتهن البناء في بداية شبابه ثم غير مهنته وعمل في التجارة، ثم عاد يعمل في البناء مرة أخرى، إلى أن سافر إلى الخليج العربي للبحث عن فرصة أفضل للعيش. كان لا يخجل من عمل شيء يجلب السلوى إلى من حوله، يردد الأهازيج الشعبية المناسبة للموقف في أي مكان يكون فيه.
ذهب أبوه مساء إلى أحد مزارع القات في منطقة شرار في عزلة بني يوسف، تبعد عشر ساعات مشيا على الأقدام من قرية القرن، أول منطقة تزرع القات ناحية الحجرية. قيل إن شجرة القات أحضرت أول مرة من الحبشة وزرعت هناك ثم تكاثرت. اشترى والده قاتا وقر حمار. عاد اليوم الثاني قبل ظهيرة؛ فالمولد لن يقام إلا بالقات واللحم والفتة بالمرق والسمن. حضر رجال القرية وأطفالهم الذكور عند غروب الشمس، وكذلك حشد غفير من القرى المجاورة. جلسوا يتحدثون ويضحكون وهم يحدقون في كومة القات الكبيرة التي تنتظرهم.
قدمت للحاضرين عشرة جفان كبيرة من الفتة واللحم فتهافتوا عليها، وبعد تناولهم وجبة العشاء، غسلوا أيديهم ومسحوها في مآزرهم. جلسوا بلهفة ينتظرون توزيع القات، وبعد أن استلم كل واحد حصته من القات أخذ يزنه بكفه، ومن لم يقتنع بالكمية يظل صوته خافتا أثناء قراءة المولد.
بدأ عبد القوي يقرأ المولد بصوته الشجي، وكان المداح حاضرا بدفه، وعثمان سالم يقوم بالدعاء في آخر كل قصيدة مدح للرسول. أثناء قراءة المولد تتخلل فترة زمنية قصيرة لمضغ القات وشرب النارجيلة، وتستمر قراءة المولد حتى منتصف الليل.
16
خاتمة المولد في الليلة الثالثة يقرءونها وهم وقوف يسمى الترحيب، عندها يشتد ضرب الدف، فانتاب البعض حالة التجلي والجذبة، قفز عبد الرحمن أخو الهندي إلى وسط الحاضرين واختطف خنجر الوطواط من غمده، واستنجد بالولي ابن علوان بصوت جهوري «ألا يا ابن علواااااان» وبدأ يضرب فخذ رجله اليمنى بشفرة الجنبية الحاد؛ حتى تعب ثم عاد لقراءة المولد معهم كأنه لم يحصل شيء. أما ناجي المقشش كان يثب إلى الأعلى كالزنبرك، والشاب عبد القادر من قرية عصران راح يردع الجدار يصيح: يا حي، يا حي... حتى أوقفه الآخرون بالقوة. وعلى من يقف بجانب هؤلاء أن يكون حذرا منهم؛ لهذا قام زربة في هذا اليوم بأخذ كل ما هو قابل للكسر في الديوان؛ حتى لا يحدث معه كما حدث في مولد علي سعيد في قرية عصران.
لكل من عبد القوي قارئ الموالد وعثمان سالم قصته العجيبة؛ فعبد القوي لم يكن يعرف القراءة لكن أمه «حمامة» كانت الوحيدة في القرية التي تجيد القراءة من بين النساء، زوجها الأول الفقيه عبد العظيم علمها القراءة تعبيرا عن حبه لها فقد كانت تصغره بأربعين عاما. كانت دروسه تبدأ قبل الذهاب إلى النوم، يظل يعلمها وهو يمسح على رأسها بحنان إلى أن تشعر بالنعاس، وقيل إنها حين تزوجت والد عبد القوي بعد أن توفي زوجها الفقيه كانت بكرا، وأنجبت له ولدا منه أسمته عبد القوي، ومن حبها الشديد لابنها كانت تدعو له دعوة: الله يرزقك يا عبد القوي من الصفا (الجبل) الصحيح. وفعلا تحققت دعوتها التي يقال إنها كانت أثناء نزول ليلة القدر. وأصبح عبد القوي أقوى نقافا يقتطع الحجارة من الجبال للبناء. أما عثمان سالم هو رجل متصوف. اختلى في زاوية للمتصوفين لمدة واحد وعشرين يوما، في منطقة الأحكوم، تبعد عن قرية القرن مسيرة نصف يوم. في آخر يوم من خلوته أخرجوه وهو مغشي عليه، فقلة التغذية أحد شروط الخلوة، وكذلك عدم البوح بما يراه المتصوف في خلوته. حين صحا كان الجوع يعبث بأحشائه، ولم يقل لأحد بما رآه. كان بجانب عمله كمجبر للكسور، مؤذن القرية ومنجمها، عندما يولد مولود ينظر في النجوم ليبحث عن نجمه وعن ساعات عقد الزواج المباركة، ومتى تدخل العروس دار العريس. كان رجلا جبريا في معتقده الديني يرى أن الإنسان مجبر لا مخير، حتى إنه قال عن دولة إسرائيل إنه قدر من الله والله هو المتكفل به. حين هاجمه الثور في طرف الحقل وهو يحرث عليه وسط القرية، أتى الأهالي لنجدته فرفض مساعدتهم. قال وهو مستسلم لعبث الثور به: دعوه، دعوه ... هو مأمور من الله، دعوه ...
بقي الناس يتفرجون إلى أن تركه الثور. كان يمكن للثور أن يقتله لكنه لم يصب بأذى كبير، سوى كسر في يده اليسرى وضلعه الأيمن. كان يتألم ويقول: لا لوم عليك يا ثوري، نفذت أمر الله.
অজানা পৃষ্ঠা