وبينا هو عائد في طريقه منقبض النفس كسير القلب مما شاهد، مر قرب الشاطئ حيث تصب بواليع البلد في البحيرة، فرأى هناك النساء يملئن جرارهن من تلك المياه وقد مازجتها أقذار البواليع.
فمال بوجهه قرفا وحزنا وسار في طريقه.
فاتفق له أن مر ببيت الامرأة التي ابتاعت فخذي الدجاجة ، وكانت واقفة في الباب فألقى إليها السلام، فسارع إليه أولادها الثلاثة وهم حفاة عراة وعيونهم تحدق في السلة، فأعطى كلا منهم برتقالة فراحوا يصفقون ويرقصون. - وهل عندك غيرهم؟ - ولد آخر. - وكم عمرك؟ - ثلاثة وعشرون. - وهل تأذنين لي بالدخول؟ - تفضل تفضل.
فدخل الغريب إلى غرفة صغيرة مظلمة مفروشة بحصير واحد، وليس فيها من المواعين غير طنجرة وجرة وإبريق. - وأنت وزوجك وأولادك تقيمون في هذه الغرفة؟ - ونشكر الله دائما، حالتنا أحسن من حالة جيراننا، هم عشرة ومنهم شاب مزوج يقيم وامرأته وابنه مع والديه وأخوته في بيت مثل بيتنا هذا. - فودعها الغريب وراح يجتاز في جادات المدينة الضيقة المظلمة الموحلة المنتنة التي تكاد البيوت إلى جنبيها تصطدم وتقع بعضها على بعض، فطرقت أذنه رنات العود وأصوات المغنين، فقال في نفسه: وهم مع ذلك فرحون جذلون، سبحانك اللهم! - ولم يكن يصل إلى منعطف الجادة حتى شاهد في الشارع جماعة، بينهم عواد وضارب قانون وناقر دف، واثنان يحملان طبقا عليه أنواع الحلوى، وهم يعزفون على آلات الطرب ويغنون، فاستطلع أحد التجار خبرهم، فقال له: وهل أنت من باريس؟! ألا تعرف الزفة؟! عرس يا شيخ العرب، عرس، وهذه هدية العريس إلى العروس، والليلة يجيئونه بها.
فضحك الغريب ضحكة اليائس وراح يردد في نفسه قائلا: يتزوجون ويتكاثرون ويعيشون على الحسنات، ويقيمون في الأقذار ويشربون مياه بواليعهم، وعندما يبعث الله إليهم باعثا مطهرا كالطاعون أو الوباء يجيء هؤلاء المحسنون من الإفرنج، والادعاء في إحسانهم أشد وباء من الطاعون فيحاولون مقاومة العناية الإلهية، يبنون الصروح والمستشفيات ليعيش فيها أفراد منهم لا رزق لهم في بلادهم، فيستثمرون بؤس العباد وأقدار البلاد ويعترضون صنع الطبيعة؛ فيحاولون حفظ ما يريد الله استئصاله، وكم مرة جاء الوباء يريح طبريا من شقائها وويلاتها فناهضه هؤلاء الإفرنج وردوه خائبا.
هنيئا لوحوش البرية! هنيئا لأطيار الفلاة! لهفي عليك يا طبرية ولهفي على أبنائك، يتزوجون ويتكاثرون ويعيشون في البواليع على الحسنات، لا أثمرت خليقتك يا رب، تبارك عقم الرمال والصخور، تبارك عقم البحار، الرجل الذي هو مليك مخلوقاتك كلها إنما هو أضعفها وأحطها، والامرأة أمة الرجل. هذه طبرية وهي منذ بناها هيرودس حتى اليوم مهد الخمول والجبن والعبودية، بل كان اليهود مرتقين عزيزي الجانب لما بنيت قديما فرفضوا أن يسكنوها، فجلب هيرودس إليها جماعات من الأجلاف والأوغاد والشحاذين فأقاموا فيها ناعمي البال، فهل يهود طبرية اليوم من نسل أولئك الناس يا ترى؟ تبارك عقم الرمال والصخور، تبارك عقم البحار.
وجلس الغريب على شاطئ البحيرة برهة، وكانت قد سكنت الريح وكف المطر، فاستخرج من جيبه كتابا وقرأ بضع صفحات وصلى صلاة المساء، ثم نهض وسار في طريقه عائدا إلى منزله، وبينا هو مار بالحمامات راقبه أحمد واتبعه خفيا، فاهتدى إلى بيته وعاد يخبر القسيس.
وفي تلك الليلة أطلع أحمد إخوانه في القهوة على ما شاهد هناك. - والله يا أحمد هذا الرجل «أبو السلة» أمره عجيب، له قصة عجيبة لا شك. - ما لنا وله؟ هات العرق والنقل يا طنوس. - اسمع بالله، وللقسيس غرض معه، والله أظن أن للاثنين علاقة بالفتاة. - أي فتاة؟ - أبو السلة مقيم فوق الطريق قرب القبور، وامرأة ... وأشار أحمد بيديه أن الامرأة حبلى. - وما ظنك؟ يمكن أن تكون امرأته. - ويمكن أن تكون ابنته. - وما غرض القس يا ترى؟ - قد يكون علم أن هناك فتاة، قسيس أفندي ابن حرام - الله يوفقه - اشرب، اشرب.
أما القسيس فبات بعد ذلك يراقب الغريب، فلما شاهده في أصيل اليوم التالي ذاهبا إلى طبريا سار توا إلى البيت الذي أهداه أحمد إليه، فالتقى قدام الباب بفتاة مشحوبة اللون ثقيلة الحركة عيناها ذابلتان والكآبة بادية في وجهها، فألقى إليها السلام فردته واجفة. - كأنني عرفت الرجل المقيم معك يا بنتي، فجئت أتحقق ذلك. - وماذا تريد؟ - لا شيء سوى التعرف والألفة، أنا غريب هنا أليف الضجر. فجزعت الفتاة وهمت بالدخول إلى البيت. - لا تخافي يا بنتي، فقد أكون متطفلا ولكن الغريب إلى الغريب نسيب، من هو الرجل المقيم معك؟ - أبي. - هذا ما ظننته، ومن أين أنتم؟ - من الكرك. - واسم أبوك؟
فلفقت الفتاة اسما ثم قالت: تفضل زرنا عندما يكون أبي هنا، ودخلت البيت وأقفلت الباب، فعاد القسيس وهو حائر في تصرف الامرأة مشكك في قولها.
অজানা পৃষ্ঠা