أيها السعداء ذوي الأهل والأوطان، عرفوا لي سعادتكم وأشركوني فيها!
رضيت حينا بأنه ليس للعلم والفلسفة والشعر والفن من وطن. أما اليوم فصرت أعلم أن للعالم والفيلسوف والشاعر والفنان وطنا. صرت أعرف ضعف الإنسان الذي إذا مال إلى النوم والراحة طلب مضجعا ناعما لجسمه المضنى، لا مرجا واسعا يتناوله منه الحر والبرد، ولا بحرا عرمرما تبتلعه منه اللجج.
إني أعبد تفطرك الصامت، أيها الفيلسوف القديم، أنت الذي بعد أن اكتشفت آيات الفكر وعجائبه، أرسلت زفرة كأنها شكوى الدهور فقلت: إنما أريد صديقا لأموت لأجله.
وأنا أجثو الآن خاشعة أمام ذكرك مرددة ما يشبه قولك: إنما أريد وطنا لأموت لأجله أو لأحيا به!
عند قدمي أبي الهول
الأفق واسع واسع، والليل عميق عميق، وأنوار المساكن وأضواء الشهب في أحشاء الدجى جراح وحروق، وأصوات المدينة تحدث عن أوصاب المدينة جاهلة ما عداها؛ لذلك جئت ناديك أنشد اختلاء وراء تلال فصلت بين عمران البشر الضاج المقيد، وعمرانك المستقل في حضن السكوت غير المتناهي.
تتتالى على البسيطة شعوب ودول تأتي بالأديان والشرائع واللغات والعادات، وتتبارى في محق عمل الأجيال زلازل وبراكين وصواعق وأوبئة وثورات وزعازع وطوفانات، وأنت هنا رابض أمام أهرام انتصبت في وجه الفضاء تنقض أحكام الفناء، والهياكل تلقي بين يديك حديث الدهر بألفاظ الحجر والصوان، وتعززه بصور الأرباب والملوك والكماة.
وكأن ما نزل بها من العاديات بعض تلك الصور المنيلة خطابها بلاغته وروعته.
ههنا تربض فريدا على وثير الرمال في مملكتك الفيحاء؛ مملكة الكتمان والجلال والإيماء، وعظمة القياصرة حديثة النعمة، ودميمة حيال عظمتك المجردة الرفيعة. والإنسان المتطاول الشغوف بهتك الأستار يدخل أيوان وحدتك السني، ولكنك في غيبوبتك غير منظور لهذه الأشباح الفانية، وغير ملموس لهذه الأيدي الذبابية المتنقلة على مخالبك ومنكبيك تلهيا واستقصاء.
غير أن الإنسان ليس بالمتلهي المستقصي فحسب، بل هو خصوصا الدنف المتألم. يتناوله من الكون قهرا دوار الفواجع والنوائب، فيدرك أن الثبات العام منسوج من الوجل والاضطراب، وأن البقاء الظاهر مصنوع من التغير والتحول. يدرك مأساة الكفاح بين الحرية والقدر، يدرك أن عجاجات القوى تضيع جزافا في شلال الذراري والأنسال الجارف الآلهة والمحاربين والشارعين والقديسين والأنبياء والقتلة والقتلى سواسية. يرى التعاسة على طريق العروش، والصوالجة والتيجان تختلط بقيود المجرمين. يرى الأعراس والجنازات والمواليد والوفيات يتخللها العوز والبطر، والمرض والعافية، والخيانة والأمانة، والدعوى والتطير، والضلال والهدى. وإزاء ما يفطره ويعذب سواه يظل الكون على ما هو، والخلائق والأشياء تتوثب فيه وتتولد كالمياه الرهوة الرجراجة، وكل ما خال منها وشيكا كان نهاية تعقبها بداية، وأنقاضا تستوي عليها الأسس.
অজানা পৃষ্ঠা