فقال نجيب مراد: واللبنانيون حتى اليوم يجتمعون في الكروم في عيد مار باخوس؛ أي إله الخمر عند الرومان، فيرقصون رجالا ونساء كما كان الرومانيون قديما يرقصون ما يدعى «باكانال» فيهرجون ويمرجون ويسكرون أيضا رجالا ونساء. - يظهر أن كل جميل مبهج في الحياة أصله الدين، كالرقص مثلا والشعر والتصوير والنحت، كل الفنون الجميلة عند اليونان والرومان قديما وعند الأوروبيين حديثا إنما الدين أوحاها إلى نوابغ البشر، ولكن الأديان اليوم قد أفلست فلا توحي إلى الناس غير الجهل والتعصب والرياء. - ما أسرعكم إلى تجريم الأديان! الجهل يا مصباح أفندي، والتعصب والرياء من حقائق الوجود الملازمة يمازج الخير شرها، الجهل مفيد، لولاه مثلا ما احتل الإنكليز مصر، وغدا يخيم على جيش الاحتلال ويتسلل إلى «دون ستريت» فتنتصر على الإنكليز قوة سياسية جديدة، لولا الجهل مثلا ما ظهر مصطفى كامل وأمثاله في أوروبا من زعماء الشعب الممخرقين، ولا غنى للشعب عن البهلوان يسليهم في ساعات اليأس ويضحكهم أوقات الضجر، البهلوان في السياسة أو في الدين أو في الملاهي ألزم منك يا ست غصن البان، أما التعصب فهو لازم لحفظ التوازن بين الشعوب، وبين عقائدهم السياسية والدينية، التعصب أساس كل اعتقاد، والاعتقاد أساس الإيمان، والإيمان أساس العمل، والعمل! لولا العمل لكانت الأرض قفرا بلقعا، أما الرياء فإن هو إلا درع نتدرع بها على لؤم اللؤماء وجور الأمراء، بل الرياء حجاب تسدله على نفس حساسة تأبى السفور في الاجتماعات، حيث يختلط الحابل بالنابل ويحتك منكب الصعلوك بمنكب الأمير، وها صديقي الحاج محيي الدين أخبث الناس وأشدهم تعصبا قادم إلينا، يا حاج محيي الدين.
فسارع الحاج إلى سر همت يسلم عليه معتذرا مستغفرا. - أثنيت عليك في حديثي، قلت: إنك أخبث الناس وأشدهم تعصبا، فينبغي أن تشاربنا، هذه الكأس فقط. - لا أقبلها إلا من يد غصن البان. - تعطفي إذن يا غصن البان! - فاتك يا سيدي محيي الدين استماع حديث سر همت باشا، فقد حبب إلينا الموت والحب.
فقال الحاج متهكما: بل الحب والموت! رحم الله الفارض:
وإن شئت أن تحيا سعيدا فمت به
شهيدا وإلا فالغرام له أهل - ونعم، وصرت أود أن أكون مومية من الموميات. - لأفتش في صدرك عن رسائل الغرام؟ ها ها! - دعنا من المزح، فإن حديثكم يا سادتي لذيذ مفيد جدا وبالأخص لفتاة جاهلة مثلي، مدحت الجهل يا سر همت إكراما لي فأهنتني، أودعك ناقمة عليك.
ونهضت إذ ذاك غصن البان فنهض جلساؤها كل يريد تشييعها إلى منزلها، فقال سر همت: نلقي القرعة. - لا لا، قد تقع عليك، نجيب أفندي يشيعني الليلة.
وركبت وصديقها القديم عربة أوصلتهما إلى منزلها، فدخلا الجنينة والحارس نائم في صندوقه عند الباب، فوقفت غصن البان تودع نجيبا، فقال مدهوشا: أتغيرين عادتك معي؟ - لا بل هذه العادة، أنسيت باريس يوم كنت تشيعني إلى منزلي عند مدام لامار. - ولكني لم أنس ...
فقاطعته قائلة: لا لم تنس فوزك بل نسيت مقدماته، نسيت المكارم التي تكلفتها لتنال إربك، وأنا لم أنسها، فقد اتخذتها شرعة حياتي، دقائق الحيل يا نجيب تغتفر إذا علمتنا وهذبتنا، وقد غفرت بعد أن أدركت حيلتك، وسأحفظ لك ذكرا جميلا في قلبي، ليلتك سعيدة.
ولم تقف غصن البان لتسمع جوابه بل دخلت إلى بيتها وأقفلت الباب، فجاءت الخادمة تعينها في خلع ثيابها وتعد لها الحمام.
وفي تلك الآونة طرق الباب طارق، فجاءت الخادمة تفتح، فإذا بمصباح أفندي مضطرب البال مكفهر الوجه يطلب مقابلة سيدته، فارتدت غصن البان ثوب الحمام واستقبلته في باب غرفتها. - أفلا تأذنين لي بالدخول؟ - لا، لا، أهنتني في مجيئك الآن جئتني متجسسا، وهب أن الرجل عندي في هذه الساعة فما حقك علي، ألم أقل لك مرارا: إنني حرة، مستقلة، ولية أمري، ولية نفسي، أمنح من أريد حبي وأحرمه من أريد؟ - وستدركين خطأك وستندمين. إنك يا صديقتي لفي ضلال مبين، من تمنحينه حبك فيمنحك حبه يلقي في قلبك مسئولية عظيمة إذا كنت ذات وجدان، الحب يا غصن البان تقتله الحرية المطلقة كما يقتله الأسر المطلق، إذا أحببتك وكرهتني فرحمة الله عليك، إذا أحببتني وكرهتك فرحمة الله علي. - لا أدرك معناك. - أولا تقولين ادخل فأوضح؟ - لا، لا. - ألأن في الداخل من تؤثرينه علي؟ - ذلك لا يعنيك. - ستندمين على ذا التصرف. - لا أندم على شيء أفعله من تلقاء نفسي، اتركني وحدي. - لو تأكدت أنك وحدك ... - كلمتي شرفي، أترتاب بما أقول؟ - العذاب يذهب بيقيني، الغيرة تذبح إيماني. - وإذا أدخلتك تندم، تندم والله، إذا أدخلتك تقتل في ما هو أعز من اليقين والإيمان لديك. - إما أنا وإما هو. - في دخولك منزلي الليلة خروجك من قلبي إلى الأبد، ادخل، ادخل فتش وأرح نفسك.
অজানা পৃষ্ঠা