ذات يوم في عطلة العاشور كان يقف في شرفة المنزل، شاهد سربا من المركبات تطير ببطء، والمطر ينهمر فتزداد تلك المركبات سطوعا. سأل حورياته عن ذلك السرب، فقيل له إنهم ذاهبون لدفن متوفى وتلك جنازته. طلب مروان المشاركة في الجنازة لكسب الثواب. لحقت النسوة بالسرب بمركبتهن، وهو يتجه إلى خارج المدينة، إلى أن وصلوا إلى بستان للفواكه مترامي الأطراف. هبطت المركبات في مدرج خاص، ثم تشكلت قبة زجاجية كبيرة تحميهم من المطر. تنسم مروان رائحة عطرية، أفضل من أي مكان في المدينة. نظر حوله فلم يشاهد قبرا واحدا أمامه! فجأة فتحت فوهة سداسية بقطر عشرة أمتار. نظر فيها فرآها هوة سحيقة، وراح يحوقل .. أعطي لتابوت المتوفى رقم «9-2009» ثم أنزل المتوفى في مصعد خاص إلى عمق كبير في الحفرة. كان مروان ينظر بدهشة إلى تلك الفوهة متعجبا! قيل له إن لكل جثة قبرها الخاص في جدران الحفرة، تتسع لعشرة آلاف متوفى، وبعد أن يدفن الميت تغلق الحفرة. عرف مروان أن تحت البستان المترامي الأطراف مقبرة المدينة، ويمكن لمن أراد استنساخ أي إنسان عليه أن يحدد رقم الجثة .. عادوا إلى المنزل، فبادره بروسي بالسؤال: كيف وجدت مقبرة البشر يا كريم؟ كما وجدتها سابقا؟
رد مروان ضجرا من مناداته بكريم، وقال له: كلهم ينادونني بمروان، إلا أنت. عقلك بحاجة إلى برمجة مرة أخرى!
همست له مريانا: لا تظهر غضبك. لا تنسى أنك كنت مثله لا تتنازل عن مبادئك العقائدية.
كان هذا اليوم الرابع والعشرين من شهر أغسطس، بدأ فيه جسد مروان يرفض لقاح الأديان وهو في عالمه الفردوسي. كان في الوقت نفسه كجثة هامدة في عالمه الجحيمي وجسده يزداد تقرحا. ولم تعد أسرته قادرة على تحمل الرائحة التي تنبعث منه. كانت حميدة تدخل تحقنه بالغذاء عن طريق أنبوبة التغذية، وتخرج تجرى إلى الحمام. لم يبق بجانبه غير أمه التي تمكث ليلا ونهارا. لم يستغرب الذين يزورون مروان من غيبوبته، بل من جسده الذي ملئ بالقروح!
أحضروا طبيبا إليه، لم يحس نبض قلبه، ولا تنفسه. ومما جعله يصرح في دفنه تلك الرائحة التي تنبعث من مروان . وافقت الأسرة على ذلك، إلا والدته، رفضت وطردت الطبيب من البيت. في اليوم الثاني تودد إليها معاوية، قال لها: «سنأخذ أبانا إلى المستشفى ليحظى بعناية جيدة، عسى يشفى هناك.» وافقت والدته وقالت لمعاوية: «كما شتصدقوا الدكتور، ابني عائش.» حمل الأولاد والدهم خارج البيت، وكان هناك في انتظارهم مجموعة من المشيعين. وهناك سيارتان ترافقانهم تمشي كل منهما بعيدة عن الأخرى.
وصلوا إلى المقبرة ونزل الملحد ليضعه في القبر. أحس بنبض قلبه بطيئا، فصاح: «حرام عليكم يا ناس تقبروا رجلا وهو على قيد الحياة!» ثم فتح الكفن الملطخ بالعطر، فرأى البسمة على شفتي مروان، أحدهم قال: «يا قبار، إنه ميت، أما تراه يبتسم لحور العين، أنا أجزم إنه الآن يرى نفسه في الجنة.»
خرج القبار من القبر وهو غاضب: «أظن أن أهله لم يأخذوه إلى المستشفى ليتأكدوا من موته، أو أنهم يريدون أن يتخلصوا منه. أستغفر الله العظيم خذوا هذا المريض إلى المستشفى لا يزال حيا.» حمل المشيعون مروان إلى إحدى المستشفيات فلم يستقبلوه، ثم ذهبوا إلى ثلاثة مستشفيات أخرى. أعادوه إلى منزله ففرحت أمه. قال علي لجدته: لقد رفض المستشفى استقبال أبينا. حينها كانت حميدة تقف في طابور طويل للنساء، أمام سيارة نقل كبيرة لتوزيع الغاز. ذهب علي إلى حيث توزيع الغاز، رأى أمه تقف في الطابور، ولم يعد أمامها سوى خمس أسطوانات فارغة حتى تستلم حصتها، ونفد الغاز قبل أن تصل.
عرف منير بأن إخوة زوجته كانوا سيقبرون أباهم، وهو في حالة موت سريري. غضبت فاطمة كثيرا وذهبت إلى بيت والدها. أخبرتها أمها بأنهم ظنوا أنه مات، ثم أخبرتها أن تكتم الخبر على جدتها غصون، لكن نادر أخبر الجدة غصون التي أخذت تبكي بجانب ابنها وتقول: «كانوا شيقبروك يا ولدي، وأنت لم تمت بعد. مستعجلين على تقاسم ثروتك يا ولدي. يفكرون بثروتك أكثر منك يا ولدي.» ثم راحت تلعن الثروة والحكام، المتصارعين على كرسي الثروة.
6
بينما كانت أسرة مروان يتحدثون عن الحرب، كان هو في عالمه الفردوسي يتحدث مع بروسي في أمور شتى، لم يعد يراه رجلا آليا بل صديقا عزيزا، وكذلك بروسي صار يناديه بالصديق، فقد أثر فيه مروان كثيرا . وهما في السوق للتنزه مرا على سوق بلقيس، ولم يخطر بباله أنها الملكة بلقيس التي حكمت اليمن يوما. كان بروسي قد تعلم من مروان كلمات كثيرة، حرب، جهاد، شهيد، جني .. سأل مروان: ما معنى شهيد؟! - ماذا أقول لك يا صديقي؟ خدع المسلمون الأبرياء كثيرا وكذلك المسيحيون، وضحوا بأنفسهم من أجل الحكام، وهم يظنون أنهم يجاهدون في سبيل الرب، والحصول على الحور العين، وكنت أنا أحدهم. نتقاتل فيما بيننا نحن ذوي الدين الواحد، والمقتول منا يرونه شهيدا. - ما معنى حور عين؟! - نساء جميلات جدا. - وإذا استشهدت النساء، فماذا سيفعلن بحور العين؟! - أفتى بعضهم بأنهن سيحصلن على ولدان مخلدين، هم أيضا فتيان وسيمون جدا.
অজানা পৃষ্ঠা