ثم أساعده على ارتداء ملابسه، ونخرج معا إلى ميدان «سان فرنسوا» في وسط المدينة، حيث توجد قهوة اعتاد أن يجلس فيها سنوات طويلة ومعه أوراقه، ويترك لنفسه العنان في الكتابة؛ أتركه في حالة الإبداع وأتجول أنا في المحلات، وأعود إليه في ميعاد الغداء، فنترك القهوة ونتوجه إلى مطعم من اثنين أحدهما معتدل السعر وهو «الموفينبيك» والثاني أرقى بكثير وهو فندق «البوريفاج» الذي يذكرنا بالفخامة القديمة، فإذا دخلنا بهوا فهو يسلمنا إلى بهو آخر، إذا دخلنا غرفة الطعام نجدها تؤدي إلى شرفة مترامية الأطراف تطل على البحيرة، وكنا نحب أن نستمتع من آن لآخر بهذه الفخامة العريقة، وكنا أحيانا نأخذ المركب من أمام الفندق ويسير بنا إلى اتجاه فيفي ومنترو، ونظل ننظر بانبهار إلى الجبال الخضراء وإلى البيوت المبعثرة فوقها ذات الأسطح الهرمية الحمراء التي تميزها، ونظل نسبح الله على ما أعطاه لهذا البلد من جمال وكنت من فرط سعادتي أردد كلمات الشاعر الغنائي عبد الوهاب محمد:
مش بس أيامي بتحلو
دي العيشة والناس والجو
وكان ينظر إلي باسما سعيدا لسعادتي.
وعلى رغم أننا نأخذ رحلة المركب كل عام إلا أننا لا نكف عن الانبهار بجميل صنع الله. ونعود إلى الفندق، فيأوي إلى فراشه للراحة بعد الغداء، وأستأنف أنا جولاتي في «السوبر ماركت » لإعداد طلبات العشاء، ثم أعود مع الغروب فأجده قد استيقظ وجلس في الشرفة الواسعة المطلة على البحيرة، راميا ببصره إلى سلسلة الجبال التي تلوح على الشاطئ الآخر منها وهي منتج «إيفيان» في فرنسا، ثم لا تلبث الأنوار أن تتلألأ هناك، ويكتمل جمال المنظر، ويوحي للكاتب بكل ما هو جميل، وتتسابق الكلمات إلى رأسه، ومنها إلى قلمه، ويناجي الله، ثم يحلو له أن يردد قصيدة أمير الشعراء «صحبة الكتب» التي يحفظها عن ظهر قلب ثم ينام على أحلى نغم؛ على أنغام الشعر الجميل.
ولنا في لوزان أصدقاء سويسريون، ولكن في أخلاقهم دفء الشرق، وهذا ليس بمألوف في سويسرا، وكانوا يعتبرون أنفسهم أوصياء علينا؛ فهم دائما يعرضون خدماتهم، ويضعون وقتهم وسياراتهم تحت تصرفنا، ويحملوننا عند العودة أنواع «الشيكولاته» للأولاد والأحفاد.
أما السفير المصري في الأمم المتحدة منير بك زهران والسيدة حرمه فكانا يدعواننا إلى منزلهما في جنيف أو يأتيان إلى لوزان ليدعوانا على الشاي في ال «بوريفاج»، وفي يوم عودتنا إلى القاهرة نتناول الغداء عندهم في جنيف، ويرحبان بنا ترحيبا لن ننساه مدى الحياة، ثم يصحباننا إلى المطار، ويتولى موظف في السفارة عنا إجراءات السفر ولخمة الحقائب، ونصل إلى الطائرة خفاقا لا نشعر بتعب السفر بالمرة.
وكان السفير يفتح له قاعة كبار الزوار في الوصول وفي العودة، ومن سويسرا كنا نزور لندن، وكنا نحب عراقتها وجمالها وطابعها الخاص، وكنا نحرص على أن نزور الريف ونستمتع بجماله كلما أمكننا ذلك، وفي المساء نذهب إلى المسرح، ويبهرنا التمثيل، وأحيانا توضح لنا حركات الممثلين وروعة أدائهم ما يكون قد استعصى علينا فهمه.
وقد قال لي الأستاذ الأديب علي شلش وكان يقيم في لندن: «إنني قابلت كثيرا من الأدباء والكتاب هنا، ولم يفكر أحد منهم في الذهاب إلى المسارح، مع أن المسرح الإنجليزي من أعظم منارات الثقافة في العالم.»
وكان ثروت دائم الزيارة للصحفي الكبير الأستاذ علي أمين في محل إقامته، وكان مقيما أو منفيا في لندن، وكان شقيقه أبو الصحفيين الأستاذ مصطفى أمين محبوسا في القاهرة، وكانت هذه الزيارة تعتبر من الجرائم التي لا تغتفر، وبعث علي أمين مع ثروت برسائل إلى زوجته الصحفية المعروفة خيرية خيري؛ ليطمئنها على نفسه وهو وحيد في بلد غريب.
অজানা পৃষ্ঠা