وأدار زيتون مفتاح الراديو ليسمع الأنباء، كانت العاصفة التي يتحدث الناس عنها لا تزال بعيدة في فلوريدا، وتنتقل ببطء إلى الغرب، ولم يكن من المتوقع لها أن تعبر الخليج إلا بعد بضعة أيام أخرى، هذا إذا قدر لها أن تعبره، وعندما مضى بالشاحنة إلى أول عمل من أعمال اليوم، ألا وهو ترميم قصر رائع عتيق في حي الحدائق، حرك مؤشر الراديو بحثا عن شيء آخر، أي شيء. •••
تطلعت كاثي وهي واقفة في المطبخ إلى الساعة، وشهقت. كان من النادر أن تصحب الأطفال إلى المدرسة في الموعد المحدد، وكانت تعمل على حل تلك المشكلة، أو تنتوي العمل على حل تلك المشكلة عندما يهدأ العمل في ذلك الفصل من العام. كان الصيف أكثر فصول العام انشغالا للشركة، فكثير من الناس يرحلون هاربين من الحرارة والرطوبة، طالبين من الشركة طلاء بعض الغرف أو مدخل المنزل في أثناء غيابهم.
وأخذت كاثي تحث الأطفال على الإسراع بكلامها وحركات يديها حتى اصطحبتهم حاملين معداتهم المدرسية إلى الشاحنة الصغرى، وانطلق الجميع عبر نهر المسيسيبي إلى الضفة الغربية.
كانت لمشاركة زيتون وكاثي العمل في الشركة مزايا كثيرة، بل فوائد جمة لا تعد ولا تحصى، ولكن المثالب كانت واضحة وتزداد باطراد، كانا يقدران أرفع تقدير أن ذلك العمل يتيح لهما تحديد ساعات العمل، واختيار عملائهما وأشغالهما، والقدرة على الوجود في المنزل كلما دعت الحاجة على ذلك؛ إذ إن قدرتهما على الحضور والاستجابة لأي شيء يتعلق بأطفالهما في أي وقت كانت دائما مصدرا للارتياح العميق، ولكن عندما كان الأصدقاء يسألون كاثي إن كان من المستحب أن يبدءوا هم أيضا أعمالهم الخاصة، كانت تنصحهم بألا يفعلوا ذلك قائلة لهم: «إن صاحب العمل لا يدير عمله، بل إن العمل هو الذي يديره ويتحكم فيه.»
كان زيتون وكاثي يجدان في عملهما جدا يزيد على جد أي شخص يعرفانه، ولم يكن تبدو للعمل وللقلق نهاية. ليلا، وفي عطلة نهاية الأسبوع، والعطلات، لم يكن للراحة أي مجال، وكانا في العادة يقومان في الوقت نفسه بثمانية أعمال أو عشرة، ويتوليان الإشراف على ذلك من مكتب منزلي ومساحة للتخزين في شارع دبلن، المتفرع من طريق كارولتون، ناهيك بجانب العمل المتمثل في إدارة عقاراتهما، فقد حدث في وقت ما أن بدآ يشتريان المباني، والشقق والمنازل، وأصبح الآن لديهما ستة عقارات يقيم فيها ثمانية عشر مستأجرا. وكان كل مستأجر يعتبر من زاوية أخرى شخصا يعتمد عليهما، شخصا آخر يسهران عليه، ويوفران له المأوى، والسقف الذي يحميه، وأجهزة تكييف الهواء، والماء النظيف، كان الواقع يقول إن النجاح أتى معه بضرورة التعامل مع عدد مذهل من الأفراد بعضهم يتقاضى أجرا وبعضهم يدفع الإيجار، ومنازل تحتاج إلى التحسين والصيانة، وفواتير تتطلب السداد، وفواتير مطالبة بالدفع، ومعدات تشترى وتوضع في المخزن.
ولكنها كانت تعتز بما آلت إليه حياتها، وبالأسرة التي شاركت زيتون في تكوينها، كانت تسير بالسيارة الآن مع بناتها الثلاث في الطريق إلى المدرسة، وكان إدخالهن مدرسة خاصة، والاطمئنان إلى التحاقهن بالجامعة، وتوافر كل ما يحتاجون إليه وزيادة، يدفعها إلى أن تلهج بالشكر في كل لحظة وكل يوم.
كانت كاثي بنتا من تسعة أطفال، وكانت قد نشأت وترعرعت بأقل القليل، وكان زيتون الأخ الثامن بين ثلاثة عشر طفلا، كما نشأ وترعرع على ما يقترب من العدم، ولكن انظر إليهما الآن، انظر إلى ما استطاعا بناءه! لقد استطاعا بناء أسرة مديدة، وعمل بارز النجاح، واستطاعا الاندماج التام في مجتمع المدينة التي اتخذاها وطنا حتى أصبح لهما أصدقاء في كل حي، وعملاء في كل عمارة تقريبا يمران بها، وكانت هذه جميعا من نعم الله عليهما.
كيف يمكنها مثلا أن تتجاهل نديمة؟ كيف تأتى لهما أن ينجبا مثل هذه الطفلة البالغة الذكاء، الواثقة بنفسها، المؤمنة بالواجب، الحريصة على مد يد العون ، والمتقدمة ذهنيا على عمرها بمراحل؟ كانت فيما يبدو الآن في عداد الكبار، وكان حديثها قطعا ينم عن النضج؛ إذ كثيرا ما تبدي فيه من الدقة والحذر ما يزيد على ما يفعل والداها. وألقت كاثي نظرة إليها وهي تجلس الآن في مقعد الراكب بجوارها تلعب بالراديو، كانت تمتاز دائما بسرعة البديهة، فعندما كانت في الخامسة من عمرها وحسب، لا أكبر من خمسة أعوام، عاد زيتون ذات يوم إلى المنزل لتناول الغداء فوجد نديمة تلعب على أرضية الغرفة، ورفعت بصرها إليه وقالت: «أريد أن أصبح راقصة يا أبي!» وخلع زيتون حذاءه وجلس على الأريكة، ثم قال وهو يدلك قدميه: «في المدينة عدد أكبر مما ينبغي من الراقصات، ولكننا نحتاج إلى أطباء، وإلى محامين، وإلى معلمين. أريدك أن تصبحي طبيبة حتى تعتني بصحتي.» وفكرت نديمة فيما قاله لحظة ثم رددت قائلة: «لا بأس! إذن أكون طبيبة!» وعادت إلى كراس الرسم وتلوين الصور. وبعد دقيقة واحدة هبطت كاثي من الطابق العلوي بعد أن شاهدت الفوضى في غرفة نوم نديمة، فقالت لها: «نظفي غرفتك يا نديمة.» لم تجفل نديمة، ولم ترفع بصرها عن كراس الرسم، بل قالت: «لن أنظفها يا ماما، سوف أصبح طبيبة، والأطباء لا يقومون بالتنظيف!»
بينما كانت السيارة تقترب من المدرسة رفعت نديمة صوت الراديو؛ إذ التقطت أذناها خبرا عن العاصفة المقبلة. لم تكن كاثي تصغي باهتمام كبير؛ إذ بدا لها أن نبرات التحذير المبكر المزعجة تتكرر ثلاث مرات أو أربعا في كل موسم، منذرة بهبوب الأعاصير المتجهة مباشرة نحو المدينة، ودائما ما كان اتجاهها يتغير، أو تهبط سرعة الريح في فلوريدا أو فوق الخليج، فإذا قدر للعاصفة أن تصيب مدينة نيو أورلينز على الإطلاق فسوف تكون شدتها قد تناقصت كثيرا، فلا تلبث إلا يوما يسوده الغيوم وتهب فيه الرياح المتربة وتسقط فيه الأمطار.
ولكن المذيع كان يتحدث في الراديو الآن عن العاصفة المتجهة إلى داخل خليج المكسيك بقوة من الدرجة الأولى، وفي موقع يبعد نحو 45 ميلا إلى الشمال الغربي من جزيرة «كي ويست »، وهي في أقصى غرب جزر فلوريدا. وكان المذيع يقول إن العاصفة تتجه غربا. وأغلقت كاثي الراديو، فلم تكن تريد للأطفال أن يقلقوا.
অজানা পৃষ্ঠা