وسره هذا الإطراء. وكان في الحق - وعلى خلاف التجار الحصفاء - مغرما بالجاه والجلال، ولكنه تساءل في سذاجة عن السبيل إلى التماس هذه الرتبة، وغدا الأمر شغل الأسرة الشاغل، وتحمسوا له جميعا وإن اختلفوا في الوسيلة. فاقترح البعض عليه أن يشتغل بالسياسة وأن يدلي فيها بدلوه! حقا كان السيد سليم علوان لا يكاد يفقه شيئا - فيما عدا التجارة - من أمور الدنيا، ولا تكاد تسمو آراؤه أو معتقداته على آراء ومعتقدات عباس الحلو مثلا، فكان مثله يضرع خاشعا إلى ضريح الحسين، وكان مثله يبجل الشيخ درويش ويتبرك به. كان بإيجاز معدة قوية وجبة زاهية. بيد أن السياسة لا تحتاج في كثير من الأحايين إلى أكثر من هذا، وقد مضى يفكر في الأمر تفكيرا قويا، لولا أن اعترضه ابنه المحامي - عارف سليم علوان - فقال له محذرا: السياسة حقيقة بأن تخرب بيتنا وتلتهم تجارتنا، ستجد نفسك ملزما بالإنفاق على الحزب أضعاف ما تنفق على نفسك وأهلك وتجارتك، وعسى أن ترشح للبرلمان فتستغرق الانتخابات آلافا من أموالك دون جدوى ثمنا لكرسي غير مضمون، وهل البرلمان في بلادنا إلا كمريض بالقلب تهدده السكتة في أية لحظة؟! ثم أي حزب تختار؟ إذا اخترت حزبا غير الوفد أضعفت مكانتك في الوسط الذي تعمل فيه، وإذا اخترت الوفد لم تأمن رئيس وزارة كصدقي باشا يجعل تجارتك هشيما تذروه الرياح.
وتأثر السيد بقول ابنه، وكان يثق في أبنائه «المتعلمين» ثقة كبيرة، وزاده انحيازا إلى طرح السياسة جانبا جهله التام بشئونها، وبروده حيالها، فلم يكن يعلم من أمورها إلا أسماء ورث حبها أو بغضها عن عهد سعد زغلول.
واقترح عليه البعض أن يتبرع بقدر من المال لمشروع من المشروعات الخيرية، لعله أن يجزي عليه بالرتبة. ولم يرقه الاقتراح من بادئ الأمر؛ لأن غريزة التجارة الكامنة فيه تنفر نفورا طبيعيا من البذل والعطاء، ولا يتعارض هذا مع كرمه المعروف؛ لأنه في الواقع كان كرما لنفسه وبيته، على أنه لم يقطع بالرفض، فما زالت الرتبة مغرية محبوبة، وما زال يطمع فيها ويريدها. وقد أدرك أنها تقتضيه قدرا من المال لا يقل عن الخمسة الآلاف جنيه، فما عسى أن يصنع؟ لم يبت برأي قاطع، وإن قال لأبنائه «كلا» بيد أنه أضاف الرتبة إلى همومه الأخرى القائمة بلا فض كإدارة الوكالة وشراء العقار، تاركا أمر الجميع للمستقبل وللظروف. •••
ومهما يكن من أمر هذه الهموم فهي ليست بالخطر الذي ينغص صفو الحياة، وخصوصا حياة رجل يستغرقه العمل نهارا، والغريزة ليلا. والحق أنه إذا شغله العمل لم يعد يفكر في شيء سواه، وقد جلس إلى مكتبه مركزا انتباهه كله في كلام سمسار يهودي، مستجمعا يقظته، مستحضرا حذره، يعجب لرقة محدثه ولطفه، حتى ليحسبه الجاهل صديقا ودودا، وهو في الحقيقة نمر يتوثب، يتمسكن ويتمسكن حتى يتمكن، والويل لمن يتمكن منه. وقد علمته التجارب أن هذا الخواجا وأمثاله أعداء ما من صداقتهم بد، أو أنه - على حد تعبيره - شيطان مفيد. وكان يساومه بصفقة شاي مضمونة الربح غزيرته، فجعل السيد يفتل شاربه الضخم ويتجشأ شأنه إذا استغرقه التفكير الخطير! وحاول الخواجا بعد أن فرغ من الشاي أن يعرض عليه شراء عقار صالح - وكان على علم برغبته في الشراء - ولكن السيد كان قد صمم على تأجيل الشروع في ذلك إلى ما بعد الحرب، وأبى أن يصغي إليه، فغادر الرجل الوكالة قانعا بصفقة واحدة. وجاء غير هذا الخواجا آخرون. وواصل السيد العمل بما عرف عنه من مقدرة وهمة. وعند منتصف النهار نهض للغداء، وكان يتناول غداءه في حجرة أنيقة أعد بها فراشا للمقيل. وكان غداؤه يتكون عادة من خضر وبطاطس وصينية فريك. ولما انتهى من طعامه مضى إلى الفراش يستجم ساعة أو ساعتين. وفي أثناء ذلك تسكن حركة الوكالة، فيسود السكون الزقاق جميعا. وكان لصينية الفريك قصة يعرفها أهل الزقاق جميعا. هي طعام ووصفة في آن واحد، وقد برع في تهيئتها أحد عماله المقربين، فظلت حقيقتها سرا بينهما لولا أنه لا يؤمن على سر في زقاق المدق. هي صينية فريك محشو بالحمام، ومخلوط بقدر من مسحوق جوزة الطيب، يلتهمها في الغداء، ويحتسي بعدها شايا مرتين أو ثلاث مرات؛ قدحا كل ساعتين، فتحدث مفعولها ليلا، ويستمر تأثيرها الساحر ساعتين كاملتين في بهجة خالصة! وقد ظلت الصينية سرا لا يدريه إلا الرجلان والمعلمة حسنية الفرانة. وكان أهل الزقاق يرونها فيحسبون أنها غذاء خالص، فيقول البعض: «بالهنا والشفا.» ويغمغم البعض: «يطفحها سما بإذن الله!» ثم لعب الطمع يوما بقلب المعلمة حسنية، فسولت لها نفسها أن تجرب هذه الوصفة في زوجها جعدة الفران، واختلست من الصينية قطعة موفورة ملأت فراغها بفريك خالص. ودأبت منذ ذلك اليوم على اختلاس نصيبها مطمئنة إلى غفلة السيد، مدفوعة بما أسفرت عنه التجربة من نجاح ملحوظ! بيد أن السيد سليم لم يغفل عن الأمر طويلا، ولاحظ بسهولة ما طرأ من تغير على لياليه، وعاد باللائمة بادئ الأمر على العامل الذي يهيئ الوصفة. فلما أن أبرأ الرجل ذمته داخله الشك في الفرانة، واكتشف السرقة بغير صعوبة، فدعا الفرانة ووبخها، وعدل عن إرسال الصينية إلى فرنها، مستبدلا بها الفرن الإفرنجي بالسكة الجديدة. وبدأ السر ينكشف ويذيع فعلمت به أم حميدة، وكان في ذلك الكفاية كل الكفاية، فسرعان ما أحاط به أهل الزقاق جميعا، وراحوا يتلقون الصينية بالغمز واللمز. وأدرك السيد غاضبا أن سره قد افتضح، ولكنه لم يعبأ بذلك طويلا! أجل. قطع أكثر عمره في الزقاق، ولكنه لم يكن يوما من أهله، ولم يعمل لواحد منهم حسابا، ولولا السيد رضوان الحسيني والشيخ درويش لما عني برفع يده تحية. وكادت الصينية تصبح في وقت من الأوقات موضة الزقاق جميعا، ولولا تكاليفها الباهظة لما سلاها أحد. فجربها المعلم كرشة والدكتور بوشي، حتى السيد رضوان الحسيني ذاقها بعد أن تأكد أنها لا تحوي مادة يحرمها الشرع الحنيف! أما السيد سليم فكان يواظب عليها إلا فيما ندر. والواقع أنه كان يضطرب من الحياة في مضطرب ضيق؛ نهاره نهب للوكالة، وليله خال مما يتسلى به أمثاله من الناس، فلا قهوة ولا ناد ولا ملهى، ولا شيء مطلقا إلا زوجه، ولذلك تفنن في مسراته الزوجية تفننا شذ بها عن جادة الاعتدال. •••
وقد استيقظ قبيل العصر فتوضأ وصلى، وارتدى قفطانه وجبته، وعاد إلى مكتبه فوجد قدح الشاي الثاني مهيأ، فاحتساه بتلذذ وهو يتجشأ جشآت مجعجعة يدوي صداها في الفناء الداخلي، وأقبل على عمله بنفس الهمة التي استقبله بها في الصباح؛ ولكنه كان يبدو في فترات وكأن قلقا ينتابه. كان يتلفت نحو الزقاق، وكان ينظر في ساعته الذهبية الضخمة، وكان يعبث بأنفه على غير شعور منه. وعندما ارتفع ضوء الشمس إلى أعلى الجدار الأيسر للزقاق، أدار مقعده اللولبي وجعل وجهه للطريق، ومرت دقائق ثقيلة لم تتحول فيها عيناه عن الطريق. ثم أرهف السمع ولمعت عيناه لوقع شبشب على أحجار الطريق المنحدر، ثم مرت حميدة أمام باب الوكالة في ثوان معدودات، وفتل شاربيه بعناية، ودار بكرسيه إلى المكتب وقد لاح في عينيه السرور، وإن وجد شعورا بعدم الارتياح! من العسير أن يقنع بهدوء الرؤية الخاطفة بعد ساعة كاملة من الانتظار والقلق والشوق. ولم يكن يتاح له رؤيتها في غير هذا الوقت إلا من قبيل استراق النظر إلى نافذتها في أويقات نادرة كلما جازف بالظهور أمام الوكالة كأنما يريح أعصابه بالمشي. كان شديد الحذر بطبيعة الحال صونا لمنزلته وكرامته، فهو السيد سليم، وهي فتاة مسكينة، والزقاق زخار بالألسن الحداد والأعين المتطفلة. وتوقف عن العمل وجعل ينقر المكتب بسبابته متفكرا. أجل، هي مسكينة وفقيرة؛ ولكن الرغبة لا ترحم وا أسفاه، والنفس أمارة بالسوء! مسكينة وفقيرة ولكن وجهها البرنزي ونظرة عينيها وقدها الممشوق، كل أولئك مزايا تستهين حقا بفوارق الطبقات! وما جدوى المكابرة؟ إنه يهوى العينين الفاتنتين والوجه المليح، والجسم الذي يقطر إغراء، وهذه العجيزة الأنيقة التي تزري بورع الشيوخ. إنها أنفس من وارد الهند جميعا. ولقد عرفها منذ كانت صبية صغيرة تتردد على الوكالة لابتياع ما تحتاجه أمها من الحناء ومواد المفتقة والمغات. رأى ثدييها وهما نبقتان، ثم وهما دومتان، حتى استوتا رمانتين، وعاين عجيزتها وهي أساس أملس لم ينهض عليه بناء، ثم وهي تكور رقيق يتمطى به النضج، وأخيرا وهي كرة تنضح أناقة وأنوثة. وراح الرجل يحضن إعجابه المترعرع حتى أفرخ في النهاية رغبة عازمة. إنه يعلم ذلك، ولم يعد يحاول إنكاره، ولطالما قال لنفسه: «ليتها كانت أرملة كالست سنية عفيفي!» لو كانت أرملة لوجد لنفسه مخرجا؛ أما وهي عذراء فينبغي أن يطيل التفكير في أمره، وتساءل كما اعتاد أن يتساءل: ماذا يروم؟ وذكر وهو لا يدري زوجه وأسرته. كانت زوجه امرأة فاضلة، تتحلى بكل ما يحب الرجل من أنوثة وأمومة وإخلاص ومهارة فائقة في شئون البيت، وكانت على شبابها مليحة ولودا، فهو لا يأخذ عليها نقيصة واحدة، وفضلا عن ذلك كله كانت من أسرة كريمة تتفوق عليه كثيرا في الأصل والمحتد. وهو يقر بفضلها جميعا، ويضمر لها ودا صادقا، ولا يضايقه إلا أنها استوفت شبابها وحيويتها، فقصرت عن مجاراته، وعجزت عن احتماله، فبدا بالقياس إليها - وبسبب حيويته الخارقة - شابا نهما لا يجد فيها ما يشتهيه من متاع! والحق أنه لا يدري إن كان ذلك ما علقه بحميدة، أم أن هواه ما جعله يستشعر هذا الفراغ الأليم؟! ومهما يكن الأمر فقد أحس رغبة لا تقاوم إلى دم جديد! وقال لنفسه صراحة: «ما لي أحرم على نفسي ما أحل الله لها؟!» على أنه كان رجلا محترما، حريصا جدا على أن يقر له كل إنسان بالاحترام، ويكربه غاية الكرب أن يكون مضغة الأفواه. كان من الذين يعملون للناس وآرائهم كل حساب، وكان يقول مع القائلين: «كل ما يعجبك، والبس ما يعجب الناس.» وإنه ليأكل صينية الفريك، أما حميدة .. رباه! لو كانت من أسرة كريمة ما تردد لحظة في طلب يدها. ولكن كيف تصير حميدة ضرة للسيدة عفت؟! وكيف تصبح أم حميدة الخاطبة حماته كما كانت يوما المرحومة ألفت هانم؟! وعلى أي وجه تكون حميدة امرأة أب لمحمد سليم القاضي، وعارف سليم المحامي، والدكتور حسان سليم؟! وهناك أمور أخرى - لا تقل عن هذه خطورة - ينبغي تقديرها حق قدرها؛ هنالك بيت جديد لا بد - في هذه الحالة - أن يتهيأ، ونفقات جديدة ربما ضاعفت من نفقاته القديمة، وورثة جدد خليقون أن يمزقوا وحدة أسرته المتماسكة، وأن يلوثوا صفحتها الناصعة بالعداوة والبغضاء. وفي سبيل أي شيء كل هذه المتاعب؟ .. ميل رجل - بل زوج وأب - في الخمسين لفتاة في العشرين! لم يغب عنه شيء من هذا؛ لأنه رجل لا يفوته بحال تقدير المتاعب التي تتصل بالمال وأحوال المعيشة. ومضى يراجع نفسه حائرا مترددا لا يقر له قرار، وباتت هذه العاطفة أحد الهموم المعلقة في حياته، وانتظمتها سلسلة مشاكله التي لم تفض كإدارة الوكالة ومستقبلها، وشراء العقار وتشييد العمارات، ورتبة البكوية، بيد أنها كانت أشد إلحاحا وأبعث شجنا.
كان ذهنه يستعرض جميع هذه الخواطر إذا خلا إلى نفسه ومد له حبل التفكير، أما إذا خطرت حميدة أمام عينيه، أو لاحت لهما في النافذة، فلم يكن يفكر إلا في أمر واحد!
9
أصبحت أم حسين - امرأة المعلم كرشة - في هم مقيم؛ فانقطاع عادة مألوفة لا يمكن أن يمر دون تساؤل، خصوصا إذا كان انقطاعها في الماضي يقترن دائما بشر مستطير. وقد قطع المعلم كرشة عادة محبوبة لا يصح أن تقطع لغير سبب خطير، فراح يمضي سهرته الليلية بعيدا عن البيت، بعد أن كان يدعو رفاقه المدمنين إلى حجرة السطح كل منتصف ليل فيمتد بهم السهر حتى مطلع الفجر. وطافت بالمرأة الذكريات المحزنة، فعاودها الألم الذي ينغص عليها صفو الحياة .. ما الذي يدعوه إلى قضاء الليل خارج داره؟ أيكون ذاك السبب القديم؟ ذاك الداء الوبيل؟ سيقول الفاجر: إنه مجرد تغيير يراد به دفع الملل، أو الانتقال لمكان أوفق لفصل الشتاء! ولكن هيهات تهضم نفسها أمثال هذه المعاذير الكاذبة، وإنها لتعلم من أمر نفسه ما يعلمه الناس جميعا، لذلك أصبحت المرأة في هم مقيم، وباتت تتحرق على فعل شيء حاسم مهما كانت عواقبه. وكانت امرأة قوية - على دنوها من الخمسين - لا تنقصها أسباب الجراءة التي تجاوز الحد في كثير من الأحايين. وكانت من نسوة الزقاق المشتهرات بالبأس - كحسنية الفرانة وأم حميدة - واشتهرت بوجه خاص لما يقع بينها وبين زوجها من دواعي الملاحاة بسبب شذوذ سلوك الرجل! كما اشتهرت بأنفها الكبير الغليظ الأفطس. وكانت زوجا ولودا؛ أنجبت بنات ستا وذكرا واحدا هو حسين كرشة، وجميع بناتها متزوجات، وجميعهن يحيين حياة زوجية مقلقة، لا تخلو من نكد، وإن كانت تسير ولا تنقطع. وقد حدثت لصغراهن مأساة كانت حديث الزقاق يوما؛ إذ اختفت بغتة في عامها الأول من الزواج، ثم ضبطت في بيت عامل ببولاق، وانتهى بها وبه المطاف إلى السجن. كانت مأساة الفتاة كربا شديدا للأسرة، ولكنها لم تكن المأساة الوحيدة التي ابتليت بها، فللمعلم نفسه مأساة قديمة جديدة لا يعرف لها انتهاء. وكانت أم حسين تعرف السبيل إلى معرفة ما خفي عليها من الأمر، فراحت تستخير عم كامل وتستنطق سنقر صبي القهوة حتى علمت بالشاب الذي أخذ يتردد في عهده الأخير على القهوة فيحتفي به المعلم كل احتفاء، ويقدم له الشاي بنفسه! وأخذت تراقب القهوة خفية حتى رأت الشاب بنفسها وشاهدت مجلسه إلى يمين المعلم، ولمست احتفاءه به. وجن جنونها ونكأ الجديد القديم من جروحها، فباتت ليلة جهنمية، وأصبحت على شر حال وأسوأ نفس. ولم يكن رأيها قد استقر على حال، كانت تغلي غليانا ولكنها لا تدري أي سبيل تسلك. ولطالما جربت العراك فيما سلف دون جدوى، ولم تكن تتردد عن إعادة الكرة، بيد أنها تريثت قليلا؛ لا تأففا منه، ولكن دفعا لشماتة الشامتين. وكان حسين كرشة يتهيأ للخروج إلى عمله، فقصدته هائجة النفس ثائرتها، وقالت له بانفعال شديد: يا بني، أما علمت أن أباك يعد لنا فضيحة جديدة؟!
وأدرك حسين لتوه ما تعنيه! فلا يمكن أن يعني قولها إلا معنى واحدا معروفا مشهورا. وامتلأ حنقا، واتقدت عيناه الصغيرتان فتطاير منهما الشرر .. ما بال هذه الحياة لا تكاد تعفيه يوما من المتاعب والفضائح. ولم تكن دواعي السخط لتنقصه حتى بدون هذه الفضائح. كان برما بكل شيء مما حوله، ولعل برمه هذا الذي دفعه إلى الارتماء بين أحضان الجيش البريطاني، ثم ضاعفت حياته الجديدة من سخطه بدل أن تسكنه وتطامنه، فضاق بآله وببيته وبالزقاق جميعا. وجاء أخيرا قول أمه نفطا على لهيب، فقال غاضبا: ماذا تريدين؟ وما حيلتي في هذا كله؟! لقد تدخلت فيما سلف وحاولت الإصلاح، فكاد يبلغ بنا الحال أن نتعارك وأن نتضارب، فهل تريدينني على أن أمسك بتلابيب أبي؟!
لم يكن يعنيه الإثم في ذاته، ولكن كان يغيظه ما يثيره حولهم من فضيحة وجرسة، وما يشعله في البيت من نيران السباب والشتائم والعراك؛ أما الإثم ذاته فلم يكن يهمه على الإطلاق، بل إنه حين تناهى إليه خبره أول مرة هز منكبيه استهانة وقال دون مبالاة: «إنه رجل، والرجل لا يعيبه شيء!» ثم سخط مع الساخطين ونقم على والده، حين وجد أسرته مضغة الأفواه ونادرة المتندرين. وكانت علاقته بأبيه في الأصل متوترة، ذلك التوتر الذي ينشأ عادة من تصادم طبيعتين متشابهتين؛ فكلاهما فظ شرس غضوب، ثم جاء هذا الإثم فضاعف من أسباب شقاقهما حتى أصبحا كعدوين، يتحاربان حينا، ويتهادنان حينا، ولا يسكت عنهما السخط أبدا.
অজানা পৃষ্ঠা