وكلما عدت من واجب عزاء كنت أطلب من زوجي بل وأرجوه ألا يفتح بيتنا لعزاء السيدات حينما ينتهي عمري؛ فانا أدرى الناس بما يحدث في هذه الاجتماعات.
فالحديث عن «الموضة» والأزياء، وعن طلاق فلانة، وخيانة فلانة، والظاهرة الغريبة أنهن يتعمدن أن يتجملن ويتأنقن خصيصا لهذه المناسبات، وقد سمعت بأذني كلمة «فرصة سعيدة.» تقولها سيدة لأخرى لم تقابلها من زمن بعيد! وقلت لزوجي قد تحاول إحداهن أن تتقرب إليك بحجة مواساتك وتخطط لتأمين حياتها إذا كانت بلا زوج؛ فيضحك ويقول لي: «أتلاحقينني حتى بعد عمر طويل؟» ثم يصمت قليلا ويقول لي: «إنني أدعو الله أن يكون يومي قبل يومك.»
وقد علمتنا الحياة أن حزن الرجال يشتعل كالنار المضرمة، وسرعان ما يصبح رمادا ثم يخمد، فسيجد في البحث عن زوجة أخرى، فإن كان شابا فالحجة احتياجه لمن تربي أطفاله، وإن كان شيخا فالحجة احتياجه للرعاية والمؤانسة، وعلى كل حال فهو يبحث عن زوجة. أما النساء فحزنهن أطول وأعمق، يتمزق قلبهن ولا يلتئم، وأغلب السيدات يعشن على ذكرى أزواجهن، ويكرسن حياتهن لتربية الأطفال، وبعض منهم تتشح بالسواد مدى الحياة، حتى يلحقن بأزواجهن في دار البقاء. وعندما أواجه زوجي بهذه الأفكار يقول لي: «لا ارتداء السواد ولا استمرار الترمل يرجع الزوج، وكل هذه عادات ليست من الإسلام.» وطبعا لا أوافقه.
وعندما أكتب عن وفاء الزوجات للأزواج بعد رحيلهم أضع أمام عيني عمتي؛ فقد ظلت تتشح بالسواد منذ توفي زوجها سنة 1934م حتى توفيت هي سنة 1973م. وعلى رغم أنني أعرف أن ارتداء السواد لا يعني شيئا ولا يدل على الوفاء؛ فالزوجة المخلصة ترتدي السواد والزوجة الخائنة كذلك وربما يطول حدادها بسبب تأنيب الضمير، وعلى رغم أنني أعرف أن ارتداء السواد لا يعيد الراحلين؛ إلا أنني في قرارة نفسي كنت أعجب بوفاء عمتي.
أصدقاؤه
وكانت علاقته بأم كلثوم علاقة عائلية منذ طفولته الأولى؛ كانت صديقة والديه، وكانت تقضي شهور الصيف في رأس البر في عشة ملاصقة لعشة دسوقي باشا والد ثروت، ورأته طفلا شابا إلى أن ذاعت شهرته وكبر اسمه. ويحكي لي ثروت أن والدته دعت أم كلثوم على الغداء، وقالت لها: أنا عاملة لك مفاجأة على المائدة، رأت أم كلثوم طبقا مغطى فكشفته، ولما عرفت محتواه صرخت وقالت: «حميض! أهلا يا حميض، والله زمان يا حميض!» واستمرت في دعاباتها إلى آخر اليوم. والحميض هو نبات ينبت في الريف لا يعرفه أهل المدينة، ولكنها هي تربت عليه، فهو نبات شيطاني يصنع كما تصنع السبانخ، ولكنه أكل الفقراء في الريف، وعندما أتت إلى القاهرة منعت دخول الحميض إلى بيتها نهائيا. وتذكرني هذه القصة بما قاله الدكتور طه حسين لثروت إنه كان لا يأكل إلا العسل الأسود أثناء دراسته بالأزهر؛ لرخص ثمنه، لكنه عندما استقرت حالته المالية منع دخول العسل الأسود إلى بيته على الإطلاق. وحكى لي ثروت أن أم كلثوم ذهبت مع أسرته إلى قريته غزالة لتقضي أياما معهم هناك وكانوا يسهرون حتى الصباح، وفي يوم وعند طلوع الفجر وقفت أم كلثوم في الشرفة وأذنت أذان الفجر؛ فتوافد أهل القرية إلى منزل دسوقي باشا، ووقفوا مذهولين يستمعون إلى صوت أم كلثوم وهو يعلو في أجواء غزالة.
وكان «عبد الله بك فكري أباظة» شقيق «دسوقي» باشا يدعو يوم شم النسيم من كل سنة أم كلثوم وأولاد إخوتها وأولاد إخوة زوجته وعائلة دسوقي باشا إلى قضاء يوم كامل على مركب في النيل، وكانت الرحلة تبدأ وقت طلوع الفجر وحتى غروب الشمس، وكانت أم كلثوم تضفي على الرحلة البهجة والمرح ثم تغني أجمل الألحان، وتسعد الحاضرين وتشجيهم طربا، فمن منا لا يتمنى أن يكون من الحاضرين؟!
وحدث لثروت حادث سيارة بسيط من سنوات بعيدة، وجاءت أم كلثوم وأمضت معه صباح يوم بأكمله، وكانا يتكلمان في الأدب والشعر والفن.
وعرف طه حسين، وبدأت هذه المعرفة الشخصية بأن جاءه صديقه «أمين يوسف غراب» بعد ظهور روايته «هارب من الأيام» وقال له تعال انزل معي لنزور الدكتور «طه حسين» فهو بعد أن قرأ روايتك وأعجب بها يريد أن يراك، فأسرع ثروت والسعادة تملأ كيانه وذهب مع صديقه إلى بيت عميد الأدب العربي، ومن هنا بدأت بينهما علاقة جميلة؛ فقد رعى عميد الأدب العربي «ثروت» وكتب عن رواياته «شيء من الخوف» و«هارب من الأيام» و«قصر على النيل» و«ثم تشرق الشمس» و«لقاء هناك» وقال بإخلاص: «إن ثروت أباظة أحسن من صور الريف المصري.» واستمر في قراءة جميع رواياته بل ويعيد قراءتها من وقت لآخر، وأحبه حبا أبويا، وأعجب بأدبه وفنه وعظيم خلقه، وظلت هذه العلاقة إلى آخر يوم في حياة طه حسين، وكان عندما يتأخر ثروت عن زيارته يقابله بهذين البيتين:
إن كنت أزمعت على هجرنا
অজানা পৃষ্ঠা