وهذا قبر امرأة صالحة أسعدت زوجها وأبناءها جميعا، وصوته يقول: لقد عاشت وأحبت وتعذبت وجاهدت، ثم قضت.
وهذا قبر من كان عالة على نفسه وعلى ذويه، وعلى كل محيطه، حتى من لقيه صدفة في طريقه، وصوته يقول: لقد عاش وأحب وتعذب وجاهد، ثم قضى.
وهذا قبر طفل رضيع لم يحسب عمره بغير الأيام، وهو يقول هذه هي حكاية الموتى، وهذه هي حكايتنا نحن اللاحقين بهم.
هذه هي حكاية الموتى على الإطلاق، حكاية الظالم منهم والمظلوم، والكبير والصغير، والذكي المعتوه، والأحمق والحكيم، صاحب القبر المرمري الذي لا تبلغ الهامات عتبته، وصاحب المضجع الترابي الذي تدوس هامته الأقدام، كل منهم عاش مرغما، وأحب مرغما، وتعذب وجاهد بإمكانه الفطري والاكتسابي، ثم دعاه الردى فلبى صاغرا. •••
وإذا تحولنا عن هذه المقبرة ذات الحدود إلى مقبرة الخليقة التي لا حدود لها، سمعنا من الزهرة والشجرة والحيوان والإنسان والشعب والجنس والمدنية، ومن كل سيار، ومن كل شمس، ومن كل نظام شمسي، هذه اللازمة التي تأبى التغير: لقد عاش بقوة الحياة التي كونته وشكلته وأدمجته في فصائلها، ولقد أحب بقوة الجاذبية الشفيقة العنيفة التي تضمد جراح القلوب لتمزقها، وتواسي أوجاع الأرواح لتضنيها، وتجلو للعقول أسرارا لتثقلها بغوامض الأسرار، ولقد تعذب لأن العمر ارتفاع وانحدار، ونمو وتناقص. وبين هذه المتناقضات المحتمة يتفطر الفرد في احتياجه إلى التوازن والثبات. ولقد جاهد لأن الجهاد وسيلة يزعمها موصلة إلى الثبات والتوازن، وهي لا توصل إلى غير نفسها لو علم العالمون! لقد جاهد ضد العناصر وضد الفصول، ضد الأجناس وضد الجماعات، ضد الاصطلاحات المتحجرة والمجازفات المتهورة، ضد الغنى والفقر معا، ضد الجمال والقباحة، وضد البله والذكاء. جاهد ضد الغرباء، وضد الأعداء، وضد الأصدقاء، وجاهد ضد أحب الأحباب. وكان أوجع جهوده ضد ذاته - تلت الجهود التي تكسر لولب القدرة وتبيده بينا الجهود ضد العالم الخارجي تعززه وتقويه، ثم عندما تحلبت منه القوى بالحياة والحب والعذاب والجهاد قضى؛ أي التحف باللغز الأعظم، وأسدل على حقيقته الظاهرة حجاب الخفاء، وغاص في مغذية الكائنات ليتقمص في النار شرارة، وفي الهواء نسمة، وفي الماء قطرة، وفي التراب ذرة. وما هي الذرة؟ أهي مادة أم هي قوة؟ أهي فاعلة أم هي منفعلة؟ أهي بصيرة أم هي كفيفة؟ ولماذا تتجمهر ومثيلاتها لتشكل الصور ثم تحلها، ثم تشكلها ثم تحلها؟ أفي المادة كل وعود الحياة وكل قواها، أم في الحياة كل وعود المادة وكل قواها؟ ولماذا تتعاون الحياة والمادة حتى تصيرا في دماغنا إدراكا، وفي جناننا عاطفة، وفي أعضائنا حركة، وفي ألحاظنا نورا، وفي محاجرنا دموعا. ماذا تريد منا الحياة، وماذا تبتغي المادة منا؟ ومتى تنتهي هذه الألعوبة السحرية التي تبتدئ بالاهتزاز، وتستطرد بالاهتزاز، ولا اهتزاز ينهيها؟
والآن إذ أسمع الرياح تعتول وتندب، والأجراس تطن طنين الغم والكرب، والأرغون يعزف ألحان التفجع والانتحاب، ثم تتراءى لي أودية وجبال زرعت فيها العظام منا وامتدت الأعصاب، وتنبسط لمخيلتي سهول ومروج تغذت من أجسامنا، وارتوت بدمائنا، وتضج حولي أصوات الباكين الحزانى، وتتزاحم أمام ناظري جميع مشاهد الفراق - فراق مر يحتمه الموت، وفراق أمر تقضي به الحياة، فأذوب وأتضاءل، ثم أذوب حيال بحر الشقاء العام حتى ألبث ذرة واحدة متوجعة متلهفة متفجعة تتوق إلى التلاشي؛ إذ ذاك تنقشع عن عاقلتي حجب الجهل والأنانية، وتلقي بي يد الروح الأعظم في فضاء اللانهاية، ويحملني جناحان قويان إلى حيث أجد الموت حدثا عرضيا، والفناء خيالا زائلا؛ إذ ذاك ينمو كياني ويتعالى ويعظم، فيتنشق هواء الحياة الواحدة السائدة في كل مكان.
من أعماق اللجج إلى أعالي الجبال، من نواة السلب المبعثرة في المادة الخرساء إلى نواة الإيجاب الكامنة في بوارق الكهرباء، من ذرة الرمل إلى الشجرة المزهرة، إلى الهواء الملامس أفنانها، إلى طير سابحات تحت الغمام، إلى فتيت شموس تلبد في حضن المجرة، إلى أبعاد لا يدركها غير الخيال العظيم، إلى ما وراء ذلك من إطار الخليقة السلبي، إلى كل نقطة من كل مسافة في كل مكان من كل زمان في كل أبدية تتموج حركة الحياة النضناض متتابعة متقطعة، متفردة متنوعة، متظاهرة متوارية، متلاطفة متخاشنة، متمهلة متضاعفة، متشددة متعادلة، أبدية أزلية سرمدية. صوتها العجيب يتراجع من حنجرة إلى حنجرة، ومن أفق إلى أفق، ومن عالم إلى عالم، ومن سكوت إلى سكوت، مولولا مع الإعصار، هامسا مع النسمات، نادبا مع البحار، مدمدما مع العناصر، متمتما مع ثلاثمائة ألف من أجناس الحشرات، صامتا مع جميع المكروبات والذرات، آجا مع المجهولات، ملعلعا مع الآلات، حافا في حفيف الأفلاك، داويا بجميع أنغامه ونبراته في ملايين الملايين من أصوات الخلائق.
تكسونا الحياة كرداء سحري لا تبلى خيوطه، وتحضننا السماء، فنحن فيها مقيمون قبل الحياة وبعد الموت، والجحيم والفردوس في نفوسنا يتناوبان. تغزونا الحياة في الاندحار وفي الانتصار، فنحن أبطالها ونحن ضحاياها، سواء أشئنا أم لم نشأ.
ما الأرض والبحار وأبعاد الأفلاك سوى مدافن دهرية. إنما هي الوقت نفسه معامل توليد وتكوين. نحن نخلد الحياة بفنائنا، وهي تفنينا بخلودها، ونحن أبدا كذلك حتى تثلج الشموس، وتضمحل قوى العناصر، وتتفكك عرى الأكوان سابحة في الفناء الأنور، في البقاء الأوحد، في حضن الله.
إذن أعيد الموتى اليوم أم عيد الأحياء؟
অজানা পৃষ্ঠা