وارتسم في خيال الفتاة النائمة فوق الحصير الناشف خيال عالم لذيذ مملوء بأحلام السعادة والهناء. وسرت مع الخيط الأبيض من نور الأمل الذي بعث إلى قلبها يد طيبة ناعمة أغمضت جفونها وحملتها وآمالها وآلامها إلى عالم السكون والنوم.
5
في تلك الأيام التي تلاعبت فيها الحوادث بزينب ما شاءت، كانت عائلة حسن هادئة ساكنة تقطع في طريق الحياة المعتاد، وليس من بينها إلا قانع مستسلم للقضاء. فإذا جاء أمر زواج ابنه في الكلام قال عمي خليل وهو هادئ النفس مرتاح البال: إن شاء الله، إن شاء الله.. لما نبيع القطن يحلها ربنا.
ثم سكت أو حول الكلام إلى حديث غير هذا.
يقول تلك الكلمة بهدوء وسكون، فيحني حسن رأسه إلى الأرض أمام شيبة أبيه المهيبة ورأسه الكبير قد ابيض شعره، وذقنه الطويل يلمس صدره المفتوح يزينه نصيبه من الشعر الأبيض كذلك، وعمامته على طاقية من صنع ابنته تقوم فوق جبهة مفتوحة خطت عليها الأيام عدة خطوط غائرة ظاهرة، وحواجبه الثقال قد كاد يختفي لونها الذهبي الأصفر تحت غطاء المشيب تسقط قليلا فوق عيونه الغائرة الزرقاء، وشنبه المقصوص تحت أنفه القصير الحاد يغطي شفاهه الرقيقة. وكأن من يرى ذلك الوجه العجوز يحسب فيه شيئا من الدم الغربي. ثم يحمل ذلك كله عنقه الغليظ القصير قام فوق قفص قوي عاش كل هذا العمر وقابل الصعاب والمظالم، وما مرض يوما ولا عرف الألم، ثم ينم عن بطنه الكبير وسيقانه القصيرة المكسوة خير كساء بشعرها؛ ولكنه مع ذلك كله لم يكن بحيث يسمى سمينا، فإن تماسك أعصابه وقوتها وظهور عضلاته التي لا تزال شديدة لا يروعها شيء - جعله هذا كله أقرب للرجل الربعة القصير منه للسمين الغليظ. ومع أنه مستور الحال معدود في بلده من الناس الطيبين، فقد جعلته سنه يثبت على ملبسه وزيه القديم، فيقدم بذلك خير مثل لفلاح إسماعيل والأقدمين. وكل ما هان عليه أن يتنازل عنه هو أن يستعيض عن ثوب القطن ثوبا من البفتة، وإن كان زعبوطه هو الزعبوط لا يعرف ابنه أيان يبتدئ تاريخه.
يحني حسن رأسه أمام أبيه فيجد من أمه الجالسة في ثوبها الأسود، عليها شاشها الأسود، ناشفة طويلة شديدة السمرة، يجد منها مؤمنة على زوجها، منتظرة تلك الأشهر الباقية على أخريات الخريف أن تنقضي فتفرح بابنها ويأتيها في الدار من يقوم بأعبائها ويريحها من عنائها ويلتزم كل أمرها.
في تلك الدار غير حسن وأبويه أخوان وأختان وخادم عندهم له مع العائلة زمن طويل يسمح له أن يكون كبعض أفرادها. ولكن البنات كن صغيرات لم يعرفن بعد عمل البيت الذي وقع كله على أكتاف أمهما بعد أن زوجت بنتها الكبرى منذ سنتين. وذلك بالطبع مما يزيد رغبتها في زواج ابنها الذي أصبح في السابعة عشرة من عمره، فتجد من امرأته من يريحها من رياسة عائلة طويلة عريضة كعائلتهم، وحتى تستريح من طلب مساعدات جاراتها الفقيرات فيما يشق عليها من الأمر، ومن تضطر بعامل المجاملة والحاجة أن تمدهن بشيء من عندها. أضف إلى ذلك أمانيها لابنها وآمالها في أن ترى أولاده وما تدخر لهم في نفسها من المعزة. كل تلك العوامل حركت عندها ما جعلها تسعى جهدها لإتمام هذه المسألة.
وكم من مرة فيما مضى كانت تتحين الفرص لتجد مناسبة تخاطب بها زوجها في هذا الأمر. لكنه كان يحسب الولد لم ينضج بعد، كما أن مسألة الفلوس لم تكن على ما يجب؛ إذ دفع كل ما كان عنده من النقود الحاضرة في خمسة فدادين اشتراها. ولا شيء أكره على نفسه من أن يستدين فيتحمل رذائل الدائنين ومطالباتهم. ثم إذا حصل للقطن شيء - لا سمح الله - عاملوه بما لا يحب وديروا عليه المبلغ بفايظ كبير، أولا يرى بعينيه الشيخ عامر وليس بين بيتيهما إلا خطوات كيف تراكمت عليه الديون من سنة لسنة حتى حار لا يدري ماذا يفعل، واختلط عليه أمره فصار ينقل الرهينة من بنك لبنك، أو يجر من الخواجات بفايظ خمسة عشر وعشرين في شهر أغسطس ليسدد في ديسمبر. وعلى أبو عمر الذي لم يبق له من عمل إلا تسلم المحاضر وتحضير الشهود ورفع دعاوى زور على الفلاحين يطالبهم بإيجار سددوه، ألم يكن من قبل مستريحا مستورا ولم يفضحه إلا الدين. فخير له هو أن ينتظر حتى لا يكون زواج ابنه سبب خراب داره، وليكون مقدم العروسة مقدم خير.
غير أن امرأته لم تكن لتقنع بهاته الحجج أو تسمع لقوله، بل لقد أجابته حين عيل صبرها من محاولاته ومماطلاته: وإذا كنت اشتريت خمس فدادين، بيع فدان من أرض داير البلد ما دام خايف من الدين.
ولكن فكرة بيع أرضه التي يزرعها منذ سنين والتي ورثها عن أبيه لم تكن مما يرزق عنده.
অজানা পৃষ্ঠা