كانت المرأة أو الرجل قبل عصور التاريخ تكرر كلمات التوجع عند الفجيعة وفاق لطم الوجه أو اللدم على الصدر أو الشهيق والزفير، وهي تطيل تارة تلك الكلمات وتقصرها أخرى أو تبدي تأوهات وتنهدات فوق ذلك اللطم واللدم أو الشهيق والزفير. وهي إذا ندبت ترفع صوتها مرة وتخفضه أخرى تبعا لفوران إحساساتها، أو خورها من كثرة اللطم واللدم، ويتخلل كلماتها أو حروفها نشيج وانقطاعات قصيرة كما تفعل اليوم المرأة القروية أو البدوية في بلادنا.
وكذلك كان الرجل المتحمس والمرأة الجذلى يبديان إحساسهما بكلمات توافق رفس الأرض بالرجل مرة أو مرتين، أو مد الذراع وقبضها أو قفزاتهما، ووثباتهما عند الرقص أو الحماسة كما يفعل اليوم المتهوسون.
وكان يشترك عند المناحات أو الأفراح المعقبة للانتصارات أو المظاهرات الحماسية عدد من النساء والرجال معا بإعادة الكلمات التي تفوه بها النائحة أو الرئيس، أو إعادة رفس الأرض ومد الأيدي وقبضها على نسق واحد ونظام من غير زيادة ونقصان.
أما الغناء فقد تولد من امتدادات تلك الأصوات وانقطاعاتها المتخللة إياها وارتفاعاتها وانخفاضاتها بعد أن أخذت أشكالا معينة بسبب التكرار وإقبال الجمهور عليها إلى أن صارت كلما قلدها أحد تعيد في السامعين والسامعات تلك الإحساسات.
وتفرعت تلك الأشكال بتعدد القبائل، وتأصلت بالوراثة بطنا عن بطن، في عصور وأحقاب طويلة.
والموسيقى هي الغناء نفسه، وبعبارة أخرى هي تقليد تلك الأصوات بما يتخللها من الانقطاعات، وما لها من الارتفاعات والانخفاضات بواسطة الأوتار أو غيرها، وجعل سلم منها لهما، وكأن العود التي يوقع على أوتارها لحن موسيقي يذكر السامع بشكاة من الآلام قد ورثها البشر من أسلافهم الأقدمين، فهو وإن لم يتذكر الألفاظ يتحسس بوزانها ورفع أصواتها وخفضها.
وأما الشعر فمتولد من تلك الأصوات والانقطاعات التي تتخللها بإعادتها أو زيادة مقطع عليها أو حذفه أو تبديل مقطع بآخر بألفاظ تدل على إحساسات جديدة ومعان تريدها النائحة أو المتحمس تشعران بتلك الإحساسات القديمة، ففيه إحساسان الأول هو الموروث عن الأجداد بإثارة الأوزان لها، والثاني هو الحادث بإثارة ما تدل عليه الألفاظ من المعاني، ولذلك كان يفضل الغناء المجرد من الألفاظ. ولما كان في الغناء تفصيل تلك الأصوات والانقطاعات وتمثيل لارتفاعاتها وانخفاضاتها ليسا في الشعر قرنوا بينهما، فتضاعف تأثير كل منهما بسبب الآخر، وهما على كل حالة شقيقان قد تولدا من إحساس واحد.
فالشعر في أصله كلمة تنطق بها المفجوعة مكررة إياها، وهي تلطم وجهها أو تلدم صدرها، كما إذا قالت «ويلي ويلي»، أو «أوه أوه»، بفترات قصيرة، أو قالت «قد ماتوا قد ماتوا»، أو «يا ويلتا يا ويلتا»، أو «أين أهلي أين أهلي»، أو «لقد هلكوا لقد هلكوا»، إلى غير ذلك من الكلمات التي يكررها المفجوع. ثم تقدموا فيه فأخذوا يؤلفونه من تفاعيل ثلاثة أو أربعة، ثم جعلوا يغيرون بعض تلك الكلمات مع المحافظة على الوزان، ثم جعلوا يؤلفون بين الكلمات من وزانين مختلفين.
وقد كان الشعر في أوله شطرا واحدا، ثم جعلوه شطرين متطابقين في وزان الكلمات، مع تكرار الكلمة الأخيرة، ثم جعلوه عدة أبيات موافقة لأول شطر من غير إعادة شيء من الكلمات، إلا الروي الذي هو بمثابة عضو أثري للكلمة التي كانوا يعيدونها، وهذا النوع هو القصيد. وترى مما ذكرت أن الشعر مثل الأحياء، قد مشى على سنن الارتقاء من البسيط إلى المركب.
وقد تفننوا في الأوزان، فولدوا من بحر أو بحرين بسيطين بحورا كثيرة. والبحور البسيطة هي التي تفاعيلها على وزان واحد، كالمتدارك والمتقارب. والمركبة هي التي تفاعيلها على وزانين كالطويل والخفيف. والقسم الأول أقدم من الثاني لبساطته.
অজানা পৃষ্ঠা