وليسَ القذَى بالعودِ يسقطُ في الإنَا ... ولا بذبابٍ خطبهُ أيسرُ الأمرِ
ولكنَّ شخصًا لا نسرُّ بقربهِ ... رمتْنا بهِ الأزمانُ مِنْ حيثُ لا ندرِي
وأنشد أعرابي بالبادية:
أحقًّا عبادَ اللهِ أنْ لستُ واردًا ... مياهَ الحِمَى إلاَّ عليَّ رقيبُ
ولا آتيًا وحدِي ولا بجماعةٍ ... منَ النَّاسِ إلاَّ قيلَ ذاكَ مريبُ
أحبُّ ظباءَ الواديَيْنِ وإنَّني ... لمُشتهرٌ بالواديينِ غريبُ
أُميمُ احْفظِي عهدَ الهوَى لا يزُلْ لنا ... عنِ النَّأيِ والهجرانِ منكِ نصيبُ
ألا يا أُميمَ القلبِ دامَ لكِ الغِنا ... أمَا ساعةٌ إلاَّ عليكِ رقيبُ
وقال آخر:
صغيرٌ يصيرُ بالا كثير مجرب ... أوْ آخر يرمي بالظُّنونِ أرِيبُ
وقال آخر:
وإنِّي لآتِي البيتَ أُبغضُ أهلهُ ... وأُكثرُ هجرَ البيتِ وهوَ حبيبُ
تطيبُ لي الدُّنيا مرارًا وإنَّها ... لتخبثُ حتَّى ما تكادُ تطيبُ
وأُعرضُ عنْ أشياءَ منكِ تُريبُنِي ... وأُدعى إلى ما نابكُمْ فأُجيبُ
وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر:
حَبيبي حبيبٌ يكتمُ النَّاسَ أنَّهُ ... لنا حينَ ترمينا العيونُ حَبيبُ
يُباعدُني في المُلتقَى وفؤادهُ ... وإنْ هوَ أبدَى لي البعادَ قريبُ
ويُعرضُ عنِّي والهوَى منهُ مقبلٌ ... إذا خافَ عينًا أو أشارَ رقيبُ
فتخرسُ منَّا ألسنٌ حينَ نلتقِي ... وتنطقُ منَّا أعينٌ وقلوبُ
وله أيضًا:
إذا ما التقيْنَا والوُشاةُ بمجلسٍ ... فليسَ لنا رسلٌ سِوَى الطَّرفِ بالطَّرفِ
فإنْ غفلَ الواشونَ فزتُ بنظرةٍ ... وإنْ نظرُوا نحوِي نظرتُ إلى السَّقفِ
أُسارقُ مولاها السُّرورَ بقربِها ... وأهجر أحيانًا وفي هجرهمْ حتفِي
وقال آخر:
إذا غفِلوا عنَّا نطقْنا بأعينٍ ... مِراضٍ وإنْ خِفنا نظرْنا إلى الأرضِ
شكَا بعضُنا لمَّا التقينَا تستُّرًا ... بأبصارِنا ما في النُّفوسِ إلى بعضِ
وقال مسلم بن الوليد:
جعلْنا علاماتِ المودَّةِ بينَنا ... دقائقَ لحظٍ هنَّ أخفَى منَ السِّحرِ
فأعرفُ منها الوصلَ في لينِ طرفِها ... وأعرفُ منها الهجرَ بالنَّظرِ الشزرِ
وأنشدنا ابن أبي طاهر لأبي تمام:
أزورُ محمَّدًا وإذا التقَيْنا ... تكلَّمتِ الضَّمائرُ في الصُّدورِ
فأرجعُ لمْ ألُمهُ ولمْ يلُمنِي ... وقدْ فهمَ الضَّميرُ منَ الضَّميرِ
وقال آخر:
إذا نحنُ خفْنا الكاشحينَ فلمْ نطقْ ... كلامًا تكلَّمنا بأعيُننا سرَّا
فنقضِي ولمْ يُعلمْ بِنا كلَّ حاجةٍ ... ولمْ نظهرِ الشَّكوى ولمْ نهتكِ السِّترا
ولو قذفتْ أحشاؤُنا ما تضمَّنتْ ... منَ الوجدِ والبلوَى إذنْ قذفتْ جمرا
صاحبُ هذا الشِّعر البائس مغترٌّ بالزَّمان جاهل بصروف الأيام يتبرَّم بالرَّقيب مع مشاهدة الحبيب وهو لا يعلم أن هذه الحال تتقاصر عنها الآمال وتنقطع دونها الآجال ولكن من لم ينكبه الفراق ولا الهجر ولم يعترض إلى الخيانة والغدر حسب أن الرَّقيب هو منتهى كيد الدَّهر وظنَّ أنَّه قد امتُحن بما لا يقوم له الصَّبر.
وقد قال بعض أهل هذا العصر:
لَئنْ كانَ الرَّقيبُ بلاءَ قومٍ ... فما عندي أجلُّ من الرَّقيبِ
حجابُ الإلفِ أيسرُ من نواهُ ... وهجرُ الخلِّ خيرٌ للأديبِ
ولا وأبيكَ ما عاينتُ شيئًا ... أشدَّ من الفِراقِ علَى القلوبِ
وقال آخر:
أشارتْ بعينيها إشارةَ خائفٍ ... حذارِ عيونِ الكاشحينَ فسلَّمتْ
فردَّ عليها الطَّرْفُ منِّي سلامَها ... وأوْما إليها أسكُني فتبسَّمتْ
وأومَتْ إلى طرفي يقولُ لِطَرفها ... بنا فوقَ ما تلقى فأشجتْ وتيَّمتْ
فلوْ سئلتْ ألحاظُنا عن قلوبنا ... إذنْ لاشتكتْ ممَّا بها وتبرَّمتْ
وما هكذا إلاَّ عيونُ ذوي الهوَى ... إذا خافتِ الأعداءَ يومًا تكلَّمتْ
وقال آخر:
وقفنا فلولا أنَّنا راعَنا الهوَى ... لهتَّكنا عندَ الرَّقيبِ نحيبُ
وفي دونِ ما نلقاهُ من ألمِ الهوَى ... تُشقُّ جيوبٌ بل تُشقُّ قلوبُ
1 / 34