ومن غير انتظار، وبلا سبب تعلمه زينب، وقف وأمسك يدها كأنه يسلم عليها وقال لها: اقعدي بالعافية يا زينب. وإن شاء الله تكوني مبسوطة مع حسن.
ثم انحرف إلى طريق آخر راجعا إلى الدار، ودخل غرفته من جديد. ولكن هذه المرة دخل وهم يحس بحزن وسرور في آن واحد، لأنه صمم على ترك كل هذه الإحساسات الفارغة التي تنتابه من ورائها الآلام، ليعيش في نفسه ولنفسه، وأن يكفر عن كل ما فات بكل طريقة ممكنة.
إنه قضى سنيه الأخيرة بين آمال وأحلام كاذبة مشوبة بأطماع أحرى بمثله أن يكون أكبر منها. وهل إنسان يبلغ به الأمر أن يكون أكبر غاياته مقابلة فتاة أو الجلوس إليها ومحادثتها لأنها أعجبته إلا إنسان صغير النفس والعقل معا؟ وأدهى من هذا وأمر أنه يتنقل كل يوم من واحدة لصاحبتها، وينسى الأولى لمرأى الأخرى، فإذا غابت رجع إليها، وإن رأى غيرهما من بنات جنسهما هان عليه أن يرتمي في أحضانها ويسلم وجوده إليها.
تأتي عزيزة إلى البلد فيعد لقاءها أكبر الأماني، ويتغنى بذكراها ويأتي على محاسنها، ثم يكتب إليها خطابات كلها الحب، ويشكو ما عنده من الجوى واللوعة. فإذا هي تركت البلد رجع إلى زينب والتغزل بها ومقابلتها وسؤالها عن الأيام القديمة. وإذا قابلته في العاصمة فتاة حسب فيها محبوبا جديدا، فتمشي إلى صدره هواها، ووجد من العذوبة في سماع ألفاظها وفي النظر إليها ما ينسيه كل شجن... ما هذا كله؟ وأي قلب قلبه الذي يسع حب كل هاتيك الفتيات الناضرات والزهرات اليانعات أمام عينيه؟ أم أن لكل شهر من شهور السنة، بل لكل يوم من أيامها من الأثر فيه ما يوجه إحساسه إلى جهة جديدة؟.. كلا. ذلك مرض عالق به متأصلة جذوره في نفسه. وأعماله تلك مظهر من مظاهر مرضه العضال. ... أو أن عاطفة الحب التي تتمشى في صدور الشبان والشابات، ولا تني عن إقلاقهم جميعا، وعن أن تدفعهم للبحث عن تلك الروح التي كانت أخت روحهم في الأزل ثم فارقتها أول الخليقة، وتبحث عنها هي الأخرى من غير كلل ولا ملال، هي التي تعذب هذا الشاب المسكين أغلقت أخت روحه وراء الحجب لتنال نصيبها من العذاب في سجنها.. نعم هو هذا!.. إذ أن شخصا كحامد، هادئ الطبع ميال إلى السكون ثابت رزين، لا يمكن أن تعبث بنفسه الدوافع وتتلاعب بها الأهواء إلا إذا كانت عاصفة قوية. وعاصف الحب أقوى الرياح التي تثير القلوب وتلهب الصدور، وتخفق معها الأفئدة بين الجوانح. هو العاصف الوحيد الذي يملك على الشاب حياته، فإما بعث إليها الهناء والسرور يحملها المحبوب في كفه الناعمة وفي الابتسامة الطاهرة التي تطوق ثغره وفي نظراته البريئة كلها الحنان والعشق، وإما جعلها عذابا ونقمة بأن يكون بحثها عن المحبوب غير ذي جدوى.
لكن حامدا لم يسائل نفسه عن سبب قلقها، ولا هو أراد أن يلتمس لها هذه المرة عذرا كفى ما فات حتى يستطيع أن يكفر عنه. وإلا فإذا كان يزيد في كفة ذنوبه ، ويندفع مع تيار غيه، فليودع من الساعة ماضيه وعمله، وليستعد لمستقبل مخجل مخز يقضي فيه حياته على مثال من النذالة والضياع، ويكون فيه كالح الوجه ميت الضمير مقفل القلب، حتى إذا أتى عليه الموت أتى على شخص ضئيل القيمة عاش ومات ولم يعمل شيئا. ولا شيء أشد إيلاما لنفس حامد وأصعب وقعا عليها من أن يتصور نفسه خارجا من باب الحياة وحيدا منفردا لا ينظر إليه أحد ولا يعلم بأمره إنسان، بل مر بهذا الوجود الأرضي من طرف لطرف واختفى في التراب ولم يترك بعده أثرا.
والواقع أن أحلام حامد وآماله في المستقبل كانت كبيرة جدا، ومهما يكن مخلصا في قوله أحيانا إن خير عملنا أن نغنم الحاضر، فإن قضية المستقبل كانت تشغل باله وتهاوده في أوقات مختلفة، وكأنه كان يدين بمذهب أستاذه قاسم أمين: «اللذة التي تجعل للحياة قيمة هي أن يكون الإنسان قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم». فلم يكن يمر به وقت ييأس فيه من المستقبل، بل كان هو الشيء الوحيد الذي يجعله يستبقي حياته. فإذا كان قد أسقط في يده أحيانا حين أراد أن يحب، وإذا كانت قد مرت به ساعات سوداء نغصت عليه أحلامه، وجعلته يسائل نفسه عن معنى الحياة، وعما يدفعنا لأن نعيش، فإن ما كان ينتظره من السنين الآتية، وأنها ستعوض عليه كل هذا، كان يجعله يحتمل مضض الحاضر وآلامه.
لم يسائل نفسه اليوم عن سبب قلقها، بل كان ما أراد أن يعرف هو الطريقة التي يكفر بها عما سلف... أيصلي ويبتهل إلى الله ويطلب غفرانه؟ ولكن لم وأي جريمة اقترف؟.. وهل ذنبه أن أودع الخالق في نفسه إحساس الحب كما أودعه في نفس كل شاب؟! وإذا كانت الطبيعة قد اقترفت هذه الخطيئة من إغراء الشبان فهي وحدها المسئولة عن عملها، وأن تكفر عن خطيئتها. وإن كان ذلك من أمر الله لطفا بخلقه فالله لا يسأل عما يفعل.
ولكنه كان يحس أن خطيئته أكبر من ساعة لساعة، وأن أعماله الماضية كلها اجتمعت حملا فوق أكتافه... وفي هذه اللحظة أحس بضعف عظيم وحاجة متناهية إلى المعونة، وأحس كأن دافعا يدفعه للابتهال إلى الله، فرفع إلى السماء نظراته، وبعيون حزينة يكاد يتساقط منها الدمع رنا للقبة الزرقاء الهائلة في صفائها، ثم لم يتمالك أن جثا على قدميه، وطلب بكل خضوع وخشوع أن يغفر له ربه زلته. وفتح كفيه حتى إذا انتهى من دعاءه رفعهما إلى وجهه كأنما يحمل إليه رحمة الله وعزاءه للمصاب المحزون.
ما أعجب الإنسان في أطواره وأحواله!.. يسير رزينا ثابتا في عمله، ويعمل كل شيء يوحي له به عقله، حتى إذا ما جاءه الضعف، وتناوبه الحزن، وخارت عزيمته، وانحطت قواه، وشعر كأن خطرا محدقا به، نادى طالبا العون من خالق السماء والأرض، ومن كل ما يصوره له خياله. ويستمر ساجدا أمام هاته القوة معترفا بعجزه المتناهي ما دام الضعف مستحوذا عليه غير سامح لقواه أن تتوازن وترجع إلى معتادها. فإذا ما انقضت تلك الساعة وعاوده صوابه نسي كل ذلك، أو على الأقل خزنه إلى جانب حتى تأتي فرصة أخرى تحوجه إليه.
جثا حامد أمام السماء، وحدق إليها، كأنه يرى فيها ملجأ اليائس، ومستقر من جنحت به سفينة الحياة، وإن هي إلا حاوية بعض السر الهائل الكامن حولنا في كل موجود. جثا خاشع القلب كسير الطرف خجلا من خطيئته، ثم رفع يديه يريد أن يعترف بكل ما جنى، ويتوب إلى الله عما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويسترشد سبيلا في تلك الحلكة المظلمة أمامه حيث كل شيء أشد سوادا من القار.
অজানা পৃষ্ঠা