فقال، وكان كتفه يمس كتفها: نجول قليلا ثم نعود.
وتحرك التاكس فتناست كل شيء إلى حين، حتى ذلك الرجل الذي يكاد يلتصق بها. وقلقت عيناها بين الأنوار التي تتخطفها، فلاحت لها الدنيا الجديدة خلال زجاج النافذة باهرة ضاحكة. وانتقلت حركة التاكس إلى جسمها وروحها، فانبعثت في نفسها نشوة مطربة، وتهيأ لها أنها تطير طيرانا، وتحلق في سماء الدنيا، وكأن وجدانها من البهجة يسجع شاديا متجاوبا مع انسياب الحركة وتجدد المناظر والأنوار، حتى تألقت عيناها بوميض مشرق، وافتر ثغرها عن إشراق وذهول. وجرى التاكس في خفة، يخوض خضما من العربات والسيارات والترام والناس، وجرى معه خيالها، فاستحر حماسها، وسكرت مشاعرها، ورقص قلبها ودمها وخواطرها. ثم أفاقت إفاقة مباغتة على صوته يهمس في أذنها قائلا: «انظري إلى الحسان كيف يرفلن في ثيابهن النورانية!» أجل .. إنهن يتمايلن مبعثرات كالكواكب المنيرة .. ما أجملهن! ما أبدعهن! وذكرت عند ذاك فحسب ملاءتها وشبشبها فانقبض قلبها، واستيقظت من نشوتها كما يستيقظ الحالم من حلمه السعيد على لدغة عقرب. وعضت على شفتها في امتعاض، ثم تملكتها مرة أخرى روح التمرد والثورة والعراك! وتنبهت إلى أنه التصق بها وهي لا تدري، فأخذت تستشعر مسه الذي انتشر في حواسها، وحمي به قلبها، فهفت إليه بقوة فوق إرادتها. ورنا إليها بلحظ كأنما يستطلع ميولها، ثم تناول راحتها بلطف وجعلها بين راحتيه، وتشجع باستسلامها فهوى بفمه إليها. وكأنها أرادت أن تتقيه فألقت برأسها إلى الوراء قليلا، ولكنه لم يجد في ذلك رادعا كافيا، فطبع شفتيه على شفتيها وسرت في أعماقها رعدة، وشعرت برغبة جنونية تدعوها إلى أن تعض شفتيه حتى تدميهما! .. رغبة جنونية حقا، ركبتها كما يركبها عفريت العراك، ولكنه ارتد عنها قبل أن تنفذها! ولبثت شعلة الجنون متأججة في صدرها تهيب بها إلى أن ترتمي على صدره وتنشب أظافرها في رقبته، حتى أنقذه منها صوته وهو يقول برقة: هذا شارع شريف باشا .. وهذا بيتي على بعد خطوات، ألا تحبين أن تريه؟!
والتفتت متوترة الأعصاب إلى حيث تومئ سبابته، فرأت عمارات تناطح السحاب لم تدر أيتها يعني. وأمر السائق بالوقوف أمام واحدة منها، وقال لها: في هذه العمارة.
ورأت عمارة ضخمة سامقة ذات مدخل أوسع من زقاق المدق، ثم ارتد عنها طرفها في حيرتها، ثم سألت بصوت منخفض: في أي طابق؟
فقال مبتسما: الأول .. لن تتجشمي مشقة إذا تفضلت بزيارتها.
فرمقته بنظرة حادة منتقدة، فاستدرك قائلا: ما أسرع غضبك! .. ومع ذلك دعيني أسألك ما وجه العيب في ذلك؟ ألم أزرك دواما منذ وقعت عليك عيناي؟ فلماذا لا تردين الزيارة ولو مرة واحدة؟
ماذا يريد الرجل؟ .. أتحدثه نفسه بأنه وقع على صيد سهل؟ .. أأطمعته القبلة التي استسلمت لها فيما هو أجل وأخطر؟ هل أعماه غروره وشعوره بالظفر؟! .. وهل هذا مآل الحب الذي أفقدها وعيها؟! .. واشتعل الغضب بقلبها، وتوثبت جميع قواها للنضال والتحدي، وتمنت لو تطاوعها نفسها على السير معه إلى حيث يريد، لتريه من نفسها ما يجهل، ولترد إليه صوابه. أجل، دعاها شعورها المتمرد الجامح إلى خوض غمار هذه المعركة. وهل كان في وسعها أن تدعى إلى النزال ثم تعرض عن الداعي؟! لم يكن الذي يستفزها غضب للفضيلة أو الخلق أو الحياء، فهذه جميعها اعتبارات لم تألف الغضب لها أو الغيرة عليها، ولكنه غضب لكبريائها وشعورها الطاغي بقوتها ورغبتها الجنونية في الملاحاة والعراك، ولم تخل أيضا من جنون المغامرة الذي قذف بها إلى التاكس! وجعل الرجل ينعم إليها النظر وهو يقول لنفسه في تفكير وسخرية معا: «محبوبتي من النوع الخطر الذي يفرقع باللمس، فيستوجب العناء الشديد والترويض الماهر.» ثم قال لها برجاء ورقة: أرجو أن أقدم لك قدحا من الليمون.
ورمته بنظرة قاسية متحدية، ثم غمغمت: لك ما تشاء.
وفتح الباب مسرورا، وانزلق إلى الطريق، وتبعته على الأثر باستهانة وجرأة، ووقفت تتفحص المكان والرجل يدفع الأجرة للسائق. وجرت خواطرها إلى الزقاق الذي خرجت منه اليوم، وعجبت للمغامرات التي اقتحمتها غير هيابة حتى انتهت إلى هذه العمارة الهائلة! من يصدق هذا؟! وما عسى أن يقول السيد رضوان الحسيني مثلا لو رآها تمرق إلى هذه العمارة؟ وارتسمت ابتسامة على شفتيها، وداخلها شعور غريب بأن هذا اليوم هو أسعد أيام حياتها على الإطلاق.
وهرع الرجل إليها، وأخذ يدها، فدخلا العمارة معا، وارتقيا سلما عريضا إلى أول طابق، ثم سارا في ردهة طويلة إلى باب شقة على يمين القادم، واستخرج من جيبه مفتاحا عالج به الباب وهو يقول لنفسه بارتياح: «اكتسبت يوما أو يومين آخرين!» ثم دفع الباب وأوسع لها، فدخلت ودخل وراءها، ثم أغلقه. وجدت نفسها في دهليز طويل يعترض الداخل تحدق به الحجرات من الجانبين، ويضيئه مصباح كهربائي قوي الإشعاع. ولم تكن الشقة خالية، ففضلا عن المصباح الذي كان مضاء قبل مجيئها ترامت إلى أذنيها أصوات من وراء الأبواب المغلقة؛ كلام وزعق وغناء! واتجه فرج إبراهيم إلى الباب قبالة المدخل ودفعه، ودعاها للدخول، فانتقلت إلى حجرة متوسطة، مؤثثة بمقاعد جلدية ما بين كراسي وكنبات، تتوسطها سجادة مربعة مزركشة، وفي الصدر منها مرآة مصقولة تناطح السقف، وتنهض على منضدة مستطيلة مذهبة الأرجل، وقد طالع الرجل نظرة الدهشة الحائرة في عينيها بسرور وقال لها بلطف: اخلعي ملاءتك وتفضلي بالجلوس.
অজানা পৃষ্ঠা