واستولى ذلك على كل جوارحه، وملك كل عواطفه حتى جعله ينظر لأهله المحيطين بها نظرة الغضاضة. وما كان ليقدر على إطلاع غيره على حبه، وهو يعلم ما تكنه النفس المصرية لذلك الإحساس من الضحك منه والاستهزاء به، تلك النفس القاسية التي تنظر لكل جمال في الوجود أو الإحساس به ساخرة، لأنها لا تفهم منه شيئا، وتحسب أن الحياة الجد هي التي يقضيها صاحبها بين العمل والتسبيح، وكأن الوجود لم يك إلا طاحونا نقطع فيه أعمارنا لاهثين لغوبا ونصبا، مغمضين أعيننا عن كل حسن، واجبنا أن نرضى بحظنا، ونقنع بما يقدم لنا بعد كل علفة من العلف، وإلا كان جزاؤنا ما يصيبنا من سخط الناس علينا، وانهيالهم بما لا يقل عن سياط السائق إيلاما ووخزا. أو كأن النفس الإنسانية من الخسة والميل للشر بحيث يجب الوقوف أمام كل إراداتها ومعارضتها في أغراضها وتقييدها بما قيدتنا به العادات العتيقة البالية، وكأن الحواس لا تتطلع إلا للنقائص. فالعين لا تنظر إلا لتنتهك الحرمات، والأذن لا تسمع إلا لتمهد السبيل إلى أخس الإحساسات. ألا إن الحياة الحق هي التي يعرف فيها صاحبها أن الوجود إنما خلق ليسعد بعضه بعضا، وإن في قرارة النفس وفي أعماق حبة القلب إحساسا دقيقا إن قتلناه قتلنا معه الحياة، وخرجنا إلى عالم خسيس كله المادة والسعي وراءها والخضوع لسلطان أصحابها ، وإن نحن أطعناه واتبعناه أسلمنا إلى السعادة نمرح في جوها، وعرفنا من طريقه المروءة والشجاعة والحرية والإخلاص.. ذلك الإحساس هو: الحب!
وأخذت حامد الرعدة، وكاد يستولي عليه الذهول، وكأنه قد تاه عن الوجود المحيط، ونسي الشمس التي تعتلي متن السماء سريعا سريعا، وتزداد حرارتها ما بين لحظة ولحظة، والمارة من السارحين الذين يؤمون مزارعهم متزايدين يسيرون جماعات أحيانا، وأحيانا أفرادا. وكثر تتابعهم حتى أقلقوه من موقفه بسلامهم وتحياتهم، فلم يجد بدا من الرجوع إلى الدار حتى يتخلص من مضايقاتهم وإزعاجهم، وليخلو إلى نفسه في غرفته. لكنه ما وصل إليها حتى كان من فيها أيقاظا جميعا، وقد أخذوا أماكنهم للإفطار، فنادوه، وأخذ مكانه من بينهم. وما كان ذلك ليقطع أحلامه ومخاوفه، فما كنت تسمع إلا جرس الملاعق أو رنين الأكواب. والكل على ما بينهم من الأطفال الذين لم يبلغوا التاسعة من عمرهم سكوت كأن في بال كل ما يشغله ويستدعي أعمق تفكيره. فإن بدرت من أحدهم كلمة أو إشارة تستدعي الضحك ابتسم له من جاوره أو من قابله، فينظر له ثالث مقطبا كأنما ينبهه لهفوته التي ارتكب مما لا يجوز لمثله أن يقترف، وإن سأل أحدهم عن شيء أجيب بكلمة أو كلمتين وقنع بهما. لذلك بقي حامد من بينهم يفكر صامتا، ويأخذ طعامه ببطء حتى كان ينسى نفسه أحيانا فيظل ساكتا مدة يرجع إليه بعدها صوابه ويعود إلى نفسه. وما كان ليلحظ ذلك عليه أحد ممن حوله، حتى أفرغهم فؤادا من مظاهر الجد والتفكير فيما فيه حامد.
قضى حامد طول نهاره قلقا يحدث نفسه عما يعمل، وهل يذهب في مثل موعده ليرى صاحبته؟ لكن ما كان يحس به من الغضاضة للمحيطين بها جعل الفكرة لا تروقه لأول ما عرضها على نفسه. وعاود الكرة يبحث عن الوسيلة التي ينفرد فيها بتلك التي ملكت عنانه ليناجيها خاشعا، ويلثم يدها، ويضرع إليها.. ألا يكون سعيدا في تلك الساعة؟ أولا يكون سلطان الوجود؟ بل ألا يكون أسعد إذا جلس إلى جانبها وطوق عنقها بيده، ووضع رأسها على صدره، ثم قبل جبينها وثغرها، وهي ترنو له بعيون ناعسة، وتبسم عن بال مرتاح وقلب سعيد، ثم تجيبه أنها تحبه كلما قال لها إنني أحبك، وأعبدك؟ إن تلك اللحظات التي تمر سراعا لتعدل الحياة، وتبعث السعادة تملأ بها جوانح أشقى الناس وأتعسهم، وإنها لحامد كل ما يريد، وما أحلاها ساعة يتجلى فيها ملاكه دون رقيب!
وذهب بأحلامه إلى أقصى حدود السعادة، وتصور تلك الجنان يمرح فيها إلى جانب صاحبته، وتعلوهما سماوات من ذهب، ويسيران فوق أرض مفروشة بالورد، وتظللهما أغصان الشجر يصدح الطير عليها بنغماته الشجية، فيبعث فيما يحيط بهما روح النشوة والطرب.
لكن الوقت الذي ينبهه دائما إلى أن الساعة حانت ليراها كان يقطع عليه طريق هاته الأحلام ويزعجه عن خيالاته. ولم يجد بدا من الإذعان لذلك الداعي المجد في دعوته لا يمل، فقام نحو دارها، لكنه ما كاد يخطو خطوة حتى عاوده التردد، وقامت في نفسه الموانع ما بين إباء أن يراها مع من هي بينهم، وغضاضة يحملها لهؤلاء الآخرين، وخجل من تكرار زياراته. فإذا راجع السير عرته هزة من رأسه إلى أخمصه، ووقف أكثر حيرة وترددا من ذي قبل.
والوقت يسير دائما، والنهار قد انحدرت شمسه لم يبق منه إلا قليل، وحامد مكروب لا يدري ماذا يعمل.
وأخيرا صمم عزمه وسار وعلى جبينه شيء من أثر القطوب، حتى بلغ الدار، فإذا هي على غير ما يعهد تموج بمن فيها، وكلهم من إخوانه التلاميذ وذوي قرابته من الشبان؛ ذاك أن أخا عزيزة قد جاء ليقضي مدة مسامحته كذلك بعيدا عن ضجة المدن وضوضائها في هدأة الريف وصمته، وليمتع نفسه بالفضاء الواسع يمتد أمام النظر، تزينه الجداول والترع، وتطوق جيده آفاق تنضدها الأشجار اتخذها الطير سكنا، والشمس في عنفوانها تحيي النهار قبل أن يأخذ الليل حظه من الحياة، ولا تغيب إلا لتدع للناس ليلا ساهرا عاملا يحمل هواؤه أصوات الطبيعة وصوت الإنسان إلى آذان الوجود يهيج بها في نفسه ذكرى السعادة. فأقبل حامد على صديقه القديم وتعانقا ، ثم جلس معه يتحدثون جميعا في شئونهم وأحوالهم وأيام الدرس وحكايات المدرسين - عادة كل أخوين من طائفة المتعلمين يتقابلان بعد فراق طويل. وابتدأ الظلام يقدم عليهم، والموجودون ينصرفون واحدا بعد الآخر. ولما جاء دور حامد ألح عليه صاحبه أن يبقى للعشاء معه، وقبل حامد الدعوة، وقضيا معا شطرا كبيرا من الليل يحدث كل صاحبه في أمره وشأنه، ولا يأخذهما ملل أو يأتي عليهما ضيق من مجلسهما. حتى إذا أمست الساعة لم يبق لحامد بد من أن ينصرف إلى بيته، وما رأى عزيزة ولا سمع حديثها، غير أنه لم يكن يفكر في هذا حتى وصل إلى غرفته وأخذ مضجعه. هنالك بدأت تعاوده أفكاره وأحلامه، ولكن الوقت الممسي لم يجعل أمدها طويلا، بل أتى عليها، وحمل صاحبها إلى نوم عميق هادئ.
وتتابعت الأيام، وكان يذهب كل يوم لصاحبه، ويرى عزيزة تحادث أخاها أحيانا، فلا يجسر على مخاطبتها بأكثر من التحية المعتادة، وكان قد قنع من حظه بذلك وبما ظنه من أنها ليست أهدأ بالا منه.
وكيف لا تكون هي الأخرى مشتغلة النفس مشتتة البال، وهي في تلك السن الزاهرة، سن الشباب والنضارة، تلك السن التي لا يستطيع الإنسان فيها أن يمنع عن نفسه خواطر الحب وهواجس العشق. بعد أن أسلمته إليها سنون كره من جرائها التفكير فيما دون هذا الإحساس من خواطر الشهوات ولذائذ المادة، تلك السن التي يرق فيها الشعور ويتفتح القلب يريد أن يضم إليه كل جمال في الكون، وتحس النفس بالحاجة إلى نفس أخرى، حاجة مطلقة يكون العيش دونها آلاما وشقاء، والحياة حملا ثقيلا يريد صاحبها التخلص منها؟!
غير أن قلبها الحبيس دائما، ونظرها الذي لا يجتلي السماء إلا من نوافذ الدار، وسمعها الذي لم يذق شجو الأغاريد وإن لم يغب عنه نوح الحمام، ووجودها كله الذي يحس بالجمال العظيم في الكون كأن بينهما وحيا ونجوى، ثم لا يقدر على استطلاعه وتذوق ساعات الوحدة والخلوة كل ذلك شتت نفسها وبعث فؤادها في تيهاء لا يعثر فيها بسعادة ولا بشقاء ، وإن أحس بالراحة والرضا إلا أن تزعجه نار الحب تأجج بين ضلوعها، فتبعثها تجوب تلك التيهاء من جديد، ثم تعاودها هدأتها، وهكذا هي بين حيطانها الأربعة أشد حيرة من الدمعة في عين المحزون، تجد السلوان في أحلامها للمستقبل البعيد، وأمانيها لأيام الزواج السعيدة، وتصور في نفسها الزوج الذي تهبه قلبها من اليوم، ثم تهم تبحث عن شخص ذلك الزوج العزيز المحبوب وترجع إما فارغة اليد ينغص الأسى أحلامها أو راضية إن عثرت بمن عرفته أو سمعت به.
অজানা পৃষ্ঠা