فقام فرج مستندا على نبوته، وسار وصاحبه الثقيل النوم. وقام حامد يدور البلد معهما.
تقدموا في سيرهم إلى جانب المباني، وقد مدت ظلها وإن بقيت سطوحها يلمع على أحطابها الضوء وهم سكوت، فلما وصلوا إلى حوشة نخل تفرق الخفيران عن صاحبهما قائلين: يا لله نشت النخيل.. لازم موقع طيب دلوقت.
فتبعهما حامد وراح هو الآخر يبحث عن البلح الساقط على الأرض، فلم يكد يرى شيئا، والخفيران انتهيا من مهمتهما فرجعا إليه وأعطياه مما جمعا؛ وسار ثلاثتهم يأكلون ويتحدثون بصوت خافت، ويحكون عن الخفارة أيام الشتاء فرحين، يوقدون النار أمامهم، وينسل واحد إلى بعض المزارع أو الحلل القريبة فيستل منها كيزان الذرة يشوونها ويبيتون في مثل هذا وليس عليهم رقيب.
ووصلوا إلى مقثأة، فاتفق الخفيران أن يذهبا إليها فإن كان عندها أحد سألاه منها، وإلا أخذا (زرين) من جنب السكة. ووجدا عندها من أجاب طلبهما (علشان خاطر سي حامد) الذي شرفهم في مثل هذه الساعة من الليل، وهكذا بقوا عنده نحو نصف ساعة ثم رجعوا إلى دورتهم فأكملوها، وكانوا عند المصطبة، والنهار يعبث بظلمة الأفق، والفجر مؤذن أن يلوح، وتركهم حامد إلى غرفته وإلى سريره، وراح في نوم بقي فيه إلى ما قبل الظهر.
استيقظ وقام إلى مكتبه فرأى مرة أخرى كتاب عزيزة.
ألم ينس هاته الفتاة مرات ثم يأتي الدهر يعاكسه بها؟ وها قد أصبح واجبا ألا يبقي لها في باله من ذكر، ومع ذلك يبعث كتابها لنفسه ألما، ويوقظ همومه وأحزانه! ما باله بها متعلقا في حين كل جديد من الفتيات ينافسها في نفسه مكانتها؟ ألأنهم كانوا يقولون له وهو صغير: إنه سيتزوجها، يبقى إلى هذه السن وفي رأسه مثل ذلك الجنون، ويحفظ لها عهدا وموثقا؟ كم من صغيرات كن معه أيام طفولته ومنهن الجميلات! آه.. ولكنهن فلاحات.. «وداعي الأخير يا حامد».. ووداعي الأخير ياعزيزة.
وزينب هي الأخرى تركت حامد. •••
جلس حامد مع أبيه وإخوته لطعام الغداء، وظلوا من بعده، يتحادثون حتى ساعة الأصيل، ثم تفرقوا، فقام منهم من كان قاصدا المزارع، وآخرون راحوا يلعبون النرد. وحامد لم ير وسيلة يفرج بها همومه إلا أن يركب هو أيضا إلى الغيط على أن يكون وحده، فأمر بحصان أسرج له ثم ركبه وسار.
وصل إلى مزرعة بعيدة استغرق ذهابه إليها ساعة من الزمن، وقد ابتدأت الشمس تضعف، والهواء العذب يحرك القلوب ويبعث إلى الموجودات حياة ونشاطا، والطرق الضيقة تنساب بين الأقطان ثم تضيق قريبا أمام العين حتى ليخيل للناظر أن تلك اللجة الخضراء لا حدود لها مطلوسة بالشجر ليس فيها فرجة أو بينها فاصل. ومن السماء الصافية يهبط سكون هائل يتوج الوجود العظيم.
نزل من فوق جواده، ثم سار أمامه، فتبعه الجواد مطيعا وديعا، وبخطى بطيئة تمشى بين الأقطان ينظر إلى ثمرها وهو على وشك أن ينضج، ثم لم تك إلا لحظات حتى نسي القطن ولوزاته ووسواسه الأصفر الجميل، وذهب في أحلام متشعبة.
অজানা পৃষ্ঠা