وكذلك كان الشأن في الهند؛ فكانوا يؤمنون بتفاوت الطبقات، فبيوت أرستقراطية عالية يراها الناس فوق مستواهم، وبيوت دون ذلك، ومن التصق بحرفة لم يبح له أن يخرج عنها، ومن التصق بنسب لزمه. وهكذا شأن الهنود والصينيين يغلب عليهم عناصر ثلاثة، وهي: الوثنية المتطرفة، والشهوة الجنسية الجامحة، ونظام الطبقات.
والعرب في الجاهلية غرقوا في عبادة الأوثان. وكان الدين - كما يدل عليه شعرهم - شيئا سطحيا غير متغلغل في أعماق صدورهم، فقدسوا الحجارة والغدران. ومن آثار ذلك بئر زمزم والحجر الأسود، وكانوا لا يمجدون آلهتهم ... كما تدل عليه حادثة امرئ القيس؛ إذ مر على مكان يقال له ذو الخلصة، وكان به صنم فاستقسم عنه بقداحه، وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص وأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي أيضا، ثم أجالها فخرج الناهي؛ فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم. واعتقدوا أن في الأشياء المادية من جبل وريح أرواحا تعبد كما تعبد الأصنام؛ فعبدوا الكواكب من شمس وقمر. واشتهر من أوثانهم العزى واللات ومناة، وكان اسم عبد العزى كثير الشيوع بينهم، ومع ذلك كانوا يعتقدون في هذه الأحجار أنها دون الله، وأنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى. وامتلأ بالأصنام حتى جاء محمد
صلى الله عليه وسلم
بالإسلام فأمر بكسرها. •••
جاء الإسلام وعماده شيئان: القرآن والسنة؛ فأما القرآن فأتى بتعاليم مخالفة لتعاليم الجاهلية. والقرآن ينقسم قسمين: مكي ومدني، وأساليبه متنوعة بين شدة ولين، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد؛ مسايرة للسيرة النبوية، وموافقة لحال المسلمين والمشركين في أوقات نزول الآيات. والآيات المكية نراها تتجه اتجاها قويا نحو الدعوة إلى عبادة إله واحد هو رب العالمين، وبيده ملكوت كل شيء، ونحو الدعوة إلى الإيمان بيوم الحساب ومكافاة الخير بالخير والشر بالشر، والاستدلال على الله بآثاره في العالم، وتقرير أن الأصنام عاجزة كل العجز عن أن تعمل عملا في الكون، فهي لا تستطيع أن تجلب الخير لنفسها فكيف لغيرها؟! والآيات الأولى آيات قصيرة لها رنين قوي تدعو إلى الله، وتقسم بالليل والنهار، والسماء والأرض، والشمس، والأماكن المقدسة، والوالد وما ولد، والنفس وما سواها؛ إشعارا بعظمة الله خالقها.
وقد سالم المشركون محمدا أول الأمر، ثم ناصبوه العداء ورموه بالكذب والجنون، فنزلت آيات القرآن شديدة على الكافرين، متوعدة أشد الوعيد، مصورة لكبريائهم صورة هزؤ وسخرية، وهو إلى ذلك يوضح في قوة ما سيناله الكافرون من عذاب أليم، وما سيناله المؤمنون من نعيم مقيم. ولبث القرآن في العهد المكي يحاج المخالفين ويقص العبرة من سيرة الأولين بعد المدة الأولى من العهد المكي، في فواصل أطول وأسلوب أهدأ. وفي هذا العهد نزلت قصة الإسراء وكثير من قصص الأنبياء، ويشير القرآن في أكثر من موضع إلى أن إبراهيم أبو العرب، ومنبع الإسلام، ومصدر شعائر الحج، ولكن في هذا العهد لم يجادل القرآن اليهود ولا النصارى إلا قليلا لقلة اليهود الذين كانوا بمكة ومسالمة النصارى.
فلما هاجر النبي إلى المدينة كان الشأن فيها غير الشأن في مكة، فأكثر سكان المدينة - من الأوس والخزرج - فشا فيهم الإسلام وآمنوا به إيمانا صادقا، على العكس من أهل مكة الذين لم يسلم منهم إلا القليل. واستراح الأنصار - من الأوس والخزرج - مما كان بينهم من حروب ومحن، واستراح المهاجرون المسلمون مما كان يؤذيهم به صناديد قريش في دارهم، وكان المدنيون أكثر ثقافة بالكتب المنزلة لما كان بينهم من يهود، وكان هذا من الأسباب التي دعتهم أن يتقبلوا دعوة النبي، ويفهموا النبوة ومراميها أكثر مما تفهم قريش. وكان بجانب هؤلاء المسلمين من الأنصار والمهاجرين قبائل يهودية لهم مزايا العرب في الحروب والقتال، ولكنهم - كشأن اليهود عامة - شديدو المحافظة على تقاليدهم وأوضاعهم وشعائرهم؛ فأبوا أن يتركوا شيئا من ذلك، وأبوا إلا الإصرار على دينهم وشعائرهم، وناصبوا النبي العداء. وأخذ الخلاف يشتد بينهم وبين المسلمين كلما تقدم الزمان وحدثت الأحداث، وأخذت نغمة القرآن في خصومهم تشتد بجانب ذلك.
وبجانب هؤلاء وهؤلاء كان قوم من الخزرج حقدوا على الإسلام، إما لأن الإسلام أفقدهم رياستهم الدنيوية، وإما لأنهم أتباع هؤلاء اليهود أو نحو ذلك. ولكن التيار العام - تيار المسلمين - جرفهم معه فتظاهروا بالإسلام وأبطنوا الكفر؛ فسموا بالمنافقين، وحمل عليهم القرآن حملة شديدة كحملته على اليهود. وكان يرد دسائسهم ومكرهم، وينقض مؤامراتهم. وفي هذا العهد كان القرآن يخاطب المسلمين:
يا أيها الذين آمنوا ، بينما كان الخطاب في عهد مكة:
يا أيها الناس ، ولما كان القتال بين المسلمين في المدينة والمشركين في مكة، وبين المسلمين في المدينة واليهود فيها، كانت الآيات المدنية مبينة قوانين الجهاد، ومسجلة لأحداث الغزو، فآيات في غزوة بدر، وآيات في غزوة أحد، وآيات في غزوة الأحزاب ... إلخ. وهي كلها شديدة شدة الحرب حتى إذا تم فتح مكة نزلت سورة:
অজানা পৃষ্ঠা