من الجواذب الاجتماعية في المغرب اليوم، التي تجذب النساء فتبعدهن من نعيم البيت وظل الأبوين، أو من قداسة المهد والأمومة، وتقذف بهن إلى معترك الحياة كالرجال، جاذبان قويان لا مرد لهما ما زالت صحف الأخبار وما زالت المسارح في تلك الديار، فالتمثيل والتأليف - المسرح والقلم - يغريان فتيات شغفهن بالظهور أكثر منه بالعلم والفنون، ولا غرو فقد أمسكت هذه الكأس عن المرأة أحقابا من الزمان؛ أي الكأس التي تكمن العقرب في ثمالتها: كأس الشهرة والمجد الباطل، فالمرأة اليوم تشارك الرجل بها ولا تبالي بما تقاسي منها، والرجل هناك وإن بالغ في احترامه المرأة وإجلالها يشرب غالبا الكأس ويقدم لها الثمالة وما كمن فيها، لذلك كان حظ النساء من المسرح والقلم قليلا والقليل من السم كثير.
على أن منهن من تبتغي غير الشهرة والمجد الباطل، ومنهن من لا تبتغي غيرهما، ومنهن وهن الكثيرات يمسين من أدوات ال «تياتر» مثل سائر العمال يحركهن رجل لا ينبض فيه عرق من عروق الشرف والعطف والحنان، ويا لها من أجزاء صماء في آلة صماء دولابها في يد المدير وزيتها في مال المتفرجين من الناس، قلنا: إن منهن من لا تبتغي الشهرة، وماذا إذن؟ إنها تبتغي التصعيد إلى سلم الاجتماع علها تفوز في الطبقات العالية فوقها بمن يكفل لها نعيما عماده الأمومة والمهد، وهذا حلم جميل إذا صح، هي رغبة شريفة إذا حققتها الليالي.
وشواذ القاعدة نذكره إنصافا، هو أن من النساء من وهبن مثل الرجال مواهب سامية في الفنون الجميلة فيؤثرن الفن على الزواج، ولا يؤثرونه على الحب، يعشن، لا عاش أعداؤهن، كغزلان الفلاة يصدن ويصتدن إلى أن يجيئهن «هادم اللذات ومفرق الجماعات».
أما مريم الناصرية فشغفها بالرقص شغف ذاتي ينحصر مثل توحيد الصوفي بالذات الباطنية، شغف مجرد لا تتصل أسبابه - أي في حالته الباطنية - بواحد من أسباب هذه العاجلة، وإن فتاة ذهنها خال من خزعبلات الاجتماع لا تستهويها الشهرة ولا المجد يغريها، فهي لم تنشأ في وسط غربي تتراجع فيه صباح مساء وليل نهار أصداء البطولة الكاذبة والشهرة العازبة، أحبت الرقص كما يحب الناسك كوخه، والسالك ربه، والسكير كأسه، والشاعر عروس شعره، وصارت تود الظهور على المسرح لتقرب مما ظنته منتهى الكمالات، فعولت على نجيب مراد فخانها، فنبذته من قلبها غير آسفة وتوكلت على الله، توكلت على الله بعد أن حفرت في لوح قلبها تلك الوصايا وعاهدت نفسها أن تقيم عليها وتحتفظ بها جهدها.
وفي اليوم الثاني بعد أن نقلت إلى تلك الغرفة العالية الصغيرة خرجت في ثوب بسيط أنيق من الجوخ الكحلي، فعرجت على بياع الزهور وابتاعت أضمامة من الياسمين فزينت بها صدرها وهي تقول: هذه لازمة في بلاد زينتها أهم ما فيها، والشبابيك في بيوتها تعد من الزينات.
وراحت تقصد أول «تياتر» زارتها في باريس وشرلت الخادمة، فطلبت أن تقابل المدير فقال لها أحد الحجاب: المدير لا يقابل أحدا اليوم. - وهل يقابلني غدا؟ - وما غرضك مدموازل؟
وفي عالم التمثيل حتى العجوز تدعى آنسة. - الرقص. - طالبة؟ - نعم. - تعالي غدا بعد الظهر.
فعادت في الوقت المعين ولبثت تنتظر برهة فخرج المدير من مكتبه وقابلها واقفا وصرفها موجزا متلطفا: لا فراغ عندنا اليوم مدموازل.
فراحت مريم تطلب مقابلة مدير آخر فصدها الحاجب: المدير مدموازل لا يقابل الطالبات. فصوبت خطواتها إلى «تياتر» أخرى فلم تفز برغبتها، وظلت مريم تبحث أسبوعين فأعياها البحث، ولكنه لم يثبط من عزمها وما أورثها القنوط.
أعادت الكرة وقد اتخذت لنفسها خطة جديدة، وقفت ذات يوم في باب إحدى التياترات الكبيرة ونور الأمل يبرق في جبينها وإضمامة الياسمين تؤنس قلبها. - قل للمدير: إن راقصة من الشرق تروم مقابلته. - وما الاسم مدموازل؟ - راقصة من الشرق ماذا يهمك اسمي؟ - قد يهم المدير مدموازل. - الرقص لا الاسم يهم المدير، قل له: إن راقصة مصرية ...
অজানা পৃষ্ঠা