كان الشيخ درويش على عهد شبابه مدرسا في إحدى مدارس الأوقاف، بل كان مدرس لغة إنجليزية! وقد عرف بالاجتهاد والنشاط، وأسعفه الحظ أيضا فكان رب أسرة سعيدة. ولما أن انضمت مدارس الأوقاف إلى وزارة المعارف، سويت حالته ككثيرين من زملائه غير ذوي المؤهلات العالية، فاستحال كاتبا بالأوقاف، ونزل من الدرجة السادسة إلى الثامنة، وعدل مرتبه على هذا الأساس. كان من الطبيعي أن يحزن الرجل لمصيره حزنا عميقا، وثار ثورة جامحة ما وسعته الثورة، يعلنها حينا، ويكتمها - مقسورا مغلوبا على أمره - أحيانا. ولقد سعى كل مسعى، وقدم الالتماسات، واستشفع الرؤساء، وشكا الحال وكثرة العيال، دون جدوى. ثم سلم للقنوط بعد أن تحطمت أعصابه أو كادت. واشتهر أمره في الوزارة كموظف كثير التبرم والشكوى ، عظيم اللجاج والعناد، سريع التأثر، لا يكاد يمضي يوم من حياته دون شجار أو اصطدام، كبير الاعتداد بنفسه والتحدي للآخرين. وكان إذا شجر بينه وبين آخر خلاف - وكثيرا ما يحدث - تعالى استكبارا، وخاطب خصمه بالإنجليزية، فإذا اعترض الرجل على استعمال لغة أجنبية دون موجب، صاح به في ازدراء شديد: «تعلم أولا ثم خاطبني!» وكانت أنباء شجاره وعناده تتصل برؤسائه أولا بأول، وكانوا يتسامحون معه؛ عطفا عليه من ناحية، وتحاميا لشره من ناحية أخرى، ولذلك اطردت حياته دون عقاب يذكر إلا بعض الإنذارات، وخصم يوم أو يومين. ولكنه ازداد بكرور الأيام صلفا، حتى تراءى له يوما أن يحرر خطاباته المصلحية باللغة الإنجليزية ففعل. وكان يقول في تسويغ ذلك إنه موظف فني لا كغيره من الكتاب. وتعطل عمله مما دعا مديره لمعاملته بالحزم والقسوة، ولكن المقدر كان أسرع من حزم المدير، فطلب الرجل يوما مقابلة وكيل الوزارة، ودخل درويش أفندي - كما كان وقتذاك - حجرة الوكيل في تؤدة ووقار، وحياه تحية الند للند، وبادره قائلا بثقة ويقين: يا سعادة الوكيل، لقد اختار الله رجله.
فطلب إليه الوكيل أن يفصح عما يريد، فاستدرك قائلا بوقار وجلال: أنا رسول الله إليك بكادر جديد.
هكذا ختمت حياته بالأوقاف. وهكذا قطعت صلته بالهيئة الاجتماعية التي كان واحدا منها. هجر أهله وإخوانه ومعارفه إلى دنيا الله - كما يسميها - ولم يستبق من آثار الماضي جميعا إلا نظارته الذهبية. ومضى في عالمه الجديد بلا صديق ولا مال ولا مأوى. ودلت حياته على أن بعض الناس يستطيعون أن يعيشوا في هذه الدنيا المتقيحة بمرارة الكفاح بلا مأوى ولا مال ولا معين، ثم لا يجدون هما ولا كربا ولا حاجة. لا جاع يوما ولا تعرى ولا شرد. وانتقل إلى حال من السلام والطمأنينة والغبطة لا عهد له بها. وإذا كان قد فقد بيته فالدنيا جميعا صارت بيتا له، وإذا كان قد حرم مرتبه فالتعلق بالمال قد انقطع عنه، وإذا كان قد خسر الأهل والأصدقاء فالناس جميعا انقلبوا له أهلا. يبلى الجلباب فيأتيه جلباب جديد، ويتمزق رباط الرقبة فيجيئه رباط جديد، ولا يحل مكانا حتى يرحب به ناسه. وبحسبه أن يفتقده المعلم كرشة نفسه - على ذهوله - إذا غاب عن القهوة يوما. ومع ذلك فلم يكن يأتي شيئا مما يعتقد فيه العامة من المعجزات والخوارق وقراءة الغيب؛ فهو إما ذاهل صامت، أو مرسل القول كما يحب، لا يدري أنى يكون موقعه من النفوس. بيد أنه رجل محبوب مبارك، يستبشر الجميع بوجوده بينهم خيرا، ويقولون عنه: إنه ولي من أولياء الله الصالحين، يأتيه الوحي باللغتين العربية والإنجليزية.
2
نظرت إلى المرآة بعين غير ناقدة، أو بالأحرى بعين تتلمس مواضع الرضا، فعكست المرآة وجها نحيلا مستطيلا، فعل الزواق بخديه وحاجبيه وعينيه وشفتيه الأعاجيب. وجعلت تعطفه يمنة، وتعطفه يسرة، وأصابعها تنسق ضفيرتها، مغمغمة بصوت لا يكاد يسمع: «لا بأس، جميل، وأيم الله جميل.» والحق أن هذا الوجه قد طالع الدنيا ما يقارب الخمسين عاما، والدنيا لا تدع وجها سالما نصف قرن من الزمان. أما جسمها فنحيل، أو جاف كما تصفه نسوة الزقاق، وأما الصدر فأمسح، بيد أن فستانا حسنا يستره. هذه هي الست سنية عفيفي صاحبة البيت الثاني بالزقاق، حيث يسكن الدكتور بوشي طابقه الأول، وفي ذلك اليوم كانت تأخذ أهبتها لزيارة الشقة الوسطى التي تقيم بها أم حميدة. ولم يكن من عادتها الإكثار من زيارة أحد، وربما لم تكن تدخل هذه الشقة إلا أول كل شهر لتحصيل الأجرة، إلا أن باعثا جديدا دب في أعماق نفسها جعل زيارة أم حميدة من الواجبات الهامة. وهكذا غادرت شقتها، ونزلت السلالم، متمتمة برجاء: «اللهم حقق الآمال»، ودقت بكفها المعروقة، ففتحت لها حميدة واستقبلتها بابتسامة الاستقبال المتصنعة، وقادتها إلى حجرة الضيوف، ثم ذهبت تدعو أمها. كانت الحجرة صغيرة، بها كنبتان من الطراز القديم متقابلتان، وفي الوسط خوان باهت عليه نافضة سجاير، وأما أرضها فمفروشة بحصيرة. ولم يطل بالمرأة الانتظار، فسرعان ما جاءت أم حميدة مهرولة وقد غيرت جلباب البيت، فسلمتا بشوق، وتبادلتا قبلتين، وجلستا جنبا لجنب، وأم حميدة تقول: أهلا ... أهلا ... زارنا النبي يا ست سنية.
كانت أم حميدة ربعة ممتلئة في الستين؛ ولكنها معافاة قوية، جاحظة العينين، مجدورة الخدين، ذات صوت غليظ قوي النبرات، فإذا تحدثت فكأنها تزعق، وهو سلاحها الأول فيما يشجر بينها وبين الجارات من نزال. ولم تكن مرتاحة للزيارة بطبيعة الحال؛ لأن زيارة تقوم بها صاحبة الملك أمر قد تسوء عواقبه، وقد ينذر بالخطر. ولكنها وطنت النفس على أن تلبس لكل حال لبوسها؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وإنها على كلتا الحالتين لقادرة. وكانت بحكم وظيفتها - خاطبة وبلانة - عميقة الملاحظة، كثيرة الكلام؛ بل كانت لسانا لا يكف ولا يمسك، ولا يكاد تفوته شاردة أو واردة عن شخص من شخوص الحي أو بيت من بيوته، فهي مؤرخة راوية لأخبار السوء - على الغالب - ومعجم للمنكرات. وأرادت كعادتها أن تتسلى بالكلام فراحت ترحب بالضيفة، وتطنب في الثناء عليها، وتروي لها نتفا من أنباء الزقاق والأخبار المجاورة: أما علمت بفضيحة المعلم كرشة الجديدة؟ هي كسابقاتها، وقد اتصل الخبر بزوجه فتعاركت معه ومزقت جبته. وحسنية الفرانة ضربت زوجها جعدة أمس حتى بض الدم من جبينه. والسيد رضوان الحسيني الطيب الورع زجر زوجه زجرا شديدا، لماذا يعاملها هذه المعاملة - وهو الرجل الطيب - إن لم تكن شريرة خبيثة! الدكتور البوشي احتك بفتاة صغيرة في المخبأ في آخر غارة، وضربه رجل محترم. كريمة الماوردي تاجر الخشب فرت مع خادمها وبلغ أبوها القسم. طابونة الكفراوي تبيع عيشا مخلوطا سرا ... إلخ ... إلخ.
أصغت الست سنية عفيفي بأذن غير واعية؛ لأنها كانت مشغولة بالأمر الذي جاءت من أجله. وقد صدقت نيتها على أن تطرق الموضوع الذي طال اختماره بنفسها مهما كلفها الأمر. بيد أنها نازعت المرأة الحديث حتى تتهيأ لها فرصة مواتية، وقد تهيأت هذه الفرصة حين سألتها أم حميدة قائلة: وكيف الحال يا ست سنية؟
فعبست قليلا وقالت: الحق أني تعبة يا ست أم حميدة!
فرفعت أم حميدة حاجبيها كالمنزعجة وقالت: تعبة؟! كفى الله الشر!
وأمسكت ست سنية ريثما تضع حميدة - وكانت دخلت الحجرة في هذه اللحظة - صينية القهوة على الخوان وتعود من حيث أتت، ثم قالت بامتعاض: تعبة يا ست أم حميدة! أليس من المتعب تحصيل أجور الدكاكين؟ تصوري وقوف امرأة مثلي أمام رجل غريب تطالبه بالأجرة ...
অজানা পৃষ্ঠা