وركبت وإياه عربة أوصلتهما إلى بيتها، وبينا غصن البان تترجل حانت منها التفاتة فأبصرت الحاج محيي الدين واقفا قريبا يراقبها ومن معها، فهتفت قائلة: ربي! ربي! أيتبعني كظلي؟ هذا جزائي؟
والحاج محيي الدين، وقد أدرك أنها رأته يراقبها، انثنى راجعا راضيا. - أينغص هذا اللئيم عيشي؟ أينكد حياتي إلى الأبد؟ - من هو يا غصن البان، من هو؟ - ادخل ولا تسل، اجلس، اجلس أيها الشاعر، ما هو إلا خيال، بل وهم من أوهامي.
وجلست إلى جانبه تشخص إليه، ثم قالت: اسمع، لقد أسكرت الناس وأنا صاحية، مثلت في رقصة الليلة حياتي؛ حياة هذه الفتاة الجالسة الآن إلى جانبك ولم يدرك أحد ذلك، وماذا يهم الناس ما أقاسي؟ أسقيهم وأنا ظمآنة فيشربون، أطعمهم وأنا جائعة فيأكلون، أرقص لهم وأنا حزينة فيطربون، وجزائي ما هو جزائي؟ صياد يخيم على قلبي، يتبعني كظلي، ينكد عيشي، يتعقبني كأني مجرمة أثيمة، هذا الشيطان الذي يملأ جيبه من مالي ويملأ نفسي غما، صرت أخشى يا مصباح أن أختلي بنفسي، أغمض طرفي فأراه أمامي، أفتح عيني فأراه يطاردني، ويلاه، ويلاه! - ومن هو يا غصن البان؟ قولي من هو فأريحك منه إن شاء الله. - لا، لا، ما لنا وله! أشعل السيكارة.
وضربت كفا على كف فحضرت الخادمة. - أتشاركني في زجاجة من الخمر أو تفضل مشروبك الوسكي والسودا؟ - لا أطلق الوسكي والسودا. - ليكن ما تشاء. وبعد قليل جاءت الخادمة تدعو سيدتها إلى غرفة المائدة، فدخلت ومصباح أفندي فأكلا مما أعدته لتلك الساعة من الأطعمة الباردة، وشربا بضع كئوس ثم تناولا القهوة، وعادا إلى الردهة وغصن البان تقول: ألا يحق لمن تطرب الناس أن تذوق من الطرب شيئا يسيرا؟ ألا يحق للساقي أن يرشف ولو ثمالة الكأس؟
فهتف مصباح أفندي قائلا: ووالله لأفرغن نفسي في كأسك أيها الساقي. - أيها الشاعر الحبيب، أنت عزيز، أنت جميل، أنت لذيذ، أنت وإن سكت مطرب، نفسك أعانقها، نفسك أعبدها، نفسك ترقص الآن أمامي كما رقصت منذ ساعة أمام الناس، في عينيك وفي شعرك أنغام شجية، أسمعها إذا لمست شعرك، في أناملك، في فمك، في ساعدك ما يبهج قلبي الآن ويطرب نفسي ويسكر كل جوارحي، لا تقبل عيني، لا تقبل خدي، لا تقبل عنقي آه! أنت جميل أيها الشاعر، أنت جميل. - وأنت في حديثك كما أنت في رقصتك فتانة ساحرة، أنا أعبدك، أنا من عبادك، أنا أسير حبك، ثغرك، آه ما ألذ ثغرك! - وغدا تكرهني، غد تنقلب علي، لا يهمني، لا يهمني، أنت الليلة لي وحدي، كلك، كلك لي، وهذا حقي أيها الشاعر، هذا حقي، وإلا فكيف يمكنني أن أطرب الناس وهم يسألونني حقهم كل ليلة؟ فإن لم أملأ النفس التي أفرغتها، إن لم أغذ القلب الذي بذلته فكيف يمكنني أن أؤدي إلى الناس حقهم غدا؟ لا أعرف ما تفعل غيري من النساء، إذا وجدن في حالتي، ولكن ما تفعله غيري لا يهمني، أظنني أعرف ما أريد، ما أحب وما أكره، وإلى أن ينقضي أجلي سأعيش لما أحب ولمن أحب، وأفر هاربة مما لا أحب وممن يكرهه قلبي.
وجثت إذ ذاك أمام مصباح تقبل يده وفمه وعينيه، وتقول: أنت الليلة حبيبي، بل أنت سيدي، وأنا عبدتك أيها الشاعر، نفسك الليلة ترقص لغصن البان، عيناك تبهجان قلبي، شعرك يطرب نفسي، سيدي حبيبي! غصن البان تجثو أمامك وترمي نفسها بين يديك، صه! لا تفه بكلمة واحدة، لا يعجبني في ذا الوقت حديث الشعراء، انظم غدا ما تريد أن تقوله الليلة وابعث به إلي، ابعث القصيدة يا جميل إلى من أحبتك الليلة وعشقتك ...
وفي صباح اليوم الثاني قدمت غصن البان إلى مصباح أفندي دبوسا لربطة الرقبة؛ ذكرى منها وودعته قائلة: إياك أن تخدع أو تطمع بي، وخير لك أن تظل بعيدا عني، الوداع أيها الشاعر، الوداع! انسني، اجفني، عقني، وإن لم تستطع ذلك فانظم لذكراي قصائد تطرب الناس. - جميل والله أن أودعك ضاحكا، فإن كلامك يضحك، سأراك قريبا. - لا لا لا. - سأراك في الكازينو مساء اليوم، سأراك كل ليلة هناك! - كما يراني الناس، وما المانع؟ الوداع، الوداع.
الفصل السادس عشر
عند انقضاء فصل الشتاء حسب عاطف بك حسابه فأدهشته الأرباح، ولكنه أدرك أن إيراد الكازينو في الأسابيع الأخيرة لم يكن كذي قبل، بل بدأ ينقص قليلا. - ما قولك يا محيي الدين؟ لا أظن الناس يقبلون على غصن البان في الموسم القادم كما أقبلوا عليها هذه السنة. - هذا من باب الحدس والظن، غصن البان متفننة جدا، وقد تجيئنا السنة القادمة برقص جديد، ليس من رأيي أن نتنازل عنها.
فقال عاطف بك وهو يفتل شاربه مبتسما: لا أسألك أن تتنازل عنها ولكن الكازينو ... - دعنا من المزح، سأسافر هذا الصيف إلى سوريا ولبنان. - وتستصحبها؟ لله درك! - بل أتركها لك في مصر وكي لا تتفلت من يدنا ينبغي أن تجدد الوثيقة معها، وأسألك إكراما لي أن تكرمها وتقضي لها ما تسألك قضاءه من الحاجات. - هي الآن بغنى عني وعنك. - وهذا السبب في وجوب إكرامنا. - إذا كان المرء بغنى عنك فإكرامك له تزلف إليه. - ليكن ذلك، المصلحة يا عاطف بك المصلحة. - صل عليها وعلى النبي. ليكن ما تريد.
অজানা পৃষ্ঠা