ومسحت الأطباق مسحا، ومضت بها هناء إلى المطبخ، وما لبثوا أن ودعوني وذهبوا. وجدتني في الشقة الصغيرة وحيدا كالعادة. اللهم ارزقهم واكفهم شر الأيام. اللهم امنحني شيئا من نعمة القرب والولاية. لو تركت البيت على حاله لبقي ملهوجا في فوضى شاملة حتى المساء. أفعل ما أستطيع في حجرة نومي وحجرة المعيشة، حيث أمضي وحدتي مستمعا للقرآن والأغاني والأخبار في رحاب الراديو أو التليفزيون. لو توجد حجرة رابعة لأمكن أن يقيم علوان فيها عشه. الحمد لله، لا اعتراض على قضائه. مر العارف أبو العباس المرسي بالقاهرة بأناس يزدحمون على دكان خباز في سنة الغلاء فرق قلبه لهم، ثم وقع في نفسه أنه لو كان معي دراهم لآثرت بها هؤلاء؛ فأحس بثقل في جيبه فأدخل فيه يده، فوجد فيه جملة من الدراهم، فأعطاها للخباز وأخذ بها خبزا فرقه، فلما انصرف وجد الخباز الدراهم زائفة فاستغاث عليه وأمسكه؛ فعلم أن ما وقع في نفسه من الرقة اعتراض على قضاء الله، فاستغفر وتاب، وسرعان ما تبين للخباز أن الدراهم صحيحة! ذلك هو الولي الكامل، ولا تتأتى الولاية إلا لمن يعرض عن الدنيا. شارفت الثمانين وما وسعني أن أعرض عن الدنيا. هي دنيا الله وهبته الخاطفة لنا، فكيف أعرض عنها؟! أحبها ولكن حب الحر التقي العابد، فلم تضن علي بالولاية؟ يهمني القرآن والحديث كما يهمني الانفتاح، وكما تهمني لقمة المدمس بالزيت الحار والكمون والليمون. ومن ذا يحيط برحمة الله الواسعة؟ فقد أشير ذات يوم من بعيد إلى المصباح فيضيء دون أن أمس مفتاحه. لم يبق لي من أصدقاء العمر إلا واحد فرقت بيننا الشيخوخة. وحدة النفس والمكان والزمان. وكفت العينان عن القراءة منذ عام. نومي قليل جدا ولا أخاف الموت. أرحب به حالما يجيء ولكن ليس قبل ذلك. عندما افتتح الملك فؤاد المدرسة انتدبت لإلقاء كلمة المدرسين؛ يوم مجد أثلج صدري بهتاف الأولاد: «يعيش الملك ويحيا سعد.» تغير الهتاف وتغيرت الأغاني. انفجر أخيرا الغلاء. من وراء الزجاج المغلق أرى النيل والأشجار. بيتنا أقدم وأصغر بيت في شارع النيل؛ قزم وسط العمائر الحديثة. النيل نفسه تغير وكأنه مثلي يكابد وحدة وشيخوخة. لبسته حال واحدة، فقد مجده وأطواره، لم يعد في مقدوره الغضب. ما أكثر السيارات، ما أكثر الثروات، ما أشد الفقر، ما أكثر الأحباب الراحلين! يوم غائم منذر بالمطر، في مثله كانت تحلو الرحلة إلى حدائق القناطر. أصدقاء العمر يجتمعون حول الدجاج المقلي والبطاطس والشراب والفونوغراف. أسمر ملك روحي، إن كنت أسامح وأنسى الأسية، كلهم هياكل عظمية، وضحكاتهم المترعة بالسرور والأمان ذابت في تضاعيف الفضاء. وقفوا ورائي صفا ليلة الزفاف؛ ليلة كشف النقاب لأول مرة عن وجه فاطمة. خمس سنوات مضت على آخر زيارة لقبرك. أي سرعة جنونية في هذا الزحام الذي لم تعرف له الأشجار مثيلا مذ غرست في عصر إسماعيل؟! المجنون يجري بلا وعي نحو حادثة يرصده عندها الأجل. قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «يا عبد الله، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، واعدد نفسك في الموتى.» صدق رسول الله.
علوان فواز محتشمي
صباح يوم جديد، قديم، جديد قديم، جديد قديم، جديد قديم، جديد قديم، قديم جديد. دوخيني يا ليمونة. إن لم يوجد قديم حسن فليوجد جديد سيئ. أي شيء خير من لا شيء. الموت نفسه تجديد، المشي صحة واقتصاد. المفروض أنه طريق العشق والجمال فانظر ما هو. آه يا قدمي! آه يا حذائي! تحملا وتصبرا، هذا زمن التحمل والتصبر. في زمن النار والوحوش لا نسمة ترطب الفؤاد إلا أنت يا حبيبتي. للأشجار الباسقة فضل، وللنيل فضل أيضا لا ينكر. انظر إلى أعلى إلى السحب البيضاء ورءوس الأشجار لتنسى سطح الأرض المجدور، ستلقى يوما شيطانا بريئا فتؤاخيه. إني عبد العقل الراجح، والخلق الكريم، والعينين السوداوين المظللتين بحاجبين مقرونين؛ منذ الصغر منذ الصبا منذ الشباب في البيت القديم الضائع بين العمائر الشاهقة، دسيسة بين الأغنياء. سيقتلنا صاحب البيت ذات يوم. عجيب أن يخلد الحب في ظل الفساد المنتشر. هذا الطوار المتهرئ، هل تخلف عن غارة جوية؟ وأكوام القمامة رابضة بالأركان تحرس العشاق. صباح الخير أيها المكدسون في الباصات، وجوهكم تطل من وراء الزجاج المشروخ مثل المساجين في يوم الزيارة. والجسر المكتظ بالعابرين. السائرون على عجل يلتهمون سندوتشات الفول بنهم وبلا تذوق. جدي قال: اشتدي أزمة تنفرجي.
يا جدي المحبوب حتى متى نحفظ ونردد؟ إنه صديقي الأول، ما أنا إلا يتيم؛ فقدت أبوي بعد أن فقدا نفسهما في عمل يتواصل من الصباح حتى المساء، موزعين بين الحكومة والقطاع الخاص في سبيل اللقمة والضرورة، لا نلتقي إلا خطفا. - لا وقت للفلسفة من فضلك، ألا ترى أننا لا نجد وقتا للنوم؟! إن صادفت إحدى أخواتي عثرة في حياتها الزوجية ندبت أنا لإصلاح ذات البين! زمن لا يجد فيه أحد عند آخر عونا، على كل أن يصارع وحسن حظه وحده. أخيرا ها هي شركة الأغذية، إحدى شركات القطاع العام، أقرأ على مدخلها بالبنط العريض: «ادخلوها بلا أمل.» ها هي محبوبتي في إدارتنا العتيدة، العلاقات العامة والترجمة، تغدق علي ابتسامة الحب. قلت لها معاتبا: لو انتظرت دقائق لجئنا معا.
فقالت بمرح: لظروف كان علي أن أتناول فطوري في البرازيل.
بفضل جدي جمعتنا شركة واحدة وإدارة واحدة، أو بفضل ضابط من الضباط الأحرار كان يوما تلميذه. جدي شخصيته لا تنسى، يتذكر فضله رجل من جيل أنكر فضل السابقين. ما أكثر البنات في إدارتنا! ها هي جيوش الأوراق تجم عملنا في غير حاجة إلى تركيز جدي؛ أعمل حينا وأسترق النظر إلى حبيبتي رندة حينا. أتذكر وأحلم وأحلم وأتذكر. قصة طويلة ترجع إلى أقدم عصور الحياة في بيتنا القديم الفريد. لعبنا في الطفولة واحد وعمرنا واحد. ماما تؤكد بغير دليل أنها أكبر مني، ويجيء البلوغ مصحوبا بالحياء والحذر، والرقيب يتدخل هادما المسرات، لكن الحب اقتحم في حينه. في المرحلة الثانوية، انهالت على السلم بين الطابقين المداعبات العابرة والعبارات الرمزية. وذات يوم دسست في يدها رسالة اعتراف. كجواب منها أهدتني قصة وفاء الجيلين. لما نجحنا في الثانوية العامة في عام واحد قلت لجدي: أريد أن أخطب رندة سليمان جارتنا. جدي قال لي إنه على أيامه لم يكن يباح الكلام في الخطبة قبل أن يستقل الشاب بحياته، ولكنه وعد بمفاتحة بابا وماما في الموضوع كما وعد بتأييدي. أمي قالت إن آل سليمان مبارك أقرب من الأقارب، ورندة بمنزلة بناتها، ولكنها أكبر منك! وقال أبي: إنها تماثلك في السن إن لم تكن أكبر، وتماثلك أيضا في الفقر. أعلنت الخطبة في يوم سعيد. وقتها كان الحلم يمكن أن يصير واقعا. منذ التحقنا بالعمل موظفين واجهتنا حقائق جديدة، ومرت أعوام ثلاثة فختمنا السادسة والعشرين. كنت عاشقا فأصبحت مرهقا عاجزا مسئولا، لا نجتمع اليوم للمناجاة، ولكن لمناقشات توشك أن تلحقنا بالمجموعة الاقتصادية؛ الشقة .. الأثاث .. أعباء الحياة المشتركة. لا حل لديها ولا حل لدي، ولا نملك إلا الحب والإصرار. أعلنت الخطبة في عهد الناصرية، وواجهنا الحقيقة في عصر الانفتاح، غرقنا في دوامة عالم مجنون، حتى في الهجرة لا مجال لنا، بين الفلسفة والتاريخ ضعف الطالب والمطلوب. لا لزوم لنا. ما أكثر من لا لزوم لهم! كيف حاق بنا هذا الضياع؟! إني مسئول مطارد تحاصره التساؤلات، وهي جميلة ومطلوبة، وأنا قائم مثل السد في طريق حظها. نظرات والديها الممتعضة لا تفارقني .. أكاد أسمع ما يقال من ورائي. فوق ذلك تهيم أحلام الإصلاح، تجيء من فوق أو من تحت، بقرارات أو بانتفاضات، معجزة العلم والإنتاج، لكن ما الحل مع ما يقال عن الفساد واللصوص؟ ما أفظع ما تقول الدكتورة علياء سميح وما يقول محمود المحروقي! أين الصواب؟ لم أشك في كل شيء؟ منذ تهاوى مثلي الأعلى في 5 يونيو، كيف يجد أناس سبيلا سحريا إلى الثراء الفاحش وفي زمن لا يصدق؟! ألا يمكن أن يحدث ذلك بلا انحراف؟ ما سر حرصي على الاستقامة؟ ما أطمح في هذه الساعة إلى أكثر مما يؤهلني للزواج من رندة. دعينا إلى مقابلة مدير الإدارة أنور علام، أنا ورندة. كثيرا ما ندعى معا لتعاوننا المشترك على ترجمة اللائحة؛ إنه مدير لطيف المعاملة، جميل الاستقبال، محب للدعاية، نحيل طويل غامق السمرة، مستدير العينين ذو نظرة نافذة، وأيضا كهل يشارف الخمسين من عمره وأعزب. وكعادته قال: أهلا بالعروسين!
وراح ينظر في أوراقنا بسرعة وذكاء مبديا بعض الملاحظات. ورد التسويدة متسائلا: متى نفرح بكما؟
إني أعتبر أسلوبه في التدخل في الشئون الخاصة للموظفين سياسة، وإن لم تصادف مني ارتياحا مثل نظرة عينيه، على أني أحببته: مشكلتنا حتى الآن لا حل لها.
فقال باستهانة جريئة: لا مشكلة بلا حل.
অজানা পৃষ্ঠা