مقدمة
يوم الإسلام
مقدمة
يوم الإسلام
يوم الإسلام
يوم الإسلام
تأليف
أحمد أمين
مقدمة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
كان في نيتي أن أسير في سلسلة فجر الإسلام وضحاه وظهره، وكان تقديري أن يكون ظهر الإسلام حول خمسة أجزاء؛ أي أربعة على ما ظهر منه إلى اليوم، ثم أسير فيه عصرا فعصرا إلى اليوم. ولكن شاء القدر أن يحول بيني وبين تلك النية، فقد أصبت في نظري بما جعل الأطباء يحرمون علي كثرة القراءة وخصوصا في الليل، والاستعانة بالغير لا تكفي؛ لأني كنت أستطيع أن أتصفح الكتاب الكبير في ساعات، فأقف منه على ما يلزمني وما لا يلزمني. أما قراءة الغير فلا تجزي هذا الأجزاء. لذلك وقفت عن العمل في تلك السلسلة، وجعلت أؤلف كتبا، إما أن تكون قد ألفت من قبل ولا تحتاج إلا إلى صقل وترتيب، وإما مبنية على مطالعات سابقة، مما ادخر في الذهن على توالي الأيام.
من هذا الأخير هذا الكتاب. أردت فيه أن أبين أصول الإسلام وما حدث له من أحداث، أفادته أحيانا، وأضرته أحيانا. وأبين فيه كيف كان يعامل غيره من أهل الأديان أيام عزه وسطوته، وكيف يعامله غيره أيام ضعفه ومحنته. فكان من ذلك هذا الكتاب. اعتمدت فيه أكثر ما يكون على معلوماتي السابقة، وقليلا منه على قراءاتي الحاضرة، وترددت في تسميته، هل أسميه «الإسلام ماضيه وحاضره»، أو أسميه «الجزء الثاني من فجر الإسلام»؟ ولكن منعني من هذه التسمية الأخيرة أن الإسلام اقتصر على الحياة العقلية للمسلمين في العهد الأول، وهذا الكتاب يشتمل على عهده كله إلى اليوم.
وأخيرا اقترح علي أن أسميه اسما يتناسب مع فجر الإسلام وضحاه، ففكرت طويلا، ثم سميته «يوم الإسلام»؛ لاشتماله على الإسلام: أصوله وعوارضه في عصوره المختلفة إلى اليوم. وأهم غرض منه شيئان؛ الأول: أن نتبين منه الإسلام في جوهره وأصوله، وكيف كان، والثاني: أن كثيرا من زعماء المسلمين أتعبوا أنفسهم في بيان أسباب ضعف المسلمين؛ فرأيت أن خير وسيلة لمعرفة أسباب هذا الضعف الرجوع إلى التاريخ؛ فهو الذي يبين لنا ما حدث مما سبب ضعفه، وبذلك نضع أيدينا على الأسباب الحقيقية؛ حتى يمكن من يريد الإصلاح أن يعرف كيف يصلح. والله المسئول أن ينفع به كما نفع بسابقه.
أحمد أمين
القاهرة في 4 فبراير سنة 1952
يوم الإسلام
كان مرور نحو 570 سنة على المسيح كافيا لفساد العقيدة النصرانية، كما حدث للإسلام فيما بعد، وكما حدث للديانة الزرادشتية والبوذية فيما قبل؛ ذلك أن عقيدة الألوهية المجردة عن المادة والأجسام عقيدة صعبة المنال لا يدركها إلا خاصة الخاصة، وإن أدركوها فسرعان ما ينسونها ويميلون إلى الوثنية المألوفة الموروثة؛ لهذا أفسد العرب دين أبيهم إبراهيم وملئوا الكعبة بالأصنام. وأفسد اليهود دين موسى فاتخذوا عجلا جسدا له خوار إلها لهم، وقالوا لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وهكذا. فالألوهية المجردة والاستمرار على اعتقادها شاقة عسيرة. وقيل «إن الإنسان ميال دائما إلى التجسيد» لهذا فسد الدين في كل أمة من الأمم، واحتاجت إلى نبي جديد.
فإذا نظرنا إلى مصر رأينا الديانة النصرانية فيها كانت قد تعفنت تحت سلطنة الدولة الرومانية، قال بعضهم: «لقد أكرهت مصر على انتحال النصرانية، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه إلا الفتح العربي، وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحا للاختلافات الدينية الكثيرة في هذا الزمن، وكان أهل مصر يقتتلون بفعل تلك الاختلافات، وكانت مصر التي أكلتها الانقسامات الدينية وأنهكها استبداد الحكام؛ تحقد أشد الحقد على سادتها الروم، وتنتظر ساعة تحررها من براثن القراصنة الظالمين.» ويقول بتلر في كتابه «فتح العرب لمصر»: «فالحق أن أمور الدين في القرن السابع كانت في مصر أكبر خطرا عند الناس من أمور السياسة؛ فلم تكن أمور الحكم هي التي قامت عليها الأحزاب، واختلف بعضهم عن بعض فيها، بل كان كل الخلاف على أمور العقائد والديانة، ولم يكن نظر الناس إلى الدين على أنه المعين الذي يستمد منه الناس ما يعينهم على العمل، بل كان الدين في نظرهم هو الاعتقاد المجرد في أصول معينة. وكان الروم يجبون على النفوس جزية وضرائب أخرى كثيرة العدد. ومما لا شك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير عدل.»
ويقول آخر: «لم تكن المسيحية في يوم من الأيام من التفصيل ومعالجة الإنسان بحيث تقوم عليه حضارة أو تسير في ضوئه دولة، ولكن كان فيها أثارة من تعاليم المسيح وعليها مسحة من دين التوحيد البسيط، فجاء «بولس» فطمس نورها، وطعمها بخرافات الجاهلية التي انتقل منها، والوثنية التي نشأ عليها، وقضى قسطنطين على البقية الباقية حتى أصبحت النصرانية مزيجا من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية، والأفلاطونية المصرية، واضمحلت في جنب الرهبانية التعاليم المسيحية، وعادت أليافا جافة من معتقدات لا تغذي الروح، ولا تمد العقل، ولا تشعل العاطفة، ولا تحل معضلات الحياة، ولا تنير السبيل، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية، وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية حتى فاقوا في ذلك الوثنيين.»
ولم تكن فارس على عقيدتها الزرادشتية والبوذية بأحسن حالا، فكان الملوك يتزوجون بناتهم وأخواتهم حتى يزدجرد الثاني جنى على بنته ثم قتلها، وبهرام جوبين كان متزوجا بأخته، وكانت فارس مسرحا لمذهب ماني الزاهد المتنسك، ومزدك الإباحي المتهتك.
وكذلك كان الشأن في الهند؛ فكانوا يؤمنون بتفاوت الطبقات، فبيوت أرستقراطية عالية يراها الناس فوق مستواهم، وبيوت دون ذلك، ومن التصق بحرفة لم يبح له أن يخرج عنها، ومن التصق بنسب لزمه. وهكذا شأن الهنود والصينيين يغلب عليهم عناصر ثلاثة، وهي: الوثنية المتطرفة، والشهوة الجنسية الجامحة، ونظام الطبقات.
والعرب في الجاهلية غرقوا في عبادة الأوثان. وكان الدين - كما يدل عليه شعرهم - شيئا سطحيا غير متغلغل في أعماق صدورهم، فقدسوا الحجارة والغدران. ومن آثار ذلك بئر زمزم والحجر الأسود، وكانوا لا يمجدون آلهتهم ... كما تدل عليه حادثة امرئ القيس؛ إذ مر على مكان يقال له ذو الخلصة، وكان به صنم فاستقسم عنه بقداحه، وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص وأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي أيضا، ثم أجالها فخرج الناهي؛ فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم. واعتقدوا أن في الأشياء المادية من جبل وريح أرواحا تعبد كما تعبد الأصنام؛ فعبدوا الكواكب من شمس وقمر. واشتهر من أوثانهم العزى واللات ومناة، وكان اسم عبد العزى كثير الشيوع بينهم، ومع ذلك كانوا يعتقدون في هذه الأحجار أنها دون الله، وأنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى. وامتلأ بالأصنام حتى جاء محمد
صلى الله عليه وسلم
بالإسلام فأمر بكسرها. •••
جاء الإسلام وعماده شيئان: القرآن والسنة؛ فأما القرآن فأتى بتعاليم مخالفة لتعاليم الجاهلية. والقرآن ينقسم قسمين: مكي ومدني، وأساليبه متنوعة بين شدة ولين، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد؛ مسايرة للسيرة النبوية، وموافقة لحال المسلمين والمشركين في أوقات نزول الآيات. والآيات المكية نراها تتجه اتجاها قويا نحو الدعوة إلى عبادة إله واحد هو رب العالمين، وبيده ملكوت كل شيء، ونحو الدعوة إلى الإيمان بيوم الحساب ومكافاة الخير بالخير والشر بالشر، والاستدلال على الله بآثاره في العالم، وتقرير أن الأصنام عاجزة كل العجز عن أن تعمل عملا في الكون، فهي لا تستطيع أن تجلب الخير لنفسها فكيف لغيرها؟! والآيات الأولى آيات قصيرة لها رنين قوي تدعو إلى الله، وتقسم بالليل والنهار، والسماء والأرض، والشمس، والأماكن المقدسة، والوالد وما ولد، والنفس وما سواها؛ إشعارا بعظمة الله خالقها.
وقد سالم المشركون محمدا أول الأمر، ثم ناصبوه العداء ورموه بالكذب والجنون، فنزلت آيات القرآن شديدة على الكافرين، متوعدة أشد الوعيد، مصورة لكبريائهم صورة هزؤ وسخرية، وهو إلى ذلك يوضح في قوة ما سيناله الكافرون من عذاب أليم، وما سيناله المؤمنون من نعيم مقيم. ولبث القرآن في العهد المكي يحاج المخالفين ويقص العبرة من سيرة الأولين بعد المدة الأولى من العهد المكي، في فواصل أطول وأسلوب أهدأ. وفي هذا العهد نزلت قصة الإسراء وكثير من قصص الأنبياء، ويشير القرآن في أكثر من موضع إلى أن إبراهيم أبو العرب، ومنبع الإسلام، ومصدر شعائر الحج، ولكن في هذا العهد لم يجادل القرآن اليهود ولا النصارى إلا قليلا لقلة اليهود الذين كانوا بمكة ومسالمة النصارى.
فلما هاجر النبي إلى المدينة كان الشأن فيها غير الشأن في مكة، فأكثر سكان المدينة - من الأوس والخزرج - فشا فيهم الإسلام وآمنوا به إيمانا صادقا، على العكس من أهل مكة الذين لم يسلم منهم إلا القليل. واستراح الأنصار - من الأوس والخزرج - مما كان بينهم من حروب ومحن، واستراح المهاجرون المسلمون مما كان يؤذيهم به صناديد قريش في دارهم، وكان المدنيون أكثر ثقافة بالكتب المنزلة لما كان بينهم من يهود، وكان هذا من الأسباب التي دعتهم أن يتقبلوا دعوة النبي، ويفهموا النبوة ومراميها أكثر مما تفهم قريش. وكان بجانب هؤلاء المسلمين من الأنصار والمهاجرين قبائل يهودية لهم مزايا العرب في الحروب والقتال، ولكنهم - كشأن اليهود عامة - شديدو المحافظة على تقاليدهم وأوضاعهم وشعائرهم؛ فأبوا أن يتركوا شيئا من ذلك، وأبوا إلا الإصرار على دينهم وشعائرهم، وناصبوا النبي العداء. وأخذ الخلاف يشتد بينهم وبين المسلمين كلما تقدم الزمان وحدثت الأحداث، وأخذت نغمة القرآن في خصومهم تشتد بجانب ذلك.
وبجانب هؤلاء وهؤلاء كان قوم من الخزرج حقدوا على الإسلام، إما لأن الإسلام أفقدهم رياستهم الدنيوية، وإما لأنهم أتباع هؤلاء اليهود أو نحو ذلك. ولكن التيار العام - تيار المسلمين - جرفهم معه فتظاهروا بالإسلام وأبطنوا الكفر؛ فسموا بالمنافقين، وحمل عليهم القرآن حملة شديدة كحملته على اليهود. وكان يرد دسائسهم ومكرهم، وينقض مؤامراتهم. وفي هذا العهد كان القرآن يخاطب المسلمين:
يا أيها الذين آمنوا ، بينما كان الخطاب في عهد مكة:
يا أيها الناس ، ولما كان القتال بين المسلمين في المدينة والمشركين في مكة، وبين المسلمين في المدينة واليهود فيها، كانت الآيات المدنية مبينة قوانين الجهاد، ومسجلة لأحداث الغزو، فآيات في غزوة بدر، وآيات في غزوة أحد، وآيات في غزوة الأحزاب ... إلخ. وهي كلها شديدة شدة الحرب حتى إذا تم فتح مكة نزلت سورة:
إذا جاء نصر الله والفتح ، ويغلب على الأسلوب في الآيات المدنية الطول مع التزام الفواصل ومع الهدوء الذي ينسجم مع التشريع. وليست الآيات وحدها هي التي تطول بل تطول السور كذلك؛ ولذلك سميت بعض السور السبع الطوال. وفي القرآن سور أدبية رائعة من جمال تشبيه، وجمال أمثال، وجمال استعارة، وجمال حجاج.
وأما السنة فهي أهم مصدر بعد القرآن. وقد تجرأ قوم فأنكروها، واكتفوا بالعمل بالقرآن وحده، وهذا خطأ؛ ففي السنة تفسير كثير من النبي
صلى الله عليه وسلم
للقرآن، فقد كان يجيب على أسئلة الصحابة فيما غمض عليهم، ويبين لهم ما اشتبه عليهم، وفيها تاريخ الإسلام، وتاريخ أعمال الصحابة، وطريقة تنفيذهم لأحكام القرآن، وكيفية عملهم بها. فمن الحديث نعلم كيف عمل الرسول وأصحابه بالقرآن، وكيف نجحوا في تأسيس حكومة مدنية على مبادئ الإسلام، وفي الحديث أخبار الرسول وأصحابه ووقائعهم إلى غير ذلك.
وقسم من الأحاديث أخلاقي تهذيبي، يحتوي على الحكم والآداب والنصائح مثل: مدح الصدق والعدل والإحسان، وذم الكذب والظلم والفسق والفساد. وقسم يشتمل على أصول العقائد المذكورة في القرآن مثل: التوحيد، والصفات الإلهية، والرسالة، والبعث، وجزاء الأعمال.
وقسم آخر يشمل على أحكام، وقد اشترطوا في أحاديث الأحكام صحتها. وهناك فرق بين السنة والحديث؛ فالحديث كل واقعة نسبت للنبي
صلى الله عليه وسلم
ولو كان فعلها مرة واحدة، ولو رواها عنه شخص واحد، وأما السنة أصحابه والتابعون. وتدوين كتب الحديث بمنزلة تسجيل التاريخ لهذا العمل المتواتر. والسنة مشتقة من معنى العادة والطريقة المستمرة كما قال الله - تعالى:
سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ، وقوله:
فقد مضت سنت الأولين ، وقوله:
فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ، والمسلمون اقتبسوا هذه الكلمة من القرآن، واستعملوها للدلالة على سنة النبي وأصحابه.
وقد جرت العادة أن يرسل رسول الله من يعلم أهل البلاد القرآن والسنة. وكان الصحابة يكتبون هذه الأحاديث ويحفظونها؛ لأنهم كانوا يهتمون بكل ما يقوله النبي ويفعله. ومن الصحابة من كان يكثر كتابة الحديث كابن عمر وأبي هريرة، وبعضهم يقل إما لقلة حفظهم أو لاشتغالهم بأعمالهم. وروي عن أبي هريرة أنه قال: ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمر؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب. وكان الرسول ينهى عن كتابة الأحاديث أحيانا خشية أن يخلط الحديث بالقرآن، والدين بعد غض جديد. وكثرت كتابة الحديث بعد وفاة رسول الله؛ لأن الذاكرة وحدها لا تكفي للمحافظة على الحديث. وقد بدئ جمع الحديث في حياة الرسول ثم كثر ذلك بعده خصوصا من أمثال أبي هريرة، فقد كان قوي الذاكرة، حاضر البديهة، يكاد يلازم المسجد، وكالسيدة عائشة؛ فإنها كانت من حفظة الحديث عن زوجها. وكان لها ذاكرة واعية، معنية بالتدقيق، لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه. وكعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس.
وكان المسلمون يرجعون في مسائلهم إلى القرآن والحديث، وبذلك ظهرت أهمية أحاديث الرسول. فقد كان يسأل الصحابة عند اجتماعهم هل عند أحد حديث في هذه المسألة، وكذلك سار التابعون. حتى كان الخلفاء أنفسهم يهتمون بجمع الحديث والحث على تدوينه. فقد أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم بقوله: «انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء. ولا تقبل إلا حديث النبي، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا.»
ثم بدئ في أواسط القرن الثاني من الهجرة في وضع مجاميع للسنة، وفي قصد الطلاب إلى تعلم الحديث، كما فعل الإمام مالك في المدينة، وعبد الله بن وهب في مصر، وسفيان الثوري في الكوفة، وعبد الله بن مبارك بخراسان.
وفي هذا الحين ألف الموطأ وأمثاله. وفي القرن الثالث الهجري تم جمع الحديث. وقد عني الجامعون بالسند. فلم يذكروا حديثا إلا بسنده. وقد كثر الحديث في ذلك العهد حتى أن مسند أحمد بن حنبل يحتوي على نحو ثلاثين ألف حديث. وقد توفي سنة 241ه. وكذلك فعل البخاري ومسلم. وقد عرفت كتبهما بالصحيحين. وكان المحدثون لا يصححون الحديث إلا إذا صح سنده. ولكن مع الأسف دخل في الحديث بعض الإسرائيليات، وبعض ما كان يرويه القصاص من غير تدقيق.
ومن المؤسف أيضا أن العلماء عنوا بنقد السند أكثر مما عنوا بنقد المتن. وقد وضعت قواعد للتحقق من صحة الحديث، فقالوا مثلا إنه يحكم بضعف الحديث إذا تعارض مع واقعة تاريخية معروفة، أو إذا كان الراوي من الشيعة والحديث يطعن في أحد الصحابة، أو كان من الخوارج والحديث يطعن في أهل البيت، أو كان الحديث مرويا عن واحد فقط، أو كان الحديث يخالف مبادئ القرآن وتعاليمه، أو كان الحديث يتضمن عقوبة شديدة لشيء تافه، أو نحو ذلك.
والأحاديث المجموعة مختلفة في أسمائها، فمنها المتواتر، وهو: ما رواه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب في كل قرن من القرون. ومنها الآحاد. وقد قسموا الأحاديث إلى ثلاثة أقسام؛ مشهور: وهو ما رواه آحاد في القرن الأول، ثم ذاع بعد ذلك ورواه عدد كبير في القرن الثاني والثالث. وحديث عزيز: وهو ما لم يرو عن أقل من طريقين، وحديث غريب: وهو ما كان في سلسلة سنده شخص واحد.
وقد جد المسلمون جدا عجيبا في جمع الحديث وترتيبه وتبويبه. ولم يألوا جهدا في الرحلات إلى أقصى البلاد لجمعه، ولم يقصروا في الاستفادة منه فيما يعرض لهم من أحكام.
أهم ركن للإسلام
وقد أثبت الدكتور ماكس موللر مكتشف اللغة السنسكريتية أن الناس كانوا في أقدم عهودهم على التوحيد الخالص، وأن الوثنية عرضت عليهم بفعل رؤسائهم الدينيين بغيا بينهم، وهذا يخالف عقيدة النشوء والارتقاء التي تدعي أن الناس عبدوا الأصنام أولا وعددوها، ثم لم يصلوا إلى التوحيد إلا أخيرا، وأن الوحدانية ارتقاء لنشوء الوثنية.
وعقيدة الوحدانية عقيدة صعبة لا يستطيعها إلا المجاهدون الراقبون. وكثيرا ما ينحدر الناس عنها إلى شيء من الوثنية، ولذلك حارب الإسلام الوثنية في شتى مظاهرها من عبادة آباء، أو عبادة أشجار وأحجار، أو عبادة أوثان، أو عبادة أموات وأضرحة، ومع هذا كله فقد ظلت الوحدانية صعبة إلا على من هدى الله.
وعقيدة الوحدانية هذه هي أرقى ما وصلت إليه الإنسانية، ولكن تحقيقها كما قلنا عسير؛ فهي تتطلب منهم اعتقاد أن الله وحده هو الذي يستحق العبادة؛
إياك نعبد وإياك نستعين ، وأن ما عداه لا يصح أن يؤله، ولكن الناس على توالي العصور ألهوا غير الله؛ فمنهم من أله الأشجار والأحجار، ومنهم من أله الأضرحة والأولياء، ومنهم من أله الملوك والخلفاء، ومنهم من أله المال والجاه غافلين عن حقيقة الدين، غافلين عن حقيقة الوحدانية. ولكن مع الأسف كانت صعوبة الإيمان بإله واحد من عالم الغيب سببا في فتح الباب للعقول الضعيفة في العصور المختلفة؛ فآمنت بالسحر والطلسمات وكثير من الخرافات، والعقيدة الصحيحة تقتضي صاحبها نسبة السلطة لله وحده، والقدرة لله وحده. ومن قديم حارب عمر بن الخطاب الذين بدءوا يعودون إلى الوثنية، فقطع الشجرة التي كان عندها بيعة الرضوان لما رأى الناس يتمسحون بها ويعتقدون فيها. وقال للحجر الأسود: لولا أني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقبلك ما قبلتك، وتلاه ابن تيمية وأتباعه في إزالة الأضرحة ومشاهد القبور، وظل العلماء والمخلصون على هذا المنوال يحاربون كل نوع من أنواع الوثنية في العصور المختلفة، إلى الشيخ محمد عبده حديثا ومحمد بن عبد الوهاب وأتباعه قبله.
وعقيدة الوحدانية في الإسلام ليست مجرد نظرية فلسفية ميتافيزيقية كما يعتقد كثير من الغربيين؛ إذ يعتقدون أن الله خلق العالم ثم عرج إلى السماء ولا شأن له به، بل يعتقد المسلمون أن الله يعمل في العالم دائما فكل ما يصير وكل ما يتجدد من عمله المستمر:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ، والمسلم لا يكون متدينا إذا لم ينسب إليه كل عمل من الأعمال، وحياة الإنسان وعلاقته بربه تستلزم عند المسلم الاستعانة بالله دائما؛ لأنه هو الذي يغير الظروف التي حوله دائما بما يسره ويسوءه ويحرك قلوب الناس بما يسرها وما يسوءها. والدين في نظر الإسلام ليس مسألة شخصية، ولا مسألة فردية، وإنما هو مسألة شخصية واجتماعية.
والعلاقة بين الإنسان ومخلوقات الله علاقة متينة، فكلها من خلق رب العالمين: فبين الإنسان وبين هذه المخلوقات وحدة نسب بربها إذ هو خالقها وخالقه، والعلاقة بين الإنسان وهذه الطبيعة علاقة صداقة، يتحبب إليها لتفشي إليه بسرها. وهي أيضا دلالة على وجود الله وعظمته:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت ، والقوانين الطبيعية في نظر الإسلام تسيطر على العالم بكافة مظاهره، وتؤلف سلسلة متصلة ومستمرة في العلاقات التي توافق الواحدة منها الأخرى وتوائمها.
فحيث نجد طفلا لا سن له، نجد لبنا نرضعه فإذا نمت السن كان اللحم وما إليه، وينمو التطور في الوقت نفسه من عدم الكمال إلى الكمال نفسه. وما القوانين سوى «سلطات تنفيذية» ذات إرادة، لها هدف مقصود، ومن ثم فهي تعمل لحفظ النظام وصيانته. وتمثل القوانين كذلك الإرادة المحققة.
والطبيعة هي ما تسمى الخليقة، لأن الطبيعة نشأت عن قوانين سبق إعدادها من قبل. والطبيعة حادثة مؤقتة منذ خلقها ووجودها، وكلها تخضع لإرادة الله:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، والقوانين الطبيعية هي بعض ما يدعى «الملائكة» وهي المبادئ التنفيذية لهذا العالم، والسلطات التنفيذة التي بواسطتها تتحقق المشيئة السببية.
وامتثال أوامر الطبيعة هو امتثال وخضوع للمشيئة التي تسبب القوانين، وهو ما يدعى الدين، أو الإسلام، أي الخضوع والامتثال لله.
وهذا الخضوع والامتثال هو المبدأ العالمي الحق. وبهذا وحده توجد الخلقية، ويبرر الوجود، وخالق الكون، ومالك المشيئة السببية هو ما يدعى الله؛ فهو الذي خلق المشروعات ودبر الخطط وأثر فيها، وتسبيحها هو خضوعها للقوانين التي بثها الله فيها.
وكان رسول الله يقبل المولود الجديد، ويقول «إنه حديث عهد بربه.»
ولما هاجر إلى المدينة على ناقته أراد بعضهم على أبواب المدينة أن يبرك الناقة عنده، فقال لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم «دعوها فإنها مأمورة» وفي القرآن الكريم:
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون .
والله يستطيع أن ينفذ القوانين الطبيعية، وأن يقف عملها:
قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، وهو بصفته الخالق لا حدود لقوته وهو ليس بحادث أو مخلوق، ولما كانت أفكارنا المقصورة على الماديات والمحسوسات لا يمكن أن تتطور إلا على أساس من التجارب الطبيعية والمظاهر الطبيعية؛ فليس في استطاعتنا أن نحيط بمعرفة الله وإدراكه تمام الإدراك، وإنه من الغباء قطعا إثارة مناقشة حول الله نفسه، وإنما نحن نعرف فقط شيئا عن مشيئته وإرادته ووجوده، نعرف ذلك كله عن طريق القوانين الطبيعية، وكلما ازدادت معرفتنا بالقوانين الطبيعية ازددنا معرفة بمشيئته وإرادته أي بالله نفسه.
وتمثل الطبيعة غير العضوية أقل خطوات التطور الطبيعي، ويمثل الإنسان أوسع تلك الخطوات. وتتدرج الأشياء في الكمال من جماد إلى نبات إلى حيوان إلى إنسان. •••
ويلي عقيدة الوحدانية الإيمان برسالة محمد والنبيين من قبله:
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ،
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ،
قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار ،
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي ،
ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ،
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ،
وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ،
قل ما كنت بدعا من الرسل ،
إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين ،
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين .
وهذه الرسالة مؤيدة بشهادة عيسى:
وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ، ولهذا كانت دعامتا الإسلام هما قول «لا إله إلا الله محمد رسول الله.» •••
ويلي هاتين العقيدة باليوم الآخر:
إن إلى ربك الرجعى ،
إنه هو يبدئ ويعيد ،
ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون ،
وإلى الله المصير ،
هو يحيي ويميت وإليه ترجعون ،
أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون .
وكان لهذه العقيدة في اليوم الآخر سلطان كبير على عقول الناس، وردع للمجرمين عن إجرامهم، وتشجيع للمحسنين على إحسانهم، ومراقبة الله سرا وعلنا، ومحاسبة الضمير على كل عمل، والخوف من النار في الآخرة، وزادت هذه الحالة عند بعض الناس؛ فغلبوا جانب الخوف كالحسن البصري الإمام الكبير، فيحكون عنه أنه كان يرى دائما كأنه عائد من جنازة، وكان كثير التخويف بالنار وعذابها، وكذلك الغزالي ومن تبعه بالغوا في الترهيب حتى خلعوا قلوب الناس، وكان الصوفية أعدل في حكمهم لسلطنة شعور الحب عليهم فكانت رابعة العدوية تقول:
أحبك حبين حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاكا
والقرآن الكريم سلك طريقا وسطا بين الترغيب والترهيب. وقد دعا المسلمين إلى الإيمان باليوم الآخر تيقنهم من أن كثيرا من أعمال الخير في الدنيا لا ينال صاحبها عليها ثوابا، وكثيرا من أعمال الشر لا ينال صاحبها عليها عقابا، والعدل يقتضي أن يثاب المحسن ويعاقب المسيء، وليس هذا - كما يقول الشيوعيون - ناتجا من سوء النظام؛ فكل نظام اجتماعي لا يخلو من ظلم اجتماعي في الدنيا كما يقول الشيوعيون وأصحاب النشوء والارتقاء. •••
ثم يلي ما تقدم الإيمان بكتب الله الأخرى وملائكته ورسله:
لا نفرق بين أحد من رسله ، ولم يكن في العقائد الأخرى تسامح وإقرار بالنبيين الآخرين كالذي قرره القرآن من الاعتقاد بالله ورسله وكتبه، فيرى الإسلام أن كثيرا من الكتب الدينية كالتوراة والإنجيل لم تحفظ كما نزلت، وإنما دخل عليها التغيير والتبديل، كما يرى الإسلام أن كل أمة بعث فيها رسول:
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ،
منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ، وأن القرآن آخر هذه الكتب، وأن محمدا آخر الرسل:
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده
الآية. •••
كما يجب الاعتقاد بأن لله ملائكة، ولسنا نعلم من أمرهم كثيرا إلا أنهم مخلوقات روحية منهم الموكلون بالعرش يحفظونه، ومنهم رسل الله إلى أنبيائه.
ومن الأسف أن كان لعقيدة الملائكة والشيطان في الإسلام أثر كبير خطير، وخصوصا في الشياطين وما زادوا فيها من أوهام.
ويتصل بهذا عقيدة الإسلام في القضاء والقدر، والتوكل على الله، قال تعالى في القضاء والقدر:
وكل شيء فعلوه في الزبر * وكل صغير وكبير مستطر ،
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجل ،
قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ،
قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ،
لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ،
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ،
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ،
وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ،
وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ،
إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ،
إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ،
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ،
وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ،
من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ،
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
وفي التوكل على الله جاء:
ومن يتوكل على الله فهو حسبه ،
وتوكل على العزيز الرحيم ،
الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون ،
وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا .
وقد كانت عقيدة القضاء والقدر والتوكل سليمة في عهد الرسول وكبار الصحابة؛ فكانت لا تمنعهم من غزو وحرب وفتوح بلدان وتغلب على أمم، وقد فهموها فهما لا يمنع من الأخذ بالأسباب كما جاء في الحديث: «اعقلها وتوكل.»
فكانوا يؤمنون بارتباط الأسباب بمسبباتها؛ فالماء يروي والنار تحرق، وفي القرآن:
قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، وفيه مئات من الآيات تدل على ارتباط الأسباب بالمسببات حتى جاء الأشاعرة فلم يربطوا بين الأسباب ومسبباتها، فلا تأثير عندهم للماء في الري، ولا للنار في الإحراق، قالوا وإنما المؤثر هو الله - تعالى - عند حدوث الأسباب لا بها. وقالوا بتكفير من اعتقد أن الله - تعالى - أودع قوة الري في الماء، وقوة الإحراق في النار، وإنما الإيمان والاعتقاد بأن الري جاء من جانب المبدأ الفياض بلا واسطة وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل في ذلك، وبذلك فكوا الأسباب عن مسبباتها فكان لهذا من الأثر البالغ ما جعل المسلمين فيما بعد يبالغون في عقيدة القضاء والقدر، ويربطون الحوادث بالخرافات والأوهام لا بالأسباب والمسببات؛ فالزرع إنما ينجح بالقدر ويفسد بالقدر، لا بما أثبته العلم وما يجره الإهمال. وهكذا أصبحت عقيدة القضاء فيما بعد صادة عن العمل ...
وفرق كبير بين العقيدة في القضاء والقدر وبين الجبر، فالقضاء والقدر الصحيحان يؤمنان بربط الأسباب بمسبباتها، ويحملان صاحبهما على العمل، ثم لتكن النتيجة بعد ما تكون، وعلى هذه العقيدة كان أكبر الشجعان الفاتحين من أمثال خالد بن الوليد وتيمورلنك والإسكندر ونحوهم، لا يهابون الموت؛ اعتمادا على أن ما قدر يكون. أما الجبر فيرى الإنسان كالريشة في مهب الريح، وما قدر لا بد أن يكون عمل الإنسان أو لم يعمل، تشجع أو لم يتشجع، وهذه العقيدة على هذا النحو دخيلة على الإسلام مما جعل كثيرا من الأوروبيين يجعلون من عيوب الإسلام العقيدة في القضاء والقدر، والتوكل على الله، ولو أنصفوا لعدوها بحالتها الحاضرة من عيوب المسلمين لا من عيوب الإسلام. •••
وخطا الإسلام في الرق خطوة واسعة؛ فهو لم يجزه إلا لمن يؤسر في حرب شرعية، أما اختطاف الولدان والبنات بشن الغارات على القبائل واتخاذهم عبيدا فعمل جاهلي لم يجزه الإسلام، وقد سوى الإسلام بين ذوي الألوان المختلفة سودا وبيضا؛ فقال الرسول: «ليس لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح.» وقرر للأرقاء الحقوق التي للأحرار، بل جعل للرقيق مزايا ليست للأحرار بإعفاء الأرقاء من نصف العقوبات التي يحكم بها على الأحرار، وجعل العتق واجبا في كفارة اليمين، وكفارة الفطر في رمضان إلى غير ذلك، وأوجب على المسلمين حسن معاملة الأرقاء، قال
صلى الله عليه وسلم «اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، فما أحببتم فأمسكوا، وما كرهتم فبيعوا، فإن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم» وسأله رجل: كم أعفو عن الخادم؟ فصمت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ثم قال: «اعف عنه في كل يوم سبعين مرة»، وضرب رجل من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عبدا له، فجعل العبد يقول: أسألك بوجه الله، فلم يعفه، فسمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وانطلق إليه، فلما رأى الرجل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أمسك، فقال له الرسول: «سألك بوجه الله فلم تعفه فلما رأيتني أمسكت يدك» قال الرجل: «فإنه حر لوجه الله» فقال النبي: «لو لم تفعل لسفعت وجهك النار.»
وقال
صلى الله عليه وسلم «أرقاؤكم إخوانكم استعينوهم على ما عليكم وأعينوهم على ما عليهم.» وقال الإمام الزهري: متى قلت للمملوك أخزاك الله فهو حر.
وليس يصح قياس هذه الخطوة الواسعة بما فعلت الأمم في هذه الأيام، وإنما يقاس على ما كان الرقيق عليه قبله في أيامه، فقد كان المصريون القدامى والبابليون والبراهمة والفرس يتخذون الرقيق سلعة، ويعاملونهم معاملة وحشية، واتخذه اليونان أيضا وأقره كبار فلاسفتهم كأرسطو وأفلاطون، بل زعم أرسطو أن أرواحهم كأرواح الحيوانات. وتوسع الرومانيون في الاسترقاق إلى حد بعيد. وكان آباء الكنيسة النصرانية يكاثرون الكونتات في اقتناء الأرقاء، فإذا علمنا هذا علمنا الخطوة الواسعة التي خطاها الإسلام في شأن الأرقاء. •••
وشرع الإسلام الجهاد، والجهاد كلمة إسلامية تستعمل بمعنى الحرب، وهي مصدر جاهد يجاهد مجاهدة وجهادا، مأخوذة من الجهد وهو الطاقة والمشقة، فالجهاد كما قال الراغب الأصفهاني: «استفراغ الوسع في مدافعة العدو، والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وتدخل ثلاثتها في قوله - تعالى :
وجاهدوا في الله حق جهاده ،
وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ،
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله
الآية، وقد شرع الجهاد في الإسلام في ثلاثة مواضع:
الأول:
إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان.
الثاني:
إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم.
الثالث:
إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير معه بدون ذكر الأدلة.
وقد أثبتت التجارب أن الحرب سنة من سنن الاجتماع البشري، وأثر لسنة تنازع البقاء، وتعارض المصالح والمنافع والأهواء، بل هي سنة من سنن بعض الحشرات التي تعيش عيشة التعاون والاجتماع كالنمل، فهو يغزو ويبيد ويسترق ويستخدم رقيقه في خدمته وترفيه معيشته. ويدل التاريخ أيضا على أن شعوب أوروبا أشد البشر ضراوة وقسوة في الحرب في أطوار حياتهم كلها من همجية ووثنية ونصرانية وصليبية ومدنية مادية. ومن علمائهم وفلاسفتهم من يرى منافع الحرب أكبر من مضارها، ولا تزال جميع دولهم تنفق على الاستعداد لها فوق ما تنفق على غيرها من مصالح الدولة والأمة، وترهق شعوبها بالضرائب الكثيرة، فإذا لم تجد استدانت.
وقد كان من تعاليم الإسلام منع جعل الحرب للإكراه على الدين، أو للإبادة، أو للاستعباد الشخصي أو القومي، أو لسلب ثروة الأمم والتمتع بالشهوات، ومنع استعمال القسوة في الحروب كالتمثيل بالأعداء، ومنع قتل من لا يقاتل كالنساء والأطفال والعباد، ومنع التخريب والتدمير الذي لا ضرورة له.
ومع هذا قال بعض الأوروبيين: «إن الإسلام لم يمتد بهذه السرعة إلا بالسيف؛ فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن بإحدى اليدين والسيف بالأخرى.» وهو خطأ واضح؛ فهم لم يستعملوا السيف إلا دفاعا عن أنفسهم، وكفا للعدوان عليهم، ثم توسعوا في الفتح بحكم نشر الدعوة.
ثم ذهب جماهير الفقهاء إلى أن القتال لدفع الأعداء وصد الاعتداء على الدين أوالوطن فرض عين، ويجب على المسلمين إذا فقد بلد من بلاد الإسلام أن يستعدوا لاستعادته مهما كلفهم ذلك من نفوس وأموال إلى أن يظفروا بذلك، وإذا أعلن الإمام النفير العام وجب على كل فرد أن يطيعه بما يقدر عليه من نفس أو مال كما تقدم، ويجب طاعته فيما دون ذلك بالأولى.
وقد سمى فقهاء المسلمين كل البلاد التي فتحها المسلون، ويجب عليهم دفع العدوان عنها دار الإسلام وما عداها دار الحرب.
ووضع الإسلام أسسا للنظام الاجتماعي، ووضع أساسا لذلك عقيدة أن كل شيء في السماء أو في الأرض إنما خلق للإنسان:
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ،
ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ،
وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ،
ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم ،
الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة ،
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها .
وهو تعالى الذي أنشأ الأسرة:
والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم .
وسخر لنا الأنعام:
وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون .
وخلق لنا الشمس والقمر والسحاب والمطر:
وخلقناكم أزواجا * وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا * وبنينا فوقكم سبعا شدادا * وجعلنا سراجا وهاجا * وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا .
وسخر لنا ما ملكته أيدينا من عبيد:
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن
إلى أن يقول:
أو ما ملكت أيمانهن .
وسخر النساء للرجال وسوى بينهم في المعاملة:
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ،
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف .
ونظم الزواج والطلاق:
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ،
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم .
وجعل لهن من الحقوق، وعليهن من الواجبات الاجتماعية ما للرجال وعليهم:
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله .
وأجاز زواج المؤمنات والكتابيات دون المشركات:
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم .
وفي الطلاق وردت الآيات:
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ،
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ،
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ،
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ،
وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ،
وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته .
ويحرم على الرجل أو المرأة أن يقتلا أولادهما:
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم ،
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ، وألغى التبني:
ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله .
وأوجب العناية باليتامى:
ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ،
وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين ،
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم .
وأوجب البر بذي القربى:
وبالوالدين إحسانا وذي القربى ، وأوجب إكرام الرقيق:
وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم .
وهذا النظام ربط العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة وبين الأسر جميعا. وكان تعداد الزوجات إلى أربع وإباحة التسري ضرورة من الضرورات؛ إذ كان الإسلام قد أمر بالجهاد: والجهاد عادة يقضي على الرجال دون النساء، فنتج من ذلك كثرة عدد النساء عن الرجال ، واقتضى ذلك اختصاص عدد من النساء برجل واحد، ولكن مع الأسف قل الجهاد أو بطل على توالي الزمان، وظل التشريع كما هو فنتج عن ذلك انحلال الأسرة، فطبيعي أن البيت الواحد إذا كان فيه حرائر متعددات وملك يمين متعدد أيضا كثر الخلاف بين الحرائر بعضهن وبعض، وبين الحرائر والإماء، وبين الأولاد لتعدد أمهاتهم، خصوصا أن من طبيعة الرجل أن يفضل بعضهن إما لجمالهن أو لأخلاقهن، أو لغير ذلك، فإذا فضل بعضهن دبت الغيرة في الباقيات، وكثرت الشحناء والدسائس والمؤامرات، وعلى الجملة انحل البيت، وكان بين الإخوة من أمهات مختلفة في العادة أشد أنواع العداء.
وفي التاريخ حوادث كثيرة من هذا القبيل؛ كالذي حدث بين الأمين والمأمون، فالأمين أمه حرة عربية، والمأمون أمه أمة فارسية.
ويعلل ابن خلدون انحطاط المسلمين بكثرة الترف، ولكن لم يكن الترف حظ كل المسلمين ولا أغلبهم، إنما هو حظ الخلفاء والأمراء وكبار التجار وأضرابهم، أما بقية الشعب ففقيرة.
يضاف إلى ذلك أن الرجال - وقد قعدوا عن الجهاد - اتسع وقتهم فتفرغوا للشهوات، والإفراط في الشهوات يضعف الهمة ويقصر العمر؛ ولذلك كان متوسط أعمار الخلفاء قصيرا بالنسبة لغيرهم.
وشيء آخر هام وهو أن البيت إذا فسدت أخلاقه بما فيه من تفضيل بعض على بعض، وحسد، وغيرة، ومنافسة، وعداء بين الأولاد، وعداء بين الأمهات؛ أصبح هؤلاء الأمهات غير قادرات على تربية الأولاد تربية صحيحة، وخرج أبناؤهم إلى الأمة ضعاف العقول، ضعاف الأخلاق، كثيري الدسائس والمؤامرات، ضعيفي الهمة، ولعل هذا من أهم أسباب انحطاط المسلمين. ويضاف إلى ذلك أن بعض هؤلاء الإماء كن يعملن لخدمة أممهن؛ كما حدث لكثير من زوجات الخلفاء والأمراء، فقد كن إسبانيات الأصل، فكن يعملن لخدمة إسبانيا، وكن عيونا على المسلمين. وكذلك فعل بعض الفارسيات واليونانيات في المشرق. •••
وقد ضغط الإسلام على تعاليم خاصة أهمها توحيد الله وعدم الإشراك به شيئا، وربما كان ملخص تعاليم الإسلام التي تختلف عن التعاليم الجاهلية في آيتين؛ الأولى:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين
الآية، والثانية: قوله - تعالى:
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا
الآية.
وفي التوحيد يقول الله - تعالى:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ،
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ،
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ،
وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون .
وهذا الإله الواحد صدرت عنه المخلوقات كلها:
الحمد لله رب العالمين ،
الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ،
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ،
بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ،
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون .
وهو يقر أن عقيدة الواحدانية أتى بها جميع الأنبياء من عهد آدم إلى عهد محمد، وأن الناس هم الذين غيروا في هذه العقيدة وبدلوا، قال تعالى:
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ،
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . •••
وأحاط الإسلام تعالميه التي ذكرنا بإطار قوي من الإشراف سماه «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، ويعني به أن ما تعارف الناس عليه من فضائل، وما فطروا عليه يسمى المعروف، وما أنكره الناس من رذائل بطبعهم يسمى المنكر. وجعل كل ذي قدرة وكفاية مسئولا عن أعمال الجمعية الإسلامية خيرا كانت أو شرا. فيجب أن يحضوا على الخير وينهوا عن الشر، والمسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. وعمل هؤلاء أشبه بعمل البرلمانات اليوم في الأمم المتحضرة؛ تنبه على ما يجب أن يعمل بأسئلتها واستجواباتها. وجعل القرآن دليل رقي الأمة تمسكها بهذا المبدأ فقال:
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ، ولعن اليهود؛ إذ أضاعوا هذا المبدأ، فقال:
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ، وجعل الإنسان في خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر؛ فهو فرض على كل قادر ذي كفاية، وفيه علاج للأمة من بعض أدوائها، وإذا تركته الأمة كان ذلك علامة على استفحال الداء في جسمها. ومهما اشتد الأمر على المسلمين فالعلاج لا يزال ممكنا، وطريق السلامة لا يزال مفتوحا آمنا، ولا يعوزنا إلا التمسك بهذا المبدأ؛ فهو يشعر الإنسان بالعزة، وأنه ليس مسئولا عن نفسه فقط، ولكنه مسئول عن نفسه وعن الجمعية الإسلامية التي ينتسب إليها، فإذا شعر بذلك أماط الأذى بكل قدرته، وكافح في سبيل نشر الخير ودفع الشر. وقد أتي المسلمون أكبر ما أوتوا من شدة شعورهم بالفردية واعتقادهم أنهم ليسوا مسئولين إلا عن أنفسهم، وفي الحديث: «مثلكم كمثل راكبي سفينة اقتسموها وأراد أحدهم أن يكسر ملكه، فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإلا هلك وهلكوا» وهذا المبدأ يكمل الشورى؛ فبعد أن يستبين الأمر يجب الحض عليه والأمر بتنفيذه، وهذان ركنان قويان في الإسلام: شورى تبحث عن الحق، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ينفذونه. •••
ولم يضع الإسلام تعاليم اقتصادية وسياسية وأخلاقية ثابتة مستقرة؛ لأن هذه الأمور كلها قابلة للتغيير بحسب تغيرات الأحوال، وإنما وضع بعض أسس اقتصادية يرى من المصلحة تحقيقها، فقد حرم الربا ، وأوجب الصدقات، وأحل البيع؛ لأنه يرى أن الربا كائنا ما كان ينفع أصحاب رءوس الأموال لا الفقراء، والذي يهمه هو إيصال المال إلى الفقراء، فدعوى أن الربا إنما حرم على الأفراد لا على البنوك والشركات دعوى يراد بها مسايرة الفكر الأوروبي الحديث.
وكذلك جعل الله نظام الميراث موزعا توزيعا كبيرا على الأولاد والأخوات وذوي الأرحام والعصبات وغيرهم؛ حتى لا تقع رءوس الأموال على يد فرد كما يفعل بعض البلاد الأوروبية في قصرهم الإرث على الابن الأكبر، وفي هذا ضمان لأن المال بعد أجيال ثلاثة يوزع توزيعا كبيرا. وبين مصارف الزكاة في قوله تعالى:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ، ولم ينص من الأخلاق إلا على ما كان غير قابل للتغير بتغير الزمان: كالعدل، والإحسان، والمحافظة على أموال اليتامى. •••
وكل دين من الأديان لا بد له من شعائر تحيي القلب وتساعد على تنظيم المجتمع. والإسلام أكد العمل كما أكد العقيدة، وأبان أن العقيدة لا بد أن تتبع بعمل، فهو دائما في القرآن يتبع الذين آمنوا بقوله:
وعملوا الصالحات ؛ لأن العقيدة إذا كانت صحيحة ولكنها أفلاطونية لا تترجم إلى عمل كانت لا قيمة لها. وهذه الشعائر هي في الإسلام: الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج. فالصلاة ليست أهميتها في مظاهرها وحركاتها وسكناتها، وإنما أهميتها في إحياء قلب المسلم، وهي ترمي إلى ثلاثة أشياء: أن يخضع القلب لجلال الله وعظمته، ويعبر اللسان عن تلك العظمة وذلك الخضوع أفصح عبارة بما يتلو ما تيسر من قرآن، وأن تؤدب الجوارح حسب ذلك الخضوع، وأن يقوم الإنسان بين يدي الله - تعالى - مناجيا ويقبل عليه مواجها، وأن يستشعر ذله وعزة ربه، وأتم ما يكون ذلك بالسجود، وهي وسيلة من وسائل تجلي الله على العبد وطهارة قلبه، وفي الصلاة يقول الأستاذ وليم جيمس: «يبدو لي أن الصلاة ستظل قائمة أبد الدهر على الرغم من كل ما أحدثه العلم إلا أن يحدث تغير في الطبيعة العقلية عند الناس، فالدافع إلى الصلاة نتيجة حتمية لمحاولة الإنسان أن يثبت وجوده الذاتي الداخلي في عالم مثالي، وفي صدر كل إنسان شوق إلى هذا العالم، وأكثرنا يرى أن فقدان مثل هذا الملاذ الداخلي معناه التردي في هوة من الفزع، أقول: «أكثرنا»؛ لأن الناس تختلف مواقفهم من هذا الهدف المثالي؛ فهو عند بعضهم أساس، وعند غيرهم أدنى من ذلك، وأكثر الناس تدينا هم الفريق الذي اختص بقسط أوفر من هذا الشعور، ولكني واثق أن من يدعون فقدانهم له إنما يخدعون أنفسهم.»
والصلاة سعي إلى الحقيقة من طريق غير طريق الفكر. وكل صلاة جماعية في روحها، حتى الناسك يعتزل الناس ليجتمع بالله، وفي الاجتماع تكبر قوة الملاحظة عند الإنسان وتعمق عاطفته. وقد رتب الإسلام للاجتماع درجات فجعل بعضه يوميا، وجعل بعضه سنويا، إذن فالصلاة - فردية كانت أو جماعية - تعبير عن شوق الإنسان لاستجابة يحس بها والعالم من حوله صامت، وفيها تؤكد الذات وجودها في لحظة فنائها، أما الوضع الذي يتخذه المصلي فليس موطن نزاع:
ولله المشرق والمغرب
الآية، ولكن وجهة المصلي عامل هام في حصر تفكيره، ولذلك اتخذ الإسلام قبلة معينة ليضمن وجود الوحدة في الشعور الجماعي. •••
ويلي ذلك الزكاة، وهي اثنان ونصف في المائة يعطيها الغني للفقير؛ لتؤلف بين القلبين، ويشعر الغني ببؤس الفقير وحاجته إلى المعونة.
ثم الصوم، وهو مكمل للزكاة؛ إذ يشعر الصائم بما يلاقيه الفقير من عناء يستحثه على العطاء، ولذلك قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»، ثم كان من شرائط صحة الصوم كف اللسان عن الرفث والفسوق.
وبعد ذلك يأتي الحج، وهو اجتماع جماعة عظيمة في مكان واحد وزمان واحد يذكرون حال المنعم عليهم، ويتداولون فيما بينهم مشاكلهم، وكيفية تعاونهم فيستفيدون ويفيدون، خصوصا وأن اجتماع المسلمين في صلاة الجمعة أو صلاة العيدين غير كاف لتحقيق هذه الفضيلة على أكمل وجه.
هذه أهم الفرائض التي أتى بها الإسلام، وبعض الشرائع لإصلاح الفرد كالصلاة الفردية، وبعضها لإصلاح المجتمع كالزكاة والصوم والحج، وفي كل خير ، وليست لهذه الأعمال قيمة إلا إذا مست القلب وهزته، وربطت بحبال متينة بين القلب وبين الله، وبين القلب وبين الناس، فإذا تم للمرء صحة عقيدته وإقامة الشعائر التي شرحنا؛ تم إسلامه وإلا كان بناء مبنيا على ركن دون ركن.
ومن مبدأ الإسلام أن الأعمال الصالحة ما لم تستند على إيمان بالله ورسله فلا قيمة لها؛ ولذلك لما سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عدي بن حاتم عن أبيه قال: إنه في النار؛ لأنه وإن أتى بفضيلة كفضيلة الكرم، وأنقذ الموءودة من الموت فإن أعماله الطيبة هذه لم تصدر عن إيمان بالله ولا عن حسن نية. وقد علق الإسلام أهمية كبرى على نية العمل؛ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات» وقال في موقف آخر: «نية المرء خير من عمله.» كذلك إذا اعتقد العقائد الصحيحة، ولم يشفعها بعمل صالح كانت عقائد في الهواء لا قيمة لها إذ لم تدعمها الأعمال الصالحة، فالإسلام دائما يربط بين العقيدة والعمل:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا
وهكذا. •••
ووضع الإسلام نظاما للحكم ليس بالحكم الأرستقراطي، ولا الديموقراطي، ولا الشيوعي حتى، ولا الثيوقراطي، فالثيوقراطية نظام الحكم فيها ديني، ينفذ القائم على رأسها تعاليم إلهية معينة، ليس مسئولا عنها الحاكم إلا أمام الله وليس مسئولا أمام الشعب، والإرادة الإلهية هي التي اختارت من بين الناس ملكا عليهم إما مباشرة أو بواسطة اختيار أفراد. وتسمى النظرية الثانية نظرية العناية الإلهية. وعلى كلا الأمرين فالملك مؤيد بروح من عند الله الذي اختاره، وعهد إليه بمراعاة صالح الشعب المملك عليه. وهذا الملك محاسب أمام الله فقط لا أمام الشعب، وعلى هذا قال لويس الخامس عشر في مرسوم أصدره عام 1770: «إننا تلقينا التاج من الله، وسلطة عمل القوانين من اختصاصنا وحدنا، دون تبعية أو توزيع.»
وقال غليوم ملك ألمانيا في عام 1916: «إن الملك يستمد سلطانه من الله، ولا يقدم حسابه إلا إليه، وإنني على هذا المبدأ أضع سياستي وأعمالي.»
فمن الخطأ أن يسمى النظام الإسلامي نظاما ثيوقراطيا؛ فالإسلام أرسل إلى الناس كافة ودعا إلى أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، فكل الأرض وطن المسلم، ووجب تناصر المسلمين مهما كانوا.
وأساس الحكم في الإسلام هو الشورى قال - تعالى:
وأمرهم شورى بينهم ، وقد ثبت أن النبي
صلى الله عليه وسلم
استشار أصحابه في أمر أسارى بدر، وفي غزوة الخندق، وفي صلح الحديبية، وعمل بما أشاروا به. •••
ثم إن الإسلام لم يضع نظاما خاصا للخلافة بل تركه لاختيار أهل الحل والعقد، وترك للمسلمين أن يختاروا تفاصيله في قانون مكتوب أو متعارف، وأن يراعوا البيئة التي نشأوا فيها ليضعوا ما هو الصالح لهم، كل ما في الأمر أنه يجب أن يراعوا في دستورهم وأحكامهم الأصول التي وضعها الله - تعالى - في التحليل والتحريم، فإذا قلنا إن الإسلام ترك الحكم مؤسسا على نظام شورى مراعى فيه صالح الشعوب والظروف المحيطة بهم لم نبعد. والخليفة أو الملك ليس مسئولا فقط أمام الله، بل مسئولا أيضا أمام أهل الحل والعقد، بل أمام الشعب كله. وقد خاطب الله المسلمين في كل ما يتعلق بالحكم مثل:
فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ،
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين .
وعمر قبل أن تحاسبه عجوز، وحاجه مسلم صغير لما اطلع على عورة منه من ظهر البيت لا من بابه؛ وفي هذا كله يخالف النظام الإسلامي النظام الثيوقراطي الذي يجعل الملك مسئولا وحده أمام الله وحده.
وقد أراد الرسول
صلى الله عليه وسلم
في مرضه الذي مات فيه أن يعين من يلي الأمر من بعده، ففي الصحيحين أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لما احتضر قال: «هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» وكان في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، فقال عمر: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله؛ فاختلف القوم واختصموا؛ فمنهم من يقول قربوا إليه يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول: القول ما قاله عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عنده - عليه السلام - قال لهم: «قوموا» فقاموا.
وترك الأمر مفتوحا لمن شاء جعل المسلمين طوال عمرهم يختلفون على الخلافة حتى إلى عصرنا هذا بين السعوديين والهاشميين. وقد ظل الإسلام قويا متينا مدة عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فلما مات بدأت معاول الهدم؛ فالعرب مع مزاياها المتعددة تتصف بعيوب أهمها؛ عدم الطاعة: وهو دور تاريخي، يكاد يكون طبيعيا، فكل عربي يرى لنفسه حق السيادة وعدم الخضوع. وقد كانوا يخضعون لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ لاعتقادهم بالسلطة الإلهية، فلما مات لم يذعنوا لمن أتى بعده، كما كانوا يذعنون للرسول من قبل. •••
وجعل الإسلام نظاما للميراث بينه في كتابه، وشدد بالمطالبة بالعدل، سواء في ذلك عدل الفرد، أو العدل في المجتمع، قال - تعالى:
اعدلوا هو أقرب للتقوى ،
وأقسطوا إن الله يحب المقسطين .
وبهذه التعاليم كلها امتاز الإسلام عما كان حوله من الأديان الأخرى، في الأمم الأخرى؛ من روم وفرس وحبشة وغيرهم.
فقد كان أساس هذه الأديان صحيحا في أصله، ولكن اعتراها من الفساد والانحطاط وفقدان الروح ما جعلها تحتاج إلى إصلاح كبير بشهادة مؤرخي الحالات الاجتماعية في هذه الأمم. والإسلام يقرر أن تعاليمه لم يأت بها النبي من عنده، ولكنها وحي نزل عليه من ربه، وهذا الوحي أنواع:
قال - تعالى:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء .
وهذا الوحي أنواع، بعضه لا تختص به الرسل، بل ولا الإنسان، بل إن الحيوانات تعمل بغرائزها بوحي من الله كما قال - تعالى:
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ، وكل خطرات نفس الإنسان والإيعاز إليه بعمل الخير إيحاء من الله. أما الرسل فلهم شأن أرقى من هذا، بأن يرسل الله ملكا كجبريل يحمل رسالته إلى النبي بآية قرآنية أو بحديث قدسي. وقد حدث النبي
صلى الله عليه وسلم
نفسه عن هذا فقال: إنه كان يأتيه أحيانا على شكل إنسان كدحية الكلبي، وأحيانا يأتي على شكل صلصلة جرس فيفصم عرقا في اليوم الشديد البرد، ثم ينفصل عنه وقد وعى عنه ما يقول.
على كل حال إن تعاليم القرآن ليست من عند محمد، وإنما هي من عند الله بواسطة ذلك الوحي، وأسلوب القرآن نفسه دال على ذلك مثل:
قل أعوذ برب الفلق
و
قل أعوذ برب الناس
و
قل هو الله أحد
و
إنا أنزلناه قرآنا عربيا
و
قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن
وهكذا من الأساليب التي تدل على أنه كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يتصل بالملأ الأعلى بشكل لا نعرفه، ويتلقى العلم على الله بشكل لا نعرفه أيضا.
هذه النظرة التي ذكرناها من أن الإسلام وحي من الله على رسوله يمكن أن تؤدي إلى إحدى نتيجتين:
النتيجة الأولى:
أن يطيع المسلمون هذه الأوامر فيما أتت به، وكلها تقريبا تعاليم كلية، ثم يستعملوا عقولهم في تطبيق الجزئيات عليها، ويجتهدوا أيضا فيما لم يأت فيه نص من الوحي تمشيا مع هذه النصوص الكلية.
والنتيجة الثانية:
أن يقف المسلمون عند هذه النصوص ولا يتعدوها إلى الاجتهاد فيما لم تنص عليه، ونتيجة هذا الرأي إغلاق باب الاجتهاد.
فمن أجل هذا سمي القرآن تنزيلا، قال - تعالى:
وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين ، وقال - تعالى:
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله .
وقد نزل الله القرآن على قلب محمد بهذه الطريقة مقسما في ثلاث وعشرين سنة على حسب ما كان يعرض من أحداث؛ فأحيانا تنزل الآية أو الآيتان في الموضوع، وأحيانا تنزل السورة كلها مرة واحدة كما حكوا عن سورة الأنعام. وكانت الآيات إذا نزلت تكتب وتحفظ إما في الصدور أو في السطور، ولذلك استنكر بعض المشركين هذه الحالة، فقالوا:
لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة .
ويظهر أنه أبيح للقبائل المختلفة أن تتلوه بلهجاتها، ومن ذلك نشأت القراءات المختلفة؛ وقد أجاز الرسول ذلك، وأجازه الصحابة من بعده.
والحق أن المسلمين الأولين انقسموا إلى قسمين: منهم من كان يرى الرأي الأول، ومنهم من كان يرى الرأي الثاني. وخير مثال على ذلك: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر، فقد كان عمر جريئا في الاجتهاد، جريئا في إعمال العقل، حتى أنه كان يفهم النص ويفهم علته؛ فإذا انعدمت العلة قال بانعدام المعلول؛ كما فعل في آية «المؤلفة قلوبهم». وكان ابنه عبد الله يمثل المحافظين. وربما أيد الرأي الأول أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أجاز عمر في اجتهاده، وأجاز معاذ بن جبل في اجتهاده أيضا عندما لم يكن نص. وربما أيد هذا الرأي أيضا ما ورد في القرآن الكريم من آية النسخ كقوله - تعالى:
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ، ففي الثلاث والعشرين سنة تغيرت الظروف التي استدعت بعض الأحكام، ثم تغيرت الظروف فتغيرت بعض الأحكام. بل ربما كانت المسألة تحتاج إلى أمر، وتتغير الظروف فتحتاج إلى نهي، كالذي قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها»، وربما كان هذا هو السبب في أن بعض الآيات فيها حكم يخالف حكم الآية الأخرى، وقد اضطر المفسرون إلى النص على أن بعض الآيات منسوخ وبعضها ناسخ، فإذا حدث هذا في ظرف ثلاث وعشرين سنة في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
فما بالك إذا اختلفت السنون ومر أكثر من ألف عام، وتغيرت الظروف بالفتح الواسع، وتغيرت البيئات من حارة إلى باردة، ومن بداوة بسيطة إلى مدنية معقدة، وإلى معاملات لم تكن معروفة كالسلم ونحوه. وواجه المسلمون في القديم مدنيات قديمة كمدنيات الفرس والروم والهند ومصر، وفي الحديث المدنية الغربية معتقداتها وتراكيبها. ألا يظن الناظر أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لو كان حيا وواجه هذه الظروف لنزلت عليه آيات كثيرة من آيات النسخ، والله الكريم الرحيم لم يخل الأمة الإسلامية من تشريع مرن يقابل هذه الحياة الجديدة بالاجتهاد المطلق . وكان من نعم الله أن وجد المجتهدون المختلفون أمثال أبي حنيفة والشافعي؛ ليواجهوا هذه المدنيات القديمة ويقابلوها بأحكامهم المستمدة من روح القرآن وتعاليمه. ولكن خلف من بعدهم خلف ضيقوا واسعا، وأغلقوا بابا مفتوحا؛
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها .
ولذلك رمى بعض المستشرقين الإسلام بالجمود، وعذرهم في ذلك ما رأوا من عدم استعمال المسلمين عقلهم، ووقوفهم عند تقليد آبائهم، مع أن آيات الأحكام في القرآن، التي جاءت في التشريع قصدا قد لا تتجاوز المائة، وأحداث الزمان التي تتجدد في كل عصر وأوان تعد بالألوف.
ومما يؤيد ذلك دعوة القرآن الكريم إلى استعمال العقل مثل:
أفلا يتدبرون ،
أفلا يعقلون ،
إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ،
إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ، وشبه الذين لا يستعملون عقولهم بالأنعام، قال تعالى عنهم إنهم:
صم بكم عمي
و
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ، وقال:
لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل
وقال:
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون
وقال:
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا .
ودعا إلى نوع من الغذاء يناسب العقل من النظر في آيات الله في السماء، وفي الأرض، وفي الفلك التي تجري في البحار، وفي اختلاف الألسنة والألوان، ونحو ذلك، فالله الذي مجد العقل هذا التمجيد لا يأتي بتعاليم تحجره وتجمده، بل كانت أفعال النبي
صلى الله عليه وسلم
في جمعه كبار الصحابة، وسؤاله بعضهم في مسائل دينية تدل على صحة هذا الاجتهاد؛ كالذي فعل مع عمر في استشارته في الأذان ونحو ذلك.
ولو بني الإسلام على أساس غير متين لطار كما طار غيره. نعم، إن الصين بقيت زمنا أطول منه على وثنيتها. ولكن، يلاحظ أن الصين كانت في قارة واحدة بينما كان الإسلام في ثلاث قارات، وأنها لم تحط بالأعداء من حولها كما أحيط هو، ففي وقت واحد كانت ضربات التتار وضربات الصليبيين وغيرهم.
إن العلم الحديث مع تقدمه الباهر لم يستطع أن يفسر أسرار الحياة، إلا نتفا هنا ونتفا هنالك، وعجز عجزا تاما عن تفسير الباقي.
أما الإسلام فقد استطاع أن يحيي في الإنسان الضمير الديني، ويحل به المشاكل كلها بحذافيرها، واستطاع أن يفهم ضم الحياة الأخرى إلى الحياة الدنيا، فيفهم من ذلك أن مجرما يسعد، ومستقيما يشقى؛ لأن هنالك ضميمة أخرى إلى الحياة الدنيا تحدث التعادل بين حياة المجرم والمستقيم. لكل هذه الأسباب، نرجو أن إحساس الغربي بالشقاء وبالعجز وبالحيرة عن فهم سر الحياة، يلجئه أخيرا إلى أن يرى المنقذ من كل ذلك، ولعله لا يجد غير الإسلام. •••
جاء بهذا الإسلام محمد
صلى الله عليه وسلم
وقد ولد في مكة عام 571م تقريبا، ومع أنه هو النبي الذي أدركه التاريخ؛ فإن كثيرا من أحداثه في طفولته وشبابه مجهولة كل الجهل، ومات أبوه قبل ولادته، وماتت أمه وهو في السادسة من عمره، ولما بلغ الثانية عشرة رحل مع عمه أبي طالب إلى الشام، فقابل في أثناء رحلته راهبا مسيحيا اسمه «بحيرا»، وتزوج وهو في الخامسة والعشرين من خديجة، وهي سيدة قرشية تناهز الأربعين من بني أسد، وكانت قد تزوجت قبل النبي بزوجين، وكانت ذات ثروة وجاه، فكانت من أوفر أهل مكة غنى، وكانت تستخدم رجالا من قريش كان آخرهم محمدا
صلى الله عليه وسلم
ولم يتزوج غيرها في أثناء حياتها فكفاه الله مئونة اليتم والفقر.
ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى ، فلما كفي مئونة الفقر استطاع أن يتفرغ للتأمل، فكان يخرج إلى غار حراء، ويقيم فيها الليالي ذوات العدد، يتأمل فيما عليه العالم عامة، وقومه خاصة من ضلال مبين ولكن أين الصواب؟! وفي ليلة سمع صوتا يقول:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق ، ثم تتابع عليه الوحي، وذهب إلى بيته وقلبه يضطرب خوفا، حتى دخل على خديجة، وهو يقول: «زملوني زملوني »، ودخل عليها مرة أخرى، وهو يقول: «دثروني دثروني»، فآمنت به. وليس أدل على صدق الرجل من أن يؤمن به أقرب الناس إليه كخديجة وعلي بن أبي طالب، وقد أمر أن يبلغ قومه رسالته فبلغهم، فاستخفوا به وقالوا: ساحر أو مجنون، وما زال يدعوهم ويعذبونه، فلما ضاق صدره أمر بعض أصحابه أن يهاجر إلى الحبشة، فخرجوا في هجرتين؛ كانوا في الأولى إحدى عشرة أسرة، ثم لحقت بهم ثلاث وثمانون أسرة أخرى من بينهم أسرة عثمان بن عفان، فتلقاهم النجاشي بقبول حسن، ثم أسلم عمر بن الخطاب فأعلن إسلامه فوجد الإسلام فيه ناصرا قويا، وفي هذه الأثناء كانت حادثة الإسراء والمعراج. وفي سنة 620 قدم سوق عكاظ نفر معظمهم من الأوس والخزرج، فعرض عليهم محمد الإسلام فقبلوا وبايعهم، ووفد إليه في سنة 622 خمسة وتسعون منهم امرأتان، فبايعوه واحتكموا إليه في الخلاف الناشب بين الأوس والخزرج، فوفق بينهم، واتخذ يثرب مسكنا له ولقومه. وقد أمر نحو مائتين من أصحابه أن يهاجروا إلى المدينة، وأعد العدة بعد ذلك هو وأبو بكر للهجرة أيضا، وأوجد في المدينة لما هاجر إليها توحيدا سياسيا نظاميا، وآخى بين المهاجرين والأنصار، ثم اعترضوا قافلة تجارية كانت عائدة من رحلتها إلى الشام، فخاف أهل مكة؛ لأن هذا الطريق هو سبب معيشتهم، وانهزموا في بدر، ولم تصبر قريش على عار بدر، فحاربت المسلمين من جديد في غزوة أحد، وجمعت جموعها وعلى رأسهم أبو سفيان، وأصيب النبي
صلى الله عليه وسلم
في هذه الموقعة، فشج رأسه، وسال دمه، وهزم المسلمون فقالت قريش إن هذه بتلك. وفي سنة 627 تألفت أحزاب كثيرة من قبائل مختلفة توالي القرشيين، فنصح سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة، فمكثت الأحزاب شهرا تتناوش ثم انصرفت، وعاد محمد
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة، وناصب اليهود العداء؛ لأنهم كانوا يتآمرون مع الأحزاب، عرض عليهم الإسلام فلم يقبل بنو قريظة، فحكم الرسول بضرب أعناقهم، وأمر بني النضير بالجلاء. ونظمت حياة المسلمين بالمدينة تنظيما اجتماعيا قويا، وفي سنة 628 سار محمد يصحبه 1400 من المؤمنين إلى مكة ، وجرت بينه وبين القرشيين مفاوضات انتهت بتوقيع صلح الحديبية، وبعد سنتين من ذلك فتحت مكة، فدخل محمد الكعبة، وأمر بأصنامها فحطمت، وطهر البيت الحرام منها، وكان عددها على ما قيل يبلغ نحو 360 صنما، ولما أمكنه الله من قريش عفا عنهم وأطلق سراحهم. وفي السنة التاسعة من الهجرة أقام محمد
صلى الله عليه وسلم
حامية في تبوك على حدود غسان، وكثرت الوفود على المدينة حتى سميت: سنة الوفود، وفي السنة العاشرة للهجرة دخل محمد مكة ظافرا منتصرا في موكب الحج.
هذا من ناحية الأحداث، أما من ناحية ما عمله من إصلاح؛ فإنه بتعاليمه وتنظيماته استطاع - مع ما نشأ عليه من جو خانق وعبادات متعفنة - أن يوحد بين جزيرة العرب في لغتها ودينها، وأن يجعل الأمة العربية أمة بعد أن كانت قبائل لا تعرف معنى «أمة»، ورفع من شأن نصف المجتمع وهو المرأة، ولاقى في سبيل ذلك كثيرا فلم ييأس. وتعاليمه التي أتى بها تعاليم إنسانية لا تخضع لظروف الزمان والمكان، ومن أجل هذا كانت تعاليمه خالدة؛ فالإنسان أخو الإنسان والأبيض أخو الأسود، والملك أخو الرعية. وأوعز إلى المسلم أن يكون قوة فعالة لاستئصال الشر، وتعميم الخير، وتمام الانسجام بينه وبين من يعيش معهم، وطالب المسلم أن يحقق العدل، وأن يعيش لخير نفسه وخير من معه،ولأن تعاليمه إنسانية كانت دعوته موجهة إلى الناس جميعا؛ لا فرق بين شرقي وغربي، فالاجتهاد الذي شرعه كاف في تعديل التعاليم حسب البيئة والظروف، وهو بهذا مصلح لما فسد من الأديان، مقوم لما مال منها، ومن أجل هذا استطاع الإسلام أن يبقى مع مثل هذه الهزات التي أصيب بها المسلمون في مختلف العصور، وقد تعرض القرآن الكريم لبعض صفات الرسول مثل:
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ،
قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ،
قل إنما أنا بشر مثلكم ،
قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ،
قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته ،
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ،
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ،
ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم ،
فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر ،
قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ،
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ،
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ... إلخ الآيات.
كما وردت أحاديث صحيحة كثيرة لبيان بعض أخلاقه
صلى الله عليه وسلم
وربما كانت سيرته في المدينة - التي تعرض لها القرآن والأحاديث - أوضح من سيرته في مكة، ومع ذلك فلم يبدأ في تدوين سيرته إلا في أوائل القرن الثاني الهجرى حين كتب محمد بن إسحاق تاريخه، واختصره ابن هشام في سيرته. والمتتبع للسير في العصور المختلفة يتجلى له أنها عظمت وكبرت على مرور الزمان، حتى كأنها هرم مقلوب، وكل متأخر يجتهد في زيادة الأوصاف والأحداث عن المتقدم.
ومع أن القرآن ينص على أنه ليس إلا بشرا كسائر الناس؛ فقد وصفوه بصفات الأنبياء الذين جاءوا قبله حتى ما جاء في الكتب غير الوثيقة، كأنه عز عليهم أن ينسب إلى أحد غيره من المعجزات ما لا ينسب إليه
صلى الله عليه وسلم . •••
مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من غير أن يوصي بالخلافة لأحد من بعده ... فقال قوم: إن أحق الناس بالخلافة أبو بكر؛ لأن رسول الله رضيه لأمر الدين بإمامة المسلمين في الصلاة؛ فليرضوه هم في أمر الدنيا، أعني الخلافة. وقال قوم: أحق الناس بالخلافة أهل بيته؛ عبد الله بن عباس، أو علي بن أبى طالب ... ومن جهة أخرى قال قوم: إن أحق الناس بها هم المهاجرون الأولون من قريش، وقال آخرون: إن أحق الناس بها هم الأنصار ...
كان مجال الخلاف الأول في بيت النبي
صلى الله عليه وسلم
قبل أن يدفن، والخلاف الثاني في سقيفة بني ساعدة؛ حيث كان الأنصار يطالبون بالخلافة، وأخيرا تم الأمر لأبي بكر على مضض؛ فكان من أول ما واجهه حروب الردة، وسببها أن كثيرا من العرب لما مات الرسول أبوا أن يخضعوا لأحد غيره، وأبوا أن يدفعوا الزكاة؛ لأنهم عدوها إتاوة لا تليق بالأحرار، وكان مظهر ذلك ما عبر الحطيئة عنه إذ يقول:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر
ذلك أن العرب ليست تخضع عادة إلا لمن أتى بالسلطة الدينية، قال ابن خلدون في مقدمته: «والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض؛ للغلظة، والأنفة، وبعد الهمة، والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشغلهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة، الرادع عن التحاسد والتنافس، فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم، وحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الناس قبولا للحق والهدى؛ لسلامة طباعهم من عوج الملكات، وبراءتها من ذميم الأخلاق إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة، المتهيئ لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى، وبعده عما في النفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات.»
ومن مظاهر هذا ما كان من خلاف الصحابة على من يتولى الأمر بعد الرسول. وكان هذا ضعف لياقة منهم؛ إذ اختلفوا قبل أن يدفن الرسول، ولكن كان عذرهم في ذلك العمل على ضم الشمل، وجمع الكلمة. •••
على كل حال اتسعت هوة الخلاف، فلما علم أبو بكر وعمر باجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ذهبا إليها، وخطب أبو بكر خطبة موفقة أقنع فيها الأنصار بأولوية المهاجرين الأولين، وبذلك كفي المهاجرون خلاف الأنصار، ثم كان أن كفي أبو بكر أمر علي، فقد كره كثير من الصحابة أن يجمع بين النبوة والخلافة، ولعلمهم بشدة علي في الحق وعدم تساهله.
وقد أقام الإسلام نظام الشورى: قال - تعالى:
وشاورهم في الأمر ، ولكن المبدأ يمكن تفسيره تفسيرات مختلفة بحسب مقتضى الحال، ويتسع حتى يشمل النظامات البرلمانية الحديثة، ولعل هذا هو السر في أن نظام الشورى لم يحدد وترك للمسلمين. وقد أقام النبي هذا الركن في زمنه بحسب مقتضى الحال؛ فقد كان المسلمون قلة وأولو الحل والعقد قليلون يسهل اجتماعهم في مسجد واحد، ويؤخذ رأيهم في الأمور العارضة، فكان النبي لا يبرم أمرا هاما حتى يستشيرهم فقد استشارهم بالفعل في غزوة بدر، ولم يغز قريشا حتى وافقوا على ذلك واستشارهم جميعا يوم أحد، وهكذا كان يستشيرهم في كل أمر إلا حيث ينزل الوحي، فلما اتسع الإسلام بعد الفتح، وأسلم كثيرون من الأماكن البعيدة عن المدينة، وكان في كل قرية أو قبيلة رجال من أهل المكانة يصح أن يؤخذ رأيهم لم يكن من السهل استشارتهم، وترك الأمر مفتوحا؛ لأنه لو وضع قاعدة فيه لاتخذها المسلمون دينا يتحجرون عليه. فلما مات النبي
صلى الله عليه وسلم
حصل هذا الاختلاف فبايع عمر أبا بكر ثم بايعه الناس، وكان في هذا مخالفة لركن الشورى، ولذلك قال عمر إنها غلطة وقى الله المسلمين شرها. وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر، وإن كان قد استشار كبار الصحابة في ذلك فبعضهم حمده، وبعضهم خاف من شدته، فقال أبو بكر إنه يراني ألين فيشتد.
قال ابن خلدون: «سببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها، وينطبع فيها من خير أو شر، قال
صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» وبسبب ما سبق إليها من أحد الخلقين يبتعد عن الآخر ويصب اكتسابه، فصاحب الخير إن سبقت إلى نفسه عوائد الخير، وحصلت له ملكته بعد عن الشر، وصعب عليه طريقه، وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليه أيضا عوائده. وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ، وعوائد الترف والإقبال على الدنيا، والعكوف على شهواتهم قد تلونت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم، وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف، ولا في شيء من الشهوات واللذات ودواعيها، وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير، فهم أقرب إلى الفطرة الأولى، وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها، فيسهل علاجهم عن علاج الحضر، فلما جاء الأمويون أبطلوا هذا الركن الأساسي، ووضعوا مبدأ الاستبداد، فلما جاء العباسيون أسس الخلفاء سلطتهم على العظمة الشخصية فعل الأكاسرة، وبذلك انهار مبدأ الشورى.»
على كل حال كان توفيقا من الله بيعة أبي بكر؛ فقد كان صادقا مخلصا حازما، وكان موفقا في عدم قبوله السكوت عن العرب الذين لم يشاءوا دفع الزكاة؛ إذ لو فعل مع نصيحة عمر له بالإغضاء لتمادوا في البعد عن الإسلام شيئا فشيئا، ولذلك صمم أبو بكر على حرب العرب الذين منعوا الزكاة، وسميت هذه حروب الردة، وهي ليست ردة بالمعنى الفقهي المتعارف؛ فلم يرتد العرب إلى الشرك، بل اعترفوا بالوحدانية وبرسالة النبي، وإنما لم يشاءوا أن يدفعوا الزكاة؛ لأنهم عدوها ضريبة تشعر بإذلالهم، خصوصا وأن بعض عمال الزكاة كانوا يجبونها في شيء من القسوة، ومن جهة أخرى حقد بعض الزعماء على رسول الله؛ إذ رأوه قد نجح في الدعوة الإسلامية، فظنوا أنهم يستطيعون أن يفعلوا ما فعل فادعوا النبوة، وادعوا أنه أوحي إليهم بدين جديد ينهى عن الوثنية، وفي أول خلافة أبي بكر واجه كما قلنا عن الخلاف على الخلافة كما واجه ارتداد البدو، فجرد أبو بكر نفسه للقضاء على هذه الخلافات، ودحر دعاة الردة، وأعانه على ذلك يده المنفذة خالد بن الوليد، فثار بنو حنيفة في اليمامة، ثم ثار غيرهم في غيرها.
وكانت قبيلة أسد وغطفان تنزلان قريبا من المدينة، وانتهزوا فرصة هياج جزيرة العرب، وذهاب جيش المسلمين لمحاربة الروم ، وارتدوا أيضا، وهجموا على المدينة، فوجه أبو بكر إليهم من يصدهم، واستمر في الدفاع نحو شهرين حتى رجع أسامة بجنوده من غزو الروم، فعهد إذ ذاك إلى خالد بن الوليد بحربهم، فهزموا واضطروا إلى الاستسلام في الحال، ثم كان من المرتدين أيضا من بلاد البحرين وعمان، وهي المنطقة الساحلية التي تمتد على طول الخليج الفارسي، وكانت عاصمتها هجر، فسار خالد إليها، وأخضع أهلها بعد مقاومة طويلة عنيفة، ثم انتقل إلى عمان، ومعظم أهلها من صيادي السمك وقرصان البحر، فأخضعهم عكرمة، ثم سار عكرمة من عمان إلى حضرموت واليمن، فأطفأ عكرمة نارها بعد حروب طويلة، وهكذا استطاع أبو بكر أن يخضع جزيرة العرب كلها، ويقضي على ثورة المرتدين.
ثم جاء بعده عمر، وكان لونا آخر من ألوان البطولة فكان قويا عادلا مهيبا، ينال من نفسه ومن أولاده ومن الناس. والمسلمون يتصورون عمر رجلا طويل القامة، ضخم الجسم، مهيب الطلعة، عادلا حتى في نفسه وولده، بيده هراوة يضرب بها أهله، ومن خرج من المسلمين عن جادة الصواب في قليل أو كثير، وكان من أكثر ما عمله إخضاع الفرس، وإزالة دولتهم، فكان من أهم الوقائع وقعة القادسية، وهي بلدة غربي النجف، وعلى مسافة ثمانية عشر ميلا ونصف من الكوفة، وكانت وقعة حاسمة خاضها القائد المشهور المثنى بن حارثة، وقد قتل في المعركة فخلفه سعد بن أبي وقاص، كذلك تم فتح الشام والجزيرة وفلسطين ومصر على يده، وليست قيمة عمر الكبرى في فتح هذه البلاد، ولكن في وضع نظمها السياسية، والمدنية، والاجتماعية، خصوصا وأنه لم ينشأ من قوم متمدينين، حتى إن أكثر الفقهاء يعتمدون في تشريعهم الاجتماعي على التقاليد التي سنها عمر عند فتحه الفتوح.
ولما حضرت عمر بن الخطاب الوفاة عهد كما قيل إلى ستة يختار منهم خليفة، وهم: صهر النبي
صلى الله عليه وسلم
علي، وعثمان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وكان ينبغي أن يختاروا أكفأهم، ولو اختير علي أو الزبير بن العوام لتغير وجه التاريخ، ولكنهم اختاروا ألينهم، ناظرين في اختياره إلى أن العرب كانوا قد سئموا حكم عمر في شدته وهراوته، وقد سار عثمان فعلا في السنين الست الأولى سيرة عادلة رحيمة، ولكنه في الست الأخيرة كانت قد كبرت سنه، وخضع لأقاربه من الأمويين، فترك تصريف الأمور لرئيسهم مروان بن الحكم الأموي، وهذا عين جميع الأمراء الرئيسيين من الأمويين، فأغضب ذلك كثيرا من الصحابة، وخصوصا عليا والزبير وطلحة وغيرهم، فأرادوا أول الأمر أن يحرروا الخلافة من هذه السلطنة، فنصحوا عثمان بالاعتزال فأبى، ولم تمض إلا فترة قصيرة حتى كان عثمان في المدينة وليس معه إلا نفر قليل من الأصدقاء، وكان من أكبر الشخصيات البارزة في محاربته وتأليبه الناس عليه عائشة بنت أبي بكر، واستطاع خصومه جميعا أن يثيروا الأمصار عليه، واجتمع أهل المدينة حول بيته، ورفضوا أن يتزحزحوا عنه، وثار المصريون أيضا لما علموا أن كتابا كتب باسم عثمان إلى عامله عبد الله بن أبي سرح يأمره فيه بالفتك بالزعماء عند عودتهم. وأخيرا تقدم رجل من المصريين فقتله، وطالب الثائرون بتسلم القاتل فلم يجابوا، وبويع بعده علي بن أبي طالب، وقام بطلب الثأر، وتسلم القتلة معاوية بن أبي سفيان، ووقع النزاع بينه وبين علي، واختار معاوية دمشق مركزا، وكان العرب من قديم يعرفون هذه البلاد وقد تعودوا الطاعة والخضوع للأمير والملك، وكان جيش معاوية أنظم وأطوع من جيش علي الذي كان أكثره عربا لا يلتزمون طاعة ولا يؤمنون بنظام، وأخيرا وبعد وقائع كثيرة هزم علي ثم قتل، واستتب الأمر لمعاوية.
وهنا نقف وقفة عند مقتل عثمان، فقد كان حادثة مروعة حقا، مؤثرة في حياة المسلمين فيما بعد أكبر تأثير، وقد توقع بعيدو النظر السوء في المستقبل من هذه الحادثة، وأكثر فيها الشعراء، قال حسان بن ثابت:
أتركتمو غزو الدروب وراءكم
وغزوتمونا عند قبر محمد
فلبئس هدي المسلمين هديتم
ولبئس أمر الفاجر المتعمد
وقال حباب بن يزيد الهاشمي:
لعمر أبيك فلا تجزعن
لقد ذهب الخير إلا قليلا
لقد سفه الناس في دينهم
وخلى ابن عفان شرا طويلا
أعاذل كل امرئ هالك
فسيري إلى الله سيرا جميلا
وكان من أهم ما نقم الناس على عثمان أن طلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد الأموي صلة، فأعطاه أربعمائة ألف درهم، وأعاد الحكم بن أبي العاص بعد أن نفاه رسول الله، وأعطاه مائة ألف درهم، وتصدق رسول الله بموضع سوق المدينة على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم، وأقطع مروان فدك، وقد كانت فاطمة طلبتها بعد وفاة أبيها، تارة بالميراث وتارة بالنحلة، فدفعت عنها. وحمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية، وأعطى عبد الله بن أبي السرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب، وهي من طرابلس إلى طنجة، من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين. وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف، وقد كان زوجه ابنته أم أبان. فجاء زيد بن أرقم صاحب المال بالمفاتيح، فوضعها بين يدي عثمان وبكى. فقال عثمان: أتبكي أن وصلت رحمي؟ قال: لا، ولكن أبكي؛ لأني أظنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله. والله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا. فقال: ألق المفاتيح؛ فإنا سنجد غيرك، وأتاه أبو موسى الأشعري بأموال كثيرة من العراق، فقسمها كلها في بني أمية، وزوج الحارث بن الحكم بنت عائشة فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا، ونفى أبا ذر - رحمه الله - إلى الربدة لمناهضته لمعاوية في الشام في كنز الذهب والفضة، وضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر أضلاعه، وعدل عن طريقة عمر في إقامة الحدود، ورد المظالم، وكف الأيدي العادية، والانتصاب لسياسة الرعية، وختم ذلك كله بما وجدوه من كتابه إلى عامله بمصر يأمره فيه بقتل قادة الثورة،
1
وقد أجاب بعض المعتزلة عن هذه المطاعن بأجوبة مشهورة، على أننا نرى أن هذه الأحداث لم تبلغ المبلغ الذي يستباح به دمه، وكان يكفي أن يخلعوه من الخلافة ولا يعجلوا بقتله، وكما قال علي: «استأثر «عثمان» فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع.»
وقد أكبر الصحابة قتل عثمان؛ قال سعيد بن زيد: لو أن أحدا انقض للذي صنعتموه بعثمان لكان محقوقا أن ينقض. وقال عبد الله بن سلام: «لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب الفتنة، لا يغلق عنهم إلى قيام الساعة.» وقال ابن عباس: «لو اجتمع الناس على قتل عثمان لرموا بالحجارة من السماء.»
وقالوا إن زياد بن أبيه أوفد ابن حصين على معاوية، فخلا به ليلة، فقال له: يا ابن حصين قد بلغني أن عندك ذهنا وعقلا، فأخبرني عن شيء أسألك عنه، قال: سلني عما بدا لك. قال: أخبرني ما الذي شتت أمر المسلمين وملأهم وخالف بينهم؟ قال: نعم، قتل الناس عثمان. قال: ما صنعت شيئا. قال: فمسير علي إليك، وقتاله إياك. قال: ما صنعت شيئا. قال: فمسير طلحة والزبير وعائشة، وقتال علي إياهم. قال: ما صنعت شيئا. قال: ماعندي غير هذا يا أمير المؤمنين. قال: فأنا أخبرك: إنه لم يشتت بين المسلمين، ولا فرق أهواءهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر، وذلك أن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فعمل بما أمر الله به ثم قبضه الله إليه، وقدم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم؛ إذ رضيه رسول الله لأمر دينهم، فعمل بسنة رسول الله، وسار سيرته حتى قبضه الله، واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته، ثم جعلها شورى بين ستة نفر، فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك نفسه، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف.
والحق أن قتل الخليفة الثاني عمر، والخليفة الثالث عثمان، والخليفة الرابع علي فتح على الناس فيما بعد باب شر كبير، وهذه الحوادث - وخاصة قتل عثمان - مسئولة عن قتل بعض خلفاء بني أمية، وقتل كثير من خلفاء بني العباس، وقتل كثير من سلاطين المماليك، وهكذا. مع الخلاف بين قتل عمر وعلي، وقتل عثمان؛ لأن قتلهما كان حادثة فردية أو مؤامرة جزئية، أما مقتل عثمان فقد كان ثورة شعبية للأقطار الإسلامية.
زد على ذلك أن هذه الحادثة قسمت المسلمين إلى فرق أربع أو خمس، بعد أن كان أمرهم واحدا ودينهم واحدا، فافترقوا إلى فرق: شيعة عثمان، وشيعة علي، والمرجئة، ومن لزم الجماعة، والحرورية، فكان أهل الشام شيعة عثمان، وكذلك أهل البصرة، وقال أهل الشام: ليس أحد أولى بطلب دم عثمان من أسرة عثمان وقرابته، ولا أقوى على ذلك من معاوية، وقال أهل البصرة: ليس أحد أولى بطلب دم عثمان إلا طلحة والزبير؛ لأنهما أهل الشورى، وأما شيعة علي؛ فإنهم أهل الكوفة، وأما المرجئة؛ فهم الشكاك الذين شكوا وكانوا في المغازي، فلما قدموا المدينة بعد قتل عثمان كان عهدهم بالناس ورأيهم واحد، ليس بينهم اختلاف، فقالوا: تركناكم وأمركم واحد، ليس بينكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون؛ بعضكم يقول: قتل عثمان مظلوما، وكان أولى بالعدل وأصحابه، وبعضكم يقول: كان علي أولى بالحق، وأصحابه كلهم ثقة، وعندنا مصدق، فنحن لا نتبرأ منهما، ولا نلعنهما ولا نشهد عليهما ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون الله هو الذي يحكم بينهم، وأما من لزم الجماعة؛ فمنهم: سعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب الأنصاري، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، في عشرة آلاف من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والتابعين، قالوا جميعا: نتولى عثمان وعليا ولا نتبرأ منهما، ونشهد عليهما، وعلى شيعتهما بإلايمان، ونرجو لهم ونخاف عليهم، وأما الحرورية؛ فقالوا: نشهد على المرجئة بالصواب، ثم خلطوا بعد ذلك وكفروا كل من خالفهم.
وهكذا افترق المسلمون بعد أن كانوا مجتمعين بسبب قتل عثمان، ونمت هذه الفرق واختلفت فيما بعد، حتى بلغت نحو سبعين فرقة كلها تنتحل الدين، وكلها فرق دينية بعد أن كانت فرقا سياسية لمحض النزاع على الخلافة، يضاف إلى ذلك ما سببه هذا الحادث - من قيام طلحة والزبير لمغالبة علي ومنازعته بدعوة الطلب بدم عثمان - ومكن ذلك معاوية من الغلبة على الجميع. ولكن ما سبب هذه الفتنة؟ إن تعليل معاوية لهذه الفتنة هو أن عمر وكل الأمر إلى ستة نفر؛ فكل تمناها لنفسه وتمناها له قومه، ويعلل ذلك ابن خلدون في تاريخه بقوله: «لما استكمل الفتح، واستكمل للملة الملك، ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة والكوفة والشام ومصر، وكان المختصون بصحابة الرسول
صلى الله عليه وسلم
والاقتداء بهديه وآدابه المهاجرون والأنصار من قريش وأهل الحجاز ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم. وأما سائر العرب من بكر بن وائل، وعبد القيس، وسائر ربيعة، والأزد، وكندة، وتميم، وقضاعة، وغيرهم؛ فلم يكونوا من تلك الصحبة بمكان إلا قليلا منهم، وكانت لهم في الفتوحات قدم؛ فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السابقة ومعرفة حقهم. فلما انحسر ذلك العباب، وزاد العدد، واستفحل الملك كانت عروق الجاهلية تنبض، ووحدوا الرياسة عليهم للمجاهدين والأنصار من قريش وغيرهم، فأنفت نفوسهم منها، ووافق أيام عثمان فكانوا يظهرون الطعن في ولائه بالأمصار، والملاحظة لهم باللحظات، والخطرات، والاستبقاء عليهم في الطاعات، والتجني بسوء الاستبدال منهم، والعزل، والفيض في النكير على عثمان، وفشت المقالة في ذلك في أتباعهم وتنادوا بالظلم من الأمراء في جهاتهم، وانتهت الأخبار بذلك إلى الصحابة بالمدينة؛ فارتابوا لها، وأفاضوا في عزل عثمان، وحمله على عزل أمرائه، وبعثوا إلى الأمصار من يأتيهم بصحيح الخبر (ثم انتهى ذلك كله بقتل عثمان).
ومن رأي المرحوم الأستاذ عبد الحميد الزهراوي أن العرب كانت قبائل متفرقة متعادية، يأكل القوي منها الضعيف، فما لبثوا حتى اجتمعت كلمتهم، واتحدت وجهتهم، ولانت منهم قسوة. فلما مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يظهر أن القليلين من الذين كانوا لم يتخلوا عن المساوئ، ولم يتحلوا بالمحاسن قد صاروا كثيرين بدليل ما حدث من حروب الردة، وهذا يدعونا ألا نفسر الصحابة بالتفسير المشهور؛ وهو كل من رأى النبي وآمن به، بل نحن نفسر الصحابة بما تساعد عليه اللغة فهم الذين صحبوا النبي
صلى الله عليه وسلم
صحبة حقيقية يصح أن يطلق عليها لغة وعرفا اسم: «الصحابة»؛ فهؤلاء وأمثالهم هم الصحابة الحقيقيون، وهؤلاء وأمثالهم الثقات العدول، وأما أولئك الأعراب الذين كانوا يفدون عليه ولم يكونوا يلبثون عنده إلا عشية أو ضحاها؛ فيقال لهم مسلمون لمحمد، ولا يصح على هذا التفسير الحقيقي أن يقال إنهم صحابة، وإذا ثبت هذا فالاختلاف الذي جرى بين الصحابة لا شك أن جرثومته من فئة لم تأخذ بنصيب وافر من صحبة النبي، ولم تتضلع من التهذيب المحمدي. من هذا استنتج: (1)
أن القبائل البدوية كانت آلة بيد رجال من قريش، وأكثر أفرادها لم يكونوا قد رأوا النبي
صلى الله عليه وسلم
فضلا عن أن يصحبوه. (2)
والقبائل البدوية كانت متعادية في الجاهلية، ولما تآخت في الإسلام كان عرق العداوة يضرب في بعضها أحيانا؛ فكانت كل قبيلة تشايع رئيسا من رؤساء قريش، وتتمنى له الدولة؛ ابتغاء أن تتميز لديه على أعدائها الأقدمين. (3)
وهذه القبائل البدوية كان قد أضر بها جهد العيش، وكانت تتربص في البلاد التي افتتحتها أن تتضلع من نعيمها، وكانت تتحين أن تنقلب رتبة الخلافة التي معناها اقتفاء أثر النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى رتبة سلطنة وملك، ومعناها اقتفاء آثار الملوك الذين كانوا يعرفون سيرهم وسير كبرائهم في البذخ والاستئثار وتوارث المناصب بالأنساب والحيل لا بالمواهب والعمل.
إن الأمم العجمية من روم، وفرس، وسريان، وعبرانية، وغيرهم، من لم يدخل في الدين منهم لا ظاهرا ولا باطنا، ومن دخلوا فيه ظاهرا فقط كانوا لا يألون جهدا ببث الدسائس؛ ليهدموا ذلك المجد العربي الذي شادته تلك الدعوة المحمدية على أيدي أنصارها الحقيقيين ومن دخل فيه ظاهرا وباطنا، كانوا جهلاء بهذا، ولم ينتزع من قلبهم حب عادات سالفة لهم قومية أو دينية.
فاختل بعض الاختلال ذلك المحيط الذي كان بالأمس أصح محيط على وجه الأرض، ولم يكن اختلاله في أيام أبي بكر ولا عمر إلا طفيفا، وأما في أواخر خلافة عمر فاشتد ذلك المرض الذي حاق بذلك المحيط، وما برح يشتد فيما بعد حتى سقطت قبة الخلافة في أواخر أيام علي. ويرى ولهاوزن أن من أسباب الفتنة قلة ما كان يوزع على المحاربين من الفيء، ولم يعوض عن ذلك كثرة الغنائم في الفتوح؛ بحجة أن المال هو مال المسلمين لا مال الله. وقد ابتدع عمر هذه الفكرة لتقوية مال الحكومة، ولكن أحدا لم يثر عليه لشدته وحزمه، فلما استلانوا جانب عثمان كانت الفرصة سانحة للثورة ...
ويرى رفيق بك العظم أن المسلمين لم يتلافوا أمر هذه الفتنة لأمرين؛ الأول: عدم توفر الشورى والاختيار في البيعة؛ بحيث أخذت الخلافة شكلا ترك ثغرة كبرى للولوج إليها من طريق القوة والتغلب، فأوجد نزاعا مستمرا من أجلها في الأمة أفضى إلى مصير الأمر ليد الغالب، والغالب لا يتقيد بالشورى ولا يجاري رغائب الأمة بالضرورة. والثاني: اصطباغ الدولة منذ نشأتها بصيغة دينية مهدت السبيل لأولياء أمر الأمة بعد الخلفاء الراشدين للأخذ على أيدي الرعية وأفواهها باسم الدين، وجعل الحياة السياسية للأمة حياة دينية لا سبيل معها لنوابغ الأمة وعقلائها للتنقل بها في مدارج الرقي الطبيعي الذي تقتضيه حالة كل عصر، سواء كان في حياة الأمم السياسية، أو حياتها الاجتماعية، لا سيما بعد أن قالوا بحرمة الاجتهاد، ووقفوا عند حد محدود من الفروع. وهذا ما جعل ذلك الضعف الكامن ينمو في جسم الأمة نموا جعلها تأنس بحياة السكون والاستسلام، وتعطي أزمتها إلى الأمراء والحكام حتى في عصر زال فيه الاعتقاد بوجوب الطاعة العمياء للأمراء وجوبا دينيا.
ومع هذا الخلاف الشديد بين المسلمين؛ فقد استطاع معاوية وأهل بيته من الأمويين أن يقضوا على هذه الخلافات بشتى الوسائل، ويؤسسوا إمبراطورية من أوسع الإمبراطوريات، تعلو فيها مآذن المساجد في الهواء، ويؤذن المؤذنون فيملئون الجو بأذانهم، وبذلك اتسعت رقعة العالم الإسلامي، فاستولوا على أكثر الأندلس، وفتحوا عددا من المدن في جنوبي فرنسا، وفي تمام المائة سنة بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
كان العرب يحكمون مملكة واسعة أكبر من المملكة الرومانية، تمتد من حدود الصين إلى شلالات النيل السفلى، ومن الجنوب الغربي في أوروبا حتى غربي آسيا وأواسطها، وعاصمة هذه المملكة دمشق. كما استطاعوا أن يغيروا أكبر مظهرين من مظاهر المملكة، وهما: تحويل الدواوين إلى عربية، وتخلصهم من الدخلاء الذين كانوا يضطرون إليهم في تدوين الدواوين. والثاني صك النقود. وقد ظلوا طوال هذه العهود يتعاملون بالنقود الرومانية والفارسية، فلما اطمأنوا واتسع ملكهم بدءوا يصكون نقودهم بأنفسهم، وبذلك أصبحت هذه المملكة الواسعة مملكة بمعنى الكلمة، وقد بلغت هذه المملكة أقصى سعتها في هذا العصر الأموي ثم أخذت تنشق قليلا قليلا في العصر العباسي وفيما بعد ذلك من عصور.
وبمعاوية انتقل الأمر من خلافة إلى ملك عضود. والفرق بينهما أن الخلافة أساسها اقتفاء أثر الرسول
صلى الله عليه وسلم ، والاعتماد في حل المشاكل على شورى أهل الحل والعقد، واختيار الخليفة منهم حسب ما يرون أنه الأصلح. أما الملك فيشبه الملوك الأقدمين من فرس وروم، واستبداد بالرأي، وقصر الخلافة على الأبناء أو الأقرباء ولو لم يكونوا صالحين لذلك، وهذا كله ما فعله معاوية. ونموذج الخلافة ما قاله الأعرابي لعمر: «لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا» ونموذج الملك ما قاله عبد الملك بن مروان: «من قال بلسانه هكذا قلنا بسيفنا هكذا.» والحق أن معاوية ساد الناس بالغلبة لا بالاختيار، ثم استبد بتسيير الأمور.
ثم عهد بالخلافة إلى ابنه يزيد ولو لم يكن أكفأ الناس، ثم ساس الناس سياسة ميكيافيلية استبدادية لا عهد للناس بها من قبل، وجرى المسلمون بعد ذلك على أثره من بيت عباسي بعد بيت أموي وهكذا. وضاع معنى الخلافة التي سار عليها الخلفاء الراشدون، كما ضاع معنى العدل الذي تشدد الإسلام في العمل والتعامل به، وأصبح الأمر أمر سياسة حسبما تتطلبه الغلبة، لا عدل حسبما يتطلبه الإسلام.
فلما جاء يزيد خرج الحسين بن علي عليه، واشتد الخلاف بينهما، وانتهى الأمر بقتل الحسين، وما كان يظن أن القوم يجرءون على قتله، وهو سبط رسول الله، وكان قتله فاتحة شر كبير على الإسلام؛ فقد قسم المسلمين: شيعة يلتهبون عاطفة لأهل البيت، وسنية يرونهم خارجين على سياستهم يستحقون عليها التأديب والقتل، وبكى المسلمون الحسين، ولا يزالون يبكونه ويتألمون بفجيعته إلى اليوم. وتعقد الشيعة في العاشر من المحرم اجتماعات مؤثرة فيضربون صدورهم بأيديهم وبالسلاسل، ويشجون رءوسهم بالحديد، فيهلك بعضهم. ومن ذلك الحين كان الشيعة ينصبون عليهم إماما من أهل البيت، والأمويون والعباسيون ينصبون عليهم خليفة من البيت الأموي أو العباسي، وكل يرى أنه أحق بالأمر، ويكون بين الإمامين صراع ينتهي بقتل الإمام الشيعي. وحسبك دليلا على شدة هذا الصراع أن الأمويين قتلوا في عهدهم ستة وثلاثين من أهل البيت. وسار العباسيون سيرتهم ففي عهد السفاح والمنصور قتل تسعة عشر رجلا من أهل البيت، وقد جمع أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الكبير «مقاتل الطالبين» - الذي يبلغ نحو ثمانمائة وخمسين صفحة - أسماء من قتلوا من غير ذكر لتاريخهم، ولم يكن ذلك إلا إلى عهده، وقد توفي سنة 356. وبعد قليل من مقتل الحسين كانت المأساة الأخرى، وهي قتل عبد الله بن الزبير في عهد عبد الملك بن مروان، ولم يمض على وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلا ثلاث وستون سنة، وولى عبد الملك الحجاج لمقاتلة ابن الزبير، فاستأذن في نصب المنجنيق على الكعبة، فنفر أخيارها، وهتك أستارها، ورمى أحجارها، وقال الشاعر:
خرجنا لبيت الله نرمي ستوره
وأحجاره، زفن الولائد في العرس
دلفنا له يوم الثلاثاء من منى
بجيش كصدر الفيل ليس بذى رأس
وكانت حادثة فظيعة؛ إذ جرؤ فيها الحجاج وجنده على رمي الكعبة بالمنجنيق، وكانت مقدسة مهيبة حتى قبل الإسلام، فكان الناس يتعجبون من الحجاج، ويقولون: «خذل في دينه.» ولما رمى الكعبة بالمنجنيق ارتجت ووهنت، وارتفعت سحابة ذات برق ورعد فسقطت صاعقة على المنجنيق وأحرقته، وقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا، فذعر أهل الشام من ذلك، وكفوا عن القتال، فقال الحجاج: أنا ابن تهامة، وهي بلاد كثيرة الصواعق فلا يروعنكم ما ترون؛ فإن من قبلكم كانوا إذا قربوا قربانا بعثت نار فأكلته، فيكون ذلك علامة تقبل القربان . وأتى بمنجنيق آخر وعاود الرمي، وفي ذلك قال ابن الزبير الأسدي:
أيها العائذ في مكة كم
من دم أجريته في غير دم
إنه عائذة معصمة
وبه يقتل من جاء الحرم
واستمر في قتاله ورميه الكعبة حتى قتل ابن الزبير؛ إذ أصابته جراح فمات منها بعد أيام، وحمل رأسه إلى الحجاج، ثم إلى عبد الملك، وصلب جسمه في مكة، ولما مر عبد الله بن عمر بجسمه قال: «رحمك الله أبا خبيب؛ فقد كنت صواما قواما، ولكنك رفعت الدنيا فوق قدرها، وأعظمتها ولم تكن لذلك بأهل.» ثم إن الحجاج دخل المسجد ولم شعثه، وجمع أشلاء القتلى، وغسل دمه.
وكان مما أخذ على الحجاج أنه كان ينوي أشد من ذلك، فلما خرج من مكة إلى المدينة قال: «الحمد لله الذي أخرجني من أم الفتن، أهلها أخبث أهل، ولولا ما كان يأتيني من كتب أمير المؤمنين فيهم لجعلتها مثل جوف الحمار أعوادا يعودون بها ورمة قد بليت، يغولون منبر رسول الله وقبر رسول الله.» وانتهت المأساة بالجرأة على الكعبة بعد تقديسها، وانتهاك المسجد الحرام، والشهر الحرام، والبلد الحرام، وتزلزل الدين في نفوس المسلمين.
وكان من رجالات الدولة الأموية عبد الملك بن مروان، وكان شديدا قويا، استطاع أن يقضي على الخلافات، وحكم بلاده حكما مطلقا، ودعا إلى بلاطه الأخطل الشاعر النصراني من قبيلة تغلب.
وفي عهد ابنه الوليد اتسعت الفتوح التي حصلت على يد قتيبة بن مسلم، فقد فتح فتوحا واسعة فيما وراء النهر، واجتاز العرب في الغرب في عهد الوليد جبل طارق، واستطاع أن يتخلص من النصارى الذين كانوا يحتكرون الأعمال الإدارية في الدولة، مثل: أسرة سرحون بن منصور التي كانت تسيطر على الشئون المالية من عهد معاوية إلى عهده، وبنى الجامع الأموي في دمشق؛ إذ كان المسلمون إلى ذلك الحين يكتفون بمسجد صغير متواضع، وعظمت في أيامه ثورة الخوارج، وثورة ابن الأشعث، وقاتلهم الحجاج حتى أخضعهم. ومن رجالات الأمويين أيضا عمر بن عبد العزيز، وكان أمة وحده، خالف الأمويين في نزعتهم واستبدادهم، فأحاط نفسه بفقهاء متضلعين في الإسلام يستشيرهم، ويعمل برأيهم، وكانت أمه تنسب إلى عمر بن الخطاب فسمته عمر، وكان يعتز بهذا النسب ويشرئب أن يسير سيرته في العدل، فلما بدأ خلافته رأى أن الإصلاح الداخلي للبلاد التي دخلت في الإسلام خير من الاستزادة في الفتوح، ولذلك أمر قواده بالتراجع، واستمال العلويين الذين كانوا مضطهدين أشد الاضطهاد من الأمويين، وصالحهم وأبطل سب علي الذي كان يجري على المنابر يوم الجمعة باستمرار، ورد إليهم بلدة فدك التي احتفظ بها النبي لنفسه في حياته، ولم يورثها أبو بكر وعمر فاطمة بنت النبي؛ استنادا على حديث: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة.»
كذلك استمال النصارى فعوضهم عن كنيسة القديس يوحنا في دمشق، التي كان الوليد وضع يده عليها، بكنيسة القديس توما في الغوطة، بعد أن كانت قد حولت إلى جامع، وخفف من الجزية المفروضة على النصارى في قبرص وأيلة، وعامل الموالي المسلمين معاملة العرب المسلمين؛ فرفع عنهم الجزية التي كان قد فرضها عليهم عمر بن الخطاب، وسمح للمسلمين أن يتملكوا الأراضي في البلاد المفتوحة، بعد أن كان عمر بن الخطاب أبى تمليكهم إياها، وجعلها ملكا للحكومة وهكذا؛ مما يدل على أن عمر بن عبد العزيز ليس مجرد مسلم صوفي متأله كما يدعي بعض المستشرقين، بل هو مسلم يعرف دقائق الأمور، ويواجه بهمة مشاكل الإصلاح، ولكن مع الأسف لم تطل مدته فمات. فخلفه يزيد الثاني ثالث أبناء عبد الملك، والروايات الإسلامية تصوره رجلا مستهترا، انغمس في اللهو والموسيقى، وشغلته القينات والمغنيات، وترك أمور الدولة، ومهامها إلى عملائه وأمراء الأقطار. وقد أسرف العباسيون في نسبة هذه الأمور إليه مع أن تاريخه كان حافلا بالأعمال الجدية الصالحة، فأصلح ديوان القبائل في مصر، وحاول أن يزيل المظالم التي كانت في عهد من قبله، وعامل النصارى معاملة قاسية غير التي عاملهم بها عمر بن عبد العزيز، فاستولى على كثير من كنائسهم، وحطم بعض تماثيلهم ... إلخ.
ومن أساطين الأمويين هشام بن عبد الملك، وقد ساعده على تنظيم الدولة والأخذ بزمامها خالد بن عبد الله القسري، الذي كان لهشام كما كان الحجاج لعبد الملك، وزياد بن أبيه لمعاوية من قبل.
وفي عهد هشام اندفع العرب في بلاد الغرب يتقدمون في الفتوح، فاستمرت الحرب تفتح في أوروبا إلى أن اصطدم بشارل مارتل بين تور وبواتيه في فرنسا سنة 732. وكان يعاب على هشام بخله وحمله ولاته على ابتزاز الأموال، وزيادة الخراج المفروض على نصارى قبرص، ومضاعفة الخراج المفروض على نصارى مصر مما أغضب الأهالي. وكان آخرهم مروان بن محمد الذي يلقب بمروان الحمار؛ لصبره ومقدرته على الاحتمال، وكان أميرا عظيما لولا أنه جاء والدنيا مدبرة. وحكم الأمويون البلاد حكما قبليا عربيا؛ فكانوا يقربون بعض القبائل، وينكلون بالأخرى، وولاتهم مثلهم.
وفي هذا العصر اشتد التمازج بين النزعة العربية والنزعة الإسلامية من جهة وتقاليد الأمم المفتوحة كمصر وفارس، فكانت العادات القديمة ينظر إليها بعين الإسلام، فما وافق منها قبلت وإلا رفضت، فانبثت بين المصريين مثلا عادات كثيرة رومانية، وانبث في العراق عادات كثيرة فارسية، حتى الفقهاء أنفسهم كالشافعي في مصر، والأوزاعي في بيروت، وأبي حنيفة في العراق تأثروا بالقوانين الرومانية والفارسية التي كانت معروفة قبل الإسلام في تلك البلاد.
وأخيرا سقطت الدولة الأموية فكان سقوطها عبرة للمسلمين، ولعل من أهم أسباب سقوطها أنه على أثر قتل يزيد بن معاوية للحسين طويت قلوب الشيعة على الإحن، وودوا لو أتيحت فرصة للخروج على الأمويين، وظلوا يعملون في الخفاء في بذر الدسائس والمؤامرات، فانتشرت الدعوة ضد الأمويين انتشارا عجيبا، وكان مما زاد كرههم قصر الأمويين من عهد معاوية الخلافة وتولية العمل عليهم وعلى من يلوذ بهم.
والأمويون اعتبروا أنفسهم غاصبين للخلافة، فلم يتمكنوا منها إلا بالقوة والقسر، والغاصب دائما خائف، والمغصوب دائما يسترعي عواطف الناس، حتى في أيامنا هذه إذا اضطهد رجال السياسة أحدا حباه الرأي العام بعطفه. فاضطر ذلك الأمويين إلى التجسس على العلويين، وإرهابهم، والتنكيل بهم، وهذا ما جعل عبد الملك بن مروان يستعمل منتهى القسوة في إخماد هذه الفتن، ويده اليمنى في ذلك الحجاج ، وتنسب إليه الخطبة التي يقول فيها: «ألا وإني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف، حتى تستقيم لي قناتكم. تكلفوننا أعمال المهاجرين ولا تعملون مثل أعمالهم، فلا تزدادوا إلا عقوبة حتى يحكم السيف بيننا وبينكم. هذا عمرو بن سعيد قرابته قرابته وموضعه موضعه، قال برأسه هكذا فقلنا بأسيافنا هكذا. ألا وإنا نحمل منكم كل شيء إلا وثوبا على أمير أو نصب راية. ألا وإن الجامعة «الغل» التي جعلتها في عنق عمرو بن سعيد عندي. والله لا يفعل أحد فعله إلا جعلتها في عنقه. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه.» ولئن شك بعض الرواة في هذه الخطبة؛ فإنها تعبر تعبيرا صادقا عن عبد الملك، ثم إن أقارب الحسين ونسله الذين كانوا أطفالا أيام مقتل الحسين قد كبروا فيما بعد، وصاروا رجالا قادرين على العمل ضد الدولة الأموية إما بأيديهم، أو بدسهم، أو بقلبهم.
وسبب آخر في سقوط الدولة الأموية وهو أن بني أمية لم يرعوا جانب رجالهم العظام؛ فاستغلوهم ثم سجنوهم أو أهلكوهم؛ فموسى بن نصير فاتح الأندلس، وخالد بن عبد الله القسري، ويزيد بن المهلب، وقتيبة بن مسلم، وأمثالهم كلهم كانوا رجالا عظاما، وخدموا الدولة خدمة كبرى، وكانوا أحق بالتبجيل والتعظيم، ولو كانوا في أوروبا اليوم لأقيمت لهم التماثيل وأشيد بذكرهم كل الإشادة، ولكننا نرى موسى بن نصير قد زج به في السجن، ثم مات أشنع موتة، ويزيد بن المهلب نكل به، وقتيبة بن مسلم فاتح ما وراء النهر لم يكافأ على عمله أية مكافأة، بل عذب وأهين، وهذه الأعمال وأمثالها تضعف من نفس المستعدين للنبوغ والعمل الباهر؛ فإذا وجدوا غيرهم من النابغين قد كوفئوا شر مكافأة فت ذلك في عضدهم.
وسبب ثالث، وهو أن المملكة الإسلامية في العهد الأموي قد اتسعت رقعتها كثيرا، فكان من الصعب ضبطها وحسن إدارتها، فتخلخلت إدارتها، ولم يكن كثير من الولاة من الخلفاء بالعظمة التي يستطيعون بها وضع هذه الرقعة الواسعة في أيديهم؛ فدب فيها الفساد.
وسبب رابع ، وهو أن الخلفاء - كما روي عنهم - مالوا إلى الترف والنعيم ميلا ازداد بالتدريج مع الأيام، فبعضهم في أول أمره أباح شرب الخمر في مجلسه، ثم تطور الأمر إلى أن يشربوها هم أنفسهم.
وكان الشعر الأموي سجلا لما كان هنالك من أحداث. فالأحقاد القبلية قد عادت واتخذت أشكالا جديدة أكثر عنفا، وكان الصراع بين قيس وكلب قد اشتد طوال عشرات السنين، فظهر ذلك في العصر الأموي. وكان شاعر البلاط وهو الأخطل يختصم مع منافسيه جرير والفرزدق في الهجاء المقذع، وانقسم الشعراء إلى الفرق السياسية، كما افترق الناس؛ فكان عبد الله بن قيس الرقيات شاعر عبد الله بن الزبير، والكميت كان يناضل عن حق آل النبي في الخلافة.
وبعد أن كان التشبيب بالنساء مقصورا على مقدمات القصائد ظهر عمر بن أبي ربيعة في مكة في عهد عبد الملك يضع القصائد الطويلة في الغزل، وجعلها وقفا على التغزل بمليحات النساء، وخصوصا الحاجات منهن من غير إعلان للجوى ولوعة الفراق كما كان الشأن عند الجاهلين. وأمعن أهل مكة والمدينة في الترف لما نحوا عن السياسة، وفتح الوليد الثاني الخليفة في دمشق بابا جديدا في الشعر العربي وهو القصيدة الخمرية، نعم كان الأعشى يقول في الخمر ولكن لم يبلغ ما بلغه الوليد، فإن قلنا إن الوليد الثاني مخترع فن الخمر في الإسلام حقا - وهو الفن الذي نما وازدهر في ظل العباسيين - لم نبعد. وكان إمامه في ذلك عدي بن زيد النصراني الذي لمع نجمه في آخر عهد المناذرة في الحيرة، وأسرف الوليد في الخمر والنساء، وترف الحياة ونعيمها، وأنفق كل ما كنزه هشام من المال، فشدد على الولاة والعمال في إرسال الأموال لإرواء شهواته، ثم أخيرا قتل في يوم كيوم عثمان، وفي يده مصحف كمصحف عثمان.
وقد اتخذ الأمويون جميعا الشعراء كما تتخذ الأحزاب اليوم الجرائد والمجلات للدعاية لها والذود عنها، فاتخذ معاوية الأخطل، وكان هوى جرير في آل الزبير فاستقدمه الحجاج، وأكرم وفادته واستماله بإحسانه إليه، فمدحه بقصائد عدة، ثم وفد جرير على عبد الملك فأنشده القصيدة المشهورة في مدح بني أمية، وهي التي يقول فيها:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
وكان هوى الفرزدق مع علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقال فيه:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
وكان هوى نصيب الشاعر الأسود مع بني أمية خصوصا عبد العزيز بن مروان وهشام بن عبد الملك، وقد أحبه عبد العزيز فابتاعه ثم أعتقه. وكان من أشد الناس تعصبا للبيت العلوي كثير عزة، وقد غالى في التشيع، وذهب مذهب الكيسانية، وقال بالرجعة والتناسخ، وصرح بمذهبه وجادل فيه خصومه، ومع ذلك لم يضطهده الأمويون، بل عاملوه معاملة حسنة وأجلوه حتى لا ينالهم أذاه.
وإلى جانب الشعر كان الغناء في الحجاز، وكانت الحجاز تصدر المغنين والمغنيات لقصور الخلفاء، ومن أولهم معاوية، كان يهوى سماع حكمة الشعر تصدر مع جمال الألحان. وذكر صاحب العقد أن بديحا المغني غناه شعرا في فتاة كانت تتولى خضابه فقال:
أليس عندك شكر للتي جعلت
ما ابيض من قائمات الشعر كالحمم
وجددت منك ما قد كان أخلفه
صرف الزمان وطول الدهر والقدم
فطرب معاوية طربا شديدا وقال كل كريم طروب. واشتهر من المغنيات في العصر الأموي سلامة القس، وقد أخذت أصول الغناء عن معبد وابن عائشة وجميلة، وسميت بسلامة القس؛ لأن عبد الرحمن بن أبي عمار الخثعمي - أحد قراء المدينة - شغف بها، وكان يلقب بالقس لتقاه وورعه، وقد اشتراها يزيد بن عبد الملك حينما وفد إلى المدينة. وعرف بالمهارة في الغناء طويس المغني، وكان يجيد النقر على الدف، وكان يميل لمجالسته والاستماع لإنشاده أبان بن عثمان حاكم المدينة.
واتخذ الخلفاء مجالس السمر يتحدثون فيها عن الأدب، ويحضرها نخبة من كبار الشعراء، وكانت هذه المجالس عارية عن الشراب أولا، ثم أباحوها ثم شربوها، واجتمع الشعراء بباب معاوية وباب الحجاج، وغيره من الخلفاء والولاة والقواد وهكذا من كثير مما لا يعرفه الإسلام.
كل هذه الأسباب تجمعت وكانت سببا في سقوط الدولة الأموية وقيام العباسيين بعدهم ينكلون بهم ويفتكون بكل من عثروا عليه منهم.
وكان من رجالات الدولة العباسية أبو جعفر المنصور، وهو يشبه معاوية في الدولة الأموية، قوي، حازم، وعلى يده تأسست الدولة، ثم هارون الرشيد، وقد كان حاد العاطفة متقلبها: تتحرك عاطفته الدينية فيكثر الصلاة، ويحج ماشيا، ثم تثور عاطفة الشهوية فيشرب ويمعن في الشراب ويحظى بالجواري الحسان. وربما عرفت أوروبا الإسلام عن طريقه، وتصورته من صورته، بل ربما تصورت العالم الشرقي كله ممثلا فيه وفي ألف ليلة وليلة الذي اشتهر صيته بينهم، وفيه صور كثيرة لا يرضى عنها الإسلام. ووزراؤه البرامكة كانوا كزياد بن أبيه والحجاج في الدولة الأموية، إلا أن زيادا والحجاج نزعتهما عربية والبرامكة كانت نزعتهم فارسية؛ فهم من أصل فارسي وثني يعبد النار، فقد استعمل فيهم أيضا عاطفته، فمكن لهم في الأرض حتى كانت لهم كل السلطة، ثم غضب عليهم فقتل منهم جعفرا وبعض أشياعه، فصلبه بعد أن حز رأسه. ثم كان خلفه المأمون، وقد كان له عقل واسع حمله أن يخدم الثقافة من طريقة اهتمامه الشخصي بالعلوم اليونانية خلال العشرين سنة التي حكمها، فكان يشتري الكتب اليونانية حيثما اتفق، ويشجع على ترجمتها ثم التأليف منها، وحاول أن يجمع في مكتبته التي في بلاطه والتي ببيت الحكمة كنوز العلوم اليونانية والفارسية والهندية، وعني بالعلوم الرياضية، ومنها علم الفلك، فترجمت له مصنفات أقليدس، ونقلت كتب بطليموس في الفلك وتصويره للأرض، وقد أمر المأمون بمراجعة جداول بطليموس هذا وأصلح منها، وكان ذا شغف بالمناظرات الكلامية - كما حكت لنا كتب الجدل - فهو يقرب المتكلمين إليه، ويدخل في الجدل معهم كما كان أبوه الرشيد يقرب الشعراء، وأيد المعتزلة ونصرهم على أهل السنة. ولما أمعن الفقهاء في شكل العبادات دون روحها، واخترعوا العلل في الهروب منها أمعن الصوفية في تقديم الجانب الروحي للعبادات، وفشا التصوف، حتى ظهر الحلاج يدعو إلى وحدة الوجود، فأفتى العلماء بقتله فقتل، ولكن قتله كان إحياء؛ فانتشرت الفكرة، وكثر التصوف وفر أتباعه إلى خراسان حيث ظهر فيما بعد الشعر الصوفي الفارسي والتركي. وكان على رأس هؤلاء جلال الدين الرومي، الذي وضع كتاب المثنوي، على نظرية الحلاج في وحدة الوجود، وكان ذا أثر كبير عند الفرس والأتراك حتى عدوه القرآن الثاني، وكان أساسا لطريقة المولوية التي كثر أتباعها بين الفرس والأتراك.
وسار العباسيون سيرة الأمويين؛ من عصبية لبيت العباس ضد البيت الأموي، ومن فتك بالأمويين، وقتل كل من ظهر من الطالبيين، ولئن كان المثل الأعلى للخلفاء الأمويين هم الغساسنة، والمناذرة، ورؤساء القبائل في الجاهلية والإسلام؛ فقد كان المثل الأعلى للعباسيين هم الأكاسرة؛ ولذلك نقلوا العاصمة من دمشق إلى بغداد التي أسسوها في العراق، وكان البرامكة لهم كوزراء الفرس؛ إذ كانوا من أصل فارسي كهنوتي في نوبهار إحدى الصوامع البوذية في بلخ، وقد زعم بعضهم فيما بعد أن هذه الأسرة كانت من كهنة الفرس عبدة النار.
وكان اتساع المملكة الإسلامية في العهد العباسي سببا في تمزيقها إربا؛ فخرج كثير من الولايات عنها، ولم تعد الوحدة الإسلامية كما كانت، فتوالت الانتقاضات على عمل الخليفة، فانفصلت تونس والأندلس وابن طولون في مصر ... إلخ.
وتبع نشوء الولايات انحلال الخلافة على يد الأتراك، واستمرت عوامل الانحلال على توالى الأيام. وكان الإسلام في الأندلس وشمالي إفريقية كالإسلام في الشرق؛ عصبية لا تزال تثير القبائل إلى الحروب، غير أن عدو الشرقيين من الفرس والأتراك، وعدو الإسبانيين المسلمين من النصارى والمولدين، كانوا يثيرون الاضطرابات والفتن من حين إلى آخر، ولذلك ما لبثت الأمة الإسلامية أن ضعفت بعد القوة، فالموحدون الذين ضموا في ملكهم الأندلس وإفريقية كلها إلى تخوم مصر، وكانت مملكة واسعة لم تجتمع لأي من الدول الإسلامية من قبل ما لبثت أن أصابها الانحلال بسبب العوامل التي ذكرناها، وانتهى الأمر بطردهم على يد الإسبان من الأندلس.
وأحاط العباسيون الخلافة بنوع من التقديس الديني على النمط الفارسي، وشجعوا من الشعراء من أشاد بذكرهم، وأعلن أحقيتهم بالخلافة، وبذلوا العطاء لهم دون غيرهم. ويقول بعض المستشرقين: إن مبدأ انهيار المملكة الإسلامية كان على عهد الرشيد، والسبب في ذلك - على ما يظهر - أن الدولة الأموية قامت على العصبية العربية، فلما جاءت الدولة العباسية أذلت العصبية العربية، وأعلت شأن العصبية الفارسية، وخاصة لما أعطيت السلطة للبرامكة في عهد الرشيد. فلما جاء المعتصم أضعف العصبية العربية والفارسية معا بجلبه الأتراك والتعصب لهم، ورأى الأتراك أن سلطان الخلفاء يحارب العصبيات فخافوا على أنفسهم وأذلوهم، فمنهم من قتلوه ومنهم من سملوا عينيه حتى ضعفت الخلافة وزالت من الوجود. وإنما تحمل الرشيد هذه المسئولية؛ لأنه على يديه ويد ابنه المأمون كانت تقوية الفرس على العرب.
وكان أثر كثرة الفتوح وامتزاج العرب بالفرس وغيرهم من أهل الديانات الأخرى أن وجدت طائفة لا تفقه حقيقة الإسلام، وتريد أن ترجع دينها السابق فسمي هؤلاء الأخيرون «زنادقة». واجتهدت الدولة حفظا على عقيدة الإسلام أن تقتل وتسرف في القتل، وظهر ذلك أثناء القرن الأول الإسلامي، ثم بلغ ذروته في القرن الثاني؛ حيث كان مبدأ ظهور الدولة العباسية، وكان بطل هذا الميدان الخليفة المهدي ثالث الخلفاء العباسيين، وانتهز هذه الفرصة لمحاربة التعصب الفارسي والشعوبية. وبلغ منه أن قتل في وقعة واحدة مئات، وأحرق كتبهم، وكانت تدعو إلى مذهب ماني الذي يسمى أتباعه بالمانوية، وكان أكثر الزنادقة من أصل فارسي يتعصب للفرس، وقد سمى أبو جعفر المنصور ابنه محمدا بالمهدي؛ لإيهام الناس أنه المهدي المنتظر الذي يزعمه الشيعة، فتشدد المهدي في تقصي الزندقة والعقوبة عليها؛ زعما بأنه يرجع إلى عقيدة الإسلام الأولى وسيرة السلف، وقتل من أجل ذلك كثيرين، منهم: بشار بن برد، وصالح بن عبد القدوس، وغيرهما، وتسلح المهدي بهذا السلاح ليقتص من أعداء العباسيين، والموالين للأمويين بحجة الزندقة؛ كسبا للرأي العام فكان في ذلك إضعاف للإسلام، كما اتهم أكبر الناس عقلا، وأكثرهم حرية، وأصحهم تفكيرا بمثل ذلك، كعبد الله بن المقفع وأضرابه، وصارت الدولة تحارب كل من اتسم بحرية في الفكر، وذكاء في العقل، وطلب إصلاح للخليفة أو الدولة مما أضر الإسلام ضررا بليغا.
وأسرفوا في الترف والنعيم، وشرب الخمر، والنساء؛ تبعا للحالة الاجتماعية في زمنهم، وكان يمثل هذه الحالة تمثيلا صادقا بشار بن برد، ولذلك عد مجددا، وقرن بالمهلهل وامرئ القيس والنابغة الذبياني والأعشى وعمر بن أبي ربيعة. فأما المهلهل؛ فهو أول من هلهل الشعر أي رققه وحسنه، وأما امرؤ القيس فقد ابتكر التشبيهات البديعة، ووصف مجالسه مع النساء، وأما النابغة فقد ذكر أنه مخترع الاعتذارات، ووصف مجالس الملوك، وأما عمر بن أبي ربيعة فقد ابتكر وصف أحوال النساء في مجالسهن، وأما بشار فقد جدد الشعر مراعاة لزمنه مع جزالة ألفاظه ومتانة لغته، وذكره مفاخر القبائل وأيامها وانتصارتها، وهو مجدد أيضا لأنه ملأ شعره بالمعاني الجديدة، والعادات الحضرية من نسيب رقيق، وخمريات، وزهريات، وهجاء مقذع مع بعض العناية بالمحسنات اللفظية والمعاني العلمية. وقد سن ذلك كله للمولدين فقلدوه، ولكنهم لم يبلغوا شأوه، بل كل منهم اقتصر على ناحية واحدة من نواحيه؛ فسلم الخاسر وأبو نواس في جزالته، ومسلم بن الوليد في نسائياته، وأبو تمام في معانيه.
ثم أتى أبو نواس فتوسع في باب النساء والخمر بما لم يسبق إليه، وابتكر فن الغزل بالمذكر، فكان هذا كله خروجا على نمط الإسلام وتعاليمه في العفة وضبط النفس. وجرى الشعراء على أثره فقلدوه في غزله بالمذكر، حتى الفقهاء والصالحون، وقلده الصوفية حتى في خمرياته، وهذه نزعة جديدة لا يقرها الإسلام.
وقسم العباسيون بسياستهم الناس إلى أغنياء مترفين، وفقراء مدقعين، ولاهين لهوا تاما، وجادين جدا تاما ليحصلوا على قوتهم، فنرى نظام الطبقات واضحا كل الوضوح، فجنة ونار، ونعيم مفرط وبؤس مفرط، وإمعان في الترف للخلفاء والأمراء، ومن يلوذ بهم من الأدباء والعلماء، وبعض التجار، وإمعان في البؤس والفقر والشقاء لأكثر الناس. وحتى أغنى الأغنياء في كثير من الأحيان لم يكن محصنا بالأمان، بل هو عرضة لغضب الخلفاء والأمراء، فهم يصادرون في أموالهم، فقصور الخلفاء والأمراء وأمثالهم واسعة كل السعة، مترفة كل الترف، فابن المعتز يصف في ديوانه بنية للخليفة المعتضد اسمها «الثريا» فيقول:
حللت الثريا خير دار ومنزل
فلا زال معمورا وبورك من قصر
فليس له فيما بنى الناس مشبه
ولا ما بناه الجن في سالف الدهر
إلى أن يقول:
جنان وأشجار تلاقت غصونها
فأورقن بالأثمار والورق الخضر
ترى الطير في أغصانهن هواتفا
تنقل من وكر لهن إلى وكر
إلى أن يقول:
وبنيان قصر قد علت شرفاته
كصف نساء قد تربعن في الأزر
وأنهار ماء كالسلاسل فجرت
لترضع أولاد الرياحين والزهر
وميدان وحش تركض الخيل وسطه
فيؤخذ منها ما يشاء على قدر
عطايا إله منعم كان عالما
بأنك أوفى الناس فيهن بالشكر
وقد وصف الخطيب البغدادي قصر المقتدر بالله الذي تولى من سنة 295-320ه بمناسبة زيارة رسول الروم له قال: «إنه كان للمقتدر أحد عشر ألف خادم خصي من صقلبي ورومي وأسود، وهذا جنس واحد ممن تضمه الدار، فدع الغلمان الحجرية والحواشي من الفحول، وقد أمر المقتدر أن يطاف بالرسول في الدار، وفتحت الخزائن والآلات فيها مرتبة كما يفعل بخزائن العروس، وقد علقت الستور ونظمت جواهر الخلافة في قلايات على درج وشيت بالديباج الأسود. ولما دخل الرسول إلى دار الشجرة ورآها كثر تعجبه منها، وكانت شجرة من الفضة وزنها خمسمائة ألف درهم عليها أطيار مصنوعة من الفضة تصفر بحركات قد جعلت لها، فكان تعجب الرسول من ذلك أكثر من تعجبه من جميع ما شاهده، وكان عدد ما علق في القصور من الستور الديباج المذهبة بالطرز الذهبية الجليلة المصورة بالجامات والفيلة والخيل والجمال والسباع والطرد والستور الكبيرة البضغائية والأرمينية والواسطية والبهنسية السواذج المنقوشة والديبقية المطرزة 38 ألف ستر ... وأدخل رسل صاحب الروم إلى الدار المعروفة بخان الخيل، وهي دار أكثرها أروقة بأساطين رخام، وكان فيها من الجانب الأيمن خمسمائة فرس، عليها خمسمائة مركب ذهبا وفضة بغير أغشية، ومن الجانب الأيسر خمسمائة فرس عليها الجلال والديباج بالبراقع الطوال، وكل فرس في يد شاكري بالبزة الجميلة، ثم أدخلوا دار الوحش، وكان فيها من أصناف الوحش التي أخرجت إليهم قطعان تقرب الناس وتشممهم، وتأكل من أيديهم، ثم أخرجوا إلى دار فيها أربعة فيلة مزينة بالديباج والوشي على كل فيل ثمانية نفر من السند والزراقين بالنار، فهال الرسل أمرها، ثم أخرجوا إلى دار فيها مائة سبع: خمسون يمنة، وخمسون يسرة، ثم أخرجوا إلى الجوسق المحدث، وهي دار بين بساتين في وسطها بركة رصاص قلعي، حواليها نهر رصاص قلعي أحسن من الفضة المجلوة، طول البركة ثلاثون ذراعا في عشرين ذراعا، فيها أربع طيارات لطاف بمجالس مذهبة، وحوالي هذه البركة بستان بميادين فيها نخل وعددها 400 نخلة، وطول كل واحدة خمسة أذرع، وقد لبس جميعها ساجا منقوشا من أصلها إلى حد الجمارة بحلق من شبه مذهبة ... وفي جانب الدار يمنة البركة تماثيل خمسة عشر فارسا على خمسة عشر فرسا، قد ألبسوا الديباج وغيره، وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على خط واحد جنبا وتقريبا، فيظن أن كل واحد منهم إلى صاحبه قاصد. وفي الجانب الأيسر مثل ذلك. ثم أخرجوا بعد أن طيف بهم ثلاثة وعشرين قصرا إلى الصحن التسعيني وفيه الغلمان الحجرية بالسلاح الكامل، ثم وصلوا بعد ذلك إلى حضرة المقتدر بالله ... إلخ.»
وقد أنشأ عضد الدولة البويهي بستانا بلغت النفقة عليه وعلى سوق الماء خمسة آلاف ألف درهم، وكان راتب أبي طاهر وزير عز الدولة من الثلج في كل يوم ألف رطل، وكان الوزير المهلبي يبتاع له في ثلاثة أيام ورد بألف دينار يفرش به مجالسه. وانتشرت مجالس الشراب، ووضعت بها القواعد والقوانين والآداب كالذي حكاه كشاجم في كتابه «أدب النديم».
وقد مات في سنة 301 أبو الحسين علي بن أحمد الراسي عن:
445547
دينارا ذهبا عينا
323237
درهما عينا
43970
مثقال وزن الأواني الذهبية
1975
رطل وزن الأواني الفضية
4420
مثقالا من العود المطرى
5020
مثقالا من العنبر
860
نافجة من نوافج المسك
1600
مثقال من المسك المنثور
1399
مثقالا من البرمكية
366
مثقالا من الغالية
88
ثوبا من الثياب المنسوجة من الذهب
13
سرجا
2
حجرين عظيمين من الياقوت
70
حبة من اللؤلؤ
135
رأسا من الخيل
114
من خدم السودان
128
من الغلمان البيض
19
خادما من الصقالبة والروم
40
غلاما بآلاتهم وسلاحهم ودوابهم
20000
دينار قيمة قماش من الكساء
128
من المهارى والبغال
125
خيمة من الخيام الكبار
14
هودجا
14
صندوقا من الغضائر الصيني والزجاج المحكم الفاخر
وخلف عضد الدولة البويهي 2875284 دينارا. ومن الورق والنقد والفضة 100860790 درهما.
ومن الجواهر واليواقيت واللؤلؤ والماس والبلور والسلاح والمتاع شيئا كثيرا. وهكذا كان الحال في مصر والأندلس والقيروان يقلد أمراؤها أمراء بغداد.
وبجانب ذلك فقر العلماء؛ فعبد الوهاب البغدادي المالكي أفقه العلماء في زمنه، وصاحب المصنفات في الفقه كان فقيرا مدقعا. فلما وصل إلى مصر مات لأول ما وصلها من أكلة اشتهاها فأكلها، فزعموا أنه قال وهو يتقلب: «لا إله إلا الله، إذا عشنا متنا!» وهذا أبو حيان التوحيدي حاله ما حاله، وهذا أبو سليمان المنطقي لا يجد أجرة مسكنه! إلى كثير من أمثال ذلك.
ولو نحن نظرنا إلى ذلك مقارنين حالهم بحال النبي
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدين من بعده لنالنا العجب كل العجب مما وصل إليه بعض المسلمين من الترف.
ولم يكن من مميزات الدولة العباسية اتساع رقعة المملكة الإسلامية، ولكن كان من طابعها الخاص تقديس الخليفة العباسي تقديسا لم يعرف في عهد الخلفاء الراشدين، ولا الدولة الأموية، واعتصام الخليفة العباسي بالبردة النبوية، ومن مميزاتها أيضا ظهور التصوف والمتصوفة كفرقة دينية. نعم كان الزهد معروفا في أهل الصفة في عصر النبي
صلى الله عليه وسلم ، وفي بعض المسلمين في العصر الأموي كالحسن البصري، وكان التصوف ليس مستندا إلا إلى الإسلام فلما جاءت الدولة العباسية ظهر التصوف في شكل آخر، وظهرت فرق التصوف، بعضها نازع نزعة الفلسفة اليونانية، وبعضها آخذ عن النصرانية، وبعضها آخذ عن الهندية.
كان الزهد قبل ذلك مأخوذا عن الإسلام، ليس له عنصر آخر غير القرآن والحديث، فأخذوا الطريقة والمريد كما كان عند النصارى الكاهن والمهتدي، وأخذوا منهم نظام الرهبنة مع أن القرآن يقول:
ورهبانية ابتدعوها ، وفي الحديث: «لا رهبانية في الإسلام»، وأخذوا من النصارى أيضا حلقات الذكر ونظامها، وكان اسم المتصوف أولا يطلق على الزهاد المتقشفين أمثال أحمد بن حنبل ثم أطلق على هؤلاء المبتدعين المقلدين للأمم الأخرى، فأطلق على إبراهيم بن أدهم، وألصقت بحياته قصص تشبه قصص بوذا، من هجر الملك ، ولبسه جبة الراعي ، وأصبح يمكن تقسيم التصوف وإرجاعه إلى عناصر مختلفة، بعضها نصراني، وبعضها يوناني، وبعضها هندي، ولكل فرقة رئيس، كما ظهرت فرقة المعتزلة وعلى رأسها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وقد كان من عملها فلسفة الدعوة الإسلامية؛ ذلك أن الدعوة الإسلامية التي أتى بها محمد
صلى الله عليه وسلم
دعوة بسيطة ساذجة، لا فلسفة فيها، تناسب حالة العرب وقت الدعوة، فجاء المعتزلة ورأوا الأديان الأخرى من يهودية ونصرانية وبوذية وزرادشتية قد فلسفت أديانها، وتسلحت في براهينها بالأسلحة الفلسفية، فكان لا بد للمعتزلة أن يقابلوهم بالمثل؛ فيحاجوهم بالفلسفة، ثم عرضوا مبادئ الإسلام على الفلسفة كوحدة ذات الله وصفاته، ومثل وجوب العدل على الله، ووجوب مكافأة المثيب بالثواب، والمجرم بالعقاب؛ اعتمادا على قوله - تعالى:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، ثم تمسكهم بالقول بخلق القرآن ونحو ذلك.
وقد كانت عقائدهم حرة، ولكن من الأسف أن اعتقنها بعض الخلفاء كالمأمون والواثق والمعتصم، فحملوا الناس كرها عليها، واستمعوا للدسائس تقال أو تحاك حول مشاهير العلماء، وامتحن الناس بخلق القرآن، والسلطة إذا تدخلت في شيء أفسدته، فكره الرأي العام ذلك، وعدوا بطلا كل من وقف في وجه الحكام ثم عذب أو أهين، وأخيرا جنت عليهم هذه القسوة؛ فاكتسح الرأي العام هذه العقيدة مع الأسف، وتملق المتوكل الرأي العام، فقضى على الاعتزال ونصر المحدثين، وهكذا من ضروب الفرق التي شتتت الإسلام وأهله، وأبعدته عن البساطة الأولى، وفرق كبير بين حجج القرآن وحجج اليونان؛ فحجج القرآن مبنية على المشاهدة وإشعار القلب بقدرة الخالق من مثل قوله - تعالى:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت ، وحجج اليونان مبنية على المنطق من مثل: هذا العالم حادث. وكل حادث لا بد له من محدث.
ونحو ذلك من ضروب الأقيسة المنطقية، وفعل الشعور في الإنسان أقوى من فعل العقل الذي يعتمد عليه مذهب المعتزلة. وكما حورب المعتزلة بواسطة الخلفاء كالمتوكل حوربوا أيضا من العلماء أمثال الأشعري، الذي تعلم على الجبائي المعتزلي، ثم رد على المعتزلة وشنع عليهم حتى دحرهم. ومع الأسف كانوا يمتازون إذا قورنوا بمنهج أهل الحديث بحرية العقل والتفكير، وعرض الإسلام على محك المنطق، ومن غير شك كان يكون أمر المسلمين أحسن حالا وأكثر حرية لو انتصروا على المحدثين؛ فإن انتصار المحدثين كان معناه - مع الأسف - الركود والاعتماد على النقل أكثر من الاعتماد على العقل، وعلى أقوال المؤلفين أكثر من المبتكرين، ولهذا قل أن تجد في المؤلفين مبتكرا، فإن عددت رجلا كابن خلدون أو جمال الدين الأفغاني عددت ندرة تقاوم وتحارب لا تؤيد وتعضد.
وطريقة الإسلام الاعتماد على ال
Induction ، أعني الاستقراء فهو يتتبع المسائل الجزئية ما أمكن، ثم يستنتج منها القاعدة الكلية، كما فعلوا في النحو والصرف؛ فكانوا يتبعون الجزيئات المعروفة؛ ليستنتجوا منها قاعدة «الفاعل مرفوع»، أما الفلسفة اليونانية أو فلسفة أرسطو فعمادها على ال
Deduction ؛ أي الاستنتاج، فهم يضعون القاعدة الكلية ثم يستنتجون منها النتائج الجزئية كقولهم: إن الأجسام تتمدد بالحرارة، فالحديد جسم؛ إذن فالحديد يتمدد بالحرارة ... وهكذا، وقد أدتهم طريقة الاستقراء هذه إلى الإمعان في الشك والتجربة، فنرى كثيرا مما كتبه الجاحظ في كتاب «الحيوان» يبتدئ بالشك ثم يعرض على محك التجربة، ولا بأس عنده أن يخطئ أرسطو فيما قاله، ويفضل عليه أعرابيا بدويا فيما قاله. وسار النظام على هذا حتى في الأحاديث النبوية فكان يشك فيها أولا، ثم يعرضها على مقتضى العقل ليعرف أصحيحة هي أم غير صحيحة؟ فكان الغزالي والجاحظ أسبق إلى الشك من ديكارت، وكان مسكويه أسبق من داروين في تقريره مذهب النشوء والارتقاء في كتاب «تهذيب الأخلاق»، وكان الطوسي أسبق من أينشتين في فهم الزمنية، غاية الأمر أن مواد العلم الأولية كانت لهؤلاء المتأخرين أوفر، والزمن لهم أعون، والحقائق عندهم أكثر اتضاحا، والتعبير أبين، ويسودهم مذهب التحليل أكثر من مذهب التركيب، فما يقوله علماء العرب في جملة يقوله المتأخرون من الأوروبيين في كتاب وهكذا. وقد نسبوا إلى روجر بيكون أنه أول من قال بالاستقراء في النهضة الأوروبية الحديثة ، مع أنه خريج الجامعات العربية في إسبانيا. وعيب العرب أنهم لم يجدوا من يمجدهم، ومزية الأوروبيين أنهم يمجدون دائما من يعلي شأنهم، وهكذا الشأن في ابن خلدون؛ فإنه سبق ديكارت في تأسيسه علم الاجتماع، والفرق بين كتب الاثنين أنه أيضا بنى كتابه على مذهب الاستقراء الذي سار عليه العرب أكثر مما سار على مذهب الاستنتاج الذي سار عليه الأوروبيون. •••
والمنقصة الثانية للعرب منقصة العصبية القبلية، فقد حارب الإسلام هذه العصبية، ودعا إلى الوحدة، وقال: ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية، ومع ذلك ما لبث العرب أن عادوا إلى عصبيتهم كما كانوا في الجاهلية. والتاريخ الإسلامي مملوء بحوادث العصبية في الشرق والأندلس وحيث كان العرب.
قال ابن خلدون في أول الجزء الثالث مصدرا الكلام على الدولة الأموية: «كان لبني عبد مناف في قريش جمل من العدد والشرف لا يناهضهم فيه أحد من سائر بطون قريش، وكان فخذاهم - بنو أمية وبنو هاشم - حيا جميعا ينتمون لعبد مناف وينسبون إليه، وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرياسة عليهم، إلا أن بني أمية كانوا أكثر عددا من بني هاشم وأوفر رجالا، والعزة إنما هي بالكثرة، وكان لهم قبيل الإسلام شرف معروف. ولما جاء الإسلام ودهش الناس بما وقع من أمر النبوة والوحي وتنزل الملائكة وما وقع من خوارق الأمور؛ نسي الناس أمر العصبية مسلمهم وكافرهم؛ أما المسلمون؛ فنهاهم الإسلام عن أمور الجاهلية كما في الحديث: «إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها؛ لأننا وأنتم بنو آدم، وآدم من تراب.» وأما المشركون فشغلهم ذلك الأمر العظيم عن شأن العصائب، ولذلك لما افترق أمر بني أمية وبني هاشم بالإسلام إنما كان ذلك الافتراق بحصار بني هاشم في الشعب لا غير، حتى كانت الهجرة، وشرع الجهاد، ولم يبق إلا العصبية الطبيعية التي لا تفارق وهي نعرة الرجل على أخيه وجاره في القتل والعدوان عليه، فهذه لا يذهبها شيء ولا هي محظورة، بل هي مطلوبة ونافعة في الجهاد. ثم إن شرف بني عبد مناف لم يزل في بني عبد شمس وبني هاشم، فلما هلك أبو طالب وهاجر بنوه مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وحمزة كذلك، ثم من بعده العباس، والكثير من بني عبد المطلب، وسائر بني هاشم خلا الجو حينئذ من مكان بني هاشم بمكة، واستغلظت رياسة بني أمية في قريش، ثم استحكمتها مشيخة قريش من سائر البطون في بدر، وهلك فيها عظماء بني عبد شمس: عتبة، وربيعة، والوليد، وعقبة بن أبي معيط، وغيرهم.
فاستقل أبو سفيان بشرف بني أمية والتقدم في قريش، وكان رئيسهم في أحد وقائدهم في الأحزاب وما بعدها. وقد من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على قريش بعد أن ملكهم. وشكت مشيخة أمية بعد ذلك لأبي بكر ما وجدوه في أنفسهم من التخلف عن رتب المهاجرين الأولين، وما بلغهم من كلام عمر في تركهم شوراهم. فاعتذر لهم أبو بكر، وقال: أدركوا إخوانكم بالجهاد، وأنفذهم لحروب الردة فأحسنوا الغناء عن الإسلام. ثم جاء عمر فرمى بهم الروم، وأرغب قريشا في النفير إلى الشام، فكان معظمهم هنالك، واستعمل يزيد بن أبي سفيان على الشام، وطال أمد ولايته إلى أن هلك في طاعون عمواس، فولى مكانه أخاه معاوية، وأقره عثمان من بعد عمر، فاتصلت رياستهم على قريش في الإسلام برياستهم قبل الفتح، وما زال الناس يعرفون ذلك لبني أمية. ولما هلك عثمان واختلف الناس على علي كانت عساكر علي أكثر عددا لمكان الخلافة والفضل، إلا أنها من سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم، وجموع معاوية هي جند الشام من قريش شوكة مضر وبأسهم نزلوا بثغور الشام منذ الفتح، فكانت عصبيته أشد وأمضى شوكة، ثم كسر من جناح علي ما كان من أمر الخوارج وشغله بهم إلى أن ملك معاوية، وخلع الحسن نفسه، واتفقت الجماعة على بيعة معاوية عندما نسي الناس شأن النبوة والخوارق، ورجعوا إلى أمر العصبية والتغالب، وتعين بنو أمية للغلب على مضر وسائر العرب، ومعاوية يومئذ كبيرهم فاستوت قدمه، واستفحل شأنه، واستحكمت في أرض مصر رياسته، وتوثق عقده، وأقام في سلطانه عشرين سنة ينفق من بضاعة السياسة التي لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يدا من أهل الترشيح من ولد فاطمة وبني هاشم وآل الزبير وأمثالهم، ويصانع رءوس العرب وقروم مضر بالإغضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه، وكانت غايته في الحلم لا تدرك، وعصابته فيها لا تنزع، ومرقاته فيها تزل عنها الأقدام.»
وقد ألف المقريزي كتابا لطيف الحجم سماه: «النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم»، وقد ذكر فيه ما يدل على أن النزاع بينهم قديم، فمثلا كانت المنافرة بين هاشم بن عبد مناف بن قصي وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس، وسببها أن هاشما كانت إليه الرفادة مع السقاية؛ لأن أخاه عبد شمس كان يسافر، وكان أمية يقيم بمكة، وكان أمية رجلا مقلا، ولعبد شمس ولد كثير فاصطلحت قريش على أن يولى هاشم السقاية والرفادة، وكان هاشم رجلا موسرا، وكان إذا حضر موسم الحج اعتبر الحجاج ضيوفه فأكرمهم وأطعمهم وسقاهم. وكان أمية قد صنع في الجاهلية شيئا لم يصنعه أحد من العرب: زوج ابنه أبا عمرو بن أمية امرأته في حياته وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية زاد في هذا المقت. ونافر حرب بن أمية عبد المطلب بن هاشم من أجل يهودي كان في جوار عبد المطلب، فما زال أمية يغري به حتى قتل وأخذ ماله في خبر طويل، وتمادت العداوة بين البيتين إلى أن بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقام بمكة يدعو قريشا إلى توحيد الله - تعالى - وترك ما كانت تعبد من دون الله. فعاداه جمع كبير من أمية، ثم كان الحكم بن أبي العاص بن أمية، وكان عارا على الإسلام.
وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بمكة يشتمه ويسمعه ما يكره، ثم أسلم يوم الفتح فلم يحسن إسلامه، وكان مغموطا عليه في دينه. وما زال منفيا في زمن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وخلافة أبي بكر وعمر، ثم أعاده عثمان، وكان ذلك مما أنكر الناس عليه، وكان أعظم الناس شؤما على عثمان. وقد مات في خلافة عثمان، وضرب على قبره فسطاط، وقالت له عائشة يوما: «أشهد أن رسول الله لعن أباك وأنت في صلبه.» وكان يقال له «طريد رسول الله»، وهو والد مروان بن الحكم الذي صارت الخلافة إليه بالغلبة. ومن ولد مروان هذا عبد الملك بن مروان، الذي يقول: «لست بالخليفة المداهن ولا بالخليفة المأفون.» يعني بالخليفة المداهن معاوية، وبالخليفة المأفون يزيد بن معاوية.
ومنهم أبو سفيان: صخر بن حرب بن أمية، الذي قاد الأحزاب، وقاتل رسول الله يوم أحد، وقتل كثيرا من خيار أصحابه؛ منهم حمزة بن عبد المطلب بن هاشم، وقاتل رسول الله يوم الخندق. فلما تمكنوا من الخلافة حكموا الناس بهذه العصبية، ونكلوا بالهاشميين بما كان بينهم منذ الجاهلية من عداوة. وظل الحال على هذا المنوال حتى زالت دولتهم، وكل هذا يفسر ما كان من خلاف بين علي ومعاوية، وقتل يزيد للحسين، وتوالي القتل على ذرية علي. ا.ه.
ثم انقسم المسلمون إلى فرق مختلفة تبلغ نحو السبعين؛ فرقة تتشيع لعلي وفرقة تتشيع للعباسيين وهكذا، وانقسمت كل فرقة إلى فرق مختلفة فرعية، سميت باسم خاص كالكيسانية والسبئية في التشيع، والنظامية والجاحظية في الاعتزال، وصبغوا أنفسهم بالصبغة الدينية بعد أن كانوا أحزابا سياسية تتنازع على الحكم.
وقد كان أمر المسلمين واحدا في صدر الإسلام، وفي الحديث: «إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» والمراد بعدد سبعين كثرة الخلاف كما في الآية:
إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، فالإسلام دين التوحيد، وما أمر المسلمون إلا ليعبدوا إلها واحدا، ويكونوا أمة واحدة لا يفرقهم نسب ولا لغة ولا وطن، وقد نهوا عن التفرق كما نهوا عن الكفر، ولكن ظهر الإسلام في الأميين فلم تكد الأمم والشعوب تتبين تعاليمه حتى دخلوا فيه أفواجا، ثم جاء قوم مثقفون في أديانهم ودخلوا في الإسلام، وطبقوا بعض ما عرفوا منه على ما كانوا يعرفون من أديانهم، وفلسفوا الدعوة؛ فكان هذا كله من أسباب تفرق أهله شيعا ومذاهب ودولا، كل حزب بما لديهم فرحون، حتى عدوا على التوحيد نفسه بالتوجه إلى غير الله ودعوة سواه.
وبجانب التفرق في العقائد تفرق في المذاهب، ولا يعرف الجمهور من هذه المذاهب إلا أربعة.
وأما التفرق باختلاف اللغة والجنس والوطن، فله في العصر الحاضر دعاة من المتفرنجين هم أشد آفة من دعاة التفرق للمذاهب؛ فمنهم من يفتخر بالفراعنة ومن يفتخر بالفينيقيين، وقد كان هذا الخلاف يقبل ويحتمل لو صحبته الحرية والتسامح، ولكن مني قوم بالعصبية، تعصبوا لفرقتهم ضد غيرهم، وأباحوا لأنفسهم ما لم يبيحوا لغيرهم؛ فكان الخلاف سببا للنزاع والفرقة.
وكان على يد المتوكل التنكيل بالفئة الحرة التفكير المسماة بالمعتزلة، ونصرة أهل الحديث وعلى رأسهم أحمد بن حنبل.
وكان طبيعيا بعد ذلك أن يسود العالم الإسلامي الجمود؛ فلا يستمعون لمصلحة ولا يلبون دعوة إصلاح، ومبدؤهم القديم على قدمه، من أمثلة ذلك أن السلطان سليم الثالث العثماني قد تولى منصب السلطنة، وقد اضطرب أمر الدولة العثمانية، وأشرفت على السقوط لتغلغل الفساد في جسم الفرقة الإنكشارية، وانحلال قوى الدولة بانحلال قوى الجندية العثمانية، وانحطاط نظامها إذا قيس بنظام الجند الأوروبي الذي ظهر يومئذ بمظهر جديد مبني على الأصول العلمية والاختبارات الفنية، فخشي السلطان إن هو لم يأخذ بأصول الجندية الجديدة ولم يرتب جيشه ترتيب الدول الأوروبية له؛ أن تكتسح هذه الدول مملكته العظيمة؛ إذ ظهرت له بوادر الخطر يومئذ باحتلال نابليون لمصر، وتحفز الروس للوثوب على القسطنطينية، ونزوع أهل المورة للثورة، فعزم عزما أكيدا على تنظيم الجندية العثمانية، وقبول الإصلاحات الأوروبية في البحرية والعسكرية، وإلغاء الجندية الإنكشارية، ورأى أن تعريض حياته الشخصية للخطر مع جنود الإنكشارية خير من تعريض المملكة لهجوم الدول الأوروبية، ومصير الدولة العثمانية للزوال، فقاومه علماء الدين مقاومة شديدة، وفي مقدمتهم عطا الله أفندي شيخ الإسلام في عصره، وحرضوا عليه العامة، وأثاروا عليه الضغائن بحجة أنه يريد التشبه بالإفرنج، وما زالوا يكافحونه مع الإنكشارية ويكافحهم؛ حتى تغلبوا عليه، وخلعوه ثم قتلوه. وجرت بعد ذلك أمور يطول شرحها على عهد خلفه السلطان مصطفى، والذي يليه السلطان محمود. وقد تشجع السلطان محمود؛ فأهرق سيولا من الدماء في القضاء على نظام الإنكشارية وأهلها شر قضاء، وكذلك ما أشيع من أن الخديوي إسماعيل في مصر جمع طائفة العلماء ونصحهم بأن يختاروا من المذاهب الفقهية الأربعة ما يناسب الحالة الحاضرة فأبوا إلا أن يكون الفقه فقه أبي حنيفة تقليدا للسلطنة العثمانية، فأعرض عنهم، وأنشأ المحاكم الأهلية، والمحاكم المختلطة، وقصر عملهم على مسائل الأحوال الشخصية، وسميت محاكمهم بالمحاكم الشرعية وهكذا.
ثم مني المسلمون بعد ذلك بالأتراك وحكمهم وسلطانهم، جلبهم المعتصم سنة 218، واستقدم سنة 220 قوما من بخارى سمرقند وفرغانة وأشروسنة، وغيرها من البلاد التي نسميها تركستان وما وراء النهر؛ لما عرف عنهم من الشجاعة في القتال، فأظهروا الشغب في بغداد فبنى لهم «سر من رأى» ومكن لهم في الأرض، وكما كانوا قوة للدولة في أول أمرهم كانوا آخر الأمر مصيبة كبرى على المسلمين، وبعد أن كان السلطان أول الأمر للعرب وحدهم كما هو الشأن في عهد الأمويين. كان النزاع بين العرب والفرس في عهد العباسيين الأولين، ثم كان بين الفرس والعرب والأتراك من عهد المعتصم، وهم عنصر شجاع في الحرب يصل الإسلام إلى ظاهرهم وقلما يصل إلى قلوبهم، يعتزون بجنسيتهم ولا يقيمون وزنا لجنسية غيرهم؛ فلم تمض اثنتا عشرة سنة حتى كان السلطان كله بيد إيتاخ التركي، فكان في يده الجيش كله من مغاربة وأتراك وموال وبربر وعرب، ثم لعبوا بالخلفاء كلعبهم بالكرة، ثم كان من أمرهم أن قتلوا المتوكل أول الأمر، ثم أمروا المنتصر أن يخلع أخويه المعتز والمؤيد، وأمروا المستعين أن يخلع نفسه، واشتعلت الفتن، واختاروا من الخلفاء من كان ضعيف الإرادة قليل الحيلة حتى ينعموا بالسلطان بجانبه، ومع ذلك قتلوا بعضهم، وسملوا أعين بعضهم، وانتهكوا الحرمات، وصادروا الأموال، وكان الوالي منهم يسرف على نفسه ما يسرف ثم يبني مسجدا أو سبيلا أو ضريحا أو نحو ذلك؛ ظنا منه أن هذا يغفر له كل ما تقدم.
ومني المسلمون منهم بالعسف والقسوة والجور والاستبداد، ولم يكن لهم شأن يذكر في الناحية الفكرية إلا ما ندر؛ فإذا عنوا بشيء من الدين فظاهره لا باطنه، وقشوره لا لبه، فإن رأيت تدهورا في العقيدة، وإيمانا بالخرافات والأوهام، وكثرة في السلب والنهب، إلى جانب كثرة في الأضرحة والخانقاهات والسبل وما إلى ذلك فاعلم أنه صنيع الأتراك.
وكانت الضربة القاسية للإسلام والمسلمين على يد المغول، قال الخميسي في تاريخه:
نهب التتر سواد آمد، وارزن، وميا فارقين، وقصدوا مدينة اسعرد فقاتلهم أهلها، فبذل لهم التتر الأمان فوثقوا منهم واستسلموا، فلما تمكن التتر منهم بذلوا فيهم السيف وقتلوهم، حتى كادوا يأتون عليهم فلم يسلم منهم إلا من اختفى، وقليل ما هم ... وساروا في البلاد لا مانع لسيفهم، ولا أحد يقف بين أيديهم، فوصلوا إلى ماردين، فنهبوا ما وجدوا من بلدها ... ثم وصلوا إلى نصيبين والجزيرة، فأقاموا عليها بعض نهار، ونهبوا سوادها، وقتلوا من ظفروا به ... ومضى طائفة منهم على طريق الموصل، فوصلوا إلى قرية تسمى المونسة فنهبوها، فلما فرغوا أخذوا يلعبون على الخيل، ويضحكون ويغنون بلغتهم ... وقيل إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو العزبة أو الدرب وبه جمع كثير من الناس فلا يزال يقتلهم واحدا بعد واحد، لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس. واستولوا على أربل، ولم يقف في وجوههم فارس، وهذه مصائب وحوادث لم ير الناس من قديم الزمان وحديثه ما يقاربها، انظر تاريخ الخميسي ص376. «وفي سنة ست وخمسين وستمائة وصل الطاغية هولاكو بن تولي بن جنكيزخان إلى بغداد بجيوشه وبالكرج وبعسكر الموصل، فانكسر المسلمون أمامه لقلتهم، ونزل قائده ياجونوس على بغداد من غربيها وهولاكو من شرقيها، ثم خرج المستعصم لتلقيه في أعيان دولته وأكابر الوقت، فضربت رقاب الجميع، وقتلوا الخليفة ورفسوه حتى مات، ودخلت التتار بغداد واقتسموها وكل أخذ ناحية، وبقي السيف يعمل أربعة وثلاثين يوما وقل من سلم فبلغت القتلى ألف ألف وثمانمائة ألف وزيادة ، فعند ذلك نادوا بالأمان . وكان مجيء هولاكو فيما يقال بدعوة الوزير ابن العلقمي الرافضي؛ إذ كان يعتقد أن هولاكو سيقتل المعتصم ويعود إلى حال سبيله، وعندئذ يتمكن الوزير من نقل الخلافة إلى العلويين. وقد نهب المغول دار الخلافة حتى لم يبق فيها لا ما قل ولا ما جل، ثم أحرقت بغداد بعد أن قتل أكثر أهلها، ثم عدى هولاكو الفرات بجيوشه لمحاصرة حلب، فلما دخلوها وضع السيف يومين وأبادوا الخلق، وقصد قلعة دمشق وحاصرها التتار وبالآخرة نزل أهلها وسكنها التتار، وسلموا قلعة بعلبك، وأخذوا نابلس وغيرها بالسيف.»
وبعد أن كان العرب متجانسين في عاداتهم الساذجة البدوية ذابت فيهم العادات الرومية، فعقدوا المجالس كما كان يعقدها القياصرة وتأنقوا في الملابس والسباق والزواج، وأنشئوا الأعياد، فكانت مجالس الخلفاء فرشها الأثاث القطني في الصيف والصوفي في الشتاء، على أتم أسلوب، وأفخم طريقة. ويروون عن هشام أنه خرج حاجا فجعل ثيابه على ظهر ستمائة جمل، ورووا أنه لم يلبس ثوبا قط يوما وفاء إليه. ويروى عن سليمان بن عبد الملك أنه قال لجارية له حجازية كيف ترين هيئتي، قالت: أنت أجمل الناس، قال: أنشديني على ذلك، فقالت:
أنت خير المتاع لو كنت تبقى
غير أن لا بقاء للإنسان
أنت خلو من العيوب ومما
يكره الناس غير أنك فان
فلما جاء العباسيون نقلوا إليهم مدنية الفرس بشرابها، والتغزل بنسائها، وخمرها، والغزل بالمذكر، والاحتفال بالنيروز، والاحتفال بالورود والرياحين، وإدخال الأطعمة المختلفة كالفالوذج واللوزينج ونحوهما والتزيد فيما يقولون وهكذا.
ولما جاء الأتراك أدخلوا عاداتهم أيضا من فخفخة وعجرفة، وتعاظم بجنسهم واحتقار لغير جنسهم، واهتمام بظواهر الإسلام لا بباطنه، وخشونة في المعاملة إلى غير ذلك، وهكذا أصبحت الأمة الإسلامية مسرحا لكل هذه الأخلاق والعادات بعد أن كانوا عربا سذجا فطريين.
وقد كان الصحابة والتابعون الأولون لا يعرفون فرقا كبيرا بين الظاهر والباطن، بل يمزجون الظاهر بالباطن؛ فيقيمون الشعائر، ويقدرون النية، وفي الحديث: «إنما الأعمال بالنيات» ولكن تغالى الفقهاء في أعمال الظاهر حتى اخترعوا الحيل للتخلص من أحكامها، ونسي بعضهم الباطن نسيانا تاما ، فظهرت المتصوفة تغلو في الباطن كما غلا الفقهاء في الظاهر، وساعد على وجود المتصوفة ظلم الحكام، ولجوء المتصوفة إلى الهرب من ظلمهم والاعتماد على الآخرة؛ إذ لم تحسن الدنيا، واستغل الشيعة أمر الظاهر والباطن؛ فادعوا أن القرآن له ظاهر وباطن، وأن الباطن إنما يصل إليه من الطريق اللدني الأئمة المعصمون والعلماء الراسخون، وإنما العامة تفهم القشور فقط والظواهر فقط؛ ولذلك سموا بالباطنية، والحق أن هذه النزعة الصوفية ظهرت في آخر أيام الدولة الأموية على يد الحسن البصري في البصرة، ثم ظهرت في العهد العباسي على يد جابر بن حيان الكيميائي الشيعي، وأبي العتاهية في الكوفة، ثم انضمت هذه الجماعات حلقات في بغداد، فهم يلقون دروسهم في مساجدها وفي الأوساط الخاصة المختلفة، واستعاروا من رهبان النصارى أرديتهم الصوفية البيضاء، ومن أجل ذلك سموا بالصوفية، وكان على رأس هؤلاء المحاسبي الذي ولد في البصرة ثم نزل بغداد، وما زال الفقه يغلو في الظاهر ولا يتعرض للباطن حتى أصبح قشورا، كما كان التصوف يغلو في الباطن وكان مرتعا خصبا للخرافات والأوهام والتحرر من الشعائر وارتكاب الموبقات، واخترعوا بجانب التصوف الموسيقى، والذكر، والشطح، والرقص، وغير ذلك. وكان لهم أثر كبير في النظام الاجتماعي المتهافت، وكان من نتائج هذا الصراع الشديد بين الفقهاء والمتصوفة، وتقرب الفقهاء من السلاطين لخدمتهم وتوغير صدورهم على الصوفية؛ أن آل الأمر إلى سجن بعضهم كما فعل بمحي الدين بن العربي، وقتل بعضهم كما فعل بالحلاج والسهروردي.
وإذا قلنا إن الوحدانية الخالصة عقيدة صعبة، والتمسك بها عسير؛ فقد بدأ المسلمون ينسونها، فبدءوا يعظمون الخلفاء الأمويين تعظيم قبائل العرب لشيوخها، وبدأ العباسيون يعظمون الخلفاء تعظيم الفرس لأكاسرتها، ثم تعظيم أمراء الأتراك كتعظيم العباد للسادة، وأداهم الترف إلى أن يعبدوا الشهوات والمال كعبادة الله، ثم يعبدوا الأولياء والأضرحة كما كان الجاهليون يعبدون آباءهم، وانهارت وحدانية الإسلام العظيمة الجليلة التي تبعث في نفوس أهلها العزة والسمو.
وكما تمزقت الدولة الإسلامية إلى دول صغيرة كذلك مزقتها الثورات الداخلية لما شاع في الدولة من ظلم وفساد ، وكثرة تعيين الأمراء والحكام وعزلهم، من ذلك مثلا ثورة الزنج في العراق؛ ذلك أن جماعة من شطار العبيد الهاربين من سادتهم الذين أصلهم من أفريقيا الشرقية كانوا يعملون متعهدين لبعض البصريين في كسح السباخ قرب البصرة، فظهر رجل فارسي يدعى علي بن محمد، وكان يزعم أنه ينتسب إلى علي بن أبي طالب وفاطمة من طريق زيد بن علي، ودعا العبيد إلى خروجهم على سادتهم لتحسين حالهم وضمان حريتهم وكسب الثروة لهم، وجاهر بعقيدة الخوارج التي ترفض كل تمييز جنسي، وألف جيشا عظيما لم يستطع أن يقف أمامه سكان البصرة، وأسسوا بلدة تسمى المختارة، واستعمل اللبن في بنائها، فسير المعتمد أخاه الموفق بن المتوكل لقتال الزنج، وقد أوقعوا بسكان البصرة وقت صلاة الجمعة، ونهبوا المدينة، وأخيرا لم يوفق الموفق في ردعهم، فاضطر لمصالحتهم، ثم كانت ثورة الصفارية والطاهرية في إيران، وكان الثوار من الخوارج، وقد أسسوا مقاطعة فيما بين إيران وأفغانستان، واستعملوا اللصوصية والنهب في ذلك الإقليم، وكان في خدمة هذا الزعيم رجل اشتغل في حداثته بعمل الصفر، يدعى يعقوب الصفار، وكان هذا من الشجاعة بحيث أوقع الرعب في نفوس الناس، واستمر هو وصحبه حتى فتحوا مقاطعة سجستان وهراة، ثم هزمهم الموفق بعد حروب طويلة، وقضى على تلك الجماعات الخارجة التي أفسدت أغنى جزء من أراضي الخلافة.
كذلك كان من أكبر الثورات ثورة القرامطة في عهد الخليفة المعتضد، فسببوا هزة جديدة للعالم الإسلامي، وكان زعيم هذه الحركة يدعى حمدان قرمط، ويظهر أن هذه الكلمة آرامية معناها المعلم السري، أنشأ مركزا لأتباعه قرب واسط، وسماه دار الهجرة تقليدا لما فعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكان من دعوته الشركة في الأموال، فكان المريدون يقيمون ولائم يسمونها ولائم المحبة، يشتركون فيها متبعين في ذلك على الأرجح فرقة الصابئة الغنوسطية التي كانت تسكن تلك الديار، ثم خلفه داعية أعظم هو ذكرويه الدنداني، وقد نجح في تحريك الأعراب المقيمين في حدود سوريا، وتسمى بأمير المؤمنين، وأفسدت القرامطة جميع المدن السورية ، ولم يسلم من جيشهم إلا دمشق. وقام بعده أخوه أحمد بالخلافة ولكنه أسر وقتل في بغداد، وما هي إلا فترة قصيرة حتى وفق القرامطة إلى مد سلطانهم في بلاد العرب، وأنشئوا في منطقة البحرين مدينة جديدة عاصمة لهم سميت المؤمنية بدلا من «هجر» العاصمة القديمة، وحكموا هذه البلاد بدعوى أنهم مفوضون من قبل الإمام المستتر، وأخيرا استولوا على مكة، ونزعوا الحجر الأسود من الكعبة، وحملوه إلى المؤمنية بالأحساء، وظلوا فيها حوالي ثلاثين سنة. وهكذا كانت الثورات المخربة في كل قطر في العراق وفارس والشام ومصر وشمالي أفريقيا.
وجاء بعد ذلك الحشاشون، فكانوا ضغثا على إبالة، وجاءوا بعد أن ارتكب البويهيون كثيرا من المفاسد، وقاتل بعضهم بعضا قتالا عنيفا، وهذه الفرقة كانت من أكبر الأعداء الداخليين للبلاد الإسلامية، نشروا فيها الذعر سنوات طويلة، واتخذوا التشيع ستارا لمناهضة الحكومات المختلفة. وكان من أكبر دعاتهم الحسن بن الصباح، ويذكرون أنه كان في شبابه صديقا لنظام الملك وعمر الخيام، ورحل إلى مصر وتثقف ثقافة شيعية على يد الفاطميين، وعرف أتباع الحسن بالنزارية؛ لأنهم انحازوا إلى نزار بن الخليفة المستنصر الفاطمي، واتخذوا ملجأ لهم قلعة ألموت الجبلية على مسافة خمسين فرسخا شمالي قزوين، ونظم جماعته على الطريقة السرية التي عرفت بها الفاطمية، وقسمهم إلى درجات أعلاها المقربون، وعرفوا بالتعصب الشديد، ونشر في الأتباع أن في قتل رجل من أعداء الإيمان الحق وهو الإيمان الفاطمي؛ الخير كل الخير، فلهم إذا ماتوا رضوان الله وجنات النعيم، وسمي هؤلاء القتلة بالفدائيين، وكانوا يتعاطون الحشيش، ولذلك سموا بالحشاشين، ومدوا نفوذهم إلى فارس وسوريا، ولم تستطع الدولة السلجوقية أن تقضي عليهم، وقضوا هم على نظام الملك الوزير المشهور، وأوجدوا الرعب في نفوس الخلفاء والأمراء.
واستطاعوا أن يقوضوا أركان الدول الإسلامية المتداعية، وبسببهم وسبب المظالم والحروب القائمة بين الأسرة الواحدة انقضى حكم السلجوقيين في سرعة بالغة، وفقدوا سلطانهم فقدا تاما.
وكان من نتاج الدولة السلجوقية ظهور عالمين كبيرين، كان لهما أثران متناقضان، ولكنهما يتفقان في النتيجة، وهما: الغزالي وعمر الخيام. فأما الغزالي؛ فقد كان نهبا مقسما بين الدين والعقل، وأخيرا جذبته الصوفية إليها، وقضى إحدى عشرة سنة في عزلة كان معظمها في الشام، ألف في أثنائها كتاب إحياء علوم الدين، وقد ألف القلوب على الصوفية بعد أن كانوا مضطهدين، وكان لسنا بليغا قوي التأثير؛ فحبب التصوف إلى الناس مما شجعهم على التصوف وابتداع فرق متصوفة كثيرة، كما كان من آثاره الإيقاع كثيرا على نغمة الترهيب تقليدا للحسن البصري، وتخويف الناس من الموت وما بعد الموت، وتعظيم سلطان القضاء والقدر، وتفضيل الكشف على التجارب العقلية؛ فإن قلنا إن الإسلام الحاضر هو إسلام أبي الحسن الأشعري والغزالي لم نكن بعيدين عن الحقيقة.
وأما عمر الخيام؛ فقد نسب إليه من الأشعار ما حبب للناس الإباحية والعكوف على الخمر والنساء والأزهار، ويشك كثيرا في نسبة هذه الرباعيات إلى عمر لوجود بعضها في شعر شعراء آخرين، وعدم مناسبتها لما اكتشف من مؤلفاته في الفقه وما وراء الطبيعة وغيرهما.
وزاد الحال سوءا سوء الحالة الاقتصادية؛ فكانت هذه الحالة من أسوأ الحالات، يملك الحاكم أو الملك الأراضي ويعطي من شاء الإقطاعات ليزرعها في حياته مع حفظ رقبتها مملوكة للإمام كسنة عمر بن الخطاب، ثم أفرطوا في زيادة الضرائب وكثرة المصادرات والنهب والسلب حتى لم يستطع أحد أن يكون آمنا على نفسه وماله، وكل ما تحصل ينفقه الملك أو الأمير على شهواته من خمر ونساء وما إليها، حتى لا نستغرب من أول العهد الأموي إلى العباسي إلى الفاطميين إلى الأتراك معدل الوفيات في الملوك؛ فهو نازل جدا يقل عن مستوى العمر العادي لإفراطهم في شهواتهم.
والحياة الاقتصادية هي عماد الحياة الاجتماعية؛ فإن حسنت حسنت وإن ساءت ساءت، ولذلك كانت الحياة الاجتماعية سيئة بسوء الحياة الاقتصادية، وكان العلماء إنما يجدون رزقهم في الاتصال بالملوك والتملق إليهم، ومن لم يصل إلى بابهم كانت عيشته على وقف صغير وإلا عاش عيشة فقيرة، فليس ببعيد أن نقول إن مصائب المسلمين أكثرها من سوء تصرف الحكام من تملق العلماء، ولذلك كان الملوك غالبا يحتضنون العلماء، ويرتكزون عليهم، ويسخرونهم في مصلحتهم من تهدئة للرعية، وأن الله قسم الأرزاق فالغني غني بالقدر، والفقير فقير بالقدر، والسلطان ظل الله في أرضه، وظلم الملوك من ظلم الرعية، وهكذا من التعاليم التي تخدم الملوك وتسيء إلى الرعية وتفسدها بالتذلل والتملق والنفاق.
وقد قلنا من قبل إن عقيدة الألوهية صعبة إلا على الخاصة، وإن المسلمين لم يلبثوا أن نسوا الوحدانية، وعادوا إلى الوثنية، وكذلك كان؛ فقد عظمت القبور، وقدس الأولياء، واتخذت الأضرحة معابد، وعبد الحكام والأمراء من دون الله، ولذلك كان من دعاة الإصلاح مثل محمد بن عبد الوهاب، والشيخ محمد عبده، من هاجم القبور والأضرحة والأولياء والاستشفاع بهم عند الله؛ لأنهم رأوا هذه كلها بدعا دخلت في الإسلام فأفسدت العقيدة الصافية عقيدة الوحدانية التي تتمثل في «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وقد توسع المسلمون في هذا توسعا غريبا، فقدسوا باب المتولي وشجرة العذراء ونعل الكلشني ونحو ذلك، حتى تدنوا من ذلك إلى الحضيض، ونسوا أساس الإسلام، وأقيمت الموالد لإعظام شأن الأولياء وأصحاب الأضرحة، واخترعوا لكل شيخ مولدا تذبح الذبائح عنده، وتقرب فيه القرابين، ونحو ذلك مما لا يتفق مع الإسلام في قليل ولا كثير. وقد اهتم الإسلام بالعمل الصالح؛ فنجد القرآن دائما أو على الأقل في الغالب يقرن عمل الصالحات بالإيمان بالله، وهو يقصد بالعمل الصالح «الجهاد - والعدل - والشجاعة - ونحو ذلك من الفضائل» وبجانبها الشعائر الدينية من صلاة وصوم وزكاة وحج، فلما انهار المسلمون فقدوا الاهتمام بالعمل الصالح،ووجدت النزعات الصوفية التي يرى بعضها أن الأعمال الصالحة لا قيمة لها إذا تم الإيمان، بل وجد من الطوائف الصوفية طائفة الملامتية التي ترى أن لا يوجه اللوم إلى مرتكبي الجرائم لعل بينهم وبين الله صلة، كما وجد في الفلاسفة من نادوا بأن الايمان وحده يكفي المتفلسف، وإنما شرعت الأعمال للعامة لا للفلاسفة والخاصة. حتى الشعائر الدينية فقدت صبغتها الروحية وأصبحت مجرد حركات ميكانيكية لا تمت إلى القلب بسبب؛ فهي مجرد أعمال بهلوانية وحركات شيطانية.
ولما انحل العالم الإسلامي في الداخل انحلالا كبيرا بفضل الثورات بين شيعة وسنية وخوارج، وبين المذاهب من شافعية وحنفية وحنبلية، وبين العناصر من عرب وفرس وترك؛ أمكن العدو الخارجي أن يتقدم خطوات، وينال منهم، ويستولي على أراضيهم، فبعد أن كانوا يغزون وينهزمون أمام المسلمين أصبحوا يغزون ويتقدمون؛ بدءوا ذلك في عهد سيف الدولة الحمداني في حلب، وكان عهده أسوأ مثل للاستبداد من فرض ضرائب باهظة على الناس، وضم كثير من البلاد إلى ممتلكاته الخاصة، فانتزع حلب سنة 945 من أيدي الإخشيديين المتغلبين على مصر، وأراد أن يبسط سلطانه على دمشق ولكنه أخفق، غير أن حسنته الكبرى موقفه أمام البيزنطيين، وكانت الحرب أولا غزوات صيفية ومناوشات حول القلاع والحصون، وكان النصر فيها للعرب حينا وللبيزنطيين حينا، وقد سجل هذه الحروب في الانتصارات والانهزامات المتنبي الشاعر الكبير، وأبو فراس ابن عم سيف الدولة الذي كان عاملا على منبج ثم أسره الروم، وقال في ذلك قصائده الكثيرة المشهورة بالروميات المثيرة للعواطف، وكان العداء شديدا في هذه الحروب بين الصليبيين والمسلمين كما تدل على ذلك الكتب الإسلامية المؤلفة في الحض على الجهاد في ذلك العصر، وكما يدل على ذلك أيضا تحمس النصارى وشدة قتالهم، والنصارى يكرهون المسلمين ويعادونهم أكثر من عدائهم حتى لليهودية والوثنية، وما زال العداء مستمرا إلى اليوم بنصرتهم لليهود على المسلمين وانتزاعهم فلسطين من أيديهم.
وقد وقعت الحرب حين ذلك لتعود بشكل أقسى، فإن هؤلاء الصليبيين ظهروا في سوريا بقيادة جودفري دي بويون وجماعة من الزعماء الفرنسيين والنورمنديين، وانتهزوا فرصة التناحر بين السلاجقة، وحاصروا أنطاكية، ثم سقطت في أيديهم بخيانة أحد الحراس، وكانت القدس تحت سلطنة المصريين ولكن ما لبثت أن سقطت في يد الصليبيين، وقبل ذلك سقطت الرها في أيدي بولدوين، وفي سنة 1101عهد إلى الكونت ريمون دي تولوز أن يفتح طرابلس الشام لتكون قاعدة لإمارة جديدة، ثم سقطت بعد حصار دام ست سنوات، وقد احتفظ الصليبيون بها نحو عام، حتى إذا جاء الربيع التالي من القرن الثاني عشر اعتز الإسلام بآل زنكي فناضلوا نضالا شديدا ضد النصارى، فكان أولهم عماد الدين زنكي وكان جنديا بارعا وسياسيا لبقا فوفق لهذه الصفات إلى توسيع رقعة سلطانه شيئا فشيئا، فلما توفي بكاه الناس بكاء مرا؛ لعدالته ورأفته برعيته والعمل لصالحهم، وقد أمكنه أن يأخذ الرها من يد النصارى بعد أن ظلت في أيديهم نحو نصف قرن، وقتل شهيدا وهو يحاصر عكبرة، ولما قتل اقتسم مملكته ابناه سيف الدين غازي، وقد استولى على الموصل والجزيرة حتى الخابور، ونور الدين محمود استولى على سوريا، وجعل قاعدته حلب، وهو الذي احتمل مسئولية محاربة الصليبيين، وكانوا قد عادوا فاستولوا على الرها على يد الكونت جوسلين، وأثار المسيحيون في البلاد الإسلامية ثورة داخلية لمساعدة الصليبيين فأخمدها نور الدين وقضى عليها.
وقد سبب سقوط الرها تحمس الأوروبيين من جديد، ووجد البابا أرجانيوس الثالث فرصة في ذلك لتهييجه العواطف ضد المسلمين، وساعده على ذلك أنه كان داعيا بليغا وخطيبا مؤثرا، ومع أن الحملة منيت بخسائر كثيرة بسبب الجوع والمرض، فلم يصل منها إلى الأرض المقدسة إلا فلول هزيلة، فقد اتجهوا نحو دمشق معتزمين فتحها مهما كلفهم ذلك، فلما ظهرت الجيوش الصليبية على أبواب دمشق استنجد الأمير الحاكم بنور الدين، ولكن الصليبيين اضطروا إلى رفع الحصار قبل أن تتقدم جيوش نور الدين إلى دمشق ... إلخ.
حتى جاء صلاح الدين وكان يعمل في خدمة نور الدين، فأزال الدولة الفاطمية من مصر، وطرد الصليبيين من بيت المقدس، بعد أن عاثوا فيها الفساد. وكان العداء الشديد بين الصليبيين والمسلمين، حتى أن فلاسفة أوروبا ومفكريها وأدباءها قد وضعوا لغزو المسلمين وفتح بلادهم نحو مائة مشروع قدموها للباباوات، وبعض هذه المشاريع تجارية ترى غزو المسلمين عن طريق التجارة لا الحرب، وأكثرها حربي يضع الخطط للغزو إما عن طرق مختلفة أو عن طريق واحد وهكذا.
وكما هدد الصليبيون الشرق بحملاتهم المتوالية عليه؛ فقد أفلحوا في طرد المسلمين من الأندلس بعد أن أصيب المسلمون بالتفرق والانحلال، وانسحب الصليبيون من الشام ليعودوا إليه في حملة أخرى إذا واتت الظروف؛ فإن عداءهم للمسلمين لا يفتر. قال صاحب مجلة العالم الإسلامي الفرنساوية: «العالم النصراني على اختلاف أممه وشعوبه عرقا وجنسية هو عدو مقاوم مناهض للشرق على العموم وللإسلام على الخصوص؛ فجميع الدول النصرانية متحدة معا على دك الممالك الإسلامية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، والروح الصليبية كامنة في صدور النصارى كمون النار في الرماد، وروح التعصب لم تنفك حية معتلجة في قلوبهم حتى اليوم كما كانت في قلب بطرس الناسك من قبل، فالنصرانية لم يزل التعصب مستقرا في عناصرها، متغلغلا في أحشائها، متمشيا في كل عرق من عروقها، وهي أبدا ناظرة إلى الإسلام نظرة العداء والحقد والتعصب الديني الممقوت، وحقيقة هذا الأمر ونتيجته واقعتان في كثير من الشئون الخطيرة والمواضع الكبرى؛ حيث القوانين والشرائع الدولية لم تعامل فيها الأمم الإسلامية معاملة السواء مع الأمم النصرانية.
تنتحل الدول النصرانية أعذارا لها في كرهها وهجومها وعدوانها على الممالك الإسلامية وإذلالها وإكراهها بقولها إن الممالك الإسلامية هذه إنما هي من الانحطاط والتدلي بحيث لا تستطيع أن تكون قوامة على شئون نفسها، وفوق جميع هذا فهذه الدول النصرانية عينها لم تفتأ تعمل هذا من ناحية، وتتذرع بألوف الذرائع من نواح أخرى - حتى بالحرب والحديد والنار - للقضاء على كل حركة حاولها المسلمون لبلادهم وديارهم في سبيل الإصلاح والنهضة، وجميع الشعوب النصرانية مجمعة متفقة على عداء الإسلام، وروح هذا العداء متمثلة بجهد جميع هذه الشعوب جهدا خفيا مستترا متواليا لسحق الإسلام سحقا.
وتأخذ النصرانية مشاعر كل مسلم وآماله ورغباته التي تجول في صدره، ثم تمثلها بصور الهزء والسخرية والعبث والازدراء، وإن ما يدعوه الفرنجة عندنا في الشرق تعصبا مذموما محرما هو عندهم في بلادهم وأوطانهم العصبية الجنسية المباركة، والقومية المقدسة والوطنية المعبودة، وإن ما يدعونه عندهم في الغرب إباء للنفس، وشمما، وشرفا، ووطنية، وعزة قومية يعدونه في الشرق غلوا مكروها وإفراطا في حب الوطن ضارا ومقتا وشنآنا للأجنبي الغربي.
وجميع هذا يوضح أن العالم الإسلامي يجب عليه أن يتحد اتحادا دفاعيا عاما، مستمسك الأطراف، وثيق العرى؛ ليستطيع بذلك كله الذياد عن كيانه ووقاية نفسه من الفساد المطبق، وللوصول إلى هذه الغاية الكبرى يجب عليه اكتناه أسباب تقدم الغرب والوقوف على تفوقه وقدرته.»
2
وجاء في النشيد الإيطالي:
أماه صلي ولاتبكي - بل اضحكي وتأملي - ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحا مسرورا؛ لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة، ولأحارب الديانة الإسلامية التي تميز البنات الأبكار للسلطان، سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن. ليس للمجد من لم يمت لإيطاليا حقا، تحمسي أيتها الوالدة ... تذكري كاروني التي جادت بأولادها في سبيل وطنها ... إن سألك أحد عن عدم حدادك علي فأجيبيه: «إنه مات في محاربة الإسلام.» الطبل يقرع يا أماه، أنا ذاهب أيضا ... ألا تسمعين هرج الحرب دعيني أعانقك وأذهب.
وسيق رجل من الثوار في حادثة بنجاب إلى مدفعية كان فيها بارود أكثر من المعتاد، فأطلق عليه النار فطار جسمه ممزقا كل ممزق، وأشار الجنرال نيكلسون في كتاب له إلى إدوارد قائلا:
يجب علينا أن نسن قانونا يبيح لنا أن نحرق أو نسلخ جلود الثوار وهم أحياء؛ لأن نار الانتقام التي تتأجج في صدورنا لا تخمد بالشنق وحده، ثم إن الأمم الشرقية اعتادت ألا تحسب للحكومات حسابا ولاتخاف جانبها إلا إذا كانت ذات سطوة قاهرة.
وكتب مدير «أتسار» في ذلك العهد يقول: «كان جميع الضباط في البنجاب يبدءون بالفظائع؛ لإيقاع الرعب في الأهالي لكيلا يتجرءوا على أخذ الثأر منهم.» وذكر لاممسون للسير هنري كلتن عن بعض المسجونين المسلمين قال: «أتاني ذات ليلة عسكري، فقال - بعد التحية العسكرية - أرجو أن ترى المسجونين، فقمت حالا إلى السجن فرأيتهم مربوطين على الأرض يتنفسون آخر أنفاسهم، وكان على أجسامهم آثار الكي بالنحاس المحمي على النار، فرق قلبي لحالتهم التعسة، فأخرجت المسدس وصرت أطلق النار عليهم واحدا بعد آخر لأخلصهم من هذا العذاب الأليم.»
وقد ذكر اللفتنانت ماجدن حادثة قال: «رأيت ذات يوم الإنجليز والسيخ كانوا يطعنون عسكريا هنديا بالحراب لكن طعنهم لم يقتله، فجمعوا الحطب وأشعلوا النار فيها، فلما اشتدت النار ألقوا الهندي المسكين فيها، وصاروا ينظرون إليه بفرح وسرور عظيمين.»
وقال مستر جلادستون من مشاهير الإنجليز: «بوجوب إعدام القرآن وتطهير أوروبا من المسلمين.» وقال لورد سالسبري من عظماء الإنجليز أيضا: «بوجوب إعادة ما أخذه الهلال من الصليب للصليب دون العكس.» وكان الفرنسيون يستنكفون من السفر مع المسلمين في عربات السكة الحديدية في تونس والجزائر. ونادى كيجون اليوناني بنسف الكعبة، ونقل القبر المعظم إلى متحف اللوفر. وحدث مرة أن أحد التجار الفرنسيين عامل أربعة رجال من أهالي غربي أفريقيا بسلع تجارية، ولما استحق له عندهم مبلغ قليل من المال ذهب إلى هؤلاء، وطالبهم بذلك، فاستمهلوه مدة ريثما يتم لهم جمع المال، فأبى وشدد عليهم النكير بالطلب، وأخذ يؤنبهم ويشتمهم، ثم استل الفرنسي مسدسا، وأطلق رصاصة على أحد الأربعة فقتله، ولما رأى الثلاثة صاحبهم يتخبط في دمه قبضوا على القاتل الفرنسي، ونزعوا المسدس من يده وراموا وثاقه وتسليمه إلى الحكومة، فلم يستطيعوا ذلك؛ إذ فر من بينهم بواسطة، وبلغ القاتل مقر الحكومة ما عمل، وشكا أولئك الثلاثة، فأرسلت الحكومة في طلبهم، ولما حضر الثلاثة لدى المحكمة الفرنسية، وأحضر القاتل وأقر الفاعل بقتله حكمت المحكمة الفرنسية بقتل الثلاثة الذين ضربوه لقتل رفيقهم، وفي اليوم التالي سيق هؤلاء الثلاثة إلى فسحة خارج البلد، وربطوا بالأشجار، وأطلق عليهم الجندي الفرنساوي الرصاص حتى فارقوا الحياة، وتركوا على حالتهم دون أن يواروا التراب وهكذا ...
وكانت فكرة الصليبيين في العداء للمسلمين مستمدة من الفكرة اليونانية، كما استمدوا منهم أدبهم وفلسفتهم، وهي أن العالم ينقسم إلى يونانيين وبرابرة، فاعتقدوا هم أيضا أن العالم ينقسم إلى سادة أوروبيين وعبيد من العالم الآخر.
وكان الظن أن يصحح المستشرقون من الأوروبيين هذا الموقف ببحثهم وعلمهم، ولكن تبين أنهم من نفس البيئة التي كونت الصليبيين.
وكان من الأسف أن يكون في طليعة هؤلاء المستشرقين مستشرقون مبشرون فأخذوا يستخدمون الإسلام في الطعن عليه أداة للتبشير، ويختارون الأشياء التي تثير الأروبيين على المسلمين كفكرة تعدد الزوجات وملك اليمين وحديث الإفك ... إلخ.
وجاء من بعدهم من المستشرقين غير المبشرين، فسلكوا مسلكهم واحتذوا حذوهم، ولم يسلكوا مسلك البحث النزيه المجرد بل كانوا يضعون الاتهام أولا، ثم يبحثون عن الأدلة التي تقوي هذا الاتهام فيما عدا القليل النادر منهم.
وكانت نتيجة هذا كله مأساة فلسطين؛ إذ تخلى عنها الإنجليز من غير إنذار للعرب، ومع تواطئهم مع الصهيونيين على ترك حيفا لهم وإنذارهم لهم بالاستعداد والمقاومة.
وزاد الخصومة شدة بين الأتراك والصليبيين توالي الفتوح، وتقدم الأتراك مدى نحو ستة قرون، فالملك أورخان استطاع بجيوشه الكبيرة المنظمة تنظيما جديدا أن يواصل فتوحه وحملاته في عنف متزايد على المدن الساحلية، وتوفي أورخان سنة 1362م وخلفه ابنه مراد، فاتجه نحو شبه جزيرة البلقان، واستمر في فتحه حتى سقطت أدرنه في يده سنة 1366، وحاول البابا أوروبانوس الخامس أن يدعو النصارى إلى حملة تنقذ أدرنه من يد المسلمين، ولكنه لم ينجح، وظلت بلاد البلقان تسقط واحدة إثر الأخرى، وفقد الصربيون استقلالهم، وحاولوا أن يشنوا غارة فانهزموا، واحتل العثمانيون بعد ذلك صوفيا ونيش 1385-1386 وأتم خير الدين باشا فتح مقدونية سنة 1385، وشيد الجامع الكبير المعروف بإسكي جامع.
ثم استولى العثمانيون على سرى، ومن هناك فتحوا سالونيك، وفي عهد محمد الثاني سقطت القسطنطينية سنة 1453، وحولوا كنيسة أياصوفيا إلى مسجد، ولم يقتض تكييفها إلا تعديلات قليلة لتوافق الشعائر الإسلامية فغطيت روائع الفسيفساء الذهبية التي تزين العقود وتمثل الفن البيزنطي أحسن تمثيل بطبقة من الكلس، وصنع محراب صغير في وسط جناح الكنيسة الجنوبي، وإلى يمين المحراب أقيم المنبر بشبكاته الخشبية المذهبة، وعلقت لوحات مستديرة كبيرة تنتظم اسم الله واسم الرسول وأسماء الخلفاء الراشدين بماء الذهب، وأنشئت في الخارج أربع مآذن، وعهد السلطان محمد للمهندس اليوناني خريستو دولوس بتشييد الجامع المعروف بجامع السلطان محمد الفاتح على أنقاض الكنيسة الرسولية التي كانت فيما مضى مدفن الأباطرة، فأتم الجامع من سنة 1463-1469 وكان هذا الانتصار من الأتراك المسلمين سببا في زيادة غضب النصارى عليهم وشركتهم في الانتقام منهم. وأعقبت - مع الأسف - حركة المد هذه حركة جزر، فانهزم الأتراك البحرية في لبانتى، وعقد السلطان سليم الثاني معاهدة صلح مع النمسا سنة 1568 وتعهد بدفع جزية سنوية مقدارها ثلاثون ألف دوقة.
ومع هذا ظل للأتراك قوة استولوا بها على جزيرة كريت. ولما تولى مراد الثالث بن سليم الثاني انغمس في الشهوات كأبيه، وترك لأمه وزوجته الإيطالية تصريف الأمور، وانصرف هو إلى الحريم، وفي سنة 1570 توجه العثمانيون إلى القوقاز وفتحوا تفليس، وخلف مراد الثالث على عرش السلطنة ابنه محمد الثالث، وأخيرا عقد الصلح مع الأتراك بمعاهدة سنفاتورك التي عقدت بين الأتراك وآل هابسبورج، ورفعت الجزية التي كان يدفعها الملوك العثمانيون، ثم شبت الثورات الداخلية بسبب أن جنود الإنكشارية فقدوا احترامهم لسلطة السلطان، وأصبح الجيش العثماني في حال لا تدعو إلى الاطمئنان، فظلوا في انهزام متواتر، وانتهز الفرصة فخر الدين الدرزي المعني في لبنان وجنبلاط الكردي في سوريا وناديا بالاستقلال، وفي سنة 1617 مات السلطان أحمد، وخلفه أخوه مصطفى فتنازل بعد ثلاثة أشهر لابن أخيه عثمان الثاني، ونشبت الحرب بين العثمانيين والبولنديين مما اضطر السلطان إلى أن يشترك بنفسه في القتال، فاضطر السلطان عثمان إلى عقد صلح مع العدو، وما انتهى القرن الثامن عشر حتى هزم الأتراك البحرية في لبانتى، وهزم الأتراك في فينا وأخرجوا من المجر.
وجاء بطرس الأكبر فأشعل النار ضد الأتراك، وفتح أبواب البحر الأسود في وجه القيصر، وكان إلى ذلك الحين بحيرة عثمانية. وعقدت معاهدة بازارو ويج، وخسر الأتراك ممتلكاتهم في المورة وجزر الأرخبيل، ثم قامت الحرب الروسية التركية، فقد تقدم الروس سنة 1770 عبر الجوردان والأفلاق إلى أن بلغوا نهر الدانوب، واحتلوا كيليا وبندر وإيرائيل، وظهر في بحر إيجة لأول مرة أسطول روسي كبير لإشعال الثورة في الإيجيين، وأضرموا النار في الأسطول العثماني في خليج جشمه على ساحل آسيا الصغرى، وخيف على إستنبول نفسها من هجوم مفاجئ. وفي السنة التي تليها انتصر الروس انتصارا آخر؛ فاستولوا على بارقوم، وأخضعوا شبه جزيرة القرم كلها، وتنازل الباب العالي عن جميع مطالبه في بولندة.
وهكذا كان الإسلام وسياسة الأتراك في أوروبا مثارا للصليبيين ليعتمدوا عليهما في التنكيل بالمسلمين.
ثم كان القرن التاسع عشر فتجددت الحروب الصليبية، وكانت الفرصة للنصارى أسنح ؛ لأن تركيا بدأت في الضعف بعد القوة حتى سموها «الرجل المريض»، واتفقت دول أوروبا على تقسيم الشرق إلى مناطق نفوذ، وتطبيقا لهذه الخطة هجم نابليون على الشرق بتنظيماته الجندية الجديدة يقابلها سوء حالة الجيش العثماني، ففي يوليو سنة 1798 جند نابليون حملة على مصر بحجة واهية، وهي أن سوء إدارة المماليك كان يعرض ممتلكات الفرنسيين للخطر، فقضى على المماليك مؤقتا بما تم له من نصر قرب الأهرام، ثم كان من نتائج انتصار نلسن عند أبي قير أن جعل مركز الفرنسيين في مصر حرجا يتعذر الدفاع عنه.
وفي صيف سنة 1798 وجه السلطان سليم الثالث بضع سفن حاملة جنودا إلى مصر، وساعد محمد علي في المعارك التي تلت حتى أكره الفرنسيون على الجلاء، ولكن لم يكن للأتراك العثمانيين يد كبيرة في طرد الفرنسيين من مصر. وزاد الطين بلة أن محمد علي باشا أحس قوة جنده ونظامهم، وأنه أقوى من العثمانيين فهزم الأتراك في نصيبين، وانضمت فرق تركية بكاملها إلى الجنود المصرية، وكانت هذه الكارثة عظيمة الأثر السيئ على الأتراك والمسلمين جميعا؛ لأنه كشف ضعفهم وبين ما هم فيه من الفوضى وسوء الحال، فطمعت دول أوروبا في الاستيلاء على المملكة العثمانية، فتقدم الإيطاليون إلى طرابلس واحتلوها بعد أن كانت خاضغة لحكام إقليميين، ثم تقدم الفرنسيون إلى الجزائر وامتلكوها، واحتل الفرنسيون تونس ثم مراكش، واحتل الإنجليز مصر، وذهبوا إلى السودان، وسعى غوردون لتوطيد الحكم البريطاني المصري في السودان، وقضى كتشنر على إمبراطورية المهدي محمد بن عبد الله حسن المهدي، ثم قصدت أوروبا إخضاع فارس وأفغانستان، واصطدم محمد شاه بالبريطانيين في أفغانستان واقتسمت روسيا وبريطانيا النفوذ في فارس، وهكذا تقسمت أوروبا الشرق وحطمته كل تحطيم، ولم تسمح بأي حركة إصلاحية؛ لأنها عدت الإصلاح عدوا لها، فلما ساءت الحالة جدا بدأ الوعي القومي في البلاد الإسلامية كلها يتنبه بما فيه من خطر، وإذ ذاك ظهر زعماء إصلاح في كل قطر تقريبا، يسودهم كلهم التفكير في موقف قطرهم إزاء الغرب، وكيف الخلاص من هذا النفوذ الأجنبي. وكان كل زعيم ينادي بالإصلاح حسب منهجه ومزاجه: فمحمد بن عبد الوهاب مثلا ظهر في الحجاز، وكان من قبيلة تميم، ظهر في أواخر القرن الثامن عشر، وكان أهم مبادئ إصلاحه الرجوع إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، ودافع عن مبدأ الأخذ بالحديث، والاعتماد عليه كليا عكس ما فعل الفقهاء السابقون من أخذهم بالرأي، واقتنع بمذهب أحمد بن حنبل في اعتماده على الحديث، ودرس مؤلفات ابن تيمية، وكل هذا أقنعه بأن الإسلام لم يعد كما كان، وأن الأتراك شابوه بكثير من المساوئ، وأعاد الرجم للزاني والزانية، واكتسبت تعاليمه أنصارا كثيرين ومريدين، وأبطل الأضرحة وهدمها، وحرم لبس الحرير وأي زينة وزخرف في المساجد، كما تشدد في تحريم المسكرات وتحريم التدخين، ولكن يؤخذ على حركته التشدد والقسوة اللذان هما من طبيعة البدو.
وفي فارس ومصر ظهر جمال الدين الأفغاني يناهض استبداد الحكام، ويفهم الرعية حقوقها وواجباتها، ويدعو إلى رفع نير الاستعمار، فنفته إنجلترا من البلاد.
وفي تركيا ظهر مدحت باشا يدعو إلى الأخذ من المدنية الغربية بقدر نافع، والاقتباس منهم خير ما عندهم في نظم الحكم. ثم جاء مصطفى كمال، ودعا إلى الإصلاح من طريق آخر وهو التخفف من العرب بلغتهم ودينهم كأن هذا ثقل عليه، وغمس الأمة كلها في الحضارة الغربية بحذافيرها من غير تنقية ولا انتخال.
وكان من دعائم إصلاحه: إلغاء وزارة الأوقاف وجعل تدبيرها لرئيس الأمور الدينية وهيئة علمية استشارية بجانبه، وإلغاء المحاكم الشرعية، والمدارس الدينية، وقصر التعليم الديني على كلية اللاهوت التي تتبع الجامعة، وإلغاء الطرق الصوفية، وإغلاق الزوايا والتكايا، وتحريم الألقاب الصوفية من درويش ومريد وأستاذ وسيد وشلبي ونقيب ... إلخ، وتحريم العرافة والسحر والتنجيم وكتابة التعاويذ والأحجبة، وتحديد الزي الديني، وعدم السماح به إلا لطائفة خاصة كرئيس الأمور الدينية والأئمة والخطباء والوعاظ. ومنع الإسراف في الجهاز والزواج فلا ينقل جهاز علانية، ولا تقام مآدب عامة في الأفراح. وسن قانونا مدنيا بدل مجلة الأحكام الشرعية حرم فيه تعدد الزوجات، وخول لكل من الزوجين الحق برفع قضية الطلاق لأسباب معينة، وتحرير المرأة من حيث سفورها ومساواتها بالرجل سياسيا واجتماعيا ومدنيا، ففتح لها مجال الكسب والتوظف في الوظائف. واعتبر الزواج شركة تتألف من جزأين متساويين، وشرع للمرأة حق أن تنتخب وتنتخب، وفصل الدين عن الدولة؛ فلم يستخدم في التشريع ولا في الحكم ولا في الإدارة. وغير كتابة اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية.
وهكذا كانت إصلاحاته مدنية لا دينية، بينما كان على النقيض من ذلك إصلاحات محمد بن عبد الوهاب؛ فهي إصلاحات دينية لا دنيوية، وبين هذا وذاك كانت إصلاحات جمال الدين الأفغاني ومدحت باشا وخير الدين باشا التونسي وأمثالهم، وفي تونس ظهر خير الدين باشا التونسي يدعو كدعوة مدحت باشا.
وفي الهند ظهر السيد أحمد خان والسيد أمير علي يدعوان إلى إصلاح حال المسلمين بدعوة تشبه دعوة مدحت باشا وخير الدين باشا التونسي. وهكذا كان في كل مصر مصلح ينبه الوعي القومي ويحض على الثورة والإصلاح. ولما أحست الدول الأوروبية بكراهة المسلمين ظنتهم أطفالا، فرفعت كلمة الاستعمار ووضعت موضعها كلمة الانتداب؛ ظنا منها أن المسألة مسألة ألفاظ، ولكن لم يكن المسلمون مغفلين إلى هذه الدرجة. فلما قامت الحرب العالمية الأولى وانتهت، كان قادة الأوروبيين والأمريكيين قد نادوا في أيام الشدة بمبادئ العدالة والحرية وأحقية الشعوب المستضعفة في حكم نفسها بنفسها، فلما أرادت أن تتراجع بعد انتهاء الحرب شبت الثورات في مصر وسوريا والعراق وغيرها ضد الاستعمار تريد الاستقلال ففاز بعضها، ولما يفز بعضها، ولا تزال القلوب منطوية على ضغن، وفكرة الحروب الصليبية تعمل عملها إلى اليوم.
الحق أن موقف الأوروبيين المسيحيين عجيب؛ فهم إذا علموا أن شعبا نصرانيا عذب أو أهين ثارت ثورتهم، أما إذا علموا أن المسلمين عذبوا وأهينوا لم تتحرك شعرة فيهم، خذ مثلا هذا الذي كان بين الأرمن والمسلمين؛ فقد تعدى الأرمن على المسلمين، وعذبوهم وقتلوهم فلم يتحرك الأوروبيون لنصرتهم، وتعدى المسلمون على الأرمن وعذبوهم وقتلوهم فثارت ثورة الأوروبيين. ولا يقل قائل إنهم لم يكونوا يعلمون؛ لأن هناك دلائل تدل على علمهم . ولما شبت الحرب الريفية في مراكش أرسل الصليب الأحمر بعثة طبية لمعالجة جرحى الفرنسويين وجرحى المسلمين تبعا. ولكنه لما أراد المسلمون أن يبعثوا بعثة طبية لم يرضوا عن ذلك. وقد حموا نساطرة العراق؛ لأنهم نصارى وتآمروا معهم ضد المسلمين فيه، واتخذتهم لها بطانة. وقال ملك إسبانيا عند حرب الريف: إن إسبانيا اشتهرت منذ القدم بقتال المسلمين، وفي هذه النوبة هي مصممة على ألا تترك قتال المسلم للريف حتى تنصب الصليب هناك محل الهلال. وقد بذلت حكومة هولندا الأموال الكثيرة في تغيير عقائد مسلمي جاوة وسومطرة بواسطة رجال التبشير، ولكنها لم توفق إلى تغيير عدد كبير من المسلمين يساوي المبالغ المصروفة، فعمد بعض رجالهم إلى القول بأنهم لا يعدون المسلمين المحدثين مسلمين، إنما المسلمون من أسلموا منذ أربعة قرون فأكثر. ولم يمنع الحكومة الهولندية أن تأخذ بهذا الرأي سوى تحذير بعض عقلائهم من السير في هذا السبيل؛ لأن الجاويين لا يفرقون بين مسلم قديم ومسلم حديث.
ومالنا نذهب بعيدا وقد سمعنا في الأيام الأخيرة في القتال في فلسطين بين اليهود والمسلمين أنه إذا انتصر المسلمون نادوا بوقف القتال، وإذا انتصر اليهود سكتوا. ويفعل النصارى الأفاعيل في المسلمين فلا يقال إنهم متعصبون، ويفعل المسلمون جزءا صغيرا مما فعله الأوروبيون فيرمونهم بالتعصب المقيت. والخلاصة أن فكرة الحروب الصليبية متغلغلة في نفوسهم، فإن خفيت في عقولهم فهي كامنة في وعيهم الباطن لا يصدرون إلا عنها، ولا يغفرون أبدا للمسلمين أنهم انتصروا عليهم يوما ما، كما لا يغفرون أيضا لهم نجاحهم في إدخال الناس في دينهم حتى من غير تبشير، وعجزهم هم حتى مع التبشير. وقد اجتمعت مرة جمعية الرابطة الشرقية، وأرادت إرسال بعثة طبية إلى جدة لمساعدة جرحى الحجاز في القتال بين الشريف الحسين بن علي وابن سعود، فوافقت على ذلك؛ لأنها كانت تناصر الحسين بن علي. فلما أرادت إرسال بعثة طبية أخرى لمساعدة الريفيين في مراكش أبت عليها ذلك؛ لأن المسلمين في نفس الحرب يحاربون الفرنسيين المسيحيين. والأمثلة على ذلك لا تحصى. فمن الغفلة أن نقول إن الحرب اليوم حرب سياسية لا دينية، لأن المظاهر كلها تدل على ما نقول، ولأن النصرانية وعداءها للإسلام كامنة في نفوسهم لم يزلها أي عامل، غاية الأمر أنها تحت ستار. وأوضح مثل لذلك أنهم عابوا على ملك إسبانيا قوله المتقدم؛ لأنهم يريدون أن يعملوا من غير أن يقولوا، ويستتروا من غير أن يظهروا، وإنما هي فلتات ومقارنات تدل على منحاهم، فليتعظ المسلمون. وإن ما يشيعونه من عدل وإخاء ومساواة ليس إلا فيما بينهم. أما الأجناس المسلمة فليس واجبا عليهم فيهم عدل ولا إخاء ولا مساواة. والحوادث ترينا أن المسلمين أكثر تسامحا وأقل تعصبا، فإذا تعصبوا فمقابلة للتعصب بالتعصب. هذا تاريخ صلاح الدين مع الصليبية: أيهم أكثر تسامحا وأقل تعصبا؟ وهذا الشريف الحسين بن علي، كان يقول القول ويحتفظ به، وكان الإنجليز يقولون القول في الظاهر، ويعملون ضده في الخفاء، وهذا وهذا مما لا يعد ولا يحصى.
إن المسلمين إذا أنسوا من شخص صدقا ووفاء وسلما جروا وراءه اتباعا لقوله - تعالى:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ، والمسيحيون إذا أنسوا من واحد غفلة وقعوا عليه وقوع الحدأة على العصفور أو الصقر على الحدأة.
لقد مر زمن كان المسلمون فيه هم الغالبين فحكموا النصارى واليهود حكما عادلا، لا نعرف في التاريخ مثله، تبعا لتعاليم الإسلام. نعم إن عمر بن الخطاب في أول عهده انتدب يعلى بن أمية لإجلاء النصارى من أهل نجران عن بلادهم، ولكن عذره في ذلك أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان»؛ لأن الإسلام يريد أن تكون جزيرة العرب حصن المسلمين ومنبتهم، وتربية الدعاة للإسلام فيها، وعدم اختلاطهم باليهود والنصارى. والدين غض طري. فأمر بإجلاء أهل نجران.
ومع ذلك فإنه لما أجلاهم عوضهم عن بلادهم بخير منها، وخيرهم في الجهات التي يريدونها؛ لم يشأ رسول الله أن يكرههم على الإسلام فتركهم وشأنهم؛ عملا بقوله - تعالى:
لا إكراه في الدين ، وصالحهم على مال معلوم يؤدونه كل سنة. وشرط عليهم ألا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به. ولما توفي رسول الله أقرهم أبو بكر على الشروط التي اشترطها عليهم الرسول. ولما حضرت أبا بكر الوفاة أوصى عمر بإجلائهم؛ لنقضهم العهد بتعاملهم بالربا، فكان أول عمل عمله أن يجليهم عن أرضهم، وأمر العامل الذي أرسله أن يعاملهم بالرفق ويشتري أموالهم، ويخيرهم عن أرضهم بأي أرض شاءوا من بلاد الإسلام. وكان مما أوصى به عامله: «ائتهم ولا تفتنهم عن دينهم، ثم أجلهم من أقام منهم على دينه، وأقرر المسلم، وامسح أرض كل من تجلي منهم، ثم خيرهم البلدان. وأعلمهم أننا نجليهم بأمر الله ورسوله»، وكتب لهم كتابا قال فيه: «أما بعد، فمن وقعوا به من أهل الشام والعراق، فليوسعهم من حرف الأرض، وما احتملوا من شيء فهو لهم، وكان أرضهم باليمن، فنزل بعضهم الشام، وبعضهم بناحية الكوفة.» وشكوا لعثمان لما استخلف ضيق أرضهم، ومزاحمة الدهاقين لهم، فكتب عثمان إلى عامله بالكوفة يوصيه بهم، ويأمره أن يضع عنهم مائتي حلة من جزيتهم. وكان قد فرض عليهم تقديم الحلل كجزية، ولما ولي معاوية شكوا إليه تفرقهم وموت من مات منهم، وإسلام من أسلم. فوضع عنهم مائتي حلة أيضا. فلما أتى الحجاج أعادهم إلى ما كانوا عليه، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا إليه ظلم الحجاج ونقصهم، فأمر بإحصائهم، فبلغوا العشر، فألزمهم مائتي حلة فقط. فلما ولي هارون الرشيد أعادوا الشكوى إليه من العمال فأمر أن يعفوا من معاملة العمال لهم، وأمر أن تكون معاملتهم مع بيت المال في العاصمة الإسلامية مباشرة.
فنرى من هذا أن خلفاء المسلمين لم يكرهوا أحدا على الدخول في الإسلام، بل تركوا كلا ودينه. ثم التزامهم نحو هؤلاء النصارى بالوفاء بالعهود، ثم حرص الخلفاء على التوالي على حمايتهم وإرضائهم ورفع الظلم عنهم. أرأيت معاملة للمخالفين خيرا من هذه المعاملة؟!
وقد رأينا أنه لما غزا التتار بلاد الإسلام ووقع كثير من المسلمين والنصارى في أسرهم، ثم عادت الغلبة للمسلمين ودان ملوكهم بالإسلام، خاطب شيخ الإسلام أمير التتار بإطلاق الأسرى، فسمح له الأمير التتاري بفك الأسرى المسلمين، وأبى أن يسمح بأهل الذمة، فقال له شيخ الإسلام لا بد من فك الأسرى من اليهود والنصارى لأنهم أهل ذمتنا، فأطلقهم له.
ومما كتبه عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص عامله على مصر: «إن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله بهم، وأوصى بالقبط فقال: «استوصوا بالقبط خيرا، فإن لهم ذمة ورحما» وقال
صلى الله عليه وسلم «من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته، فأنا خصمه يوم القيامة» فاحذر ياعمرو أن يكون رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لك خصما، فإنه من خاصمه خصمه.» وكان آخر وصايا عمر ما كتبه لمن يخلفه من بعده: «أوصيه بأهل ذمة الله، وذمة محمد
صلى الله عليه وسلم
أن يوفي بعهدهم، ولا يكلفهم فوق طاقتهم، وأن يقاتل من ورائهم.»
نعم إن بعض اليهود والنصارى ظلموا على يد بعض الخلفاء والأمراء، وقسا بعض الأتراك عند فتحهم لبعض البلاد الأوروبية، ولكن هذا كان من جهة قليلا، ومن جهة أخرى كان ظلم هؤلاء الولاة والأمراء واقعا على المسلمين والنصارى على السواء، فكم لقي المسلمون من ظلم بعض الولاة والأمراء. وعلى كل حال، فأين ظلم هؤلاء من الظلم الذي أوقعه الإسبانيون بمسلمي الأندلس وفتنتهم عن دينهم، وطردهم لهم عن ملكهم، واغتصابهم تراثهم، وسفكهم دماءهم، حتى لم يبق لهم بعد بضع سنين باقية، وانحطت بعد ذلك مدنية الإسبانيين. وأين تعنت الأوروبيين مع المسلمين في كل العصور المتأخرة، على النحو الذي ذكرناه وسنذكره؟ الحق أن الفرق كبير بين معاملة المسلمين للنصارى، ومعاملة النصارى للمسلمين.
وحتى في عهدنا هذا لا يتمتع المسلمون بين النصارى بما يتمتع به النصارى واليهود بين المسلمين. ولكن على كل حال نرجو أن يثوب الأوروبيون إلى رشدهم، فيحققوا مبدأ الإخاء والمساواة الذي يدعونه.
نعم توالت الضربات على المسلمين في مختلف العصور وعلى أشكال متنوعة، ولكن كلما ضعف المسلمون رزقهم الله - من غير سعي منهم ولا قصد - بمن يجدد نشاطهم وينشط حياتهم، حتى إذا ضعف هذا الجديد حل محله جديد آخر. ولما اقتتل المسلمون أول الأمر كانت الدولة الأموية في أول أمرها قوة لا يستهان بها، فلما كان آخرها جاء العباسيون بقوتهم ثم ضعفوا، فجاء المغول كتيمورلنك وهولاكو وجنكيزخان فخربوا ودمروا، ولكن الإسلام استولى عليهم أكثر مما استولوا، فدخلوا في الإسلام أفواجا وكانوا في أول أمرهم قوة. وما زال خلفاؤهم الأتراك العثمانيون يفتحون ويعمرون حتى ضعفوا أخيرا، وليس يدرى إلا الله ما هي القوة الجديدة التي ستبعث في الإسلام والمسلمين روحا جديدة، ولكن الطوالع تدل على أن المصلحين من المسلمين سيتغلبون آخر الأمر، ويعيدون للمسلمين شبابهم بتجنب ما كان من غلطات في تاريخهم، ويكون شأنهم شأن الطبيب يعرف العلة وأسباب المرض ثم يضع العلاج. فإن سألت: لم تأخر المسلمون وتقدم الأوروبيون؟ فاعلم أن المسلمين تأخروا لكل الأسباب التي ذكرناها. لقد كان المسلمون الأولون مملوئين بالحماسة والروح وهذا سر قوتهم، والإسلام حتى فيما حكي عن غيره من الديانات كانت مزيته أنه ملأها قوة. فأصبحت تعاليم الإسلام بعد ذلك عبارة عن أشكال ظاهرة لا روح فيها؛ خلت الروح من الصيام والصلاة والحج وصارت مجرد أشكال.
وقد استولى الصليبيون على المسلمين وجعلوهم خدما أذلاء، واغتصبوا حقوقهم لما ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس، وأصبح المسلمون يفضلون آباءهم على الله ورسوله.
ولما نظر الصليبيون للإصلاح الذي قام به محمد بن عبد الوهاب، وما فيه من شدة وجفوة، وتقييد للحرية، وعدم تعامل بالربا اتهموا الإسلام بالتعصب الديني، مع أن هذا ليس نتيجة للإسلام. إنما كان نتيجة للبيئة البدوية التي نشأ فيها محمد بن عبد الوهاب.
والحق أن دين كل أمة نتيجة أيضا للحالة الاجتماعية التي يحياها قومها. فالبروتستانية حين نشأت كانت متعصبة تعصب محمد بن عبد الوهاب، فلما تغيرت حالة الأوروبيين الاجتماعية تغيرت الديانة البروتستانية.
هذا إلى أن جهل العالم الإسلامي وخلوه من العلماء كان سببا أيضا لهذا التدهور. ونعني بالعلماء، علماء العلم الحديث من طبيعة وكيمياء وغيرهما مما يساير العالم الحديث، فلا نزال إما سائرين على النمط القديم في الري بالساقية والشادوف، والزرع بالثور والجاموس، وإما مقلدين للأوروبيين فيما اخترعوا من غير تحسين أو ابتكار. وقد قيل: «إن ابتلاء الأمة بمجنون خير من ابتلائها بنصف عالم» ونصف العالم هو الذي يقلد ولا يخلق.
يضاف إلى ذلك إسراف المسلمين في الملذات والشهوات، ولا سيما الخمر والنساء وخاصة الأمراء. فقد ثبت في ذهن هؤلاء الأمراء أن الشعب ملك لهم، يتصرفون فيه كما يشاءون، وأن لهم أن يسخروهم في كسب ملذاتهم وشهواتهم. وعلماء المسلمين يتملقونهم ويغضون الطرف عن فسادهم.
ولذلك لما كان الملك صالحا كعمر بن عبد العزيز أحاط نفسه بعشرة من العلماء الطيبين، ينصحونه ويبصرونه بروح الإسلام ويسيرونه على الجادة.
ومن أهم أسباب ضعف المسلمين بخلهم عن التضحية، وهم يريدون النصر من غير إنفاق، ويعز عليهم الإنفاق؛ لأنهم يئسوا من النصر أمام العدو القاهر، وشحوا بالمال في أن يبذل في هذا السبيل. وإذا كانوا أشحاء بالمال فهم بنفوسهم أشح. وفي الحديث: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها.» قال قائل: «ومن قلة نحن يومئذ؟» قال
صلى الله عليه وسلم : «بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم. وليقذفن في قلوبكم الوهن» قال: «يا رسول الله وما الوهن؟» قال
صلى الله عليه وسلم : «حب الدنيا وكراهية الموت.»
وقد منع المسلمين من التضحية حب الدنيا وكراهية الموت. وقد رأينا في الحرب العالمية الأولى والثانية أن كل أمة نصرانية حافظت على نفسها، وبذلت من التضحيات ما بذلت للمحافظة على كيانها. حتى أن الأمة ولو كانت صغيرة أبت أن تنضم حتى إلى من كان من جنسها، فقد لبثت روسيا من مائة سنة إلى ثلاثمائة سنة تحاول إدخال بولونيا في الجنس الروسي، وحمل البولونيين على نسيان قوميتهم الخاصة بحجة أن الجنس السلافي يجمع بين البولونيين والروس ففشلت جميع مساعيها، واحتفظوا بشخصيتهم وقاتلوا عنها قتال الأبطال ولم يعجزوا عن المحافظة على استغلالهم. كما خاب الروس في إدماج أهل لتوانيا، وعجزوا هم والألمان عن إدخالهم مع أنهم لا يبلغون أكثر من أربعة ملايين، وكذلك فعل الصربيون والبلغاريون مع الأتراك.
وكانت الدماء في الحرب العالمية الأولى والثانية تجري أنهارا؛ حبا في الغلبة أو محافظة على الاستقلال، فلا يكون نصر أو استقلال من غير تضحية، فطمع المسلمين في النصر أو الاستقلال من غير تضحية بالأموال والأنفس طمع إبليس في الجنة، ولا يهولنك ما يقول المتشائمون الملحدون الجامدون من أن المسلمين لا طاقة لهم بحرب الأوروبيين؛ لأنهم يعجزون عن دفع ما عند الأوروبيين من مخترعات حديثة وآلات فتاكة ونحو ذلك. وليس عندهم من العلماء من يبتكر ويخترع كما عند الأوروبيين، فهذا قول مردود بأن عدد المسلمين الذي لا يقل عن أربعمائة مليون لو اتحدوا لأمكنهم أن يوجدوا علماء إذا صمموا، فلا ينقصهم ذكاء وعقل ولكن ينقصهم إرادة وعزم. وأنهم إذا وجد العلماء ووجد المال؛ وجدت آلات القتال لا محالة فدفعوا القوة بالقوة، ولهذا قال الله - تعالى:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، وقال:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليس عمل الصالحات مقصورا على الصلاة والصيام والحج، ولكن منها أيضا بذل الأنفس في القتال ومقابلة القوة بالقوة، والاستعداد للعدو ما أمكن ونحو ذلك.
وقد بدأ العرب يدب فيهم الوعي القومي بعد أن جاءهم القرن التاسع عشر وهم في منتهى الخمول، فربما لو قارنا حالهم اليوم بحالهم الأمس لم نستطع أن نرى الفرق كبيرا، ولكن لو قارناهم بحالهم منذ مائة عام لبان الفرق واضحا. فلما زار الرحالة الفرنسي فولنيه مصر في أواخر القرن الثامن عشر قال في وصفها: «إن الجهل فيها عام مثل سائر تركيا، وهو يتناول كل الطبقات. ويتجلى في كل العوامل الأدبية والطبيعية والفنية حتى الصنائع اليدوية في أبسط أحوالها، ويندر أن تجد في القاهرة من يصلح الساعة وإذا وجد فهو إفرنجى.» ويقول عن سوريا: «إن الجهل سائد فيها كسائر تركيا، وليس في العرب أو الأتراك الآن علماء في الرياضيات أو الفلك أو الموسيقى، ويندر فيهم من يحسن الفصد، وإذا احتاجوا إلى الكي استخدموا له النار، وإذا عثروا على متطبب إفرنجي عدوه من آلهة الطب. وأما علم النجوم فقد صار عندهم للنجامة واستطلاع الطوالع.»
ويقول بوركهارت في الملحق الثاني من كتاب رحلته في سوريا وفلسطين عما أصاب مدينة حلب، فيصف الويلات التي فيها للتنازع الشديد بين العائلات صاحبة الحول والطول في الإقطاعات المختلفة، وانقسام زعمائمهم بعضهم على بعض، وعدم طاعتهم للحاكم، وهتك الإنكشارية لحرمة البلاد، وهم جنود لا يرعون الأنظمة ولا يعرفون من السلطة إلا جباية الأموال وقطع الطريق وسلب الناس أشياءهم. أما الباشوات فكانوا لا يحافظون على راحة الأهلين إلا ما كان فيه الصفقة الرابحة والتجارة غير الخاسرة لشخصياتهم. وولايتهم سنة فحسب، وفيها يكسبون ما يستطيعون من الأموال؛ خيفة أن يصبحوا فقراء معدمين، ويسترضون عملاء السلطان في الآستانة، كما يتنعمون في بلاد يصيرون فيها حكامها المطلقين لبعدها عن مركز الخلافة وصعوبة المواصلات.
ولذلك كان نوم الشعب عميقا لم يستطع أن يصحو إلا على صوت المدافع، فلم ينتبه إلا بصوت المدافع في تركيا حين غزتهم الجيوش الأوروبية، وفي مصر حين غزاهم نابليون فهذا الغزو أفاقهم ونبههم. وكان في حملة نابليون كثيرون من خيرة العلماء الفرنسيين المختص كل منهم بفرع من العلم من عاديات ودينيات واقتصاد وجغرافية ... إلخ. وكانت مقسمة إلى أربع فرق: فرقة للرياضة، وفرقة للطبيعة، وثالثة للآداب، ورابعة للاقتصاد. ففقرقة الرياضيات خططت القاهرة، وهيأت الرسوم لمشروع قنال السويس، وأحصت الضرائب التي جباها المماليك من أهل البلاد. وفرقة الطبيعيات اهتمت بوضع إحصاء طبي لأمراض مصر، وجوها، وتربتها، وطعامها، وإحصاء المواليد والوفيات، وشددت بوجوب الإخبار عن أي مرض في نواحي كل بلدة. واشتغل العلماء الكيماويون في تصفية مياه النيل وتقطيرها، وتخليص الأملاح المستخرجة من الأعشاب والنباتات، واهتمت فرقة الآداب بإنشاء مكتبة يؤمها رجال العلم، ومن يريد المطالعة في ساعات معينة. ومما عنيت به من المسائل الاقتصادية جواز السفر، ووجوب استخراجه، وإثبات ورثة الميت بأحقيتهم في الوراثة ... إلى آخر ذلك.
وجاء المصريون بعد فقلدوهم في أعمالهم وساروا على منوالهم. ثم قلدهم غيرهم من الممالك المحيطة بهم كسوريا وغيرها. وكان هناك نوع آخر من الاحتكاك بالأوروبيين وهو إرسال البعثات إلى أوروبا وخصوصا فرنسا وإنجلترا؛ لتعزيز الجيش وتنظيمه على نظام جديد، ولذلك عني محمد علي بتأسيس كلية الطب؛ للمحافظة على أرواح الجنود، وأنشأ كثيرا من المدارس لخدمة الجيش، وغرس الأشجار وخاصة القطن لإصلاح الثروة القومية.
والعامل الثاني كان إنشاء المطبعة، فقد كانت سببا في نشر الكتب القديمة، وترجمة الكتب الحديثة، ووصولها إلى عدد كبير من الخاصة وتوسيع ثقافتهم، وقد انتشرت المطابع على أساس المطبعة التي أتت بها حملة نابليون وسميت بالمطبعة الأهلية، ثم كان من أسباب هذا الوعي القومي الوسائل الثلاث التي تكونه عادة، وهي: الصحافة، والسينما، والإذاعة.
فالصحافة غذت الرأى العام كثيرا بما كانت تنشره من آراء ضد عسف الأمراء وجورهم، وهي أيضا أسست على أنقاض جريدة حملة نابليون. وقد تطورت هذه الصحافة بتطور الرأي العام، تغذيه كل يوم بآرائها وأفكارها وأخبارها. وأما السينما؛ فكانت وسيلة لنقل الحياة الأوروبية بجدها ولهوها إلى الشعوب الإسلامية، وعرض الحياة الأوروبية في المنازل والحروب وما إلى ذلك، فكانت عاملا كبيرا في نقل المدنية الغربية. وأما الإذاعة؛ فإن كبار الكتاب والأدباء بما يلقون من محاضرات، وكبار الفنانين بما يعرضون من فن قد رقوا الرأي العام وبلوروه، على أنه - والحق يقال - لا يزال الرأي العام في البلاد الإسلامية في بدء نهضة، لم ينضج بعد النضج الكافي؛ فإنه لا يزال يخدع بالترهات، ويستولي عليه المهوشون، ولا يستطيع التفرقة الدقيقة بين الحق والباطل، وبين ما يجب وما لا يجب، وهو يهتم عادة بالمطالب أكثر مما يهتم بالمسئوليات، ولا تزال الصحافة والإذاعة والسينما مقيدة الحرية اللازمة لتكوينه تكوينا تاما. وهو لا ينضج حتى يعقله المصلحون، ويمرنوه على المنطق الصحيح والنظام والطاعة والحرية.
ومن العجيب أن أعراض المرض في كل الأقطار الإسلامية تكاد تكون متماثلة؛ لأن ما جرى عليها من أحداث متماثل، والمصلحون يتشابهون أيضا في جوهر إصلاحهم. غاية الأمر أن الاختلاف بينهم إنما هو اختلاف في البيئات التي كونتهم، ومقتضيات كل بيئة، فإصلاح محمد بن عبد الوهاب إصلاح مصبوغ بالصبغة البدوية لبيئته البدوية، وجرى على أثره السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وإن كانت آثار الحضارة ظاهرة في إصلاحهما، وإصلاح مدحت باشا وخير الدين التونسي إصلاح مدني بتقليد الغربيين في نظام الحكم وإصلاح الحكومة وما إلى ذلك، متأثرين بثقافتهما الأوروبية، وإصلاح تركيا الفتاة ومصطفى كمال إصلاح أوروبي بحت لا ينظر إلا إلى ما فعلته أوروبا في قوانينها ونظمها وعلومها من غير نظر إلى الإسلام وما يتطلبه وما لا يتطلبه تبعا أيضا لبيئتهم.
ولصعوبة الوحدانية، وميل العوام دائما إلى الوثنية، ودعوة الإسلام إلى الإيمان بالمغيبات من جن وملائكة كثرت الخرفات والأوهام، وعاد الناس إلى وثنيتهم الأولى يقدسون الأبطال والأضرحة والأولياء كما يقدسون أماكن خاصة وأزمنة خاصة، من مثل: نعل الكولشني، وبوابة المتولي، وشجرة العذراء، وأمثالها. لذلك لم يعتمدوا كثيرا على ربط الأسباب بالمسببات؛ فهم يدفعون الحروب بالدعوات، ويستجلبون الشفاء بطلب البركة، ويمنعون الشرور بالتعاويذ، إلى أمثال ذلك.
وقد ظهرت آثار الوعي القومي في مناهضة الاستعمار ومناهضة من يلوذ به من أهل البلاد، فجعلت الحكم الأجنبي صعبا عسيرا ليس بالسهل اليسير كما كان، ونبهت الخاصة إلى وجوب تنشئة علماء ليسوا كالعلماء السابقين ممن يعنون بالطبيعة والكيمياء ونحوهما، وأنهضت الصناعة بعد أن فهمت أن البلاد ليست حقلا زراعيا للمستعمر، وأن البلاد لا بد أن تنهض على الصناعة والزراعة معا. وأصلحت ما أمكن إصلاحه من الشئون الاقتصادية؛ فزادت ثروة البلاد، وقاربت بين الطبقات، ثم طالبت بالاستقلال التام، فمنها من نجح بفضل قوته وانقسام الدول الأوروبية على نفسها في الاستعمار كسوريا ولبنان، ومنها من خطت خطوة لا بأس بها في هذا الاستقلال وإن لم يتم بعد كمصر والعراق.
لقد قلت محاضرة وأنا في السنة الثالثة من مدرسة القضاء سنة 1910 بمناسبة افتتاح السنة الهجرية، كان من رأيي إذ ذاك أن من أكبر أسباب انحطاط المسلمين الحكام ورجال الدين، ولا يزال هذا القول صحيحا إلى اليوم؛ فالحكام بيدهم زمام الشعوب وقد قال الله - تعالى:
ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ، وقال:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، وقد أساءوا إلى المسلمين من جهتين: فأولا من جهة تنازعهم على الخلافة أو الإمارة أو السلطة، وقد كان هذا العمل سلسلة في تاريخ الإسلام لا تنقطع من عهد أن اختلف علي مع أبى بكر، ثم اختلف علي مع عثمان ثم معاوية، ثم نكل السفاح بالأمويين وذبحهم وشردهم، ثم ما كان من الاختلاف بين المأمون والأمين حتى قتل الأمين، ثم ما كان من الخلاف بين السلجوقيين وتنازعهم على الملك، وتقاسمهم العلماء والأدباء، وتعريضهم للقتل أو النفي. ومن ناحية أخرى إمعانهم في شهواتهم ولهوهم، وجباية الأموال بالقتل أو المصادرة أو كثرة الضرائب، وعكوفهم على الخمر والنساء، وحسبك دليلا على ذلك أن كان يقدر ما يصرف على قصر يلدز في عهد السلطان عبد الحميد بألف جنيه كل يوم، مع أن قدرة الجنيه على الشراء وقتئذ أكثر من ثلاثة أمثاله اليوم.
أما العلماء؛ فمسئوليتهم من ناحيتين أيضا؛ الأولى: أنهم أذاعوا في عامة الشعب الأحاديث والتعاليم التي تؤيد السلاطين في عصورهم من مثل: السلطان ظل الله في أرضه، وأنه إنما يحكم بأمر الله وإرادته، وأنه إن ظلم فإنما يظلم بظلم الناس. ومن ناحية أخرى استخدامهم في تخدير الشعب ورضاه بحالته من طريق خطب يوم الجمعة في المساجد أو الدروس الدينية أو الوعظ والإرشاد وما إلى ذلك، قال الغزالى في الإحياء: «اعلم أن الخلافة بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة علماء بالله - تعالى - فقهاء في أحكامه، وكانوا مستقلين بالفتاوى في الأقضية؛ فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرا في وقائع لا يستغنى فيها عن المشاورة فتفرغ العلماء لعلم الآخرة، وتجردوا لها، وكانوايتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا، ويقبلون على الله - تعالى - بكنه اجتهادهم كما نقل من سيرهم، فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم؛ لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف؛ فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا، فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم؛ فاشرأبوا لطلب العلم توصلا إلى نيل العز ودرك الجاه قبل الولاة، فأكبوا على علم الفتاوى، وعرضوا أنفسهم على الولاة فتعرفوا إليهم، وطلبوا منهم الولايات والصلات، فمنهم من حرم ومنهم من أنجح والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم، إلا من وفقه الله - تعالى - في كل عصر من علماء دين الله.
وقد أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية؛ لشدة الحاجة إليهما في الولايات والحكومات، ثم ظهر بعدهم من الصدور والأمراء من يستمع مقالات الناس في قواعد العقائد، ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها فتغلبت رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام، فأكب الناس على علم الكلام، وأكثروا فيه التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله، والنضال عن السنة، وقمع المبتدعة، وكان زعم من قبلهم أن غرضهم الاشتغال بالفتاوى الدينية، وتقلد أحكام المسلمين؛ إشفاقا على خلق الله ونصيحة لهم، ثم ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب الخوض في الكلام، وفتح باب المناظرة فيه؛ لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة - رضي الله عنهما - على الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم، وانثالوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد - رحمهم الله تعالى - وغيرهم. وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع، وتقرير علل المذاهب، وتمهيد أصول الفتاوى، فأكثروا من التصانيف في الاستنباطات، ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، وهم مستمرون عليه إلى الآن ، ولسنا ندري ما الذي يجد الله فيما بعدنا من الأعصار، فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلاف والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة، أو إلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضا معه، ولم يسكتوا أيضا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علم الدين، ولا مطلب لهم سوى التقرب من رب العالمين. ا.ه.»
أقول هذا ما قاله حجة الإسلام في جماهير علماء المسلمين إلى عهده في أواخر القرن الخامس والقرون الخمسة الأولى خير زمن المسلمين علما وعملا وتمسكا بالدين، ثم كان الأمر أمر من ذلك وأقسى من جهالة العلماء، ومزج الدين بالتصوف وبالخرافات، فازداد تفرقهم إلى شيع، ثم احتاج إليهم الأمراء في تخدير الرعية، وإثارة الخلاف بين السنية والشيعة، فعملوا بإشارتهم، وخدروا الرعية كما أمروا، وبالغوا في تعليم الناس أن ما كان مقدرا لا بد أن يكون، وأن ما يحدث بقضاء الله وقدره، وأن الفقير فقير لقضاء الله عليه بالفقر، والغني غني لقضاء الله له بغناه، والسلطان سلطان بقضاء الله بسلطانه. وأن السلطان ليس مطلوبا منه عدل في رعية ولا نظر إلى مصالحها؛ فهو إنما يفعل ما يفعل تحقيقا لمشيئة الله.
كل هذا أضعف من قيمتهم في نظر الملوك أنفسهم وفي نظر الشعوب إلا من عصم ربك، ومثل علماء الدين مشايخ الطرق الصوفية، وقد خضعوا أيضا للسلطان، واستذلوا له وخدروا الشعب من طريق تصوفهم تارة بأن الولاية يصح أن تجتمع مع مخالفة الدين، وتارة من جهة أن السلطان خليفة الله، وإنما يأتي ما يأتي بأمر من الله وإطاعته، فتعاونوا مع الأمراء تعاون العلماء معهم في خدمة مصالحهم الشخصية من طريق خدمتهم للسلاطين والكبراء. على أن الدين في كل أمة ليس هو كل شيء ورقي الأمم وانحطاطها يرجع إلى أسباب كثيرة أحدها الدين. يرجع إلى الحالة الاقتصادية في الشعوب، وإلى الحالة الاجتماعية، وإلى وجود العلماء المخترعين، وإلى الدين أيضا، بل إن الدين يتلون بلون الأمة ولون عقيدتها، فالنصارى أنفسهم دينهم اليوم ، وإن سمي بالنصرانية ليست هي النصرانية التي كانت في القرون الوسطى، ولا النصرانية التي كانت في أول عهد البروتستنتية، لكنها نصرانية تغيرت بتغير العقلية. وحسبنا دليلا على ذلك أن أمة اليابان وهي وثنية الدين لما حذت حذو أوروبا وأمريكا في نهضتها؛ فأيدت علماء الطبيعة والكيمياء وعلمتهم التعليم الحديث، وشجعتهم على الاختراع والابتكار ساروا سيرها، ووصلوا إلى ما وصلت إليه أوروبا وأمريكا، وحاربوا روسيا وانتصروا عليها، ثم حاربوا أوروبا وأمريكا وانتصروا عليهم أولا وإن انهزموا أخيرا. ولم تمنعهم وثنيتهم أولا من النهوض والتقدم، وكان تقدمهم في وسائل النهضة الأخرى مغطيا لانحطاطهم الديني؛ فكيف لو صلح دينهم وسمت روحانيتهم؟! فقوانين النهوض والانحطاط واحدة في جميع الأمم، وطبيعية كطبيعة الشمس تطلع على الكافر والمؤمن وتنبت الزرع للكافر والمؤمن، ولم يجعل الله التقدم مقصورا على أمة دون أخرى، وعلى أهل دين دون آخرين، إنما هي هذه القواعد الطبيعية التي من سار عليها تقدم؛ مسلما كان أو كافرا أو وثنيا، ومن لم يسر عليها تأخر؛ مسلما كان أو كافرا أو وثنيا والله - تعالى - يقول:
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، والمتقون هنا من راعوا كل شروط التقدم، لا من أكثروا الصلاة والصوم والزكاة والحج فقط، فإذا استوفت أمة كل هذه الشروط تقدمت لا محالة، وإذا كانت هذه الشروط عشرة فاستوفت تسعة أو ثمانية كان تقدمها بمقدارها. والدين أحد هذه الشروط، لا كلها؛ فالمشركون لو توفرت لديهم كل الشروط ما عدا الدين تقدموا تقدما ناقصا بقدر عامل الدين الصحيح.
وقد شاء الله أن يكون تقدم الأمم وانحطاطها. بشروط طبيعية، كشروط تمدد الأشياء بالحرارة وانكماشها بالبرودة، وانجذابها وفقا لقانون الجاذبية، والكهربة وفقا لقوانين الكهربة وهكذا، فإذا حصلت الأسباب حصلت المسببات، فإذا سار المسلمون سير غيرهم في تقدمهم نهضوا نهضتهم، وبقدر ما يحققون من شروط يكون مقدار نهضتهم، ولا يعبأ الله بالأسماء؛ مسلما كان أو نصرانيا أو وثنيا، إنما يعبأ بالأسباب. والمثل العربى يقول: «ومن سار على الدرب وصل.» وأول هذه الشروط هو الوعي القومي الناضج ومعرفته هدفه. وقد تقدم المسلمون بعض التقدم على قدر وعيهم القومي غير الناضج، وغير المحدد الهدف، فإذا حدد هدفهم، ونضج وعيهم زاد تقدمهم وإلا لا. سنة الله التي خلق الناس عليها ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا، والله - تعالى - يقول:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، فتقدم المسلمين أولا وتأخرهم أخيرا ثم نهضتهم ثالثا لم تكن مجرد حوادث ليس لها تعليل طبيعي، وإنما هي معللة تعليلا طبيعيا يدركه ذوو العقول الراجحة.
لو نظرنا إلى حال المسلمين في عهد الرسالة وصدر الإسلام وجدناهم كتلة واحدة توحدت غاياتها، وتوحدت عقيدتها، وتوحدت تقريبا جنسيتها، ولهذا كانوا قوة فتحت فأحسنت الفتح، ونظمت فأحسنت التنظيم. وليس يقوم للعالم الإسلامي قائمة إلا بهذا التوحيد في العقيدة وفي العمل، ولهذا دعا كثير من المصلحين إلى الجامعة الإسلامية ويعنون بها الرابطة التي تربط بين المسلمين في مختلف الأقطار من فرس وترك وعرب، وقد كانت كلمة مفزعة لأوروبا في القرن الماضي، وليس صحيحا ما قاله المرحوم سعد باشا زغلول: «إن صفرا وصفرا يساوي صفرا»، بل الصحيح أن: «ناقص خمسة في ناقص خمسة يساوي زائد خمسة وعشرين» فكل دولة وحدها قد لا تساوي شيئا، ولكنها جميعا تستطيع الوقوف أمام الاستعمار الأوروبي، وإذا كان الأوروبيون يتكتلون على الباطل لمحق المسلمين، فأولى أن يتكتل المسلمون على الحق لدفع كارثة الاستعمار، وقد كان أول من نادى بها في العصر الحديث السيد جمال الدين الأفغاني، وخلفه الشيخ محمد عبده، والسيد عبد الرحمن الكواكبي، غير أن طريقة السيد جمال الدين كانت قوية عنيفة؛ إذ كان يريد الثورة على الملوك والأمراء في الداخل، وإشعال نار الشعوب ضد الخارج، أما الشيخ محمد عبده فكان في ذلك هينا لينا يريد الجامعة الإسلامية من طريق التربية والتعليم، والسيد عبد الرحمن الكواكبي كان أقرب إلى السيد جمال الدين، وكان أشد فى محاربة الأمراء، وألف فى ذلك العهد كتاب «طبائع الاستبداد» ضد السلطان عبد الحميد ، كما ألف أم القرى لرسم خطه الجامعه الإسلامية، ولم تطق أوروبا صبرا على جريدة العروة الوثقى التي كان يصدرها السيد جمال الدين في باريس، فأغلقتها بعد صدور العدد الثامن عشر، وكان السلطان عبد الحميد يحارب هذه النزعة أولا، ثم أراد أن يحتضنها وأهلها أخيرا؛ لما تبين له هو نفسه من نفعها، وكان الشيخ علي يوسف يبشر بهذه الدعوة في جريدة المؤيد؛ إذ كان ينشر فيها أخبار العالم الإسلامي، والآراء في تكتله، وكذلك مجلة المنار؛ إذ كانت تعبر عن آراء الشيخ محمد عبده، والسيد رضا، ثم خفتت الدعوة بوفاة السلطان عبد الحميد الذي كان يحميها.
وأيا ما كان؛ فقد أحس الأوروبيون بخطر هذه الدعوة، وحاربوها بكل قوتهم؛ بصحفهم ومؤتمراتهم وكل قوة لديهم؛ لما تبين لهم من قوتها وخطرها إذا تحققت، واستنجد بعض الأوروبيين الشعوب المسيحية طالبين إعانة سنوية، والنهضة بالمبشرين، وتعيين المبشرين الكبار في الجهات التي يوجد فيها مسلمون، ونشر الرسائل، وإنشاء مجلة لمقاومة فكرة الجامعة الإسلامية، ونشر جريدة لبيان الأفكار التي تطبع مؤيدة لها، وهكذا. وكان من نتيجة ذلك أن اجتهد رئيس المبشرين وهو المستر «زويمر» في عقد مؤتمر للنظر في هذه الحالة، فانعقد المؤتمر في سبتمبر سنة 1911م، وكان هذا الموضوع - موضوع الجامعة الإسلامية، وكيفية مقاومتها - من أهم موضوعاته، وخصص لجنتان منه لهذا الغرض. وقد افتتح الرئيس «زويمر» المؤتمر بأن بدأ يدعوه للبحث في الوسائل التي يمكن بها مقاومة الإسلام، وكان يتبع المؤتمر غرفتان عرضت فيهما الغرائب المتعلقة بالإسلام مع مطبوعات جمعية التوراة التبشيرية، واشترك في هذا المؤتمر 168 مندوبا و113 مدعوا عن أربع وخمسين جمعية تبشيرية، وعلى رأس المؤتمرين القسيس زويمر الذي تصفه جريدة فرنسية بأنه لا يهزم، وبأنه درس الإسلام في شعوبه، ومنع الصحفيون الإنجليز والأمريكان من شهود هذا المؤتمر، ولم توزع عليهم النشرات إلا بعد تنقيحها. وقد قال الرئيس في مجلة العالم الإسلامي: إن الإسلام تمخض في السنوات الخمس الأخيرة التي أعقبت مؤتمر مصر عن حوادث خارقة لم يسبق لها نظير، ففيها حدث الانقلاب الفارسي، والانقلاب العثماني ، وفيها انتبهت مصر لحركتها الحاضرة، وعني المسلمون بمد السكة الحديدية، وتأسست في الهند مجالس شورية، ودخلت الأمور الإسلامية في قالب يلائم العصر، ازداد به التمسك بمبادئ الإسلام، وانتشر الإسلام في أفريقيا والهند الغربية والجزائر الجنوبية، وكل هذه الحوادث تحتم على الكنيسة أن تعمل بحزم وجد، وتنظر في أمر التبشير والمبشرين بكل عناية، وعلى ذلك فسيوضع برنامج للأمور الآتية:
درس الحالة الحاضرة. إنهاض الهمم لتوسيع نطاق تعليم المبشرين والتعليم النسائي. إعداد القوات اللازمة ورفع شأنها. وقد حز في نفس الرئيس ما صارت إليه حالة المسلمين وارتقاؤهم، وكان مما قاله: إن لفظة العالم الإسلامي ليست شيئا اخترعه المبشرون، وإنما هو حقيقة موجودة، كلمة دقيقة تدل على موقف حقيقي، وقال: إن عدد المسلمين يزيد قليلا على مائتي مليون، والتبشير فيهم يحتاج إلى نفقات طائلة، خصوصا وأن الإسلام ينتشر بسرعة، والمبشرون المنتشرون على ضفتي النيل وشرقي أفريقيا وبلاد النيجر والكونغو يشكون مر الشكوى من انتشار الإسلام بسرعة في هذه الأنحاء، ومع أن انتشار الإسلام في الهند قد لقي موانع من مجهودات جمعيات التبشير الهولاندية والألمانية، فهو يتوطد هناك؛ لأن المسلمين أخذوا يستبدلون بالتقاليد القديمة عقائد ثابتة وقوية، وانتقل الرئيس إلى وصف الانقلابات التي حدثت في البلاد الإسلامية، وحمد الله عليها، وأثنى على احتلال الجيش الفرنسي لمقاطعة واداي في أفريقيا، وقال: إنه لم يبق الآن إلا 37 مليونا و128 ألفا و800 آحادا، تحت سلطة حكومة إسلامية، وقال: إن الإسلام بدأ يتنبه لحقيقة موقفه، ويشعر بحاجته إلى تلافي الخطر، وهو يتمخض الآن عن ثلاث حركات إصلاحية؛ الأولى: إصلاح الطرق الصوفية، والثانية: تقريب الأفكار من الجامعة الإسلامية، والثالثة: إفراغ العقائد والتقاليد القديمة في قالب معقول. وأشار إلى قول الدكتور «و. شيد»: إن الإسلام يتحكك في كل قطر بالمدنية العصرية ومبادئها، وقال: إنه ليس في الإمكان التقدم الاجتماعي والعقلي إذا خلوا من كل صبغة دينية، وانتقل «زويمر» بعد ذلك إلى استنهاض الكنائس لمقاومة المسلمين، ونشر التبشير بينهم، وختم القسيس كلامه بقوله: «إذا نظرنا إلى البلاد التي يحكمها هذا الدين الكبير المخاصم لنا، وإلى البلاد التي يتهددها بحكمه، يظهر لنا أن كل واحدة من هذه البلاد هي رمز لعنصر من المعضلة الكبرى، فمراكش في الإسلام مثال للانحطاط، وفارس مثال للانحلال، وجزيرة العرب مثال للركود، ومصر مثال لمجهودات الإصلاح، والصين مثال للإهمال، وجاوه مثال للتغير والانقلاب، والهند مركز للتحكك بالإسلام، وأفريقيا الوسطى مكان للخطر الإسلامي، وهذه كلها مشاكل يحتاج الإسلام معها قبل كل شيء إلى المسيح. •••
ومن المؤسف أن حاجة المسلمين إلى الجامعة الإسلامية هي اليوم كما كانت ولم تتقدم كثيرا، ولم تكف أوروبا عن مناهضتها، وكل حادثة من الحوادث الكبار تؤيد الرأي القائل بأن المسلمين لا تقوم لهم قائمة إلا بهذه الجامعة، وآخر حادثة كانت هي حرب فلسطين، فإن العالم العربي لم يتحد على مقاومة اليهود، كما اتحدت إنجلترا وأمريكا على مناصرتهم، فضلا عن عدم اتحاد العالم الإسلامي، ولو ظل الأمر على هذا النحو فلم يتعظوا بهذا ولم يلموا شملهم، فستضيع كل يوم بلاد إسلامية جديدة، فهل يتعلم المسلمون اليوم هذا الدرس، بما أصابهم من فشل؟ أو سيبقون كما هم حتى يلدغوا من جحر واحد مرتين وثلاثا لا قدر الله؟ إن الجواب عن هذا السؤال ملفوف بحجاب المستقبل.
وأدركت إنجلترا وفرنسا خطر الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، فأوعزتا إلى السلطان عبد الحميد بانتداب محمد علي لقتال الوهابيين، والقضاء عليهم، وأوعزت إنجلترا إلى فرنسا بإغلاق جريدة العروة الوثقى للسيد جمال الدين الأفغاني، كما بثت الدعوة في أوروبا كلها للفزع من هذه الجامعة الإسلامية واستبشاعها، وعلمت إنجلترا وفرنسا أن هذه الجامعة لا تكون إلا بالتعصب للإسلام، فكرهتا في هذا التعصب، وعدتاه رذيلة من أكبر الرذائل، وخوفتا المسلمين منه رجاء كرههم له وعدولهم عنه مع أن هذا التعصب فضيلة من أكبر الفضائل يقابله تعصب النصارى ضد المسلمين، بل إن فرنسا كان من دعوتها محاربة اللغة العربية؛ لأنها وسيلة للدين الإسلامي، والدين الإسلامي وسيلة للتعصب؛ فكل قطر لا يقوى وحده بإصلاحه ودعوته على محاربة الاستعمار؛ لأن الاستعمار أقوى منه، ولكن العالم الإسلامي كله بما فيه من ثلاثمائة مليون على الأقل قادر إذا أخلص النية وصحح العزم على محاربة النصرانية مجتمعة، وقد كان من أهم مبادئ الإسلام الحج كل عام؛ ليكون مؤتمرا يتذاكر فيه المسلمون شئون دينهم وحالتهم الاجتماعية، ويرسمون الخطط لهذا الإصلاح، كما كان من مبادئ الإسلام أن يكون المسلمون كلهم تحت لواء خليفة واحد يرعى شئونهم، وينظر إلى مصالحهم، فهذان المبدآن كانا يوحدان الغرض ويوحدان العمل.
لقد اختلف المصلحون؛ فكان مثلا مثل الشيخ محمد عبده يرى أن التربية الإسلامية الصحيحة يجب أن تسبق الجلاء، وأنها إذا وجدت ألفت بين القلوب، وقضت على التنافر، وجعلت المسلمين وحدة يرمون النصارى إلى خارج بلادهم، ووجد دعاة آخرون أمثال مصطفى كامل كانوا يرون الجلاء أولا؛ لأن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يكون ناجحا في عهد الاستعمار، وهو المسيطر على البلاد، القابض على زمام الأموال، المشرف على حركات التربية والتعليم، ومهما كان فكلا الرأيين متفق على ضرورة وحدة العالم الإسلامي واجتماع قواه. وكان من أكبر أسباب تخاذل المسلمين في الحرب الفلسطينية الأخيرة عدم توحد القوى، وعدم وضوح الهدف أمام الجميع، فمصر تحارب، والعراق تنكمش، وشرق الأدرن تمالئ، وكل يدلي بحجته في تبرير مسلكه، وهم جميعا متفقون على أن وحدتهم كانت قوة وتخاذلهم كان شرا عظيما، وكان من نتيجة الفشل مهما قيل في أسباب التخاذل وعلله؛ ضياع فلسطين.
وفترت حدة بعض الدول الأوروبية في التشهير بالجامعة الإسلامية كما كانت في عهد جمال الدين الأفغاني؛ لأنهم أدركوا أن في تكتل العالم الإسلامي وتوحده مصلحة لهم، على شرط أن يكون هذا التكتل ضد روسيا وضد الشيوعية، وكان يصح أن يتخذ المسلمون هذه فرصة سانحة لتكوين وحدتهم والعمل على تكتلهم كما كانت السلطنة العثمانية على عهد السلطان عبد الحميد تنتهز الفرصة لوقوع الخلاف بين إنجلترا وروسيا لتشق الطريق بينهما، وما كانت تستطيع أن تشقه إذا اجتمعتا.
ولقد كان المرحوم سعد باشا زغلول يرى أن يسبق الدعوة إلى الجامعة العربية أو الجامعة الإسلامية انشغال كل قطر بتقوية نفسه حتى تكون هناك قيمة لائتلاف الأمم القوية لا الأمم الضعيفة، فبعد أن تقوي الأمم نفسها يكون لها هناك جامعة عربية أو جامعة إسلامية. على أنه فيما أظن لا ينكر أن وحدة العالم العربي أو العالم الإسلامي هو الهدف الأخير، إنما يجب أن تسبقه مقدمات مثل أخذ كل قطر بتقوية نفسه.
وكان السلطان عبد الحميد على عيوبه التي منها الاستبداد والإمعان في الشهوات من أكبر دعاة الجامعة الإسلامية، يرى أنه لا يمكن الاستغناء عن العنصر العربي بجانب العنصر التركي، وأن اجتماع العنصرين قوة لا يستهان بها فإذا انفرد كل ضعف، واستغل في ذلك سلطانه على الحرمين الشريفين مكة والمدينة، ولما أرادت إيطاليا الاستيلاء على طرابلس الغرب وقف العرب بجانب الترك مستأسدين واستطاعوا أن يهزموا الطليان أولا هزيمة منكرة. كل ذلك جعل الأوروبيين من إنجليز وفرنسيين يخشون بأس تركيا، ويحذرون قوتها بهذه الجماعة الإسلامية. ولهذا لما قضى مصطفى كمال على الخلافة هب الهنود المسلمون ورأوا فناءها كارثة على الإسلام والمسلمين ... وجاءت حركة مصطفى كمال ترى أن انضمام العرب والترك كان كارثة على الترك، خصوصا بعد ما ظهر من تخلي العرب عن الترك في الحرب العالمية الأولى فنادى بالتخلي عن العرب والاقتصار على العنصر التركي؛ لأن ذلك يسهل له طريق النهوض من غير أن يحمل على ظهره أعباء النهوض بالعرب أيضا. ومن ناحية أخرى رأى العرب أن الأتراك وحكمهم سبب تأخرهم وعدم نهوضهم فتخلوا عنهم، فكان هذا الانشقاق كارثة على الجامعة الإسلامية كلها. ومن ذلك الحين لم تصف نفوس العرب ولا نفوس الأتراك إلى اليوم، وظلت هناك كتلتان: كتلة عربية وكتلة تركية على غير وئام وانسجام، وأصبحت نزعتاهما مختلفتين: نزعة للعرب، يدعو قادتها إلى الرجوع إلى الإسلام الأول مع الأخذ من المدنية الغربية بأحسن ما وصلت إليه، وخاصة العلم، ونزعة تركية، تدعو إلى التحرر من الماضي واتخاذ المدنية الغربية أما في كل شيء. ولكن الإسلام إذا دخل قلبا صعب عليه أن يخرج منه، فرأينا الأتراك بعد موت مصطفى كمال يحنون إلى الإسلام من جديد ويرجعون في نزعتهم بعض الشيء وخصوصا الأشياخ منهم. ومن الأسف أن فكرة الجامعة الإسلامية مع ظهورها لم يتحد العرب والأتراك في اعتناقها، حتى لما رأت حكومتا أمريكا وإنجلترا مصلحتهما في تكتل المسلمين كتلة واحدة معهما أشارتا على العرب والترك بالاتحاد فكان ذلك خضوعا للإشارة، لا مراعاة للمصلحة.
ولما قامت الحرب العالمية الأولى أحست أوروبا بالقلق واحتمال الهزيمة؛ فاستنصرت بالمبادئ الإنسانية الأخلاقية القويمة، من مثل حق الأمم الصغيرة في حكم نفسها بنفسها، وإطلاق حريتها ونحو ذلك. وصرحت عشرات التصريحات في هذا المعنى فاعتقد العالم الإسلامي صحة هذه الأقوال ومنوا أنفسهم أماني بعيدة، وتداول المسلمون في جميع الأقطار هذه الأقوال بل حفظوها حفظا، فلما انعقد مؤتمر فرسايل تبخرت كل هذه الأقوال، وعاد الأوروبيون إلى مسلكهم الأول، وانفجر العالم الإسلامي في كل مكان، واشتعلت الثورة في مصر، وفي طرابلس، وفي المغرب، وفي الهند تطلب كلها إبرار الأوروبيين بوعودهم، وافتتح العالم الإسلامي عهدا جديدا، عهدا مؤسسا على خيبة الأمل والانخداع بالوعود الأوروبية مما حمل الأوروبيين على أن يغيروا موقفهم تجاه هذه الحركات العنيفة، فغيروا كلمة الاستعمار بكلمة الانتداب، ومنحوا بعض الأقطار الاستقلال كاملا أو ناقصا، وعلى العموم فقد خطت البلاد الإسلامية خطوة جديدة لم تكن معروفة للعالم الأوروبي من قبل. ولما جاءت الحرب العالمية الثانية تكررت نفس المأساة؛ فكان بعض العقلاء يرون أن وعود الأوروبيين والأمريكيين وعود خلابة لا تثبت في السلم، وأن السلم إذا جاء يبخرها، ولكن أكثر الشعوب الإسلامية انخدع في المرة الثانية كما انخدع في المرة الأولى، وإذا كانت الشعوب الإسلامية قد لدغت مرة من قبل، فإنها لم تتألم من اللدغة الثانية تألمها من اللدغة الأولى، ولكن ظل حنقها كمينا.
وحين جاءت الحرب العالمية الثانية شفى العالم الإسلامي غليله لوقوع القتال بين الدول النصرانية؛ علما منهم بأن الخاسر في هذه الحرب هو الغالب والمغلوب معا، وأملت أن يكون في هذه الحرب الساحقة ما يخفف الأثقال عن كاهلها.
ولا يدري إلا الله ماذا سيكون لو وقعت حرب ثالثة، فربما أمل العالم الإسلامي خيرا من النزاع الشديد بين الدول الديموقراطية، أو بعبارة أخرى الرأسمالية، وبين روسيا الشيوعية، فإن الاختلاف بين الدول النصرانية يفسح المجال أمام العالم الإسلامي، ويجعله يشق طريقه بين المذهبين، ويستطيع أن يكسب من الخصمين إذا أحكم النظر وأعمل الفكر. ولكن فت في عضد المسلمين داخليا ما رأوه من تخاذل المسلمين وكذبهم في سبيل النصرة ضد الصهيونيين، وخارجيا بما رأوه من اتفاق الكتلتين الديموقراطية والشيوعية على مناصرة الصهيونيين، وإخراج المسلمين من ديارهم، ومساعدتهم بكل ما أمكنهم؛ فكان التخاذل مع الحق أمام الاتحاد على الباطل، ولكن ربما كان هذا نارا تلهب قلوب العالم الإسلامي من جديد، وتنكأ جروحهم القديمة، وتجعلهم يؤمنون بأن الأمل في الاعتماد على فريق منهم أمل ضائع، وألا أمل إلا في الاعتماد على الله وعلى أنفسهم.
وهذا الوعي القومي الذي حدث في العالم الإسلامي من جراء هجوم الأوروبيين عليهم واستعمارهم؛ سبب ثورة في كل قطر من الأقطار الإسلامية، فشبت في الجزائر ثورة سنة 1871، وهب رجال الدين في كل بلد من بلاد إفريقية الشمالية يستثيرون المسلمين، ويستنفرونهم للحرب والجهاد، وكانت ثورة المهدي في السودان المصري، وهي ثورة دامت طويلا، وكلفت الإنجليز خسارات كبيرة، ولم تخمد حتى استطاع كتشنر أن يستولي على الخرطوم، وانفجر في أفغانستان بركان حقد وعداء للغرب، وطارت شرارة منه إلى مسلمي الهند فألهبت صدورهم، فهبوا يشقون الطاعة ضد الإنجليز، وثارت أواسط آسيا على يد الطريقة النقشبندية، فأخذت تمتد، وتنتشر شرقا حتى بلغت الأقطار الصينية، فثار مسلمو الصين ثورتهم الكبرى في تركستان، وأشعلت جزائر الهند الشرقية الهولندية ثورات متوالية. ولكن هذه الثورات كلها كانت محلية متقطعة يعوزها التنظيم والاتحاد، وتوحيد قوة القيادة، والإيمان بأنه لا يصد الأوروبيين مجتمعين إلا الجامعة الإسلامية. وقد أدرك هذا بعض القادة مثل محمد ابن عبد الوهاب في الحجاز، والسنوسي في الصحراء، والسيد جمال الدين الأفغاني، ولكن كان هناك حركة معاكسة؛ لهذا ترى أنه لا يمكن الإصلاح إلا إذا قوت أولا كل أمة نفسها، وحذت حذو أوروبا في جميع مناهجها في النهضة، كحركة مصطفى كمال في تركيا، ومحمد علي في مصر، وأمان الله خان في الأفغانستان. فكل هذه الحركات كانت حركات لا دينية لا تؤمن بالجامعة الإسلامية. ولذلك تخلى مصطفى كمال عن العرب. بينما كان محمد بن عبد الوهاب والسيد جمال الدين والسنوسي ينظرون دائما إلى عهد الإسلام الأول، وقدرة نظامه على الإصلاح التام، وضرورة اجتماع كلمة المسلمين كما كانوا مجتمعين من قبل أن تفرقهم السياسة والمذاهب الدينية.
فالنزعتان مختلفتان، والطريقان أيضا مختلفان. وإذا قلنا إن حركة مصطفى كمال ومحمد علي حركة لا دينية فلم يكن هذا بمعنى واحد؛ فإصلاحات مصطفى كمال ترمي إلى التهور في تقليد الأوروبيين، أما محمد علي فحركته - وإن كانت لا دينية - فترمي إلى شيء من الاعتدال في تقليد الأوروبيين. ولئن كانت حركة مصطفى كمال ومحمد علي مناسبة لشعبيهما، قد تقبلها الشعب التركي والمصرى بقبول حسن؛ فإن الشعب الأفغاني لم يستطع - لتأخره - أن يهضم حركة الإصلاح التي قام بها أمان الله خان يقلد فيها حركة مصطفى كمال، بينما مجد الشعب التركي مصطفى كمال، والشعب المصري محمد علي.
أما حركة مصطفى كمال؛ فإنه بعد انتصاره على اليونان أخذ يفكر في الأسباب التي أدت إلى انهيار تركيا هذا الانهيار، ومحوه لهذه الأسباب وتقليده للأوروبيين في كل تصرفاتهم، فوطن مصطفى كمال نفسه على أن يسير في الطريق الذي سار فيه الأوروبيون لتكوين نهضتهم وتدعيمها، واتخذ الحضارة الأوروبية إماما له - ولو خالفت الإسلام - غير ناظر مطلقا إلى المبادئ الإسلامية، بل لا يأنف أن يهاجمها إذا تعارضت مع الحضارة الأوروبية.
ونفخ مصطفى كمال في الأمة روحا جديدة ترمي إلى الاعتزاز بقوميتهم بدل الاعتزاز بدينهم، وبث في قومه العزة والفخار بوصفهم أحفاد الطورانيين، كما كان بعض الدعاة في مصر يدعون للاعتزاز بأنهم أحفاد الفراعنة. وأيد الفكرة الضعيفة التي قال بها بعض علماء قليلين من الأوروبيين التي تذهب إلى أن لغة السومريين منشئي الحضارة البابلية القديمة كانت ذات صلة بالتركية والقائلة بأن اكتشافات حدثت في الأناضول تدل على أن شعوب آسيا الصغرى اقتبست من حضارة الحيثيين التي أخذت من البابليين، ثم أخذتها شعوب آسيا الصغرى، وعنها أخذ الجنس الأوروبي، فأصل الحضارات كلها إذن في زعمهم هي الحضارة التركية.
ثم صفيت اللغة التركية من كثير من الكلمات العربية والفارسية، وبحث مكانها عن كلمات طورانية قديمة، حتى الأعلام، مثل: مصطفى كمال غيرت بكلمات أخرى مثل أتاتورك. وفي سنة 1928 دعا مصطفى كمال مؤلفا موسيقيا نمسويا للتدريس في المعهد الموسيقي بإستنبول لإدخال العنصر الأوروبي في الموسيقى على العنصر التركي.
وكان طبيعيا أن يساير الأدب هذه النهضة، من مثل: الأديبة التركية خالدة أديب التي لحقت مصطفى كمال إلى الأناضول، وشاركت بنفسها في معارك التحرير، وصورتها تصويرا رائعا في روايتها «قميص النار».
ورعى مصطفى كمال الفنون والآداب رعاية تامة؛ علما منه بأنها تخدمه خدمة كبرى في نزعاته الجديدة، فشجع المعماريين الأتراك على أن ينشئوا العمارات الكبيرة وفقا لأحدث الطرز الأوروبية الحديثة. وشجع النحاتين الألمان أن ينحتوا تماثيل كالتماثيل الأوروبية، وفي مقدمتها تمثال أتاتورك. واستقدم رسامين فرنسيين؛ ليعلموا الأتراك أصول فن الرسم الحديث، كما استقدم بعض مشاهير الموسيقيين، وألحقهم بمعهد إستنبول. وشجع الأدباء الذين ينهجون في أدبهم منهجا يوافق نهضتها، من مثل: الشاعر الغنائي الكبير عبد الحق حامد، والشاعر أحمد هاشم، والقصصي الروائي يعقوب قدري، الذي وضع القصة على أساس فن روائي حديث.
أما محمد علي في مصر؛ فقد كان أكبر اهتمامه بالجيش وإصلاحه، وتدعيم وسائل هذا الإصلاح من غير هزة عنيفة كالتي عملها في تركيا مصطفى كمال، وقد أنشأ الجديد مع محافظته على القديم. فالمدارس المدنية بجانب الأزهر، والقضاء الأهلي بجانب المحاكم الشرعية، والكتب الأدبية المترجمة بجانب الكتب التركية والعربية القديمة، وهكذا.
كانت حركة مصطفى كمال في تركيا، ومحمد علي في مصر، وأمان الله خان في أفغانستان حركات لا دينية بالمعاني التي ذكرناها قبل، ولم تكن تنظر إلى الجامعة الإسلامية، ولم ينظروا إلى المبادئ الإسلامية في قليل أو كثير، وإن كان محمد علي كان يريد التوسع في مملكته بقدر الإمكان لا لإنشاء جامعة إسلامية، ولكن لإنشائه دولة واسعة علوية تشمل العراق وسوريا والأناضول ومصر.
يقابل هذه الحركة حركات أخرى تريد الجامعة الإسلامية وتريد النظر إلى الإسلام في حالته الأولى، مثل: محمد بن عبد الوهاب في الحجاز، والسيد جمال الدين الأفغاني في مصر، والسنوسي في ليبيا.
وأيا ما كان؛ فالعمل لتكوين هذه الجامعة الإسلامية لم يتحقق بعد، فقد ثارت كل أمة، وحاربت، وجاهدت، وأعلنت مبادئها من غير أن يكون لها قيادة واحدة تنظم حركاتها، وتوجهها وجهة واحدة.
بقيت هناك طائفة في كل أمة من الأمم الإسلامية تشمل أفئدة طلاب المدارس الثانوية والعالية والجامعة. وهؤلاء إن عدوا مسلمين فمسلمون جغرافيون ليس إلا. لا يعنيهم الإسلام في قليل ولا كثير، ولا يؤدون شعائره، ولا يلتفتون إليه، إنما هم مقلدون للأوروبيين في منهجهم وسلوكهم، قد يرجى منهم الخير من الناحية الوطنية والقومية لا من الناحية الإسلامية، لا يفهمون تمام الفهم حقيقة للإسلام، ولا علم لهم بمبادئه، بل لا علم لهم بكثير من شعائره.
دخل سعد باشا زغلول يوما مدرسة المعلمين قبيل العيد، فسأل طلبة الفصل عن صلاة العيد وكيفيتها، فلم يعرف أحد منهم كيف يصليها. وقد سألني بالأمس مستشرق هولندي الأسئلة الثلاثة الآتية: قال هل عندك أمل في الأزهر؟ فقلت: لا؛ لأن حركة الإصلاح التي يطالب بها الشبان يستطيع أن يخمدها الشيوخ بقوتهم وسلطانهم، إلى أسباب أخرى لا محل لذكرها. وإنما يصلح الأزهر إذا بدأ بجعل نفسه كلية دينية، فالطلبة كلهم يتعلمون في المدارس الثانوية على السواء، وبعد التعليم الثانوي ينوع الطلبة ... هذا قوي في الأعمال اليدوية فيوجه إلى ذلك، وهذا قوي في الأعمال العلمية فيوجه إلى الجامعة، وهذا قوي في الناحية الدينية فيتوسع معه في اللغة العربية والتاريخ الإسلامي والدين، فإذا حاز البكالوريا التحق بالكلية الدينية التي هي الأزهر، فيتوسع ويتعمق في دراسة الدين والفقه وما إلى ذلك.
وكان السؤال الثاني: هل عندك أمل في الجامعة المصرية؟ فقلت: «لا» أيضا. قال: لم؟ قلت: إنك بالضرورة تسألني عن أثر ذلك في الإسلام، والجامعة لا تأبه بالإسلام، وإنما تؤسس علومها ومناهجها على النمط الأوروبي، فقد يكون لها أثر كبير في الوعي القومي والحركة الوطنية، أما حركة إسلامية فلا.
وسألني السؤال الثالث: هل توافق على نظرية الأستاذ علي عبد الرازق في كتابه: «الإسلام وأصول الحكم» من أن رسالة الإسلام رسالة روحانية فقط، وليس لها دخل في الشئون المدنية ولا الدنيوية؟ قلت له: «لا» أيضا؛ لأن الإسلام جاء بنظام ديني ودنيوي معا، أما الديني فظاهر، وأما الدنيوي فدليلنا على ذلك أنه جعل نظاما كاملا شاملا للشئون المالية كالبيع والإجارة والرهن ونحو ذلك، وكتحريم الربا وتحليل البيع. وفي الشئون الاجتماعية، كنظام الزواج، والطلاق، والميراث، والوقف، ونحو ذلك. غاية الأمر أن المسلمين أجادوا في التوسع في هذه المسائل حتى لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة، ولكنهم قصروا في وضع القانون الدستوري، كمن يتولى الخلافة، ومن هم أهل الحل والعقد.
على كل حال وجدت في السنين الأخيرة حركة إسلامية تدعو إلى الرجوع للإسلام والأخذ بشعائره على يد الإخوان المسلمين، وتناهض الحركة ما انتشر بين طلبة المدارس الثانوية والجامعة من عدم اهتمامهم بأمور الدين. وكانت تعاليمهم كما في قانونهم: العمل على تكوين جيل جديد، يفهم الإسلام فهما صحيحا، ويعمل بتعاليمه، ويوجه النهضة إليه، حتى تكون مظاهر حياة الأمة كلها مستمدة من روحه، مرتكزة على أصوله، وذلك أولا: (أ)
بتقوية الفضائل الخلقية، وإحياء الشعور بكرامة الأمة، وتحرير النفوس من الضعف واليأس والرذيلة، واتباع القرآن في قوله:
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . (ب)
التحذير من الاندفاع في حياة المتعة والترف، والمادة، وتقليد الغرب في ذلك؛ إعجابا بحضارته المادية، والتذكير بأصول الحضارة الإسلامية الفاضلة المجيدة:
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين * بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . (ج)
نشر الثقافة والتعليم، والمحافظة على القرآن الكريم، ومحاربة الأمية بإنشاء المدارس والأندية والأقسام الليلية، والنشرات الدورية، والمحاضرات، وغير ذلك من الوسائل العلمية النافعة؛
إنما يخشى الله من عباده العلماء . (د)
تأسيس المنشآت النافعة للأمة روحيا واقتصاديا، ما أمكن ذلك، كالمشاغل والمستوصفات الطبية، والعيادات الخيرية، والمساجد، وإصلاحها وترميمها، والإنفاق عليها، والإشراف على إدارتها، وإحياء الشعائر فيها،
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه . (ه)
علاج الآفات الاجتماعية كالمخدرات، والمسكرات، والمقامرة، والبغاء، ونشر الدعايات الصحية، خصوصا في القرى والأرياف، وإرشاد الشباب إلى الاستقامة الصحيحة:
وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا . (و)
تشجيع أعمال الخير والبر، وتنظيمها، ومساعدة الفقراء والبائسين، والمصالحات بين الأفراد والأسر، حتى يقوم التحاكم إلى الحب والإخاء مقام التحاكم إلى القانون والقضاء. (ز)
تقوية روابط التعارف والإخاء بين الشعوب الإسلامية كأمة واحدة؛ ألف بين قلوبهم الإسلام، والعمل الدائب على إزالة الفرقة والانقسام عن صفوف المسلمين:
إنما المؤمنون إخوة . (ح)
تنمية روح التعاون الاقتصادي، والتعامل بين أعضاء الجماعة، بتشجيع المشروعات الاقتصادية، وتكوينها، والنهوض بها:
وتعاونوا على البر والتقوى . (ط)
الدفاع عن الإسلام ومقاومة كل عدوان يراد به:
وجاهدوا في الله حق جهاده . (ي)
تقوية الروح الرياضية الصحيحة في نفوس الشباب:
وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم .
هذه أهم تعاليم الإخوان المسلمين ومبادئهم، وهي مبادئ سليمة ترمي إلى إحياء الحياة الروحية وتغلغلها في الحياة المادية والاقتصادية. وقد نجحت في نشر تعاليمها؛ لأنها - والحق يقال - وجدت في زمن ضل فيه الشباب، وحار، واحتاج إلى زعيم يرشده.
وقد لمست صلاح دعوتهم لما كنت عميدا في كلية الآداب سنة 1940؛ فكنت أرى الشباب المنضم إلى هذه الجمعية شبابا يتحلى بالفضيلة، وتظهر فيه علامات الرجولة. ولكن مع الأسف أراد زعماؤه السيطرة والحكم، وهذا أمر شائك. وأرادوا تنفيذ مبادئهم بالقوة لا بالإقناع، فاستخدموا القنابل وسفك الدماء، وكانت النتيجة مأساة ضاع فيها رئيس حكومة ورئيس حزب.
وكان الأولى في نظري ألا يتعجلوا، وأن يستمروا طويلا في الإصلاح الخلقي والاجتماعي، ولكن كان عذرهم أن الإسلام دين وحكم، وأن الإصلاحات المختلفة المتنوعة لا يمكن تحقيقها تحقيقا كاملا إلا بحكومة منها، لا بحكومة تؤيدها وتشرف عليها، مع أن السياسة مملوءة بالأشواك، وكذلك كان. فقد اصطدم الحزب بهذه الأشواك، وليس يدري إلا الله ماذا سيكون ... وليس من الضروري محاولة الإصلاح الكامل الشامل ابتداء ، بل يمكن البدء بإصلاح ناحية إذا تعذرت ناحية. والإصلاح الإسلامي نفسه جاء أول أمره خطوة خطوة، وحرمت الخمر عند الصلاة أولا ثم حرمت إطلاقا ثانيا.
وحتى المحايدون من المسيحيين اعترضتهم شبهات كثيرة على الإسلام، منها: أنهم رأوا خلافا بين القرآن والتوراة من جهة، وأحيانا نقصا في القرآن عما ورد في التوراة من جهة أخرى. والجواب عن المسألة الأولى أن المسلمين يعتقدون أن التوراة حدث فيها بعض التحريف، وقد أيد ذلك الباحثون من العلماء في الكتاب المقدس، وإذا كان هناك اختلاف بين القرآن والتوراة؛ فلم يكون الصحيح هو التوراة والخطأ هو القرآن ولا يكون العكس؟! وأما المسألة الثانية؛ فالتوراة تعرضت لكثير من المسائل التي هي من صميم التاريخ، على حين أن القرآن لم يتعرض إلا للمسائل التي هي موضع العظة والاعتبار فقط، فلا يهمهم إن كان النبي عمر كم سنة أو نحو ذلك. على هذا كان أسلوب القرآن أوقع؛ لأنه كتاب دين لا كتاب تاريخ.
ومن شبهاتهم تعدد الزوجات، وهم إنما يشتبهون فيها لنظرهم العصري، أما إذا نظروا إلى المسألة في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
وجدوا أنه خطا في هذه المسألة خطوة جريئة نحو الإصلاح وتوحيد الزوجة، فحرم القرآن الزيادة عن أربع بعد أن كان التزوج مباحا لا إلى حصر، واشترط للتعدد العدل والقدرة عليه؛ فقال:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، والإسلام لا يمنع الخطوة الثانية، وهي قصر الزواج على واحدة، وهو متروك للاجتهاد ينظر فيه المجتهدون إلى حال الزمان والمكان والمصلحة العامة.
بقي بعد ذلك من شبهاتهم الرقيق، ونقول فيه ما قلناه في تعدد الزوجات، وحديث الإفك وحديث الغرانيق، وقد كتب عنهما المرحوم الشيخ محمد عبده في الإسلام والنصرانية ما فيه الكفاية.
ولم يقتصر غزو النصارى للأقطار الشرقية والإسلامية على السيف والحديد والنار، بل لقد غزوها أيضا بمدنيتهم، وتشرب كل قطر من هذه المدنية بمقدار استعداده، وكان الأقباط في مصر والنصارى في لبنان أكثر امتصاصا لهذه الحضارة من إخوانهم المسلمين، ولكن على كل حال أخذ الجميع بقدر وافر من هذه الحضارة، فأصبح كل بيت من بيوت المسلمين يأخذ بقسط منها، فيضاء بالكهرباء ويفرش بالسجاد الإفرنجي، ويسمع فيه الراديو الأوروبي، ونحو ذلك، ولم يقتصر على مسائل الحضارة المادية بل أيضا غزتها بالأفكار والمعاني، فكما أن الأقطار اقتبست عربات الترام، وقطارات السكك الحديدية، ونظام البريد، وآلات الحرث، ونحو ذلك، اقتبست أيضا من الحضارة الأوروبية نظم التعليم، وآراء الأوروبيين في علم النفس وعلم الاجتماع والأخلاق وما إلى ذلك. وإذ كان المسلمون ذوي حضارة قديمة مأخوذة من حضارة العرب، وما تتابع عليهم من فرس وأتراك ونحوهما، وما اقتبسوه من فلسفة يونانية ورومانية؛ فقد اضطربت في أذهانهم وحياتهم المادية الحضارة القديمة التي عاشوا عليها قرونا مع الحضارة الحديثة اضطرابا شديدا يختلف باختلاف الأمم والأفراد في الأمة الواحدة؛ فقد يغلب ذاك وقد يغلب هذا، وربما ظهر هذا بأجلى مظاهره في الأدباء الشرقيين، فمنهم من إمامه الشاعر الجاهلي والمتنبي وغيرهما من أصحاب الأدب القديم، وفي النثر إمامهم الجاحظ وأبو الفرج الأصفهاني وابن خلدون ونحوهم، ومنهم من إمامهم شعراء أوروبا وناثروهم وروائيوهم وقصاصوهم ... إلخ، وهؤلاء أيضا يضطربون فيما بينهم اضطراب الحضارة القديمة بالحضارة الحديثة. وإذ كانت الحضارة الأوروبية مسيحية في جوهرها كان الأقباط في مصر والمسيحيون في لبنان أقرب إلى تقليدها والأخذ عنها، وكان اقتباس القسم المادي من الحضارة أكبر من اقتباس القسم المعنوي. وإذ كان هذا الاضطراب حادا كان السير على المدنية الغربية سيرا أعوج؛ كما يقول اللورد كرومر في مناصري المدنية الغربية: «إنهم مسلمون، وليس فيهم خواص إسلامية، وأوروبيون وليس فيهم خواص أوروبية»، ودليلنا على ذلك ما تحمله إلينا البواخر كل يوم من نتاج المدنية الغربية، مما له تأثير كبير في الشرق، ويظهر مدى تأثيره في الانقلاب الفظيع الذي حدث للمسلمين في منتصف القرن التاسع عشر والعشرين، فإنك لو قارنت بين تغيرهم في هذا القرن وتغيرهم في العشرين قرنا الماضية، لوجدت التغير الحادث في القرن الأخير يكاد يكون مساويا للقرون العشرين الماضية، بل لقد أصبح مقياس المفكرين من المسلمين والمثقفين ثقافة عالية في كل نظام يضعونه، ومشروع يقومون به، وفكرة يدعون إليها؛ تساؤلهم السؤال الآتي: ما هو رأي علماء أوروبا في ذلك، ومن ابتكره، وبم أيدوه، وبم عارضوه؟ وقلما يتساءلون: ما رأي الحضارة الإسلامية القديمة في ذلك، وهل يتفق مع مبادئها أو يخالفها؟
نعم كانت هذه الحضارة الغربية ذات أثر تقدمي كبير في العالم الإسلامي، ولولاها لظل يرسف في قيوده التي كان يرسف فيها، ولكنها لا تخلو من عيوب؛ فقد باعدت بينه وبين الحضارة الإسلامية القديمة، ولم تكن ناتجة من نفس المسلمين كما كانت الحضارة الغربية ناتجة من نفس الغربيين، بل هي دخيلة عليهم دخول الأجنبي بلادهم، ومثلها مثل شجرة أريد تضخيمها بأوراق شجرة أخرى من الخارج، لا بنموها الطبيعي لها من الداخل. إن الحضارة الغربية قد نشأت ولها من ذاتها غالب عناصرها وخواصها وصفاتها نشوءا طبيعيا متدرجا، مجتازة الأدوار المختلفة على مقتضى سنة النشوء، أما الشرق؛ فهو في كثير من مواضع الانقلاب يطفر في تحوله طفورا؛ إذ إن ما يأخذه عن الغرب ويقتبسه منه دفعة واحدة قد تقضت على تكامله عند الغربيين الأجيال والقرون، فكانت النتيجة أن غلبت صفة الطفرة لا صفة النشوء المترقي على تطور الشرق هذا التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني وغير ذلك. ولذلك كثيرا ما ترى في الشرق المحراث القديم الذي كان في عهد «مينا» بجانب أحدث طراز من المحراث الإنجليزي أو الأمريكي، وترى منهج الدراسة الأزهرية في القرون الوسطى بجانب الدراسة الجامعية التي تسير على نمط جامعات أوروبا وأمريكا.
وأيا ما كان؛ فما هو مستقبل الإسلام؟ يدور هذا السؤال في الخاطر والجواب عنه صعب عسير؛ لأنه خاضع لعوامل كثيرة في المستقبل سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية. إن مما لا شك فيه أن الأمم الإسلامية سترتقي ارتقاء تدريجيا في الشئون الاجتماعية والاقتصادية وخاصة في العلوم الدنيوية، وكل يوم يدل على أن الأمم الإسلامية سائرة إلى الأمام في هذه الأبواب. ولكن ما هو مصير الإسلام كدين وهو أحد العوامل في رقي الأمم؟ يتوقف هذا على الحرب القادمة، فكل الدلائل تدل على أنه في الأرجح أن تقوم الحرب في العشر السنوات القادمة بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الديموقراطي، وسيكون العالم الإسلامي أحد الميادين لهذه الحرب، وسيكون ميدانا يقع فيه المد والجزر أولا، ثم قد تنتصر الشيوعية وقد تنتصر الديموقراطية، فإذا انتصرت الشيوعية؛ فليس هناك أمل كبير في الحالة الدينية وقيام الإسلام من جديد إلا إذا عادت الشيوعية الى التدين، أما إذا انتصرت الديموقراطية؛ فسيكون هنا مجال للدين الإسلامي كالمجال للدين النصراني، ولكن في هذه الحالة يحتاج المسلمون مع نشاطهم العلمي إلى إصلاح ديني جريء شامل، وأهم ما يحتاجون إليه الاجتهاد المطلق الذي شرحناه من قبل والذي ينظر إلى الإسلام وتعاليمه من جهة وإلى حالة كل قطر اجتماعية وما يلزمها من جهة أخرى.
فنحن محتاجون إلى اجتهاد كاجتهاد عمر الذي أوقف الإعطاء للمؤلفة قلوبهم مع أن الله عدهم ممن يأخذون الصدقات، وعلل ذلك بأن الدين إذ ذاك كان قلا فكثر، ومثل إيقاع الطلاق الثلاث ثلاثا مع أن الآية تقول الطلاق مرتان والطلاق الثلاث ليس إلا مرة.
ولئن كان الاجتهاد المطلق عسيرا في الأيام الماضية فهو أسهل اليوم؛ إذ كان المجتهد يرحل من بغداد إلى مصر لأخذ حديث واحد أو تصحيحه، فالكتب اليوم والمطابع يسرت الأمر على من أراد الاجتهاد. وكل زمن محتاج إلى مجتهد، بل مجتهدين في كل قطر، يعرفون مطالبه والحالة الاجتماعية التي تدعو إلى نوع من هذا الاجتهاد، وما قد يصلح في قطر قد لا يصلح في آخر، وما يحتاج إليه قطر قد لا يحتاج إليه الآخر، وما يحتاج إليه القطر في عصر قد لا يحتاج إليه القطر في عصر سابق.
وقد لاحظ المصلح الشهير سراج علي الهندي أن آيات الأحكام التي وردت في القرآن نحو مائتي آية من آلاف الآيات، ورأى أن جزءا كبيرا من هذه الآيات لم يرد في الأحكام قصدا، وإنما استنبط الفقهاء منه أحكاما شرعية، مع أنها وردت للوعظ والإرشاد أو بنحو ذلك، وقد روي من هذا القبيل نحو ثلاثة أرباع هذه الآيات فلم يبق إلا ربع هذه الآيات وهو خمسون آية يضاف إليها نحو سبعة عشر حديثا في الأحكام هي التي صحت عند أبى حنيفة النعمان، كما قال ذلك ابن خلدون في مقدمته. فآيات الأحكام وأحاديث الأحكام تجعل باب الاجتهاد مفتوحا أمام المجتهدين. ورأينا في هذا الاجتهاد بهذا المعنى الواسع يعتمد فيه على سنة عمر ومن سلك مسلكه، فأمد هذا الباب بآراء كثيرة اجتهد فيها. •••
ومما يؤسف له أن المدنية الغربية غزت الشرق تحت دوي المدافع وصليل السيوف، فاستقبلت استقبالا سيئا، واعتقد المسلمون فيها أنها مدنية نصرانية لا عالمية، ولذلك كان الأقباط في مصر أقرب إلى قبولها والانتفاع بها من المسلمين.
على كل حال زاد ضغط الأمم الغربية على الشرق، وعاملوه معاملة قاسية كالتي ذكرناها، فزاد كره المسلمين للمسيحيين الفاتحين، وتمنوا الفرصة التي تسنح للتخلص منهم، وساعد على ذلك أن الطبقة الثانية من الحاكمين المستعمرين لم يكونوا كالأولين، مثل: اللورد كرومر في مصر؛ فقد كان أحكم وأحزم، وخلفه مثل: غورست وكتشنر فلم يكونا في حكمته ومهارته. وزادهم طموحا أن المصلحين الأولين، مثل: محمد بن عبد الوهاب، والسيد جمال الدين الأفغاني كانت قد نضجت تعاليمهما، وأثرت في المسلمين أثرا كبيرا، ثم كانت حركة تركيا الفتاة ودعوتها إلى الحكم الشوري وخلع نير الاستبداد. فطمح المسلمون في الأقطار الأخرى إلى أن ينالوا مثلما نالوا، فثارت مصر على الإنجليز، وثار المغاربة على الفرنسيين، وثار الهنود على الإنجليز، وثار العجم على روسيا وإنجلترا، وهكذا. فلما جاءت الحرب العالمية الأولى تنفس المسلمون الصعداء، وفرحوا لوقوع الدول الغربية بعضها في بعض، وعلموا أن المحاربين جميعا سيخرجون منهزمين سواء منهم الغالب والمغلوب. وجاءت تعاليم ولسن فقوت طموحهم وأملهم في المستقبل، فلما خاب رجاؤهم ثاروا ثورة أخرى، وغلوا ثالثة لما أعاد الدعاة مبادئ ولسن في الحرب العالمية الثانية ثم لم تحقق، ولكن كان المستعمرون مختلفين في السياسة الاستعمارية. ومن عادات الإنجليز أنهم يتنسمون الريح، ويبنون سياستهم على الحالة الجديدة، فإذا رأوا اتجاه شعبهم مثلا إلى الشيوعية توسعوا في الاشتراكية وفي الضمان الاجتماعي وأمثال ذلك، فلما أدركوا حالة الهند واستعدادهم للثورة انسحبوا منها، وساعدوا حركة الانفصال بين المسلمين في الباكستان والوثنيين في الهندستان، ولما رأوا شدة الحركة في مصر غيروا الألفاظ من احتلال إلى انتداب إلى مشاركة في الدفاع، وانسحبوا من المدن الكبيرة كالقاهرة والإسكندرية، ولما رأوا حرج موقفهم في فارس تخلوا عنها بعض الشيء، وكان من هزيمة فرنسا في الحروب واختلافها مع إنجلترا أن ألجئت إلى الانسحاب من سوريا ولبنان، فقوى ذلك من عزيمة المسلمين في البلاد الأخرى وتمنوا ما نالوا، ولا يزال الصراع قويا، والمطالبة بالاستقلال تزداد، ولا يدرى إلا الله ماذا سيكون بعد.
وكان من سياسة أمريكا وإنجلترا أن تكتلت الأمم الإسلامية لتجعل منها قوة لدفاع الشيوعية، فبدأت بتشجيع الجامعة العربية على الوجود، ولكن عملت هناك عوامل لم تجعل الجامعة العربية هي المثل الأعلى، وأهم ذلك سببان؛ السبب الأول: أنها كانت وليدة رغبة الإنجليز وتحت سيطرتهم؛ يصرفونها كيف يشاءون، فلم تفعل بوحي ضميرها ما ينبغي أن تفعله. والثاني: الخلاف بين رؤساء الشعوب، وخصوصا الخلاف بين البيت الهاشمي - وعلى رأسه ملك العراق وملك شرق الأردن - وبين السعوديين الذين يعتبرون في نظر الهاشميين مغتصبين، وقد أيدت مصر الحجاز فأوسعت بذلك شقة الخلاف. وليست تؤدي الجامعة العربية رسالتها كاملة إلا إذا تحررت من الإنجليز والأمريكان أولا، وبطل الخلاف بين البيوت المالكة ثانيا.
وكان مما فتح عيون العرب، وأقض مضجعهم ما رأوا من تعاقد إنجلترا وفرنسا سنة 1904 على تقاسم النفوذ؛ فتطلق يد إنجلترا في مصر، وتطلق يد فرنسا في المغرب، ففهم العرب من ذلك أن المسألة هي تفاهم الغرب على السيطرة على الشرق.
وتكرر مثل ذلك بشكل أخس في الحرب العالمية الأولى؛ فقد اتفقت إنجلترا مع قادة العرب أن ينضموا إلى جانبهم، ويثوروا على الدولة العثمانية في نظير تعهد إنجلترا بالرضا عن إنشاء دولة عربية في الشرق.
وبينما هي تتفق مع العرب على ذلك كانت تتعاهد مع فرنسا على تقسيم النفوذ بينها وبين فرنسا على البلاد العربية، واستطاعت إنجلترا بمكرها ودهائها أن تخدع العرب بذكر عبارة مطاطة تخفي ما وراءها. فقد نصت في المعاهدة على أن ذلك الاتفاق يسري فيما عدا جنوب العراق حيث المصالح البريطانية تقتضي اتخاذ تدابير مخصوصة، وأيضا فيما عدا المناطق التي ليست بريطانيا العظمى حرة في التصرف بشئونها تصرفا منافيا لمصالح فرنسا، ففهم العرب من ذلك أن هذه العبارة في صك عهد السيد هنري مكماهون إنما يعني بها منطقة لبنان الضيقة. ففرحوا وانتشوا سرورا، بينما كان يقصد منها أبعد من لبنان بحيث تشمل سوريا وتضع العراقيل في سبيل إنشاء دولة عربية. فبينما كانت إنجلترا تعطي العرب باليمين كانت تتفق مع فرنسا لضعضعة حالة المسلمين والعرب باليسار.
وهكذا تكشفت المسألة بعد الحرب عن خديعة كبيرة ومؤامرة قاسية جرحت العرب في أعماق نفوسهم جرحا لا يندمل، وحتى كان من لورانس الضابط الكبير الإنجليزي الذي اشترك في الثورة العربية وسمي ملك العرب غير المتوج أن ثار على الإنجليز ثورة عنيفة، ورفض النياشين الإنجليزية التي عرضت عليه، والوظيفة التي أرادتها إنجلترا له، ولولا أن الملك فيصل هدأ الثورة العربية لاعتقاده أن العرب لا يستطيعون حربيا أن يتفوقوا على إنجلترا وفرنسا، وأنه يستطيع أن ينال بالمناورات السياسية السلمية ما لا يناله بالحرب، وأن ينفذ من بين الخلافات الناشبة بين فرنسا وإنجلترا ما يكسبه للعرب، أقول لولا ذلك لهبت نار الثورة في البلاد العربية غضبا على الإنجليز والفرنسيين واندلع لهيبها حتى لا يعلم إلا الله منتهاها.
ومع ذلك فقد عقد مؤتمر في سوريا أعلنوا فيه استقلالها، وشبت ثورة في العراق على الإنجليز مما جعل السلم والهدوء عسيرين.
وكانت معاهدة سيفر التي كان بمقتضاها احتلال القسطنطينية، والقضاء على الترك، كما قضوا على العرب من قبل؛ سبب ثورات تركية تحت قيادة مصطفى كمال وتنكيله باليونان أعظم تنكيل، وإلجاء فرنسا وإنجلترا إلى الاعتراف به، وبذلك ثار الترك والعرب معا ثورات عنيفة مملوءة بالحقد والغضب.
وليس هناك إلا أمل واحد وهو أن إنجلترا وفرنسا تبدلان موقفهما بعد أن أدركتا متاعبهما، فتريان أن استعمار البلاد الإسلامية لم يعد سهلا يسيرا كما كان من قبل، فتحولان وجهتيهما إلى جهة أخرى، وتغيران شعورهما العدائي إلى شعور مبني على الإخاء والمساواة، وتعتقدان أن من الخير مصادقة المسلمين، والأخذ بيدهم، وإشراكهم في بناء الحضارة معهم. والمسلمون من ناحيتهم يبادلونهم ودا بود، ويرقون أنفسهم، ويساهمون في بناء الحضارة معهم. ومن غير هذا تتسع الهوة، ويزداد النفور والشقاق، وتئول الحالة إلى أسوأ حال.
وواجب إيطاليا أيضا أن تعدل موقفها إزاء المسلمين، فلم تكن إيطاليا المشهورة بذوقها الفني وعبادتها للجمال بأحسن من الفرنسيين والإنجليز مع المسلمين؛ فقد ارتكبوا من الفظائع ما تقشعر منه الأبدان. فمثلا زج الجنرال «جراتسياني» زعماء ليبيا في السجون، وألحق بهم من الإهانات ما لا يوصف، وألقى ببعضهم من الطيارات على بعد أربعمائة متر على مشهد من أهلهم، وقال أحد جنودهم - وقد رأى هذا المنظر: «فليأت نبيكم محمد البدوي الذي أغراكم بالجهاد لينقذكم من أيدينا.» ثم صادر سكان برقة الغربية في نقودهم ومواشيهم، وساقهم محوطين بفرسان وسيارات مصفحة، ولم يسمح لهم بالانحراف عن الطريق ولو للاستقاء. ومن حوادثهم الغريبة أن بعض الجنود الطليان دخلوا خيمة شيخ، فقابلتهم بنت له في الثانية والعشرين، أخذت تتوسل إليهم أن يبقوا عليه، والتجأت إلى أحد الضباط فلم يسمع لها، فلما رأته على هذه الحال اختطفت مسدسا وأطلقته عليه فخر صريعا، فأحاط بها الجنود، وحضر القائد فأمر بقتلها وقتل أبيها وجميع أقاربها رميا بالرصاص، حتى ضج المراسلون الصحفيون الأجانب من هذه المناظر، فقال صحفي دنمركي: «قصدت في شهر يناير سنة 1930م حدود بني غازي فأحاط بي الجنود المدججون بالسلاح والمدافع الرشاشة وأرادوا البطش بي لولا أني عرفتهم من أنا. ومع ذلك اكتفوا بسجني قيد التحقيق؛ فلما أفرجوا عني صادفت في طريقي مشهدا من أفجع المشاهد: عشرين عربيا يرسفون في القيود والأغلال، يقادون إلى المجزرة كما تقاد الأغنام حيث نصبت لهم المشانق. فشنقوا بلا محاكمة.» وقد ألف هذا الصحفي كتابا سماه «الصحراء تلتهب» ملأه بحوادث من هذا القبيل. وعلى الجملة فقد تفنن الإيطاليون في أعمال الإبادة والتشتيت. ولو سئل أي رجل: أيهما المتمدنون إيطاليا ورثة الرومان ورائدة الفن، أم أهل المغرب البدويون الذين لم يتذوقوا فنا ولا علما؟! لكان الجواب: إنها إيطاليا ولا شك! فهل يصح بعد ذلك أن تكون الحضارة مقياس الإنسانية!
وليس حال المسلمين بأسوأ من حال الوثنيين، وحتى من بعض الدول الأوروبية في نهضتها واستعدادها للرقي. فدينهم «الإسلام» لا يمنعهم مطلقا من أن يسايروا العالم، وينهضوا مع الناهضين، ويبنوا مع البانين، وإنما ساءهم الحقد والضغن مجاوبة للحقد والضغن الأوروبيين؛ فإذا عدل الأوروبيون موقفهم عدل المسلمون موقفهم أيضا جزاء وفاقا. أما زيادة الحقد من أوروبا والتنكيل بالمسلمين والمبالغة في تنفيذ الاستعمار فليس من شأنه إلا زيادة الحقد في نفوس المسلمين، وشدة المقاومة، والأخذ بوسائل الحرب لدفع الحرب ونحو ذلك، وليس في هذا أية مصلحة للطرفين، فلعل تقدم الأوروبيين في فهم الإنسانية، والإخاء والمساواة، وحرية الأديان، وحق كل أمة في حكم نفسها بنفسها يتغلب على النزعة الاستعمارية.
وأظن أن ذلك هو ما سيكون مهما بعد الزمن؛ فالعالم لا محالة سائر إلى استبدال الروح القومي الوطني البغيض الناشئ عن ضيق في الأفق وفساد في الشعور، وهو أسوأ ما أنتجته المدنية الأوروبية الحديثة بالروح الإنسانية المتسامحة الواسعة الأفق. وكل يوم تدل الدلائل على أن هذه الروح الوطنية القومية تسبب من البلاء أضعاف ما تكسب.
وكان مما أتت به المدنية الغربية النعرة القومية، فكل أمة تتعصب لجنسها، وسرت هذه الروح إلى العالم الشرقي مع المدنية الحديثة، وقد كانوا لا يعرفون إلا قسمة العالم إلى قسمين: دار الإسلام ودار الحرب، فالمسلم داره العالم الإسلامي كله، لذلك سهلت عليه الرحلات، من مثل: ابن بطوطة، وابن جبير وغيرهما، وتنقل رجال الحديث من قطر إلى قطر يجمعون ما انتثر من الحديث وكأنهم بين أهليهم، حتى كانت لعنة الوطنية التي ابتدعتها أوروبا وأسرفت فيها. والقانون الطبيعي يقتضي تدرج العالم من نظرة جزئية لا ينظر الإنسان فيها إلا إلى نفسه كالطفل في مهده، ثم يرتقي فينظر إلى عائلته، ثم يرتقي فينظر إلى قومه، ثم يرتقي فينظر إلى الإنسانية كلها، وربما كان الإنسان في هذا الطور لا ينظر إلا إلى قومه، ولما يصل من الرقي إلى حد أن ينظر إلى الإنسان كله. على أنا نرى تباشير النظرة الإنسانية في التقرب في السكك الحديدية، ونظام البريد، وكثرة المؤتمرات التي تبحث في المسائل العالمية، مما يظن أن سيكون وراءه الارتباط العالمي والنزعة الإنسانية؛ وإذ ذاك يقل الاضطراب وتتآلف القلوب.
هذه هي النزعة القومية التي أدت إلى الاستعمار، وتبعها أو كان أساسها التعصب الاقتصادي، فإن أوروبا قد ضاقت بأهلها وأعوزتهم المادة الخامة؛ فقصدوا إلى الشرق يستغلون ويأخذون منه موادهم الخامة المحتاجين إليها، ويصنعونها في مصانعهم ثم يبيعونها على الشرق، ويربحون من وراء ذلك الفرق بين المادة الخامة والمادة المصنوعة، ولذلك كانت كل أمة تستعمر أمة شرقية تضرب نطاقا عليها لاستغلالها اقتصاديا. فمصر والعراق والهند مثلا لإنجلترا تأخذ منها خاماتها وتصرف فيها سلعها ولها في ذلك المقام الأول. وفرنسا تفرض سيطرتها على بلاد المغرب وسوريا فاعلة ذلك أيضا. وربما كان من أهم أسباب الاستعمار الشئون الاقتصادية، ولذلك تحارب كل أمة مستعمرة انتشار الصناعة وتقدمها في الأمم المستعمرة، وتحاول أن تفهمها أنها أمة زراعية بحتة؛ حتى تعتمد الأمم المستعمرة على الأمم المستعمرة في صناعاتها.
وقد تفوق الأوروبيون في الأدوات الحربية والوسائل الاقتصادية معا، فكم من الفرق بين الجمل والقطر الحديدية، وبين المحراث والآلات الميكانيكية الزراعية وهكذا. فغلب الغربيون في ميدان الاقتصاد كما غلبوا في ميدان الحروب.
وأوهم الغربيون المسلمين أنهم ليسوا أهلا للصناعة، وإنما هم أهل زراعة، وفرضوا ضرائب كثيرة على المنتجات المحلية حتى يميتوها، ولكن بدأ المسلمون يقلدون الغربيين في الصناعة؛ فلما جاءت الحرب العالمية الثانية، وامتنع ورود كثير من السلع، وغلا بعضها الآخر غلوا فاحشا؛ تشجع الشرق على أن يتقدم في الصناعة ولا يزال المدى أمامهم فسيحا.
على كل حال كل ما نرجوه أن يتنبه الغرب؛ فيعدل عن النعرة الوطنية إلى الإنسانية، وينظر إلى المسلمين كما ينظر إلى غيرهم من الناس، ولكن هناك مطلبا آخر يطالب به المسلمون، وهو تكييفهم أنفسهم التكييف المناسب للعصر الحاضر.
نعم إن هناك فروقا اجتماعية كبيرة بين العالم الأوروبي والعالم الإسلامي؛ فالعالم الأوروبي يبني حياته على العلم والنتائج العلمية، والاستقلال، والحرية، والابتكار، ونحو ذلك، والعالم الإسلامي ينظم حياته على أساس الاتكال والخمول والاعتقاد الذي ساء في القضاء والقدر، ويطربه جدا سماع قصص تروى عن غني افتقر أو فقير اغتنى، وشيخ استولى ونحو ذلك. ونحن لا نريد أن يحذو المسلمون حذو الأوروبيين في كل شيء بل نريد أن يحذوا حذو الأوروبيين في العلوم والصناعات بحذافيرها من غير قيد ولا شرط، ولكن يحتفظون بروحانيتهم ونظرتهم إلى العالم نظرة غير النظرة الأوروبية. فالأوروبي ينظر إلى الطبيعة كأنها عدو يكافحه ليفشي سره، ولكن النظرة الإسلامية تنظر إلى الطبيعة على أنها صديق، وأنها من نتاج الرب الذي أنتجه.
والأوروبيون يضعون الله كما توضع الصورة الجميلة على الرف، لا دخل لها فيما يحدث حولها، والمسلمون يرون الله في كل شيء، في الأمور الدينية والدنيوية معا، فإذا باعوا أو اشتروا أو أجروا أو رهنوا راقبوا الله، وحتى في أصغر الأعمال كالاستياك والاغتسال، وعندهم أن النية الصادقة أقوم من العمل نفسه، وفي حديث رسولهم
صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.» وفرق بين رجلين يعملان عملا واحدا، أحدهما نوى الخير فيما يعمل، والآخر لم ينو شيئا أو نوى الشر. فهم يسيرون في حياتهم الدنيوية متأثرين بالدين، وليس الدين مقصورا على العبادات. وهذا ما ينقص الغرب، فإن وجب على المسلمين أن يقلدوا الغربيين في العلم والصناعات تقليدا تاما، ويسايروهم ويجروا معهم وجب أن يحتفظوا بنظرتهم الدينية إلى الحياة، وهي النظرة التي يتميزون بها عن الغربيين، لكن موضع السوء أن كثيرا من المسلمين - وخاصة المتنورين منهم - يريدون أن يقلدوهم تقليدا تاما في كل شيء، حتى في نظرتهم إلى الطبيعة ونظرتهم إلى الحياة. ويدعوهم إلى ذلك خطأ كبير وقعوا فيه، وهو ما عندهم من مركب النقص؛ إذ ظنوا أن الغربيين متى فاقوهم في العلم وجب أن يقلدوهم في كل شيء، وفاتهم أن المهارة في ناحية لا تقتضي المهارة في النواحي الأخرى، وأن روحانيتهم ونظرتهم إلى العالم خير من نظرة الأوروبيين ، ولا يمكن أن يفيقوا من غفلتهم إلا إذا اعتقدوا أن روحانيتهم خير للعالم كله، وأنهم إذا كانوا انحطوا في العلم والصناعة فقد سموا بالفطرة الروحانية، وأنهم إذا وجب أن يقلدوا في العلم وجب أن يقلدهم الأوروبيون في النظرة الروحانية، وليس الأوروبيون متسامين في كل شيء. ومن المؤسف أنهم حذوا حذو الأوروبيين في تعليمهم ونمط تربيتهم، فأسسوا المدارس المدنية على النمط الأوروبي، ولم يشذ عن ذلك إلا الأزهر، وقد قال أبو العلاء المعري:
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
دين وآخر دين لا عقل له
فالمدارس المدنية محرومة من التربية الدينية والأدبية. نعم يسوغ لنا أن نقلدهم تمام التقليد في العلوم ومعامل التجارب ونحو ذلك فقط، ولكن لا نقلدهم في الناحية الأدبية، فهم يدرسون التاريخ على أن أوروبا سيدة العالم، وعلى أن رجلها الأبيض هو المسئول عن الأسود والأصفر، وأن الله خلق العالم قسمين: قسما أوروبيا ساميا، وقسما غير أوروبي منحطا، ومن أجل ذلك يؤرخون أوروبا كأنها المركز وما حولها نقط على المحيط، وإذا جاءوا للتاريخ الإسلامي اقتضبوه أو حرفوه، فوجب على المسلمين أن يفرقوا بين ما هو علمي يقلد، وما هو أدبي لا يقلد. وهذه المدارس لا تأبه بالدين إلا شكليا، ولذلك يجهلون أصول الدين كل الجهل، ويتبعون الأوروبي في منهجهم كل الاتباع، ورأس هذه الحركة الجامعة المصرية التي تقود المدراس الثانوية والابتدائية، وليسوا يسألون في كل أمر عرض: ماذا رأى الإسلام؟ ولكن يسألون: ماذا يرى الأوروبيون؟ كأن الله اصطفى الأوروبيين وحدهم، وجعل غيرهم ذيلا لهم.
وإن كان في كل من الشرق والغرب عيوب ففيه أيضا محامد؛ فالغرب أصح رأسا، وأعظم علما، وأصبر على الشدائد وعلى البحث العلمي، وله مهارته في الذكاء، وله اليد المفكرة، والشرق له سماحة صدر، وله روحانية يعترف بها حتى الأقدمون؛ فقد قال فندلبند عند كلامه على الإسكندرية: إنه قد التقت فيها مادية الغرب بروحانية الشرق. ولكن ماذا نعني بالمادية والروحانية ومن قديم والكتاب والفلاسفة قد تعارفوا على وصف الشرق بالروحانية والغرب بالمادية، فما معنى هذا ؟
لقد سمعت كثيرا من المثقفين ثقافة واسعة ينكرون هذا، ويقولون إن الغرب غني بماديته وروحانيته، والشرق فقير في ماديته وروحانيته. أما أن الغرب غني بماديته فليس يحتاج إلى دليل ولا برهان؛ فالصناعات والاختراعات والآلات ونحوها كلها من الغرب وليس الشرق إلا عالة عليه. أما روحانية الغرب فتتجلى في سمو عواطفه، وحبه الخير لأمته، وأحيانا للإنسانية كلها، وهو في هذا يفوق الشرق أيضا. إن شئت فانظر لتبرعات الأغنياء من الغربيين ببناء المستشفيات والمؤسسات العلمية والأعمال الخيرية مما لا يبلغ عشر معشاره الشرقيون؛ فأغنياء الشرق لا يفكرون إلا في لهوهم وملذاتهم، فإن ارتقوا قليلا ففي أسرتهم وأقاربهم، ولذلك لا نرى منهم تبرعا لعمل خيري إلا أن يكون ملقا لوزير أو مدير، أو رغبة في رتبة أو نياشين، وكثيرا ما نسمع عن غربي خرج عن ماله أو أكثره لعمل ينفع قومه، وقلما نسمع ذلك عن شرقي، ولكن نسمع الكثير عن شرقيين ابتزوا أموال غيرهم، أو اغتصبوا عملاءهم الفقراء، أو غشوا في المعاملة، أو ارتشوا لقضاء مصلحة أو نحو ذلك! فأين هي روحانية الشرق ومادية الغرب!
وإن كانت روحانية الشرق عبادة وصلاة وصياما ونحو ذلك؛ فما قيمتها إذا لم تؤثر في عمل المؤمن؟! ما قيمة صلاة يتبعها نهب وسلب؟! وما قيمة صيام لا يمنع صاحبه من جشع وطمع! إن العبادة إذا كانت على هذا النحو كانت حركات ميكانيكية أو ألعابا بهلوانية، وكانت هي والعدم سواء.
ولكن يظهر لى - رغم كل ذلك - أن للشرق روحانية ليست للغرب، وأن من الواجب إذا نظرنا للشرق ألا ننظر إليه فقط في عصر تدهوره وانحطاطه، وألا ننظر إليه في شكله الأخير الذي ساء، بل في جوهره الحقيقي، وقيمته الذاتية، وتعاليمه ومبادئه غير مقيدة بعصر، ولا مرتبطة بزمن.
إن الغرب من غير شك يحيا حياة مادية بحتة؛ بمعنى أن حياته حياة عمل في مصنع أو شركة أو وظيفة يحسب حسابها المادي فقط بمرتب وأجر، وكيف يناله على خير وجه ، وكيف ينفقه على خير وجه، وكيف ينعم بهذه الحياة، وكيف يكسب خير كسب، وينفقه خير إنفاق، وكيف يعيش في أسرته، وكيف يحظى بالنعيم المادي ... إلخ. وكل الأخلاق الحسنة المرسومة له أخلاق تجارية، تعلمه كيف ينجح في التجارة، وكيف ينجح في العمل، وكيف يسعد في الحياة، ولذلك كان أهم قوائم الفضائل عنده المحافظة على المواعيد، والنظام، والترتيب، والصدق في القول والعمل إلخ ... والذي يسيطر على هذه الحياة، ويرسم خططها، ويخترع آلاتها هو العلم، والعلم نتيجة العقل والقضايا المنطقية، وهي أمور كذلك مادية بالمعنى الواسع.
أما الشرق فعماده قديما وحديثا القلب، فإن كان ولا بد فالقلب أولا والعقل ثانيا. هو يدخل في حسابه دائما الحياة الآخرة بعد الموت، ويضمها دائما إلى حساب الدنيا، وهو دائما يتساءل هل هذه الأعمال يكافئ الله عليها في الآخرة بالثواب أو العقاب. وأخلاقه التي يسير عليها مبنية على حساب هذه الآخرة أيضا، وهو كثير السؤال عن غاية هذا العالم ومصيره، وأنه مسير بقوة عظيمة هي قوة خالقه، وأنه سيحاسب الإنسان في الآخرة على ما قدمت يداه في دنياه، وهذه الصورة مركزة في ذهن الشرقي وموروثة له أبا عن جد، وهو في أشد أوقات النعيم في الدنيا يشعر بحافز يحفزه إلى أن يسأل: ما عاقبة هذه اللذة بعد الموت؟! أثاب عليها أو أعاقب؟ وماذا سيكون موقفي أمام الله إذا سألني عنها؟! وهكذا. وهو يبني أخلاقه على أساس الدين، ويبني أعماله على أساس القلب، ولهذه الطبيعة الشرقية والاستعداد الفطري الخاص كان الشرق منبع النبوات، والفلسفة الإشراقية، ومذاهب المتصوفة، وإطالة التأمل، ونحو ذلك من مظاهر الحياة الروحية! فإن ظهرت نفحات من ذلك في الغرب فمصدرها غالبا الشرق، واليهودية والنصرانية والإسلام والتصوف في الغرب ليس إلا موجة من موجات الشرق.
يكاد يكون للشرقيين عنصر خاص ينقص غيرهم وهو الإحساس الديني العميق الذي يلازمهم حتى في أوقات خروجهم عن الدين، ولذلك كثيرا ما يعقب المعصية تنبه الضمير الديني والمبالغة في التوبة والندم. إنهم يؤمنون في كل حركاتهم وسكناتهم وتصرفاتهم بإله يسيرهم وقدر يتحكم فيهم.
قد يأتي على الشرق زمن تفسد فيه عقيدته، ويسوء تصرفه، وتنحط مشاعره؛ فتصدر عنه أعمال خسيسة لا تصدر عن الغرب المادي، ولكن هل يصح أن نعد هذا العارض إفسادا للذاتية وفقدا للخاصية، أو نعده حاسة أصيبت بآفة مع الرجاء في شفائها، أو جسما أصابه المرض وفيه حصانة تبشر بالشفاء؟ ولو حكمنا بالظاهر لقلنا إن مادية سليمة تخضع للعقل، وتنجح في الحياة، وتسيطر على العالم خير من روحانية فسدت، ومبادئ قوية تعفنت، ولكن ليس هذا إنصافا في الحكم؛ فما نتيجة هذه المادية الناجحة؟! إنها مدنية روعت العالم، وجعلته على بركان يوشك أن ينفجر، وهو كل يوم في اختراع جديد يهدد العالم بالفناء، فما نتيجة القوة إذا كانت محطمة، وما قيمة القصر المزوق إذا ساد سكانه الفزع؟! ولو أنك سألت أسرة أوروبية: هل تفضل أن تعيش عيشة بذخ وترف وتفقد أبناءها في الحروب، أو تعيش عيشة وسطا ولا يهلك أحد منها في حرب فما الذي كانت تفضل؟! إنى لفي شك من قيمة المدنية الغربية إذا نحن قسنا ما أنتجته للعالم من شرور بما أنتجته للعالم من خيرات. فما قيمة آلات وأدوات ومخترعات بجانب أرواح تحصد، وطمأنينة تفقد، واستغلال قليل من الناس للكثرة الغالبة من العالم، يرهقونهم ويسومونهم سوء العذاب؛ وذلك لأنهم قالوا:
إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين .
ولو آمنوا بالبعث، وضمنوا إلى دنياهم آخرتهم، وقدروا أنهم سيقفون أمام الله يسألهم عن أعمالهم؛ لكانت المدنية غير المدنية، ولكانت مدنية مادية روحانية معا، وهذا ما ينقصها، ولا يصلح العالم إلا بها، وإذ ذاك يكمل الغرب نقصه فيزيد في روحانيته، ويكمل الشرق نقصه فيزيد في ماديته، ويسير الركبان جنبا إلى جنب لخير العالم وإسعاده.
ما الغاية من هذا العالم؟! ما سر الحياة؟! لماذا نعيش ولماذا نموت؟ ما موقفنا بعد الموت؟!
كل هذه ونحوها من عشرات الأسئلة لا يستطيع العلم أن يجيب عنها؛ إذ ليست من الأمور المادية وأشباهها التي تدخل في اختصاص العلم، إنما هي من الروحانيات التي لا يستطيع الإجابة عنها إلا الدين. لقد بلغ العلم درجة كبيرة في المدنية الغربية، ولكنه لم يفعل أكثر من تحسين وسائل الحياة، أما صبغ الحياة لتتفق مع الغاية التي يجب أن تنشد فوظيفة الدين، وكلما اقتصرت المدنية الحديثة على الوسائل دون الغايات ضلت السبيل، ووقعت في الحيرة والاضطراب، وسببت هذا الشقاء المفضض بالنعيم.
لقد جرب العالم الأوروبي التقدم المادي بل والتقدم العقلي من علم ومخترعات، حتى توجت هذه بالقنبلة الذرية، ولكنهم مع ذلك التفتوا فرأوا أن النتيجة قلق، واضطراب، وخوف من المستقبل، وتوقع لقيام حرب عالمية تأكل الأخضر واليابس، فلم يبق إلا أن يجربوا التجربة الأخيرة، وهي الدين الصحيح بما يبعث من روحانية، وأن يحيوا القلب كما أحيوا العقل، وأن يتوجهوا إلى الله كما توجهوا إلى المخترعات؛ فإذ ذاك فقط تسود الطمأنينة، ويسود الأمن، وتنقشع الحيرة والاضطراب. بل ربما عدمت الحروب أيضا؛ إنهم إذا آمنوا هذا الإيمان التفتوا فوجدوا زعماءهم الحاضرين غير صالحين؛ لأنهم عباد مادة فقط، وهم يحتاجون إلى زعماء من جنس آخر، تسيرهم المادة والروحانية معا؛ وإذ ذاك أيضا تفنى نظرتهم الاستعمارية، وينظرون إلى الشرق نظرة الأخ الكبير إلى الأخ الصغير، يربيه أحسن تربية، ويأخذ بيده ويحفظ عليه ماله حتى يرشد، ثم يتعاون معه على الخير.
وخالق العالم خلقه مادة وروحا، فكان من الطبيعي ألا يسعد إلا إذا غذي العنصران واكتمل المنهجان.
وقد اتهم الإسلام أنه يحمل أصحابه على عدم مسايرة المدنية الحديثة والتقدم الاجتماعي، ولكن أي شيء فيه يمنع التقدم؟!
كتب كاتب إنجليزي وهو مستر د. ج. كوريت مقالا في بعض الجرائد الإنجليزية عربته جريدة المؤيد، قال فيه: إن إنجلترا أكبر دولة إسلامية؛ لأن المسلمين الذين تحكمهم الدولة العثمانية ستة عشر مليونا ونيفا - وذلك حسب إحصاء سنة1891، وهم الآن أكثر من ذلك - تحكم الصين منهم 32 مليونا، وتحكم روسيا ستة ملايين، وتحكم إنجلترا 107760804.
ويقول الكاتب إن المسلمين يتمتعون في المستعمرات الإنجليزية بالحرية الدينية، وستكون الهند مصدرا لمدنية آسيا، ومصر منبعا لحياة ما يجاورها من آسيا وأفريقيا، وهو مع هذا ينسب إلى قومه الإنجليز التقصير في القيام بمصالح المسلمين، ويثبت لهم أن مستقبل بريطانيا مرتبط بمستقبل المسلمين، ومصالحهم مقرونة بمصالحهم. ويقول إن الإنجليز ارتكبوا هفوات مع المسلمين جهلا وغرورا، وقال إن الواسطة الوحيدة لتمكين سلطتنا في آسيا وأفريقيا هي أن نبذل جهدنا في إفهام المسلمين أن مصالحهم الدينية والسياسية مرتبطة بمصالحنا، ويجب إفهامهم أن كثيرا من معتقداتهم التي يحسبونها من الدين ليست منه، ولا جاء بها كتابهم. ويقول السيد أمير علي أحد نبهاء المسلمين في الهند: إن سبب تأخر المسلمين وبقائهم على ما هم عليه من التأخر يرجع في الغالب إلى ما رسخ في أذهانهم من أنهم لا حق لهم في استعمال عقولهم في فهم دينهم؛ لأن ذلك قد انتهى بانقراض المجتهدين الأولين، وصار الاجتهاد بعدهم محرما، وأن المسلم لا يكون مسلما صادقا إلا إذا كان مقلدا لمذهب من المذاهب المعروفة، فيترك المسلم ما يعتقد وما يفهم، ويتمسك بتفسير أهل القرن التاسع من الفقهاء، غير ملتفت إلى الآراء والأفكار التي وصل إليها العالم في القرن التاسع عشر. وختم مقاله بالثناء على الإسلام، ونقل أقوال ثقات الحكماء والعلماء الغربيين في مدحه، وأجاب عن الاعتراضات المشهورة عليه بأجوبة حسنة.
وفي الحق ماذا يمنع الإسلام من ترقية أهله وأخذهم بأسباب المدنية الحديثة؟ وإن أركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، فأي من هذه الأركان تعوق تقدم المسلمين؟! إن شهادة «لا إله إلا الله» تكسبهم العزة كما بينا، وإقامة الصلاة تطهر قلوبهم، وإيتاء الزكاة يقرب بين الفقراء والأغنياء. وصوم رمضان يفهمهم آلام البؤساء، وحج البيت مؤتمر عام للمسلمين يمكن قادتهم من أن يتداولوا المشاكل الحاضرة للمسلمين، وكيف يحلونها.
إن الإسلام يأمر بالنظر العقلي، ويوفق بين العقل والنقل، ويأمر أتباعه بالنظر في سنن الله في الكون، بينما النصرانية بعيدة عن هذا كله؛ فأركانها هي: الإيمان بالمعجزات، بينما المعتزلة من المسلمين مثلا أنكرت كل المعجزات ما عدا إعجاز القرآن، ومع ذلك بقيت على إسلامها، واعتمدت الأناجيل على صدق المسيح بخوارق العادات من إحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص، ونحو ذلك. والركن الثاني سلطة الرؤساء؛ فما يربطونه في الأرض يربط في السماء، وما يحلونه في الأرض يحل في السماء. قال أحد مطارنة «رانس» أيام القرون الوسطى: «أيها التبع، الزموا - كما قال الرسول - الخضوع في كل حين لأسيادكم، ولا تنتحلوا الأعذار من قسوتهم أو بخلهم. الزموا الخضوع - كما قال الرسول - لا للخيرين ولا للمعتدلين من الأسياد فحسب، بل ولأولئك الذين ليسوا كذلك. إن الكنيسة لتصب اللعنة على أولئك الذين يدفعون التبع إلى عدم الطاعة واصطناع وسائل التحايل، وهي تصبها من باب أولى على أولئك الذين يعلمونهم المقاومة السافرة.» «إن الله نفسه قد أراد أن يكون بين البشر سادة وتبع؛ حتى يلزم الأسياد تبجيل الإله وحبهم له، ويلزم التبع تمجيد أسيادهم وحبهم لهم»، وذلك وفقا لما قال الرسول عندما صاح: «أيها التبع، أطيعوا أسيادكم الزمنيين في خوف ورعب.» بينما الإسلام لا يجعل واسطة بين العبد وربه فالرؤساء كباقي الأفراد لا ميزة لهم ولا زلفى عند الله. والركن الثالث في النصرانية التجرد من الدنيا والزهد فيها، وكلما كان الإنسان أزهد في الدنيا كان أقرب إلى الله، فالمدنية الحديثة إذا ليست مسيحية في هذا المعنى بل هي مدنية ضد المسيحية. على أن الإسلام يأمر بمراعاة الدين والدنيا جميعا، فيقول القرآن:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق .
والأصل الرابع في النصرانية الإيمان بما هو فوق العقل. قال القديس أنسلم: يجب أن تعتقد أولا بما يعرض على قلبك بدون نظر ثم اجتهد بعد ذلك.
واعترض قوم على الإسلام بأنه متعصب لا يتسامح، مع أن التسامح فيه أكثر من النصرانية؛ فلم يعرف في الإسلام محكمة كمحكمة التفتيش ولا نحو ذلك. ونعني بالتسامح الديني أن يكون لكل فرد في الأمة حق في أن يعتقد ما يراه حقا، وأن تكون له الحرية في تأدية شعائر دينه كما يشاء، وأن يكون أهل الأديان المختلفة أمام قوانين الدولة سواء. ولننظر إلى الإسلام في ضوء هذا التعريف؛ نجد أنه من حيث مبادؤه وتعاليمه الأصلية هو أرقى الأديان في تحقيق هذه المبادئ. والباحث في التسامح الديني في الإسلام مضطر أن ينظر إليه من ناحيتين: ناحية المذاهب المختلفة في الإسلام نفسه، وناحية نظرة الإسلام لأهل الأديان الأخرى.
فأما الناحية الأولى؛ فالمسلمون في عهد نزول القرآن - أي عهد النبي
صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا إلا مذهبا واحدا، ولذلك لا تتوقع أن يكون في القرآن نفسه نص على التعامل بين المذاهب الإسلامية المختلفة. قد يكون هناك بينهم اختلاف في الاجتهاد أو اختلاف في تطبيق المبادئ الإسلامية، ولكن لم يتعد هذا أن يكون في مسائل جزئية لا ينطبق عليها كلمة مذهب. وهناك أقوال مأثورة تدعو إلى التسامح مثل ما شاع بين المسلمين: اختلاف أمتي رحمة؛ وكان هذا سببا في سعة الصدر بين أهل المذاهب المختلفة من حنفي وشافعي ومالكي إلخ. ومثل ما روي عن الشافعي من قوله: «مذهبي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب» وهو قول لطيف يدل أيضا على قدر كبير من التسامح. ومن هذا القبيل أيضا ما شاع بين المسلمين من قولهم: «لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب غير مستحل» أي لا يكفر مسلم بارتكابه ذنبا ما دام غير مستحل له، وأولى من ذلك أنه مهما اختلف المسلمون في المذاهب والآراء والأقوال فيما هو محل للاجتهاد والنظر فلا يصح أن يكفر أحد منهم.
أما نظر الإسلام إلى الأديان الأخرى فهو نظر سمح، فقد سمى اليهود والنصارى أهل كتاب، وسماهم أهل ذمة، وهما تسميتان في منتهى اللطف. والآيات التي وردت في القرآن في أهل الكتاب تدل على قدر كبير من التسامح خصوصا في العهد المكي، فيظهر أن اليهود والنصارى قابلوا الإسلام في العهد المكي بشيء من حسن الاستقبال؛ فكان القرآن في ذلك العهد سمحا كريما، وقد بني في أساسه على أن القرآن يؤيد الكتب السماوية الأخرى، ويتفق معها في أغراضها، وأن الشريعة الإسلامية وارثة لما قبلها ومكملة لتعاليمها:
والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ،
ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
والإسلام يعترف بنبوة الأنبياء السابقين؛ فنوح وإبراهيم إسحاق ويعقوب وداود وسليمان ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس أنبياء مصدقون. ويقرر أن أساس تعاليمهم واحد، وكلها من عند الله؛ فلا غرو بعد ذلك كله أن يكون الإسلام سمحا مسالما، حتى لقد نصح أتباعه بأنهم إذا دخلوا في جدال مع اليهود والنصارى بشأن الدين جادلوهم بالحسنى:
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ، بل نرى في العهد المدني في أول الأمر مثل قوله - تعالى:
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ، وقوله:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ، ولكن يظهر أن اليهود والنصارى في العهد المدني بعد ذلك وقفوا أمام الدعوة الإسلامية، يهاجمونها، ويضعون الخطط لخنقها، ويتحالفون مع الوثنيين في الكيد لها، والنيل منها، فاضطر الإسلام أن يقابل الشدة بالشدة والكيد بالكيد؛ فعلت نغمة القرآن في التنديد بأهل الكتاب، ووصف أساليبهم القديمة، وخاصة اليهود وما فعلوه مع أنبيائهم، فكان موقف المسلمين منهم موقف الدفاع لا الهجوم، ومع ذلك فقد سمح لليهود والنصارى أن يؤدوا شعائرهم في المدينة، ونصح الرسول معاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن بألا يكره يهوديا على الإسلام، وفي كتابه إلى نصارى نجران سمح لهم أن يؤدوا شعائرهم، وأن يتبعوا دينهم، وأن تحفظ لهم كنائسهم، وألا يتدخل في شئونهم ما وفوا بعهودهم.
وسار الفقهاء من المسلمين على هذه التعاليم في فقههم من حسن معاملة أهل الكتاب، وأن يكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، بل لما فتحت فارس عومل أتباع زرادشت معاملة أهل الكتاب، ولئن قسا الإسلام بعض الشيء على الوثنيين دون أهل الكتاب؛ فلأنه يرى أن الوثنية انحطاط في الإنسانية يجب علاجها، وانتشال الإنسانية من حضيضها، وعلى هذا سار المسلمون في أكثر تاريخهم، على حسن معاملة أهل الكتاب، يحمونهم ما دفعوا الجزية، ويسمحون لهم بالعبادة في بيعهم وكنائسهم، وهذه الجزية إنما شرعت بدل تجنيدهم؛ لأنهم لا يأمنون جانبهم إذا جندوا، ولا يثقون بغيرتهم الحربية، فليدفعوا بدل القتال شيئا من المال لحمايتهم. ولو قرنت معاملة المسلمين في دولهم لليهود والنصارى بمعاملة النصارى للمسلمين في دولهم لتبين إلى أي حد كان التسامح عند المسلمين وفقدانه عند النصارى، حتى ليصح للمسلمين أن يفخروا بتشريع الفقهاء الأولين في معاملة أهل الذمة، وبتطبيق ذلك عليهم في مختلف العصور.
نعم حدثت في التاريخ أحداث كثيرة لا تتفق وهذا التسامح الكريم، ولكن إذا دققنا النظر فيها وجدناها ترجع إلى أسباب أكثرها غير ديني، سواء في ذلك الاضطهاد الذي حدث بين المذاهب الإسلامية بعضها وبعض، أو بين المسلمين وغيرهم من اليهود والنصارى. من أهم هذه الأسباب السياسية؛ فالنزاع بين الحكومة الإسلامية والخوارج في العهد الأموي وصدر العباسيين سببه أن الخوارج بتعاليمهم يريدون أن يتولى الحكم أصلح الناس ولو كان عبدا حبشيا، ولا يعترفون ببيت أموي ولا بيت عباسي، ويريدون أن يصلوا إلى مبدئهم بالقوة، فاضطرت الحكومة الأموية والحكومة العباسية أن تحفظ كيانها وتحمي بيتها في الخلافة بمحاربة الخوارج والقضاء عليهم، وهذا سياسة لا دين.
وانظر إلى النزاع الحاد والدماء المسفوكة بين السنية والشيعة طول العهد الأموي والعباسي وبعد ذلك، وما جرى بسببه من دماء تجري أنهارا؛ تجد سببه أن أهل السنة من أمويين وعباسيين وغيرهم يرون الحق في خلافتهم، ويرى الشيعة أن لا حق لهؤلاء في الخلافة، وإنما الحق لأهل البيت وكل يعمل على أن يصل إلى حقه بقوة السلاح، فالنزاع إذن نزاع على من يتولى الحكم وهذه سياسة لا دين. وأحيانا يقوم بالدعوة الدينية رجال يدعون إلى مذاهب هدامة، ويتسترون باسم الدين، وتخشى الحكومة إن سادت تعاليمهم أن تنهار قوتها فتضطر إلى محاربتهم، وشكل الحرب شكل ديني وحقيقته سياسية. وكثير ممن خرجوا على الدولة العباسية كانت حقيقة أمرهم الرغبة في إعادة الحكم للفرس، ككثير ممن قتلوا تحت ستار الزندقة في عهد المهدي العباسي وبتهمة المانوية. وقد يستثنى من ذلك الاضطهاد الذي حدث من المأمون والواثق لمن لم يقولوا بخلق القرآن، فقد كانت هذه نظرة دينية خاطئة من المأمون والواثق؛ إذ ظنا أن من لم يقل بالاعتزال وبخلق القرآن؛ فقد أفسد دينه فهما يريدان إصلاح العقيدة قسرا وجهرا كما فعل المسلمون الأولون إزاء الوثنيين، وهذا خطأ كبير في التفكير نتج عنه أضرار جسيمة للمسلمين.
ومن العداء السياسي ما كان بين الدولة العثمانية والدولة الإيرانية، فالعداء بينهما عداء سياسي اتخذ شكلا دينيا؛ يريد العثمانيون الأولون أن يمدوا سلطانهم على الفرس، ويأبى الفرس إلا أن يحتفظوا باستقلالهم، فيئول ذلك إلى البغض الذي بلغ مداه في عهد السلطان سليم الأول، حتى كان اضطهاده للشيعة في مملكته أن قتل وسجن ما يقرب من أربعين ألفا. ولكن من الخطأ تحميل الدين جرائر السياسة، بدليل أن كثيرا من هذه الخصومات السياسية حدثت بين أمم إسلامية مختلفة تعتنق عقيدة واحدة سنية أو شيعية، وإنما كان الخلاف بينها على السلطان وسعة الحكم ونحو ذلك.
ولسنا ننكر أن كثيرا مما حدث في التاريخ من اضطهاد المسلمين للنصارى واليهود كان ناشئا عن كراهية دينية وغيرة إسلامية، ولكنها كانت غيرة عمياء من بعض من أصيبوا بضيق النظر وفهم الدين فهما خاطئا، أو كان ردا لما يبلغهم عن اضطهاد المسيحيين للمسلمين، فيضطرون أن يعاملوهم معاملة المثل جزاء وفاقا، ولكن من الظلم أن نحمل الدين الإسلامي هذه الأخطاء أيضا.
وأحيانا كان يكون السبب في اضطهاد المسلمين لليهود والنصارى سببا اقتصاديا، فكثيرا ما كان يحدث أن تولي الحكومات الإسلامية بعض اليهود والنصارى زمام الأمور المالية في الدولة، فيسرفون في تعيين أقاربهم وأصهارهم في الوظائف المالية، كما يسرفون في بذل المال لهم، وبعد قليل ينظر المسلمون فيرون أن الغنى والترف وحياة الفخفخة والأبهة والعظمة في جانب اليهود والنصارى، وحياة البؤس والفقر في جانب المسلمين، فيثور ثائرهم ويحطمون هذا الوضع الاقتصادي الظالم، كما حدث ذلك في العهد الفاطمي. وقد كانت الدولة العثمانية في أول أمرها من أكثر الدول تسامحا لرعاياها من اليهود والنصارى، ومنحتهم من الامتيازات ما لم يعهد له نظير في الدول الأخرى، ولكن انقلبت هذه الامتيازات معاول لهدم الدولة العثمانية، واتخذت الدول الأجنبية من روسيا وإنجلترا وفرنسا وغيرها هذه الامتيازات التي لرعاياها وسيلة لنشر الدسائس، وتدبير المؤامرات، وخلق الفتن، فاضطرت الدولة بعد إلى استعمال كثير من العنف؛ دفاعا عن كيانها، ومواجهة لنقض الدسائس التي تحاك حولها، وكل هذا سياسة لا دين. وأحيانا يكون سبب القتال والخصام تجارة رؤساء الدين، فيرون أن قوة مركزهم وبسطة نفوذهم متوقفة على تعصب عوامهم، فهم يستغلون ضيق نظر أتباعهم ويبثون فيهم روح التعصب؛ حفظا لمركزهم ونفوذهم وسيطرتهم، علما منهم بأنه إذا ساد التسامح، وكان الناس إخوانا فقدوا عزتهم ومكاسبهم الفانية، والأمثلة على ذلك كثيرة. •••
وبعد فإن أوروبا مع تقدمها في فهم الحرية، وجدها المتواصل في بناء حياتها على العلم لا على العواطف ما زالت بعيدة عن تحقيق التسامح الديني بالمعنى الذي شرحناه قبل. فبالأمس قرأنا كيف فعل هتلر بيهود ألمانيا، وقرأنا كيف اضطهد الشيوعيون الدين، وحاربوا شعائره، ونقرأ في الصفحات الأخيرة كيف حاربت أوروبا المسلمين العرب في فلسطين، ونصرت اليهود عليهم، وعرفنا كيف تخلط أوروبا المنفعة السياسية بالعواطف الدينية في معاملتها للمسلمين.
وأخيرا فهل للمسلمين أن يشتد وعيهم الديني، ويفهموا بعد طول هذه التجارب التي ذكرناها أنه لم يعد هناك وجه للخلاف بين سني وشيعي وزيدي وغير ذلك من المذاهب؛ لأنهم لو رجعوا إلى أصل دينهم ما وجدوا لهذا الخلاف محلا، ولوجدوا أنه خلاف مصطنع لا خلاف أصيل، وأن الأمم الإسلامية في موقفها الحاضر أحوج ما تكون إلى لم شعثها، وإصلاح ذات بينها، وتوحيد كلمتها، وهي ترى كيف تهاجم من كل جانب وكيف يتخذ إسلامها وسيلة من وسائل الكيد لها، وإذا اتحد أهل الباطل على باطلهم فأولى أن يتحد أصحاب الحق على حقهم!
واعترض قوم آخرون على الإسلام - وخصوصا المستشرقين الإنجليز في الهند - بأن الإسلام جامد، والدين لايصلح إلا إذا كان فيه عناصر ثبات وعناصر تحول على حسب مقتضى الظروف والأحوال. وهذا عيب في المسلمين لا في الإسلام، فالإسلام سن بابي الإجماع والاجتهاد ليكون مرنا. وكان من أكبر قادة المسلمين عمر بن الخطاب، وكان يجتهد حتى فيما يقابل النص. وسار معاذ بن جبل، ثم عبد الله بن مسعود، ثم أبو حنيفة النعمان على هذه الطريقة، طريقة إعمال العقل فيما يروى، والاجتهاد فيما يجد من الأحداث. وإنما المسلمون آخر الأمر هم الذين أغلقوا باب الاجتهاد، وحرموه عليهم، وكلفوا المسلمين شططا في أنهم يسيرون في الظروف الحادثة سيرهم في الظروف القديمة. وظهروا أمام العالم الغربي بمظهر الجامدين، واتخذ هؤلاء المستشرقون عمل المسلمين حجة على الإسلام نفسه، والإسلام نفسه من ذلك براء.
وتبع هذا غلو في الدين وتشدد فيه بعد أن كان الإسلام سمحا وسهلا، وذلك بسبب تأثير الفلسفة اليونانية على المسلمين. فالإسلام يأمر بغسل الوجه عند الوضوء، فتأتي الفلسفة وتحدد معنى الوجه وما تنطبق عليه كلمة الوجه، كأن المتوضئ مهندس مساح يريد تحديد الوجه بالمساحة. والدين يندب إلى السواك، فيأتي الجامدون المغالون ويبحثون في السواك: بم يكون؟ ومتى يكون؟ وما حجم القشرة المنزوعة من عود الأراك؟ وكيف يستاك؟ وبعد أن يستاك كيف يضع السواك؟ إلى آخر ما هناك. فهذا تشديد في الدين تأثر فيه الإسلام بالعقل الفلسفي اليوناني الذي يتعمق ويتعمق. وقد كان الإسلام يأمر بغسل الوجه، ويندب إلى السواك على الفطرة من غير بحث ولا تعمق، وهكذا في سائر شئون الدين وتعاليمه، حتى خرجوا من ذلك إلى الحيل الشرعية التي يحتالون بها للهروب من الواجبات، فألفوا في ذلك الكتب في الحيل الشرعية. وكانت هذه الفلسفة أيضا سببا من أسباب التفريق بين المسلمين فرقا مختلفة حتى انقسموا فيما بينهم كانقسام الأمم قبلهم.
وتسألني كيف يكون تقرب الأوروبيين من المسلمين؟ وكيف يصلح المسلمون حالهم؟ فأقول: أما تقرب الأوروبيين من المسلمين؛ فله دواع كثيرة. أولها: أن النعرة الوطنية كانت أشد من العصبية الدينية؛ فحاربت أمريكا وإنجلترا النصرانيتين روسيا النصرانية، وانقسم العالم الآن إلى معسكرين كل منهما نصراني، ودعتهما العصبية القومية أن يستعينا بغيرهما من المسلمين، فكان في هذا التقرب إليهم. وثانيا: وجد هناك أبطال من العلماء المسلمين ومن العلماء المسيحيين، رفعوا الصوت عاليا ضد الجهلاء السابقين. من هؤلاء المنصفين «كارليل» في كتابه «الأبطال»، وإسحاق تيلر في خطبه في «مجمع القسيسين»، و«أرنولد» في كتابه «الإسلام»، وغيرهم. وهؤلاء من غير شك مسحوا شيئا غير قليل من عداء الماضي، وأسسوا نزعة جديدة للتحبب والتقرب. ومن هذه الدواعي أن العالم الآن يسير نحو الإنسانية متخطيا القومية والوطنية، ولا بد أن سيصل يوما إلى هذه الغاية.
ومنها أن المخترعات الحديثة من طيارات وما إليها أزالت الفوارق بين الشعوب، وجعلت العالم كله وحدة، وقربت الاتصال بين أوروبا والشرق، وسهلت نقل الأفكار والمعاني إلى الشرقيين، فدب فيهم الوعي القومي، ونال بعضهم الاستقلال؛ تلبية لهذه الأفكار التي يسمعونها والصحف التي يقرءونها، والبعض الآخر في طريقه إلى ذلك.
وأما إصلاح حال المسلمين فيكون بشيئين: أحدهما فصل العلم عن الدين، والتوسع في العلم إلى أقصى قدر مستطاع؛ فليس العلم ملكا لمذهب دون مذهب، وليس الإسلام مما يناهض العلم. وفصل العلم عن الدين شيء ميسور ومحبوب. وأما فصل الدين عن السياسة كما فعلت أوروبا المسيحية، وكما فعل مصطفى كمال؛ فشيء لا يقتضيه الإسلام؛ لأنه لا بد أن يدخل الدين في السياسة؛ لينقحها، ويهذبها ويحسن من نيات ولاة الأمور، ويوجههم نحو ما ينفع رعيتهم، ولم تقع أوروبا في الحروب المتتالية إلا لفصل السياسة عن الدين؛ فبانفصالها عن الدين انفصلت عن الأخلاق أيضا.
والأمر الثاني هو الاجتهاد. والاجتهاد في اصطلاح الأصوليين بذل الفقيه الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي. وقد اشترطوا في المجتهد شرطين؛ الأول: معرفة الله - تعالى - وصفاته، وتصديق النبي
صلى الله عليه وسلم ، والثاني: أن يكون عالما بمدارك الأحكام، وأقسامها، وطرق إثباتها، ووجوه دلالتها، وأنواع العلوم العربية من اللغة والصرف والنحو وغير ذلك. وقد أصيب المسلمون بحكمهم على أنفسهم بالعجز، وقولهم بإقفال باب الاجتهاد؛ لأن معناه أنه لم يبق في الناس من تتوفر فيه شروط المجتهد، ولا يرجى أن يكون ذلك في المستقبل. وإنما قال هذا القول بعض المقلدين؛ لضعف ثقتهم بأنفسهم، وسوء ظنهم بالناس، وزعمهم عكس ما يقول أصحاب النشوء والارتقاء من دعواهم أن العقل دائما في تدن وانحطاط، وغلوهم في تعظيم السابقين.
وإنما أصيب المسلمون بقولهم بسد باب الاجتهاد؛ لأسباب ثلاثة، أولها: كارثة المسلمين بضياع المعتزلة، وهم الفرقة العقلية في الإسلام، وانتصار أهل الحديث عليهم. والثاني: مهاجمة أهل التصوف للفقهاء بأنهم شكليون، ويعنون بالشكل أكثر مما يعنون بالروح، فاتفقوا مع المعتزلة في مناهضة الفقهاء، وكان على رأسهم سفيان الثوري الذي توغل في الروحانية مع اطلاعه الواسع في الفقهيات. والسبب الثالث: سقوط بغداد على يد التتر، وقد كانت بغداد إذ ذاك مركز الحضارة والثقافة الإسلاميتين، فأصيب العلماء بالفزع من جراء هذا السقوط، وغلبهم التشاؤم وودوا أن لو استطاعوا فقط حتى المحافظة على القديم من غير تجديد، وهم في ذلك معذورون بعض العذر. فانحبس الناس في التقليد. والاجتهاد الذي نريده هو الاجتهاد المطلق لا المقيد بمذهب. وهذا الاجتهاد المطلق هو الذي فعله معاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل، وداود الظاهري، والطبري، وابن تيمية، وأمثالهم. وليس المسلمون مقيدين بالمذاهب الأربعة، فغيرهم من عشرات الأئمة لم يتقيد بمذهبهم.
والاجتهاد في عصرنا أسهل من الاجتهاد في عصرهم، فالمطابع نشرت عشرات التفسيرات للقرآن الكريم، وعشرات الكتب في جمع الحديث؛ وأصبحت المطالعة في الكتاب تغني عن الرحلات المختلفة إلى مصر والأندلس والحجاز، فقد كفانا المحدثون مئونة ذلك.
هذا إلى أن الله لم يخل الأمم الإسلامية في كل عصر من مسلمين أذكياء عقلاء، عارفين بكليات الشريعة الإسلامية ومقاصدها، قادرين على تطبيقها على الجزئيات. ثم إن المدنية الحديثة قابلت المسلمين بجزئيات لا عداد لها؛ فقد أصبحت طرق المعاهدات الجديدة تخالف في كثير من الأحيان طرق المعاملات القديمة، وتطور العالم الإسلامي في العشرين سنة الأخيرة ما لم يتطوره في مئات السنين الماضية؛ تدل على ذلك الأسئلة الكثيرة التي ترد على العلماء من كل قطر، في حل بعض الأمور وحرمتها. فما لم نواجه هذه المسائل بالاجتهاد المطلق تخلفنا كثيرا في الحياة، ولو واجهت هذه المسائل الأئمة الأربعة لأفتوا فيها فتاوى يضعون فيها إحدى عينيهم على كليات القرآن، والعين الأخرى على المدنية الحديثة؛ والله - تعالى - ينهى عن الغلو في الدين، والرسول يقول: «إن الإسلام يسر لا عسر» فهذه المشاكل لا تحل إلا باجتهاد مطلق؛ ولسنا نعني بالاجتهاد المطلق إعمال العقل وحده، والتقليد للأجنبي تقليدا أعمى، وإنما نعني اجتهادا من أهل الاجتهاد، اجتهادا يفهم الإسلام ومراميه، ويفهم المدنية الغربية ومراميها، ثم يحلل أو يحرم على مقتضى هاتين النظريتين.
فكل المجتهدين السابقين فعلوا مثل هذا؛ ونحن لسنا أقل منهم في مواجهة الصعاب، وقدرتنا على حلها، وفي التاريخ أمثلة كثيرة من هذا القبيل، وإن الذين أغلقوا باب الاجتهاد، أو فتحوا فقط باب الاجتهاد الضيق ضرونا ضررا بليغا، وجمدونا جمودا متحجرا، فأصبحنا كالنعامة تغمض عينيها عما سيؤذيها؛ وليس يحيا دين على ممر الأزمان إلا إذا كانت فيه صفه المرونة. نعم إن جماعة كالبابية والبهائية والقاديانية قالوا بهذا الاجتهاد، ولكنهم أفرطوا في الحرية بعض الأحيان إفراطا لا يرتضيه الإسلام، كالقول بأن الأنبياء لم يختموا بمحمد مخالفين النص القرآني:
وخاتم النبيين ، وغير هذا من أمور ليس هذا موضعها، فنحن محتاجون إلى نوع خاص من المجتهدين.
نوع يفهم الدين فهما دقيقا، ويفهم المدنية فهما عميقا، ثم يطبق تلك على الدين، مراعيا المصلحة العامة والعقل الواسع. أما أن يفهم الدين وحده كبعض علمائنا، أو أن يفهم الحضارة الغربية وحدها كبعض المتمدنين؛ فنظر بعين واحدة وهو لا يكفي. إنا لا نريد الاجتهاد لكل أحد، ولكن نريده بشروط كالتي قالها الأقدمون، وكل ما نخالفهم فيه أننا نثق بأنفسنا، ولا نقبل مركب النقص فينا، ونؤمن بفضل الله وسابغ عطاياه، وأن الأمة الإسلامية لم تصب بالعقم، فالأمهات اللاتي كن يلدن عباقرة حتى في الدين يلدن حتى اليوم هؤلاء العباقرة
3 ... ومما يؤسف له أن كثيرا من علمائنا الدينيين لم يتعبوا أنفسهم في فهم المدنية الحديثة كما أتعب علماء المسيحية أنفسهم في فهمها؛ فقل أن تجد عالما فاهما للمدنية الغربية، وربما كان السبب في كرهنا للمدنية الغربية أنها نشأت في أحضان النصرانية لا الإسلام، ولكن لا يمنعنا هذا - وقد تسلطت المدنية الغربية على العالم كله حتى الأمم الإسلامية - من فهم المدنية الغربية وأسرارها، وتحديد موقفنا أمامها.
لو كانت تعيش المدنية الغربية في بلاد غير بلادنا لاحتملنا ذلك؛ أما وهي تعيش في بلادنا بماديتها ومعنويتها فلا يصح أن نغمض النظر عنها، إن العلماء يلبسون من صنعها ويحلون بيوتهم بأثاثها، وآلات إذاعتها وتليفوناتها، ويزرعون بآلاتها، فلماذا لا يوسعون فهمهم لها، ويفتحون الطريق أمام خيراتها، ويغلقونه أمام شرورها، ويبصرون الناس بموقفهم منها؟
هذا هو الفرق العظيم بين رجال ديننا ورجال دينهم. يظهر ذلك في علمهم الواسع بأساليب سياستهم وتكوين رأيهم فيها، ويظهر ذلك أيضا في وعظهم ووعظنا، في كنائسهم ومساجدنا. فهم يتحدثون بل ويؤلفون بلغة العصر وروح العصر. وأشهد أني قرأت دائرة معارف بالإنجليزية للأطفال، فكان رجال الدين في كل عدد يعرضون لأحاديث التوراة والإنجيل وقصص الأنبياء بلغة فيها علم نفس، وفيها فهم لعلم الطبيعة والكيمياء، وفيها لغة تناسب عقول الأطفال والشبان وتستهويهم، وتوافق لغتهم التي يألفونها في كتب العلوم والآداب. أما نحن فمن أسباب انصراف ناشئتنا عن الدين أننا لا نعرف أن نخاطبهم بلغتهم التي يفهمونها، ثم هم إذا حدثت حوادث كغرق مركب كبير، وقيام حرب كبيرة، وحدوث أحداث سماوية صغيرة انتهزوا الفرصة فتكلموا بلغة الدين فيها؛ فكان كلامهم مقبولا. ونحن لا نتكلم إلا عن الماضي، وبلغة الماضي؛ فلا يكون كلامنا مقبولا. إن زعماء الإصلاح الذين نجحوا كان نجاحهم بمقدار فهمهم للمدنية الغربية وفهمهم للإسلام معا، كالسيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، ومدحت باشا، والسيد أمير علي. أما من تخلف منهم، ولم يناسب إلا جزيرة العرب وأمثالها، كمحمد بن عبد الوهاب، فسبب عدم شيوع تعاليمه هو أنه اقتصر على فهم الإسلام دون الجانب الآخر من الحياة، حتى فهمه للإسلام كان فهما مقيدا بظروف الحياة في الجزيرة العربية قبل تطوره التطور الذي جاء بعد؛ فهو أشبه بابن عمر من عمر.
إن عمر بن الخطاب بعقله الواسع واجتهاده المعقول استطاع أن يشرع للفرس والروم، وهو البدوي وهم الممدنون: ووقف حد الشرب على أبي محجن الثقفي؛ لأنه أبلى في الحروب بلاء حسنا، ووقف حد القطع على من سرق ناقة؛ لأنه كان جائعا، ووقف الحدود في الحروب لما رأى أن بعض المحاربين إذا وقع عليهم الحد فروا إلى الأعداء، وهكذا ... وأباح أبو حنيفة قراءة الفاتحة بالفارسية لما رأى أن بعض من أسلم من الفرس لا يحسن العربية، وقال مالك بالمصالح المرسلة، وقال أبو حنيفة بالاستحسان؛ فلماذا لا نسير سيرهم ولا نعمل عملهم؟ إن حياة المسلمين كلها تغيرت بالمدنية الحديثة، من راديو يقرأ القرآن، وصناديق توفير مفتحة الأبواب، ولبس قبعة وغير ذلك من الماديات، وتغيرت أساليب الزواج، ووسائل السفر، وغير ذلك من العلوم والمعارف، فلماذا نقف أمامها ولا نبين رأي الإسلام فيها؟ الحق أنا في أشد الحاجة إلى ذلك، وإلا كان ما حدث لبعض الزعماء كمصطفى كمال وغيره من القادة، رأوا الجمود فكفروا بالدين، ونقلوا المدنية الغربية بحذافيرها من غير تفرقة بين نافع وضار، وما يناسب المسلمين وما لا يناسبهم. لو كان وقوف العلماء مغمضي العين عن المدنية الحديثة يقف سيرها لهان الأمر، ولكن المدنية الغربية تسير بسرعة سير الطائرات، رضيناها أم أبيناها، فلنحلل منها ما حلل الله. ولنحرم ما حرم، ولنستعمل عقولنا التي رزقنا الله مراعين ديننا الذي شرعه الله.
إن مما يؤسف له أن حفنة من المسلمين نادوا ببعض إصلاحات كنداء عبد الله بن المقفع بتوحيد القوانين ونشرها على الناس؛ ليعرف المتقاضي وجه الحكم له أو عليه، ونداء المعتزلة بتحكيم العقل في الحديث، ونداء الشيخ محمد عبده في السنين الأخيرة بتنقية الدين من الخرافات والأوهام، والاستغاثة بالله وحده، دون الاستغاثة بأضرحة وأولياء، فرمي كل هؤلاء بالزندقة.
ومن المؤسف أيضا أن العالم الإسلامي كله خلط بين بقايا من المدنية الإسلامية القديمة وأشياء من المدنية الحديثة حتى لتجد الرجل في ملابسه بين شرقي وغربي، وأثاث المنازل بين شرقي وغربي، والعلوم التي تدرس في المدارس بين نحو سيبويه مبسطا، وطبيعة وكيمياء المدنية الغربية، ومحاكم شرعية تقضي بأحكام الفقهاء، ومحاكم وطنية تقضي بقوانين فرنسا أو ألمانيا؛ وكذلك كل مرفق من مرافق الحياة، زراعة قديمة بجانب الزراعات الحديثة، وتجارة قديمة بجانب التجارات الحديثة؛ بل تقرأ الجريدة الواحدة نفسها فترى أفكارا قديمة لكاتب وأفكارا حديثة لكاتب آخر؛ وكادت تكون هذه الأمور مقبولة لو أنها وضعت على أسس معقولة، وفرزت فرزا دقيقا، ولكنها كومت كلها حيثما اتفق، فكان مثلها مثل رجل يلبس بدلة على آخر طراز من النمط الغربي، ويلبس في رجله حذاء من نوع ملابس القرون الوسطى، وهذا ضرر في العقلية، وضرر في التكوين الخلقي، وضرر حتى في الدين نفسه. وكانت نتيجة هذا ما نشاهده في العالم الإسلامي كله من انحلال وعدم تماسك، حتى يكون العقل بذلك مهوشا مشوشا، لا يبنى على قواعد منطقية سليمة، ولا على ذوق سليم. ومن آثار هذا أيضا كثرة الجدال حين يجتمع قوم من الناس ذوي عقليات مختلفة، لا كما ترى في جمعيات إنجليزية أو ألمانية؛ لأنهم وحدوا أسس التعليم الابتدائي والثانوي، فتقاربت العقليات، فإذا كان خلاف فخلاف في نوع التعليم العالي، مع توحيد أسس مناهجه.
والاجتهاد في الإسلام مبني على أصول أربعة: القرآن، والحديث، والإجماع، والقياس. فأما القرآن؛ فأريد به أن يكون تنظيما تشريعيا مبنيا على دعائم ثابتة تعتمد على الإيمان بالله واليوم الآخر. وأما السنة فقد شرحناها من قبل، ورغم أن الأستاذ جولد زيهر نقدها نقدا علميا حديثا، وأبان أن كثيرا منها مزيف مأخوذ من شرائع أخرى دست في الإسلام؛ فإنها أصل من أصول التشريع الإسلامي، نعم إن كثيرا من الأحكام الشرعية أسست على تقاليد كانت جاهلية، وأقرها الإسلام؛ لأنها لا تزال وفق بيئته فإذا تغيرت البيئة لم يعد للعمل بهذه الأحاديث محل، وربما كان هذا هو الداعي لفرقة من الفرق الإسلامية أن تنكر الحديث، وحكى خبرها الإمام الشافعى في الأم ولم يستنكر قولهم، وربما كان هو الداعي أيضا إلى تحرج الإمام أبي حنيفة من الأحاديث والعمل بها، واقتصاره على نحو سبعة عشر حديثا، وإنما اعتمد أكثر ما اعتمد على الاستحسان، كما اعتمد الإمام مالك على المصالح المرسلة، وكلاهما يعتمد على العدالة التي يفهمها العقل الفطري، والذي يسميها القرآن «المعروف»، ويسمي ضدها «المنكر».
وأما الإجماع: فهو مبدأ هام من مبائ التشريع الإسلامي، وربما طبق تطبيقا وافيا في النظام الشوري عند الأمم الحديثة؛ إذ تنتخب أظهر الرجال وأبرزهم، وهم من كانوا يسمون في العهد القديم أهل الحل والعقد، فإذا اجتمعوا على الرأي كان ذلك تشريعا. وأما القياس: فقد قال به أبو حنيفة، وأنكره عليه مالك، وقد توسع أبو حنيفة فيه، ولكن مع الأسف طبقه تطبيقا أرسططاليسيا يعتمد على طريقة الاستنتاج لا طريقة الاستقراء، ويهتم بالناحية النظرية أكثر من اهتمامه بالناحية العملية، وتوسع في التشريع للفروض، حتى ما لم ينبن عليها عمل، كما توسع أصحابه في الحيل الشرعية التي ترفع العمل، وتصور كيفية الفرار من الفرائض، ونحو ذلك. على حين أن الإمام مالكا اتبع سنة أهل المدينة في الاعتماد على العمل دون الفروض، وعلى ما يقع من الأحداث دون النظريات. والاجتهاد الحق يتطلب أن ينظر المجتهد في تطبيق كليات الدين على ما يحدث من مسائل جزئية. ونعني بكليات الدين القواعد الكلية التي تطبق عليها جزئيات كثيرة، مثل: «لاضرر ولا ضرار» ومثل:
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ، ومثل
إن الذين آمنوا والذين هادوا
الآية. فهي تتضمن أن أسس الدين هي الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وقوله - تعالى:
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ، فهي تكشف عن حالة اليهود والنصارى في عصر النبي، ولا تزال مطردة في أهل الملتين إلى اليوم، وكالاستعانة على النهوض بمهمات الأمور بالصبر والصلاة:
واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ، وكبطلان التقليد للآباء والأجداد والمشايخ والمعلمين والرؤساء، وهي مبثوثة في القرآن، وكإباحة جميع طيبات المطعم، وامتناع التحريم الديني لما لم يحرم الله منها:
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ،
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، وكإباحة المحرمات المضطر إليها:
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ، وكبناء الدين على اليسر:
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، وكحظر التعرض للهلكة:
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وكحرية الدين والاعتقاد، ومنع الاضطهاد الديني:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ،
لا إكراه في الدين ، وكبناء الأمور الزوجية والبيوت، وتربية الأولاد على دعائم أربع:
أولا:
قيام النساء بالأمور التي تقتضيها وظيفتهن كالرضاعة وغيرها من أمور تربية الأطفال، ووجوب النفقة كلها على الزوج.
ثانيا:
ألا يكلف أحد من الزوجين ما ليس في وسعه.
ثالثا:
لا يضار والد بولده، ولا مولود له بولده.
رابعا:
إبرام الأمور بالتراضي والتشاور.
وكجعل ذرائع درء الفساد والشر مناطا للتشريع وأصلا من أصول الأحكام الاجتهادية، وكتحريم أكل مال الناس بالباطل، وكالاعتقاد بأن عمل كل إنسان له أو عليه لا يجزى إلا به فلا يجزى به سواه
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، وكبناء التشريع على حفظ الفرد والنوع والمال. ولنا على صحة الاجتهاد ووجوهه أمثلة كثيرة؛ منها:
أولا:
عمل كثير من الصحابة - وخصوصا عمر - في مقابلة هذه الحوادث الفياضة التي واجهها من جراء الفتوح.
ثانيا:
قوله - تعالى:
لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، وليس الاستنباط إلا اجتهادا.
ثالثا:
ما فعله أبو بكر؛ فقد كان إذا نزل الأمر يجمع إليه كبار الصحابة، ويسألهم: هل في هذا نص من القرآن؛ فإن لم يجد سألهم: هل يروي أحد في هذا حديثا، فإن وجد عمل به، وإن لم يجد شاورهم الرأي.
رابعا:
أن الإجماع نفسه وقد أجمعت الأمة عليه هو معنى من الاجتهاد ؛ حجة بأن يجمع الأئمة في كل عصر أو الأئمة كلهم في قطر فيكون رأيهم حجة، وليس هذا إلا ضربا من الاجتهاد.
خامسا:
أن الاجتهاد لو لم يكن لوقف المسلمون جامدين؛ لأن المدنية - وخصوصا المدنية الحديثة - تخلق حوداث جديدة، وما لم تقابل بالاجتهاد وقفنا أمامها حيارى، وقد اخترعت في المدنية الحديثة آلاف من الأشياء من طيارات وغواصات وغيرهما، كلها تتطلب تشريعات جديدة. وكذلك الاقتصاد الحديث أوجد معاملات لا عداد لها تتطلب أن يعرف المسلمون أهي حلال أم حرام. ولا بد أن نساير الزمن.
سادسا:
كل عصر تتغير ظروفه؛ فلا تكاد تمر عشر سنين أو عشرون سنة حتى يحدث ما يغير النظر؛ فكيف إذا مر ألف عام؟! وهذا - كما قلنا - هو حكمة النسخ، والحكمة أيضا في أن الشافعي كان قد أسس مذهبه في العراق، فلما جاء مصر رأى من البيئات ما يخالف بيئة العراق؛ فغير مذهبه، وسمى مذهبه في مصر المذهب الجديد، ومذهبه في العراق المذهب القديم. وقليل من البحث يرينا أن الفرق بين القديم والجديد فرق بيئة، أو فرق نشأ من علم ما لم يعلم.
سابعا:
أن المجتهدين الكبار أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي اجتهدوا، وهم أنفسهم لم يغلقوا باب الاجتهاد وراءهم، بل رأوا أنهم قد يخطئون في اجتهادهم؛ كما قال الشافعي - رضي الله عنه - وإنما أغلق باب الاجتهاد من هم أقل منهم شأنا، وأضعف شجاعة، ولو كان إغلاق باب الاجتهاد دينا لأغلقوه هم ومنعوا غيرهم.
ثامنا:
أننا إذا نظرنا إلى ما بيننا من قوانين مدنية رأيناها تتغير بتغير العصور؛ لأن هذا التغير من طبيعة القانون ومن طبيعة الحياة الاجتماعية، والله - تعالى - العالم بما يحدث في الأزمان المختلفة لم يشأ أن يقرر للنبي
صلى الله عليه وسلم
حكم المستقبل في جزئيات؛ لأن قيمة الحكم تابعة لعصره، فإذا لم يوافق العصر كان نابيا ولو كان صحيحا.
هذا وقد قسم الأصوليون الاجتهاد إلى ثلاثة أنواع: اجتهاد مطلق كالذي فعله أبو حنيفة والشافعي، واجتهاد مذهب وهو تطبيق قواعد المذهب على المسائل الجزئية، واجتهاد مسألة وهو تطبيق مسألة جزئية لا مسائل عامة على مذهب من المذاهب.
والذي ينفعنا الآن وندعو إليه هو الاجتهاد المطلق؛ لأنه هو الذي نستطيع به أن نواجه هذه المسائل. ولسنا من دعاة الاجتهاد لكل فرد، إنما ندعو إلى الاجتهاد ممن قدر عليه واستكمل شروطه، وأهمها معرفة روح الإسلام وما يرتضيه وما يرفضه.
ومن طريف ما في تاريخ الإسلام أن وظيفة الحسبة، وكان القائم بها من العلم والقدرة بحيث يمنع المتعرض لشيء لا يتقنه من عمله، كأن يحجر على طبيب لم يتعلم صناعته كما ينبغي، واليوم تقوم وزارة الداخلية بهذا العمل فيمكنها أن تكف يد من أراد الاجتهاد ولم تتوافر له أدواته.
إن نظرة المسلمين إلى العالم الأوروبي على أنه مثال الكمال نظرة خاطئة تبعث في النفس اليأس والحنق، وإنه وإن كان في المدنية الشرقية عيوب ففي المدنية الغربية عيوب، وإن كان العالم الشرقي ينقصه العلم والصناعة فإن العالم الأوروبي ينقصه الروح، والمدنية الصحيحة هي التي تؤسس على عناصر ثلاثة: رفع لقيمة الفرد وعمله في المجتمع، وبناء الحياة على ما يقتضيه العلم، وإحياء القلب بالشعور بالخير للإنسانية. وفقدان هذه العناصر الثلاثة أو بعضها هو الذي سبب هذه الحروب الفظيعة المتتالية، وقد كان قادة الأوروبيين يقولون بهذه العناصر الثلاثة على أنها المثل الأعلى للجمعية البشرية، ولكن عيبها كان أنها لم تستند إلى وحي يقدسها ويجعل الناس يطيعونها ففقدت روحها، وعلى العكس من ذلك كان الإسلام؛ إذ سند هذه المبادئ بالوحي من الله، وما يستتبع ذلك من تقديس. إن المسلمين اليوم مطالبون بأن يحاربوا ما عندهم من مركب النقص، فليس ما عندهم أقل مما عند غيرهم، وفي استطاعتهم أن يواجهوا الزمان والمشاكل التي تعتريهم بروح إسلامية قوية وحماسة نارية؛ فيستردوا مكانتهم ويستطيعوا أن يبنوا مع البانين.
بل إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نفسه كان بعض تشريعه عن طريق الوحي، وبعضه عن طريق الاجتهاد. غاية الأمر أن اجتهاده كان أقوى؛ لأنه كان أعلم بمقاصد الشريعة ومراميها. ثم اجتهاده على نوعين: نوع يتعلق بالأحكام الكلية وهذه واجب اتباعها، ونوع كان يتعلق بأمور جزئية تتعلق بحادثة لها ظروفها الخاصة من زمان ومكان، فإذا تغيرت الظروف تغير الحكم. ومنها أمور تتعلق بالدنيا، واجتهاد النبي فيها غير ملزم؛ لأنه كسائر القادة واجتهاده لا يتعلق بأمور شرعية، وفي هذا قال
صلى الله عليه وسلم «إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر»، وقوله
صلى الله عليه وسلم
لما أمر الناس بأن يتركوا النخل من غير تأبير فلم ينجح: «إنما ظننت ظنا ولا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به؛ فإني لم أكذب على الله»، ومن هذه المسائل مثلا: مسائل الطب، ومسائل الطعام، وما يحبه رسول الله وما لا يحبه من الملابس مثلا، وقد خفي هذا التفريق بين النوعين على كثير من الناس فسووا بينهما، والتزموا بهما، وأمروا الناس بالالتزام بهما على حد سواء، حتى في المسائل الشخصية البحتة؛ كحبه
صلى الله عليه وسلم
للدباء، وكرهه الشخصي لبعض الطعام، حتى لقد روي عن أحمد بن حنبل أنه امتنع عن أكل البطيخ؛ لأنه لم يعرف عن النبي
صلى الله عليه وسلم
كيف كان يقطعه، وهو تزمت شديد، وربما كان الحامل عليه عاطفة الحب لا قوة العقل. فالنبي
صلى الله عليه وسلم
يريد أن يكون اجتهاده هو في أمور الدنيا ليس ملزما للناس، ومن ذلك النظريات العلمية، فإذا كان الناس في زمنه يسلكون مسلكا تبعا لنظرية علمية فإذا تغير الزمان واكتشفت نظرية أخرى أضاءت الحقيقة وجب على الناس أن يعملوا بالنظرية الأخيرة، ويتركوا الأولى، وهذا ينطبق عليه أيضا اجتهاد النبي
صلى الله عليه وسلم
فالعلم الحديث يوضح أن تأبير النخل لا بد منه حتى يحمل، فما لم يؤبر لا يحمل، كما أن المرأة ما لم تلقح لا تحمل، فإذا اجتهد النبي
صلى الله عليه وسلم
وقال إذا تركتم النخل من غير تأبير حمل، فشأن اجتهاده في ذلك كشأن اجتهاد سائر الأفراد، ولم يكن مصدر كلامه وحيا من الله حتى يجب تصديقه؛ ولذلك قال: «إنما هو ظن ظننته وأنتم أعلم بأمور دنياكم.»
وكذلك الشأن في كل ما يتعلق بأمور لباسه
صلى الله عليه وسلم
فقد اتبع في لباسه لباس قومه وتقاليدهم وبيئتهم؛ فليست هذه بملزمة أبدا وهو
صلى الله عليه وسلم
لا يرى أنها ملزمة، فإذا كان يلبس العباءة والقباء، ويحلق شعره، ويلبس العقال، ويركب البعير، فهذه كلها شئون زمانه
صلى الله عليه وسلم
ولا يمنع هو أن يلبس غيره البذلة أو الطربوش أو القبعة إذا كانت عوائد الناس وتقاليدهم تدعو إلى ذلك.
والاجتهاد على العموم في بلد بارد غير الاجتهاد في بلد حار، والاجتهاد للحضريين الذين فشت بينهم نظريات العلم غير الاجتهاد في قوم بدويين لم يتحضروا، أو تحضروا حضارة قليلة؛ ولذلك كانت معاملته
صلى الله عليه وسلم
لسكان البدو غير معاملته لسكان الحضر، ومعاهداته للبدويين غير معاهداته للحضريين؛ لعلمه بالفروق بينهما، فإذا تغير الزمان والمكان تغير طبعا الاجتهاد.
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
أعلم بذلك وأشدهم تطبيقا له، وهو مبدأ سليم، ولولا فساد الزمان، وضيق العقول، لأبدع المسلمون في الاجتهاد أيما إبداع، ولكن لله في خلقه شئون، وما أنت بمسمع من في القبور.
وكذلك اجتهد الصحابة والتابعون فيما عرض لهم من شئون الحياة، واختلفوا في آرائهم، كما اختلف الساسة في سياستهم، والسبب في اختلافهم يرجع إلى أمور، منها: أن بعضهم قد يجتهد برأيه، ولم يبلغه الحديث الذي ورد في المسألة، فيعمل الآخرون بالحديث، ويعمل هو بالرأي فيكون الخلاف. ومنها أن تكون المسألة ذات وجهين، فيقيسها أحد المجتهدين على مسألة، ويقيسها الآخرون على مسألة أخرى، ونحو ذلك، ومنها أن بعضهم يكون قد رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
عمل عملا على وجه خاص فأفتى في ذلك، ويكون الآخر لم يره فيفتي برأي آخر، وأيا ما كان فقد كان اجتهادهم ساذجا بسيطا، ليس فيه تعقيد كذلك الذي نشأ عن علم أصول الفقه، وليس فيه فرض فروض لما لم يحدث، كالذي فعله الحنفية فيما بعد، وعلى العكس من ذلك كان المالكية؛ فقد كانوا لا يفتون إلا فيما وقع من أحداث ، فلما جاء الفقهاء العراقيون فيما بعد عقدوا الأمور، وجعلوا لها أصولا، وفرضوا الفروض، وتخيلوا الخيالات، وكثر بينهم الاختلاف، ومنهم من صح عنده الحديث، ومنهم من لم يصح، وقد كان تفرق الصحابة والتابعين في الأمصار المختلفة كبيرا، وكل طائفة تحمل إلى المصر الذي نزلت فيه ما سمعته من الأحاديث، أو ما رأت من الأحداث، فكان مصر يعرف حديثا لا يعرفه مصر آخر وهكذا، ولهذا زاد الاختلاف ولكل عذره.
ومن أسباب الخلاف أيضا أن بعض الفقهاء يكثرون من الحديث، ويعتمدون عليه كل الاعتماد، ولا يرون للرأي ولا للقياس قيمة، وقسم يقل من الحديث، ويشترط فيه شروطا قاسية كالذي فعل أبو حنيفة. واعتمد فيما وراء الكتاب والسنة على الرأي والقياس وهكذا. ولكن على العموم كانت هناك ظاهرة طيبة وهي حسن ظن كل مجتهد بالآخرين، ولكن خلف من بعدهم خلف تعصب فيه كل ذي مذهب لمذهبه، ثم اشتد النزاع حتى سفكت الدماء، وخربت بعض البلدان من جراء ذلك كالذي كان بين الحنفية والشافعية، وكثيرا ما يقول ياقوت في معجمه: «إن بلدة كذا خربت بسبب الخلاف بين الشافعية والحنفية.» وبالأمس قرأت في كتاب الهوامل لأبي حيان التوحيدي من أعيان القرن الرابع - أي قبل إغلاق باب الاجتهاد - سؤالا في هذا الموضوع وجهه لمسكويه، يقول فيه: «لماذا كان أحد الفقهاء يقضي في مسألة بحلها بينما يقضي فقيه آخر بحرمتها؟» فأجابه مسكويه بأن ذلك قد يكون لاختلاف الزمان والمكان؛ فقد يكون الشيء حلالا في زمن وفي مكان حراما في آخر، وأجاب إجابة بديعة، وهي أن الاجتهاد قد يكون مطلوبا لذاته؛ أي أن يكون غاية لا وسيلة؛ فإن الاجتهاد يمرن العقل، ويكسب التجربة كالاجتهاد في حل النظريات والتمرينات الهندسية، فلو أن ملكا لعب بالكرة والصولجان سواء نجح في اللعب أو أخفق فقد نجح في تمرين أعضائه. وكالحكيم يأمر بدفن شيء ثم يأمر بالبحث عنه نظير مكافأة. وسواء وجد أم لم يوجد فقد حصلت الغاية. والفقهاء أنفسهم اختلفوا في هذا الاجتهاد؛ فمنهم من اكتفى بالاجتهاد في المذهب أو المذاهب، ومنهم من أجاز الاجتهاد المطلق محتجا بأنه لا معنى للنسخ في القرآن إلا هذا فآية تنسخ آية لتغير حكمها حسب الزمان والمكان.
وقد سأل أبو حيان مسكويه سؤالا آخر، وهو: هل الأحكام الشرعية متفقة مع مصالح العباد لا تخرج عنها؟ فأجابه مسكويه بالإيجاب وخصوصا في المعاملات؛ فإذا تبين أن نوعا من المعاملات لا يحقق مصلحة العباد في وقت من الأوقات أجاز الاجتهاد تغيير الحكم. ومصالح العباد كلمة تشتمل المحافظة على النفس والدين والمال كما نص على ذلك الشاطبي في الموافقات، وهذا واضح كل الوضوح في المعاملات المدنية، أما في العبادات فوجب أن نفعل بما أمر الله به إذا لم نفهم علته ما دام رضاء الله في ذلك، كما قال علي بن أبى طالب لو كان الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخفين خيرا من المسح على ظاهرهما، أما إذا نص على العلة فيها؛ فإن الحكم يدور معها وجودا وعدما.
وقد كان الإسلام مرنا بتشريعه نظرية التجديد؛ ذلك أن البشر في تغير مستمر؛ فقد بشر النبي بأن الله يبعث بعد عصر النبوة مجددين مصلحين، يرثون الأنبياء بالدعوة إلى إصلاح ما أفسده الظالمون، ويكونون حجة الله على الخلق، وقد بشر النبى بأن الله - تعالى - يبعث في الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، وكان المجددون يبعثون بحسب الحاجة إلى التجديد، فكان الإمام عمر بن عبد العزيز مجددا في القرن الثاني لما بلي بنو أمية وأخلقوا، وما مزقوا بالشقاق وفرقوا. وكان الإمام أحمد بن حنبل مجددا في القرن الثالث لما أخلق بعض بني العباس من لباس السنة باتباع ما تشابه من الكتاب؛ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وقالوا كان الأشعري مجددا في القرن الرابع بهذا المعنى، والغزالي مجددا في أواخر القرن الرابع وأول الخامس لما بزغت نزغات الفلاسفة وزندقة الباطنية، وكان ابن حزم مجددا في القرن السادس لما طغت الآراء على النصوص الشعرية، وكان ابن تيمية وابن القيم مجددين في آخر القرن السابع وأول الثامن لما مزقت البدع الفلسفية والكلامية والتصوفية والإلحادية تعاليم الإسلام، ثم ظهر مجددون آخرون في كل قرن، وكان تجديدهم منحصرا في قطر أو شعب؛ كالشاطبي صاحب الموافقات والاعتصام بالكتاب والسنة بالأندلس، وولي الله الدهلوي، والسيد محمد صديق خان في الهند، والمولى محمد بن بير علي البركوي في الترك، ومحمد بن عبد الوهاب في نجد، والشوكاني في اليمن. وقد كان المجددون أنواعا؛ منهم المجدد في العقائد الدينية، والمجدد في الأمور الحربية، والمجدد في الأمور السياسية كدعوة الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده إلى الجامعة العربية. والسر في التجديد أن العوامل الطبيعية والاجتماعية والسياسية تتغير كلما تغير الزمان، بل المسائل الاقتصادية من طرق البيع والشراء ونحوهما تتغير كلما تقدمت الإنسانية فلا بد من مواجهة هذه الأمور الجديدة بتشريع جديد، وهذا ما يفعله المجددون في كل زمان، وإلا ركدت الأمور وتعذر السير. والعادات والتقاليد تتغير بين جيل وآخر؛ كالذي نراه في الفروق بيننا وبين أولادنا، وبيننا وبين آبائنا وهذا أمر طبيعي. غاية الأمر أن التغير قد يكون عنيفا كالذي حدث في العصور الأخيرة، فإن المدنية الأوروبية قلبت الأوضاع رأسا على عقب، وقد يكون بطيئا كالفرق بين جيل في العصور الوسطى وجيل آخر. وقد أدرك الفقهاء ذلك وألف ابن عابدين رسالة في العرف والعمل به، وهي رسالة قيمة، كالذي قال: إنه في عصر من العصور كانت رؤية غرفة واحدة في البيت كافية لسقوط خيار الرؤية ممن رأى. فلما بنيت البيوت في المدنية الحديثة مختلفة الغرف كانت رؤية غرفة واحدة لا تسقط خيار الرؤية وأمثال ذلك كثيرة. وقد اضطر الشيخ محمد عبده أن يواجه مشاكل جديدة كان يستفتى فيها، ويضطر للإجابة عنها، كلبس البرنيطة، وأكل ذبائح أهل الكتاب، والتأمين على الحياة، وإيداع المال في صناديق التوفير، ونحو ذلك مما لم يكن معروفا قبل زمنه، وهكذا لكل عصر مقياس، وكل حدث يحتاج إلى فتوى. بل إن أهل عصر النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو عصر واحد وأصحابه جيل واحد كان في زمانهم النسخ فقال الله - تعالى:
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها .
إن الإسلام يدعو إلى تحرير العقل؛ وكم نعي على العرب الذين لا يستخدمون عقولهم، فلا يفقهون ولا يعقلون، وكم نعي أيضا على العرب تقليدهم لآبائهم وقولهم:
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ، ومدح معاذ بن جبل في استعماله عقله عند عدم النص، وكم كان يستشير أبا بكر وعمر بن الخطاب في رأيهما ويوازن بين هذه الآراء. ويقول عمر بن الخطاب: «كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.» وكان عمر بن الخطاب كبير العقل راعي غنم، لم يتثقف إلا بالإسلام؛ ومع ذلك استطاع أن يسوس فارس والروم - وهما الأمتان المتحضرتان - سياسة خيرا من سياستهما، وذلك بفضل عقله وفهمه الإسلام الصحيح وكلياته، وكتب الفقه في باب السير والحروب مملوءة بآراء عمر، فلا يمنع الإسلام والعقل من البحث واكتشاف المجهول، والسير وراء العلم وإخضاع الحياة للعلم والعقل إلى آخر حد. ولم يخرج المعتزلة عن الدين بسيرهم سيرا واسعا مع العلم، فكانوا لا يؤمنون بظهور الجن، ويحكمون العقل في الحديث، ويقولون بخلق القرآن، وينكرون الخرافات والأوهام، ومع ذلك فالرأي اتفق على إسلامهم، غاية الأمر أنهم نادوا بأن هناك دائرة للعلم ودائرة أخرى للدين لا يمكن للعلم فيها أن يثبت أو ينفي، لأنه لا قدرة له عليها، فكل مملكة الغيب من ملائكة، وجن، ويوم آخر، ووحي، ونحو ذلك لا يقدر العلم على نفيها أو إثباتها؛ فهذه هي وظيفة الدين لا العلم، والإيمان بها من جهة الدين لا ينافي العلم ولا يقيده، والعلم عاجز كل العجز عن إبداء رأي فيها. فكيف يستطيع العلم أن ينفي جنا أو أن يقول به، أو أن ينفي الحساب يوم القيامة أو يدلل عليه؟! إن هذه كلها أمور غيبية ترك للدين الحكم فيها، كما ترك للعلم الحكم في دائرته؛ ولذلك قالوا: إن الدين يبدأ حيث ينتهي العلم. فالإسلام يؤمن بالعلم، ويترك له حريته في دائرته، ويدعو إلى الدين والإيمان بعقائده في دائرته أيضا، والاكتفاء بأحدهما تقصير ضار. وكان المسلمون الأولون يؤمنون بهما معا ، ثم كفروا بالعلم فضلوا. والغربيون يؤمنون بالعلم فنجحوا في حياتهم الدنيا، وكفروا بالدين فضلوا، ولا منجى من الضلال إلا بالإيمان بهما معا؛ ففي الإيمان بالعلم حياة العقل، وفي الإيمان بالدين حياة القلب، ولا خير للإنسانية إلا بحياة العقل والقلب معا، ولا تصادم بين العلم والدين كما لا تصادم بين حاستي السمع والبصر، فلكل اختصاصه. ولا أمل في النجاح إلا بالرجوع إلى تعاليم الإسلام وسير المسلمين الأولين باستخدام العقل والقلب. وآية ذلك أن الغربيين في اعتمادهم الكلي على العقل وحده لم يسعدوا كما كان ينتظر، وكانت نهاية العلم ويلات الحرب والفزع والرعب والأسلحة النارية والقنبلة الذرية. وليس العلم هو الذي سبب الفزع والرعب، ولكن الذي سببهما هو أن العلم لم يدعم بالدين، والعقل لم يدعم بالقلب، وفي الإنسان عقل وقلب لا بد أن يغذيا، وما لم يغذ عضو هام كالقلب يشعر الإنسان بالسآمة والملل. ويعجبنى في ذلك تقسيم الأشياء إلى ثلاثة أقسام: ما يعلم، وما يمكن أن يعلم، وما لا يمكن أن يعلم. فما يعلم هو دائرة العقل أو الشهادة، وما يمكن أن يعلم هو دائرة الغيب، وما لا يمكن أن يعلم هو دائرة المستحيل. وفي الحق أن الإسلام وقف موقفا وسطا بين منكري العلم ومنكري القلب. ودعا إلى الإيمان بهما جميعا بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر؛ والعقل رمز إلى العلم، والقلب رمز للشعور. وما الإنسان من غير عقل أو شعور؟!
إنه إذا فقد العقل غرق في الخرافات والأوهام، فبنى تربيته وزراعته وتجارته على أوهام؛ وإذا ترك شعوره كان حجرا جامدا كقطعة الثلج.
إن العالم الإسلامي والعالم الأوروبي الآن متدينان دينا جغرافيا أكثر منه دينا حقيقيا؛ فكلاهما فقد في تدينه الروح واحتفظ بالنظر. غاية الأمر أن العالم الأوروبي آمن بالعلم واتخذه إلها، والعالم الإسلامي آمن بالخرافات والأوهام واتخذها إلها، فلا بد لصلاحهم من دين يعنى فيه بالروح أكثر مما يعنى بالنظر، والعالم الأوروبي الآن إذا هدي إلى التدين أفاده المنهج العلمي في عرضه العقائد والديانات على محك النظر، فيكون دينه دين عقل وشعور معا، وهذا هو الدين الراقي والذي يتطلبه الإسلام؛ فكم من آيات القرآن ختمت بقوله - تعالى:
أفلا تعقلون ، وتعيير الكفار بأنهم:
لا يفقهون ، والدين الصحيح يتطلب أن يعرض الانسان العقائد الشائعة بما فيها من خرافات وأوهام على محك العقل؛ ليجد لها أساسا واحدا يؤلف بينها، فينفي ما بطل، ويثبت ما صح، وهذا ما فعله محمد
صلى الله عليه وسلم
عند تعبده في غار حراء بعد أن رأى العرب وما يدينون به، والنصارى في الشام وما يدينون به، وسمع من سلمان الفارسي أخبار الفرس وما يدينون به، فكل هذه مجموعة من العقائد تستلفت النظر؛ ليعرف الصحيح منها والفاسد، وأخيرا هداه الله إلى أن العقيدة في الأصنام ليست عقيدة صحيحة، والعقيدة في اتخاذ الملوك والأحبار والرهبان آلهة ليست عقيدة صحيحة، وأن العقيدة الصحيحة التي تبقى على محك النظر الاعتقاد بإله واحد فوق المادة وفوق البشر، يأمر بالعدل والصدق، وينهى عن الفحشاء والمنكر.
وشيء آخر لا بد منه للمسلمين وهو اجتماع كلمتهم وتوحيد خطتهم،
4
وليس الأمر كما قال المرحوم سعد زغلول: إن صفرا + صفرا يساوي صفرا، بل إنه −5 × −5 = 25 ... وقد أدرك هذا القادة السابقون في العصور الحديثة، وسموها الجامعة الإسلامية، ونادى بها محمد بن عبد الوهاب، ولكن هزم حربيا، ثم نادى بها على أثره السيد جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الشيخ محمد عبده، والسيد عبد الرحمن الكواكبي، وإن كانت طرقهم مختلفة؛ فالسيد جمال الدين كان يرى تنفيذ الجامعة بثورة الشعوب على الأمراء وعلى المستعمرين، والشيخ محمد عبده يرى تنفيذها عن طريق التربية والتعليم، والكواكبي ثار على الأمراء أكثر مما ثار على الاستعمار في كتابه: «طبائع الاستبداد»، ورسم طريقة تنفيذ الجامعة الإسلامية في كتابه «أم القرى»، وكان يساعد هذه الحركة الشيخ علي يوسف في جريدته «المؤيد»؛ إذ ينشر فيها مقترحات المفكرين وأخبارا عن أنحاء العالم الإسلامي، والسلطان عبد الحميد كان يناهض الحركة أولا، ثم أيدها أخيرا، والأوروبيون رعبوا من هذه الدعوة إلى الجامعة الإسلامية؛ لأنها ستقف سدا منيعا ضد استعمارهم؛ ولذلك تحفزوا ضدها، وشهروا بها، وكرهوا المسلمين المثقفين في اعتناقها بدعوى أنها تثير التعصب الإسلامي البغيض. ولا ضير من هذا التعصب إنما الضير من تعصبهم هم؛ لذلك نفر عدد من المثقفين المسلمين من هذه الفكرة، وقد اجتهد رئيس المبشرين المستر زويمر في عقد مؤتمر للنظر في هذه الكارثة، كارثة اجتماع المسلمين على رأي واحد، ومما قاله الرئيس في ذلك: «إن المبشرين المنتشرين على ضفتي النيل، وشرقي أفريقيا، وبلاد النيجر، والكونغو يشكون مر الشكوى من انتشار الإسلام بسرعة في هذه الأنحاء. وبالرغم من أن انتشاره في الهند الهولندية قد لقي الموانع من مجهودات جمعيات التبشير الهولندية والألمانية؛ فهو يتوطد ويثبت هناك؛ لأن المسلمين أخذوا يستبدلون التقاليد الخرافية بعقائد ثابتة قويمة، وفي أمريكا عدد كبير من المسلمين لا يستهان به؛ إذ بلغ «56» ألفا.»
ثم قال: «إن العصر الأخير امتاز بالانقلابات السياسية التي حدثت أخيرا في العالم الإسلامي، فشكرا لله على حدوث هذه الانقلابات؛ لأنها أقامت الحرية على أنقاض الاستبداد، وصار التجول في البلاد العثمانية والعربية والفارسية مسموحا به، وأن الإسلام قد بدأ يتنبه لحقيقة موقفه، ويشعر بحاجته إلى تلافي الخطر، وهو يتمخض الآن عن ثلاث نهضات: الأولى: إصلاح الطرق الصوفية. والثانية: تقريب الأفكار، من الجامعات الإسلامية. والثالثة: إفراغ العقائد والتقاليد القديمة في قالب معقول.
ومصدر هذا الشعور بالحاجة إلى إصلاح واحد وهو التغير الذي حدث في الإسلام عندما اكتسحت أهله الأفكار العصرية والحضارة الإفرنجية، ولا يمنع هذا أن يكون الشعور راجعا لعاطفة الخوف والحذر من الحضارة الغربية، أو التوفيق بين مبادئ الإسلام والمدنية الغربية، وكلاهما يؤدي إلى غاية واحدة وهي جعل الإسلام متمشيا مع الأفكار العصرية.»
وختم كلمته بقوله: «إذا نظرنا إلى البلاد التي يحكمها هذا الدين الكبير المخاصم لنا، وإلى البلاد التي يتهددها بحكمه إياها ظهر لنا أن كل واحدة من هذه البلاد رمز لمشكلة من المشاكل الكبرى؛ فمراكش في الإسلام مثال للانحطاط، وفارس مثال للانحلال، وجزيرة العرب مثال للرقود، ومصر مثال لمجهودات الإصلاح، والصين مثال للإهمال، وجاوه مثال للتغير والانقلاب، والهند مركز للاحتكاك الإسلامي ، وأفريقيا الوسطى مكان للخطر الإسلامي، وعلى كل فالإسلام يحتاج قبل كل شيء إلى المسيح.»
ومن المؤسف حقا أن الحاجة إلى الجامعة الإسلامية اليوم لا تزال كما كانت بل أشد مما كانت؛ لأن المسلمين لا يزالون متفرقين رغم توالي الضربات عليهم، ورغم اتحاد السياسة الأوروبية ضدهم، ومع محاولة أوروبا خنقهم. وقد قال أحد الأوروبيين: «إن هذه النهضة الإسلامية حاولت الاتفاق مع البوذيين ومع الصينيين، ولم يبق أمامها إلا عدو واحد هو أوروبا، أي أن الشرق ناهض، وعلى الغرب أن يستعد لمقابلته في ساحة العراك، وأمام أوروبا اليوم مسألة هامة، هي هذه الجامعة الإسلامية ... أليس من الحكمة أن تدبر ضربة قوية قاضية تخمد هذه الحركة الإسلامية ... أما رأيي أنا؛ فهو: اقطفوا البرعم قبل أن يزهر فيثمر.» وهذا كان تعبيرا صادقا لما في نفس كل أوروبي.
والحوادث الأخيرة ترجح هذا، وهو أن تفوق الصين الشيوعية على الأمريكيين في حرب كوريا، واتفاقهم مع روسيا، واتفاق الهند معهم، وميول بعض المسلمين إليهم تجعل من المحتمل القريب أن يكون الشرق - مع توسع في معناه حتى تدخل فيه روسيا واليابان - سيقف كتلة واحدة ضد الغرب، وستكون مناداته إذا انتصر آسيا للأسيويين لا للأوروبيين، وفي هذه الحالة تنطوي الأمور، وتنبعث النهضة من الشرق بعد أن انبعثت من الغرب، ويشهد العالم صراعا جديدا ومدنية جديدة ... والعلم عند الله.
وكما ينقص العالم الإسلامي الاجتهاد ينقصه بناء الحياة على العلم؛ فهو يبني حياته الزراعية على نفس الطريقة التي كان يتبعها آباؤه في العصور القديمة، ويبني حياته الزراعية على نفس الطريقة التي كان يتبعها آباؤه في العصور الوسطى، فإن شذ أفراد فساروا في حياتهم الزراعية والتجارية والتربوية على العلم فشيء نادر لا يعول عليه، ولا يمكن أن ينهض العالم الإسلامي إلا إذا أسس حياته عامة على العلم.
قال الأستاذ رينان الفيلسوف الفرنسي المعروف: إنني أخشى أن يثبت الدين الإسلامي وحده في وجه هذا التسامح العام في العقائد، ولكنني عرفت أن في نفوس بعض الرجال المتمسكين بآداب الدين الإسلامي القديمة، وفي بضعة من رجال الآستانة وبلاد الفرس جراثيم جيدة تدل على فكر واسع وعقل ميال للمسالمة، إلا أنني أخشى أن تختنق هذه الجراثيم بتعصب بعض الفقهاء، فإذا اختنقت قضي على الدين الإسلامي؛ ذلك لأنه من الثابت الآن أمران؛ الأول: أن التمدن الحديث لا يريد إماتة الأديان بالمرة؛ لأنها تصلح أن تكون وسيلة إليه. والثاني: أنه لا يطيق أن تكون الأديان عثرة في سبيله، فعلى هذه الأديان أن تسالم وتلين، وإلا كان موتها «ضربة لازب». وما أظن أن لتخوف الأستاذ رينان محلا من الدين الإسلامي، وقد عهدنا أنه أوسع الأديان صدرا، وأقبلها للمدنية الحديثة.
نعم، إن كل محاولة للتوفيق بين الإسلام والمدنية الحديثة قد فشلت إلى اليوم، ولكن فشلها لا يعود إلى تعاليم الإسلام نفسه، بل إلى أسباب أخرى؛ أهمها: أن المدنية الحديثة تقدمت إليهم أول ما تقدمت بالسيف والنار، لا بالإقناع والإحساس بالمنفعة، ثم إن المدنية هذه تقدمت وهي تحمل في إحدى يديها المخترعات الحديثة، ونتاجها في العلوم والفنون، وفي الأخرى وسائل الاستغلال والاستعمار، فلذلك قبلها المسلمون كارهين مكرهين، ولو تقدمت إليهم على غير هذا الوجه لقبلوها قبولا حسنا كما قبلوا المدنية اليونانية والفارسية والتركية من قبل، والثالث: أنها جاءتهم على يد النصارى المتعصبين الذين اكتووا بنارهم من أيام الحروب الصليبية إلى اليوم، والرابع: أن المسلمين لضعفهم أصابهم ما يسمى في علم النفس بمركب النقص فقبلوها ضعفاء متهافتين، ينظرون إليها على أنهم ضعفاء مغلوبون على أمرهم لا حيلة لهم في رفضهم، ومع ذلك فقبولهم للأشياء المادية من المخترعات الحديثة كان أسهل عليهم من قبولهم للمعاني، وإن أخذوا من كل بحظ.
وكما ينقص العالم الإسلامي الاجتهاد والعلم فإن العالم الأوروبي ينقصه القلب أو بعبارة أخرى الروح.
وقد ألف الأستاذ چود أستاذ الفلسفة الإنجليزي كتابا قيما، سماه «سخافات المدنية الحديثة»، قال فيه: «إن المدنية الحديثة ليس فيها توازن بين القوة والأخلاق؛ فالأخلاق متأخرة جدا عن العلم، ومنذ النهضة ظل العلم في ارتقاء والأخلاق في انحطاط حتى بعدت المسافة بينهما. وبينما يتراءى الجيل الجديد للناظر فتعجبه خوارقه الصناعية، وتسخيره المادة والقوى الطبيعية لمصالحه وأغراضه إذا هو لا يمتاز في أخلاقه، في شرهه وطمعه، وفي طيشه ونزقه، وفي قسوته وظلمه عن غيره، وبينما هو قد ملك جميع وسائل الحياة إذا هو لا يدري كيف يعيش، وتوالي الحروب الفظيعة الهائلة دليل على إفلاسه، وأنه يربي نشأة لتموت. وقد خولت له العلوم الطبيعية قوة قاهرة، ولكنه لم يحسن استعمالها؛ فكان كطفل صغير، أو سفيه، أو مجنون يملكون زمام الأمور، ويؤتون مفاتيح الخزائن، فهم لا يزيدون عن أن يلعبوا بما فيها من جواهر.»
وقال في موضع آخر: «إن فيلسوفا هنديا سمعني أطري حضارتنا، وأقول إن أحد سائقي السيارات قطع ثلاثمائة أو أربعمائة ميل في ساعة واحدة على الرمال، وطارت طائرة من موسكو إلى نيويورك في عشرين أو خمسين ساعة فقال ذلك الفيلسوف الهندي: إنكم تستطيعون أن تطيروا في الهواء كالطير، وأن تسبحوا في الماء كالسمك، ولكنكم إلى الآن لا تعرفون كيف تمشون على الأرض.»
وقال في موضع ثالث من هذا الكتاب: «انظر إلى الطيارة التي تحلق في السماء، يخيل إليك أن صانعيها في علمهم ولباقتهم فوق البشر، والذين طاروا عليها أولا كانوا في علو عزمهم وجرأتهم أبطالا، ولكن انظر الآن إلى المقاصد السيئة التي استخدمت لها الطيارة وتستعمل لها في المستقبل ... إنما هي قذف قنابل وخصوصا الذرية، وتمزيق جثث الإنسان، وخنق الأحياء، وإحراق الأجساد، وإلقاء الغازات السامة، وتقطيع المستضعفين الذين لا عاصم لهم من هذا الشر إربا إربا. وهذه إما مقاصد الحمقى أو مقاصد الشياطين.»
وقال في موضع رابع: «ماذا سيقول المؤرخ غدا إذا وصف كيف كنا نستعمل الذهب. سيذكر أننا توصلنا إلى أن نخبر عن الذهب باللاسلكي، وسيصف الصور التي كان أصحاب المصارف يزنون بها الذهب ويعدونه في لباقة ومهارة، وكيف تحدينا قانون الجاذبية في نقله من عاصمة إلى عاصمة، وسيسجل أن أشباه الوحوش الذين كانوا ماهرين وفي غاية الجرأة في فتوحهم الصناعية كانوا عاجزين عن التعاون الدولي الذي كان يتطلبه ضبط الذهب والتقسيم الصحيح، وكانوا لا يعنون إلا بأن يدفنوا المعادن بالسرعة الممكنة، وكانوا يستخرجون الذهب والمعادن من بطون الأرض في جنوب أفريقيا ويدفنونها في مصارف لندن ونيويورك وباريس.»
إن أهل الغرب الذين فقدوا قلوبهم قد مقتوا الحضارة، وأصبحوا يتبرمون بها؛ لأنها خلقت في كل ناحية مشاكل وأحقادا، لا يطفئون إحداها إلا إذا ظهرت أخرى أعقد منها، ولا يقطعون فرعا إلا وتطلع فروع كثيرة ذات أشواك. فلا الحضارة الإسلامية في شكلها الحاضر نافعة للعالم ولا الحضارة الأوروبية. إنما يرشد العالم يوم يتخلى كل عن معايبه ويقتبس من الآخر فضائله، فيحيي الغربيون قلبهم من الشرق، ويستعير الشرقيون العلم من الغرب، وحينئذ يتعادل العقل والقلب، وإلا فسيظل العالم مائجا مضطربا يقع كل يوم في مشاكل جديدة، ويعالج الداء بالداء، ويستغيث من مصائب الرأسمالية لينغمس في الشيوعية، ويستغيث من مصائب الدكتاتورية فيقع في مشاكل الديموقراطية، وهكذا لا ينتهي من شر إلا إلى شر، ولا من فساد إلا إلى فساد.
إن في الناس حاسة دينية لا يسعدون إلا باستعمالها فإذا فقدوها كانوا كمن فقد السمع أو البصر.
وإن المتفائل يسر من تطور العالم إلى هذه الغاية المنشودة، فيجد العالم الإسلامي وخصوصا مصر تخطو خطوات موفقة نحو العلم الأوروبي، وأوروبا التي كانت كافرة وطاعنة في الدين تقبل على الدين، وهذان الاتجاهان يبشران بالخير! إنه إذا كان ذلك لم يكن العالم قسمين: غرب يستعمر الشرق ويستذله، وشرق يستعمر ويستذل، بل يكون العالم كله وحدة يبني شرقه مع غربه، ويتعاون كل أبنائه، ويستغل كل ما عند الآخر من المواد الخامة.
إن كلا من الشرق والغرب تنقصه زعامة صادقة مخلصة؛ فقد تبين إلى الآن أن الشعوب خير من قادتها، وكان الطبيعي أن يكون القادة خيرا من الشعوب، وإلا ما كانوا قادة؛ فإن طبيعة الزعامة أن يكون القائد بصيرا بما لم يبصر به الناس، شاعرا بما لم يشعروا به، سائرا أمامهم، هاديا لطريقهم لا جاريا وراءهم، ولا متتبعا لهم.
يجب أن يكون للعالم فلسفة واحدة تسيره لا فلسفتان. والذي يقود العالم الآن الفلسفة الأوروبية في عقائدها ونظرياتها ونظام حياتها، وهي فلسفة ناقصة تعتمد على المادة والقوة ... وفلسفة الشرق ناقصة تعتمد على الروح ولا عقل لها، واعتمادها على الروح البحت جعلها عرضة للخرافات والأوهام، وإن كان الإنسان جسما وروحا وجب أن تجاوب فلسفته هذين العنصرين، فإن أجابت عنصرا وأهملت الآخر وقعت في النقص كما هو حاصل اليوم. وليست هذه العيوب مما يمكن إزالته في يوم أو يومين؛ فإنها عيوب تأصلت في العالم من يوم أن كان إلى اليوم، ولا بد أن يمر زمن كالذي مضى أو قريب منه حتى يفيق من مرضه، ويسترد قوته، ويمشي على الجادة، بل علمتنا الأحداث أن المرض قد يأتي بغتة ولا ينصرف إلا في بطء، وعلى ألسنة العامة المرض يأتى كالجبل ويذهب كالحبة.
ولا ينقص المسلمين في الوقت الحاضر إلا شيء واحد، وهو مدرسة جديدة ذات منهج جديد، مدرسة لا شرقية ولا غربية، فإن المدرسة الشرقية - أعني مدرسة العصور الوسطى - لم تعد صالحة للعصر الحاضر؛ لأنها تعفنت بمرور الزمان، والمدرسة الغربية معيبة في بلدانها، فكيف إذا قلدت في غير بلادها؟! إننا نريد مدرسة تضع منهج العلوم كمنهج البلاد الأوروبية مع خلاف بسيط، وهو أن يطعم منهج العلوم بالنية الحسنة، نية خير الإنسانية لا تدميرها، فإذا فعلنا ذلك لم نستخدم تحليل الذرة في قنبلة تدمر، ولكن في تحليل ذرة يعمر، وبعد ذلك نستخدم نتائج العلوم الأوروبية لا إلى حد، بل نحن متسامحون إذا قلنا العلم الأوروبي؛ لأن العلم لا وطن له، ولا يقتصر على خدمة دين دون دين. أما في الأدب والتاريخ؛ فمنهج مدرستنا غير منهج مدرستهم. إنهم سممونا بأشياء كثيرة، سممونا بقولهم: إن الفن للفن، وبقولهم: إن الأديب حر يقول ما يشاء، وسممونا بمنهجهم التاريخي الذي يقضي بأن مركز العالم الرجل الأبيض، ومن عداه فعلى هامشه إلى غير ذلك.
فنحن نريد برنامجا عماده الحب للإنسانية كلها، وعمل الأديب لخدمتها، لا للتغني بالجمال وحده، ولا لخدمة الشهوات، ولا لكسب المال وحده. إنما نقيس الأدب بمقدار نفعه للناس، فهو يحب الإنسانية حبا ينسي الأديب نفسه ومتاعبه وبريق المادة؛ حبا يكون سحرا كعصا موسى، لا يمس شيئا إلا ألهبه، ولا يمس حجرا إلا أحياه، كالإيمان الذي مس الحجارة وجعل منها المساجد والآثار الفنية الخالدة.
كذب الذين يقولون: إن العلماء والأدباء يتفاضلون بقوة العلم وكثرة المعلومات، وقوة الذكاء، وقوة الشاعرية، وانسباك اللفظ، ودقة المعنى، وأن الباحثين يتفاضلون بالعمق والصبر على البحث؛ إنما هم يتفاضلون في مناهجنا بالحب للإنسانية والإخلاص لها.
ومع الأسف جنت المدنية الحديثة على العلوم والآداب، فاستأصلت هذه العاطفة الإنسانية، ووضعت مكانها العاطفة الجامحة الوطنية، كما ملأتها بحب النفع المادي. ولم تعبأ بحب المعاني السامية، والأخلاق الراقية، والجمال المعنوي؛ ولذلك أخرجت شبابا في شكل إنسان، وحقيقة أحجار؛ لا قلب له ولا شعور، ولا أمل عنده ولا ألم، سواء في ذلك الشباب الأوروبي والشباب الشرقي، وسواء في ذلك الفتيان والفتيات.
إن برنامجنا الذي نريده يخرج شبابا حيا جمع بين متناقضين لخصهما الله في قوله يصف المؤمنين:
أشداء على الكفار رحماء بينهم ، شباب يحطم السلاسل، ويفك الأغلال، ويتمرد على المجتمع الفاسد، وهو في الوقت عينه محب للخير وديع، يسيل عذوبة ورقة إذا دعا داعي الخير، ومن أجل الخير.
إننا لا نقوم العلم والأدب إلا بمقدار خدمتهما للإنسانية. وأكبر عيب في المدنية الغربية أنها جعلت الشباب كالإنسان المصاب بالسرطان، تتضخم ناحية منه، ولا تتضخم الأخرى، فتضخم عقله، وضمر قلبه، فاختل توازنه.
إن المدنية الحديثة جعلت قلبه فارغا ظمآن، صقيل الوجه، كاسف الروح، مستنير العقل، كليل البصر، ضعيف اليقين، كثير اليأس، قد حاز كل أسباب السعادة إلا سعادة قلبه، قد نزعت منه عاطفة الدين، فساءت حياته في الدنيا. والشباب الشرقي على الخصوص شغفته الحضارة الغربية؛ فمد يده إلى الأجانب ليتصدقوا عليه بفتات الموائد. قد باع روحه بثمن رخيص جدا، وهي أعز شيء في الوجود، فاشترى من الغربيين عبادة المادة، وعبادة الشهوات والجاه، وأعطاهم قلبه. لقد كانت - والحق يقال - المدنية الغربية في نعومتها وبرامجها وأفكارها أقسى على الشرق من مدافعها وكل آلات قتالها، فما فعلته هذه الآلات أفسدت الناس بكل سهولة.
وكان من نتيجة تعاليمهم جبن هذا الجيل، وضعفه الخلقي، وبرودة القلب، وجفاف العين.
إن شباب اليوم قد يكون لبقا، حسن الحديث، ناصع الوجه، براق العينين، ولكن مع كل هذا ليس له قلب.
لقد كنت في الحجاز فرأيت بعض سواقي السيارات يسوقونها بعقلية الجمال، فكذلك المعلمون اليوم يربون الصقور تربية الحدأة، وأشبال الأسود تربية الغنم.
إن الإنسان إذا قوي عقله، ولم يقو قلبه؛ ثبط عن المغامرة، وفكر طويلا في العواقب، ولم يكن عنده إلا الوظيفة والعلاوات والترقيات، يحب السرور والملذات، ولا يحب احتمال المسئوليات، ويأنف التضحية التي توصله إلى غرضه، هو غمد بغير سيف، وقبة بلا شيخ، لأنه لم يعرف نفسه؛ فلم يعرف ربه. إن التربية التي نحن سائرون عليها جعلت الشباب رخوا ناعما، كأنه غادة. فأما تربيتنا على هذا النهج الذي وضعناه فيجعلهم يشقون الصخور، ويدكون الجبال.
قد كانت هذه التربية العتيقة الفارغة القلب كافية لموت الشرقيين في جيل، فكيف إذا ربوا على منهجها أجيالا وأجيالا؟! لقد كان الأدب مادة لكسب المال من الأمراء، أو الحث على لذة وضيعة، وأرقاه ما دعا إلى تذوق الجمال، ولم يعبأ بحياة القلب والروح.
ولأمر ما بعث الله رسوله محمدا أميا؛ حتى لا ينحبس نظره في الحروف والكلمات، ولاينحبس عقله في الفلسفة والمنطق. وإن رسالته لإحياء القلب أكثر منها لإحياء العقل، ويمثل ذلك قوله - تعالى:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت ، وقوله - تعالى:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ، ويمثل ذلك أيضا التفرقة بين العلم والحكمة، فالعلم هو مثل الذي تأتي به المدنية الحديثة، أما الحكمة فهي تصريف الأمور ووضعها في مواضعها اللائقة بها، وحكمة مع أمية خير من علم مع قراءة. وكثيرا ما نرى أخا متعلما على آخر طراز، فهذا عالم، ونرى أخاه غير المتعلم إلا الزراعة أو الصناعة أحكم منه وأحسن تصرفا فهو خير منه. والناس يبالغون في تقدير القراءة والكتابة كأنها كل شيء، والله - تعالى - يقول:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .
أما برنامجنا فهو أن الأديب لا بد أن تكون له رسالة لنفع العالم، ويكون مداد قلمه نارا ملتهبة، لا إرضاء للأغنياء، ولا أداة للهو والتسلية. والأديب الذي يسير على هذا المنهج الأخير أديب منكس، أو أديب ممسوخ. إن الأدب اليوم في الشرق والغرب جعل المرأة إلها معبودا في الشعر والنثر والرواية، يغني لها، ويطيل في وصف جمالها، ويضعها في موضع القداسة، ومثل ذلك الفن، فهو يمثلها أشكالا وألوانا في الجرائد والمجلات والكتب، كأن لا موجود إلا المرأة، وهو تصوير صادق للاتجاه الحديث. كذلك الشأن في الفلسفة «انحطت حتى صارت مجرد خيالات فيما وراء المادة» والفلسفة الحقة هي التي تدخل في صميم الحياة، ليترتب عليها عمل، والتي تكتب بدم القلب وعصير الروح.
إن التربية الحديثة في الشرق - مع الأسف - جعلت المسلمين في باطن الأمر يخجلون من أنهم مسلمون، ودعاة الإصلاح فيهم يخجلون من دعوة الدين، لسببين؛ أولهما: أنهم يضعون قضية فاسدة، وهي أن المسلمين إذا كانوا متأخرين على هذا الشكل؛ فكيف ندعو غيرهم إلى الإسلام، وفساد هذه القضية ناشئ من أنهم يظنون أن سبب تأخرهم هو الإسلام، وما دروا أن الإسلام عامل من العوامل لا كل عامل؛ إذ أن اليابانيين ارتقوا حتى حاذوا الغربيين مع وثنيتهم، ولو أصلحت العوامل الأخرى لكان الإسلام - وقد نقي من شوائبه - أحد عوامل الترقية. والثاني: أنهم يقلدون الغربيين في نسبة ضعف المسلمين وتأخرهم لدينهم، فهم لا يدعون إلى الدين هربا من هذه الوصمة. وقد سبب هذا مركب النقص في نفوس المسلمين؛ فهم إذا ذكروا أنهم مسلمون ذكروا ذلك على استحياء، ولكن منهجنا يجعل المسلمين يعتزون بدينهم، ويفخرون حقيقة بأنهم مسلمون.
وقد عودنا الله أنه إذا أفلت شمس الإسلام في ناحية طلعت من ناحية أخرى ؛ فقد سقطت الأندلس في يد الإسبان فطلعت شمس الأتراك في الوقت عينه، وكانت في أول نشأتها فتية قوية. ونكبت بغداد بغزوة التتار فعوضهم الله عنها بانتشار الإسلام في الهند، وضاعت فلسطين من أيديهم، فحرك ذلك العالم العربي في سوريا والعراق ومصر وأندونيسيا والشام للسعي للاستقلال في الحياة؛ ولذلك نرجو أن تطلع شمس جديدة على العالم الإسلامي فتكسبه عزة، كالذي كان من ضعف الهند فنبتت عنها دولة الباكستان القوية.
فالمسلمون إذا استعادوا نفوذهم، واعتزوا بنسبتهم إلى الإسلام، ولم تبهرهم مباهج المدنية الحديثة وزخارفها، واعتقدوا في أنفسهم كما قال الله - تعالى:
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ، لكان لهم في العالم الحاضر شأن آخر.
وهنا نتساءل عن مستقبل العالم: هل سينتقل الأوروبيون إلى الإسلام، أو يكون المسلمون أوروبيين؟ قد فكر بعض المسلمين كثيرا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه لا بد من الرجوع إلى الإسلام الأول في شكله وجوهره، وإذا كان هذا لا يمكن إلا إذا أبعد القادة والزعماء من بيئتهم وظروفهم التي يعيشون فيها. فقد رأوا إنشاء مدرسة داخلية يعلمون فيها التعليم الديني الصحيح، ويبعدون فيها عن الاختلاط بالأوساط الموبوءة. وعلى ذلك اقترحوا إنشاء مدرسة لهؤلاء القادة، وأسست مدرسة الدعوة والإرشاد التي قام بإنشائها السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار. وفي هذه الحالة يرضى الأوروبيون عن عقلية المسلمين فيفضلون الإسلام.
ورأى آخرون أن أسباب انحطاط المسلمين ترجع إلى الجهل، فأرادوا أن يزيلوا الجهل عن الأمم الإسلامية فترتفع. قال الفيلسوف ليبنتز: «لو كان أمر التعليم بيدى لغيرت وجه أوروبا في أقل من قرن.» وقال ديديرو الأديب الفرنسي: «إن علة العلل في ارتقاء الأمم وانحطاطها هو العلم أو الجهل، وما عدا ذلك فأسباب جزئية ترجع إلى تلك العلة الأصلية، بل إن العلم هو الذي تقاس به الأمم في ارتقائها وانحطاطها وعند الحروب، بل وفي السلم أيضا وكما تتقاتل الأمم بأشكال مختلفة؛ كالجنود تقاتل الجنود، والتجار تقاتل التجار، فكذلك نستطيع أن نحكم لمن تكون الغلبة؛ فالجندي الذي يقاتل بالدبابات والطائرات يغلب الذي يقاتل بالرمح لامحالة، والتاجر الذي ينزل الحرب بالأساليب الحديثة في التجارة يغلب الذي ينزل بالأساليب العتيقة وهكذا.» وقال ڤولتير: «الظلم الواقع على الأمة عقاب لها على جهلها، وليس المراد بالعلم هذه الأبواب المحفوظة التي يتسمى محصلوها بالعلماء على الإطلاق، وإنما العلم هو معرفة حقائق الكون المبثوثة فيه علما بقدر الإمكان كالعلم الطبيعي والرياضي ونحوهما من علم السياسة والاجتماع.»
ولإيجاد العلم بين المسلمين طريقتان؛ الأولى: ترجمة العلم بين المسلمين بلغاتهم المختلفة، كما نقل العرب المسلمون علوم السريان والكلدان وغيرها، وكما فعل الإفرنج أنفسهم في نقل علوم المسلمين أيام سلطان العرب. والثانية: تعليم طائفة من المتنورين من المسلمين اللغات المختلفة من إنجليزية وفرنسية، وهؤلاء يتعلمون ثم يرشدون أممهم. والطريقة الأولى أقرب وأوسع وأعم، وفي ذلك يقول المصلح الهندي الكبير السيد أحمد خان - وقد كان يطالب بنقل العلوم الأوروبية إلى اللغة الوطنية: «لو استطعت لكتبت بحروف من نور على أعالي جبال الهملايا وجوب نقل العلوم الغربية إلى اللغة الوطنية، ويجب تعميم هذا التعليم للمبتدئين في المدارس الابتدائية، ثم التدرج إلى التعليم العالي.» كل ما في الأمر أنه يجب أن يكون تعليم العلوم بجانبه التعليم الديني الذي يبث روح الإسلام في النفوس، وهذا ما نقصر الآن عنه، وليس هناك تنافر بين الإسلام والعلم؛ فالعلم جسم والدين روحه، وبذلك يحيا العلم ويحيا الإسلام، أما الذين ينذرون بفناء الإسلام في المستقبل؛ فلا تسمع لهم، وهو لا يكون - إن شاء الله - إلا إذا سادت الشيوعية بما فيها من إلحاد.
وعيب المسلمين هذه النزعة الروحانية من غير علم، كما أن عيب الأوروبيين النزعة العلمية من غير الروحانية، ولا بد من الجمع بينهما - كما قدمنا - والمصلحون من المسلمين يعتقدون أن لهم نزعة روحانية يتسامى معها التقدم المادي، بل إن العلم نفسه إذا أمد بالنظرة الروحانية كان أقوم وأنفع للبشرية؛ فلو كان عند الأمم الغربية روحانية مع اكتشاف الذرة لكانت النتيجة التي يصل إليها استخدام الذرة في تقدم الصناعة والزراعة لا في عمل القنبلة الذرية، فلما فقدوا الروحانية سلكوا مسلك القنبلة الذرية، فإن وجدت الروحانية سلكوا مسلك التقدمات الصناعية والزراعية.
وهذا هو ما أوجد الهوة السحيقة بين الشرق والغرب، هنا دين بلا علم، وهناك علم بلا دين، ولا بد منهما معا مع الزمان فهل يتدين العلم فتسرع أوروبا إلى مد يدها إلى الشرق، أو يتعلم الدين فيسرع الشرق إلى الغرب؟
سؤال صعب، ولكن الظنون والدلائل تدل على أن العلم سيتدين؛ فانقسام الذرة وتكوينها والبحث فيها والوصول إلى أن المادة عبارة عن كهربائية سالبة وموجبة ونحو ذلك قاربت بين العلم والدين، وسيزيد هذا التقارب ولأن أوروبا إذا فشلت كانت أقرب إلى تحوير نفسها بما يتلاءم معها، وقد فشلت في حروبها فلجأت إلى الدين، وموجة الدين اليوم أشد مما كانت عليه في الأعوام الماضية، حتى موجة الدين هذه أصابت الشرق أيضا فالمساجد عمرت بالمصلين والمصليات، وفي موسم الحج يحج عدد كبير من النساء الأرستقراطيات. بقي أن نتساءل: هل سيلجأ أهل أوروبا وأمريكا إلى الإسلام، أو إلى دين منتخب بالعقل من سائر الأديان، كاختيار الوحدانية من الإسلام، وحب الله والتضحية من النصرانية؟ هذا سؤال من الصعب التكهن بالجواب عليه، وإنما كل الذي نستطيع أن نقوله: إن ذلك يحتاج إلى أجيال كثيرة؛ لأن الأمم لا تنقلب من عداوة حادة إلى حب بين طرفة عين وانتباهتها، فلا بد من زمن تقل فيه هذه العداوة، ثم من زمن تنقلب فيه العداوة إلى حياد، ثم من زمن ينقلب فيه الحياد إلى محبة، وعلى كل حال فسواء انقلب الأوروبيون من النصرانية إلى الإسلام، أو إلى دين منتخب فموقفهم نحو الإسلام سيتغير لا محالة.
وهناك رأي يرى أن لا أمل في الإسلام والمسلمين بحكم بيئتهم الحارة التي تدعو إلى الخمول والكسل، وهو قول سخيف؛ لأن البيئة هي البيئة، والإسلام نشأ فيها ونهض وارتقى ثم انحط المسلمون مع أن البيئة واحدة، والأوروبيون في بيئتهم كانوا في القرون الوسطي أقل حالا من المسلمين ثم ارتقوا ، والبيئة هي البيئة، ولو كانت البيئة لها كل هذا العمل ما تخلفت النتائج لأن ما بالطبع لا يتخلف، فهو قول وإن ارتآه المقريزي وابن سعيد المغربي وابن خلدون وأحزابهم لايستقيم مع البرهان الصحيح.
أي مانع يمنع المسلمين من انتشار دينهم وقد دعا إلى المساواة؟! فعنده لا فرق بين أسود وأبيض، ولا بين عربي وعجمي. وقد كان هذا سببا من أسباب انتشار الإسلام. كل ما يعوز المسلمين هو الحاجة الشديدة إلى الاجتهاد حتى يواجهوا المشاكل الحديثة بنظر جديد، وهذا عيب المسلمين لا عيب الإسلام؛ فالإسلام لم يحرم الاجتهاد بل حث عليه، وليس بصحيح ما يرمي به الأوروبيون الإسلام بالجمود، وكل عصر له مشاكله ومسائله الجديدة التي تتطلب حلا جديدا، وقد كان من ضمن وسائل التشريع الإسلامي قول الفقهاء: «العرف قاض والعادة محكمة، والأحكام تتبدل بتبدل الأزمان، والضرورات تبيح المحظورات، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن إلخ ...» •••
ومن قديم تحير المفكرون في مظهر العالم من امتزاج خيره بشره امتزاجا غريبا، وماديته بروحانيته امتزاجا عجيبا. فأما الإسلام والأديان الكبيرة، فقد حلت هذه المشكلة بالجمع بين الحياتين المادية والروحانية، وتقويم كل منهما، واعتبار الحياة الدنيا حياة لها قيمتها من غير غلو فيها، والحياة الروحية حياة لها قيمتها من غير إفراط أيضا.
إن أهم الفروق بين الإسلام والنصرانية، أن الإسلام رعا الدنيا حق رعايتها وجعل من الممكن الاحتفاظ بالحياة الروحية مع الاستمتاع بالدنيا، بينما النصرانية رأت ألا ينفتح باب السماء إلا إذا انغلق باب الأرض. ولعل سبب ذلك أن الإسلام جعل الإنسان مسئولا فقط عن عمله:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
و
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، على حين أن النصرانية حملت الإنسان خطيئة آدم، وجعلته يؤمن بشر النفس الإنسانية لا بخيرها كما فعل الإسلام. وفرق آخر وهو أن المدنية الغربية جعلت من الممكن أن يرقى الإنسان بالحياة المادية فقط، من اقتصاديات وصناعات واختراعات وفلسفات، بينما الإسلام يرى أنه لا يمكن رقيه إلا بالاعتماد على الركنين جميعا: أعني الجسم والروح.
والفرق الثالث أن المسلم يعتمد في حياته على ربه، ويعتقد أن قوته هو لا تكفي ما لم تدعم بسند متين وركن شديد هو «الله» مدبر هذا العالم. أما الغربي، فيرى «الله» قد كف يده عن العالم منذ خلقه، وتركه يتطور كما يشاء وبقي في السماء، والأرض تعمل عملها. والمسلم يرى أن خالق الأرض يضع يده في كل شيء، طبقا لخطة مرسومة، معروف له هدفها، وأن المسلم مجبر على اتباع هذه القوانين شاء أو أبى.
والفرق الرابع أن إمام المدنية الإسلامية القرآن وتعاليمه التي أبناها، أما المدنية الغربية فإمامها المدنية الرومانية من جملة نواح: (1)
الاعتزاز بشخصها، واحتقار ما عداها، حتى أن العدل واجب على الروماني للروماني، لا لغيره. (2)
حب الفتح والاستعمار والاستعلاء، واستغلال البلاد المفتوحة للمصلحة الرومانية لا للمفتوحين، بينما الإسلام يرى أن البلاد المفتوحة لها ما له، وعليها ما عليه. (3)
الاهتمام بالحياة الفردية والحياة الجتماعية على السواء، وتشريعه للناحيتين على السواء. أما في المدنية الغربية، فتشجيع للحياة المادية لا إلى حد، وإهمال للحياة الروحانية لا إلى حد كذلك.
ولأن الإسلام أسس النظام الاجتماعي لأهله على أساس متين من تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد، وزكاة يعطي فيها الغني للفقير، وحج تجتمع فيه الأفراد المختلفة من الأقطار المختلفة، ونحو ذلك، استطاع أن يثبت ثلاثة عشر قرنا مع الزلازل القوية، ومن أكبرها غزوة التتار؛ فقد هزت الإسلام هزا عنيفا، ومع ذلك هضمهم الإسلام ولم يهضموه، في حين أن كثيرا من المدنيات لم تستطع أن تقف في وجه التيارات الجارفة التي كانت أقل من التتار.
ثم هذا الإسلام مع ضعف أهله في التبشير قد انتشر في أفريقيا مثلا انتشارا لم تنله النصرانية المدججة بالسلاح، المدعمة بالأساطيل، ولذلك أسباب أهمها بساطة العقيدة الإسلامية التي تنحصر في كلمة «لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» مما يقبله عقل الزنجي بدون عناء كبير، ثم انعدام الطبقات، وليس هناك الهوة السحيقة بين الغني والفقير؛ فالفقير يرى أن له حقا في مال الغني، والغني يفسح صدره للفقير، ثم الجنة التي رسمها الإسلام رسما بديعا مشوقا، وكل من أنصف يرى أن الوثنيين الذين أسلموا كانوا أحسن حالا منهم قبل إسلامهم فقد رقيت نفوسهم، وحسنت أخلاقهم، وأدركتهم العزة بالإسلام.
وبعد فقد تعب المصلحون كثيرا في التفكير في انحطاط المسلمين اليوم، وأظنه يتضح بعد الآن أسباب تدهورهم وانحطاطهم وانهدام بنيانهم، فإذا أردنا الإصلاح فكما في الحديث: «إن هذا الدين لايصلح آخره إلا بما صلح به أوله» فلننظر شيئا فشيئا في هذا التدهور، ولنقم الأساس من جديد يرجع البنيان متينا كما كان، ونختم قولنا هذا بقول شوقى بك:
يا رب هبت شعوب من منيتها
واستيقظت أمم من رقدة العدم
سعد ونحس وملك أنت مالكه
تديل من نعم فيه ومن نقم
رأى قضاؤك فينا رأي حكمته
أكرم بوجهك من قاض ومنتقم
فالطف لأجل رسول العالمين بنا
ولا تزد قومه ضعفا ولا تسم
يارب أحسنت بدء المسلمين به
فتمم الفضل وامنح حسن مختتم
جدول بأهم الأحداث التي حدثت للمسلمين
622 م
الهجرة النبوية وبدء التاريخ الإسلامي
624
وقعة بدر وانتصار المسلمين
625
وقعة أحد وانكسار المسلمين
628
إخضاع اليهود في الجزيرة العربية
629
وقعة مؤتة وانتصار البيزنطيين على المسلمين
630
فتح مكة
632
حجة الوداع ووفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
632-634
خلافة أبي بكر: حروب الردة وإخضاع الجزيرة العربية
633
فتح العراق الجنوبي
634
وقعة أجنادين ضد البيزنطيين في فلسطين
635
فتح دمشق وهزيمة الفرس في القادسية
636
وقعة اليرموك وانهزام البيزنطيين
637
انهزام الفرس - مؤتمر الجابية
639
فتح مصر
640
فتح فارس
644-656
خلافة عثمان
647
فتح طرابلس الغرب
649
خروج معاوية ضد البيزنطيين في البحر. احتلال قبرص
651
اغتيال يزدجرد في خراسان
653
جمع القرآن على يد عثمان
656-661
خلافة علي
656
وقعة الجمل
658
وقعة صفين
658
حادثة التحكيم
661-750
الدولة الأموية
661-680
خلافة معاوية
662-675
ولاية زياد بن أبيه على العراق
670
فتح إفريقية على يد عقبة بن نافع
674-679
حصار القسطنطينية
680-683
خلافة يزيد بن معاوية
680
مقتل الحسين في كربلاء
683-692
خروج عبد الله بن الزبير في مكة
683
الصراع بين الكلبية والقيسية في الشام
684-685
خلافة مروان بن الحكم
685-705
خلافة عبد الملك بن مروان
685-687
ثورة المختار في العراق
691
مصرع مصعب بن الزبير وخضوع العراق لعبد الملك
692
الحجاج بن يوسف يفتح مكة
694-711
ولاية الحجاج بن يوسف
705-715
خلافة الوليد بن عبد الملك
711
فتح الأندلس
711-712
غزو السند وما وراء النهر
715-717
خلافة سليمان بن عبد الملك
717-720
خلافة عمر بن عبد العزيز
720-724
خلافة يزيد بن عبد الملك
724-743
خلافة هشام بن عبد الملك
741
الحروب ضد البيزنطيين في آسيا الصغرى
743-744
خلافة الوليد بن يزيد
744-750
خلافة مروان الثاني
746
ثورات الكلبية في سوريا، والخوارج في العراق، ودعوة أبي مسلم للعباسية.
750
اندحار مروان الثاني في معركة الزاب
750-754
خلافة السفاح
754-775
خلافة أبى جعفر المنصور
767
وفاة أبي حنيفة
775-785
خلافة المهدي والصراع ضد المانوية
778-780
ثورة المقنع في خراسان
785-786
خلافة الهادي
786-809
خلافة هارون الرشيد
803
نكبة البرامكة
809-813
خلافة الأمين
813-833
خلافة المأمون. المعتزلة واشتداد النزاع في مسألة خلق القرآن
819
استقلال طاهر بن الحسين في خراسان
833-842
خلافة المعتصم. تغلب السنة على المعتزلة
837
القضاء على بابل وحركته الشيوعية
842-747
خلافة الواثق
847-861
خلافة المتوكل
852-886
إمارة عبد الرحمن الأول في الأندلس. النصارى والمولدون يثيرون الاضطرابات
861-862
خلافة المنتصر
862-866
خلافة المعتز
866-869
خلافة المهتدي
869
ثورة الزنج في البصرة
868-906
الدولة الطولونية في مصر
869-892
خلافة المعتمد
871-879
يعقوب بن الليث الصفار يستولي على فارس
883
القضاء على ثورة الزنج
890
ظهور القرامطة في العراق
892-902
خلافة المعتضد
900
ظهور الزيدية في جنوبي بلاد العرب
902-908
خلافة المكتفي
908-932
خلافة المقتدر
910
عبيد الله المهدي وبدء الدولة الفاطمية
923
وفاة المؤرخ الطبري
928
القرامطة يدخلون مكة ويحملون الحجر الأسود منها
932-934
خلافة الظاهر
932-940
خلافة الراضي
940-943
خلافة المتقي
943-946
المستكفي
944-968
سيف الدولة: حروبه ضد البيزنطيين
945
البويهيون في بغداد
969
جوهر يستولي على مصر باسم الفاطميين. تأسيس القاهرة
996-1021
خلافة الحاكم الفاطمي في مصر. ظهور الدعوة الدرزية
1023-1091
بنو عباد في إشبيلية
1027-1031
هشام الثالث آخر الأمويين في قرطبة
1037
طغرل بك السلجوقي وأخوه داود يستوليان على خراسان
1055
دخول طغرل بك بغداد واستيلاؤه على أمور الخلافة من القائم
1062
قيام دولة المرابطين، واستيلاء يوسف بن تاشفين على مراكش
1072-1092
ملكشاه السلجوقي. وزير نظام الملك، حجة الإسلام الغزالي (ت1111). عمر الخيام. الحريري
1072-1107
سليمان السلجوقي في آسيا الصغرى
1107-1300
دولة السلاجقة من نسل سليمان في قونية
1083
ألفونس السادس ملك قشتالة يهزم المعتمد صاحب إشبيلية
1086
يوسف بن تاشفين يهزم النصارى في الزلاقة
1090
حملة يوسف بن تاشفين الثانية على الأندلس، وعزله ملوك الطوائف
1099
الصليبيون يستولون على القدس
1107-1130
محمد بن تومرت يؤسس دولة الموحدين
1132-1163
عبد المؤمن بن علي خليفة ابن تومرت
1137
انحلال دولة السلاجقة على أيدي الأتابك
1154
نور الدين زنكي يستولي على دمشق
1171
صلاح الدين يقضي على الدولة الفاطمية
1180-1225
الناصر العباسي آخر الدهاة من بني العباس
1187
وقعة حطين
1193
وفاة صلاح الدين واقتسام أبنائه ملكه
1225
الموحدون يجلون عن الأندلس
1227
وفاة جنكيزخان
1232-1492
بنو الأحمر في غرناطة
1248
لويس التاسع في دمياط
1254-1517
المماليك في مصر
1258
هولاكو يستولي على بغداد
1260
عين جالوت وهزيمة المغول
1273
وفاة جلال الدين الرومي
1337
إخفاق أورخان في هجومه على بيزنطة
1369
تيمور لنك يخضع خراسان وما وراء النهر
1385-1386
احتلال العثمانيين نيش وصوفيا
1389
معركة قوصوه
1389-1402
بايزيد الأول
1391-1393
الأمراء السلاجقة يخضعون للعثمانيين
1405
وفاة تيمور لنك واقتسام إمبراطوريته
1430
استيلاء العثمانين على سالونيك
1433
يوحنا هنيادي يقهر العثمانيين
1451-1481
محمد الثاني الفاتح
1453
فتح القسطنطينية
1468
إخضاع الألبانيين
1492
سقوط غرناطة، ونهاية العرب في الأندلس
1497-1503
بناء مسجد بايزيد في القسطنطينية
1502
إسماعيل الصفوي يجعل التشيع دين الدولة الفارسية
1512-1520
سليم الأول العثماني. اضطهاد الشيعة
1514
انتصار سليم الأول على إسماعيل الصفوي
1516
انتصار السلطان سليم على قانصوه الغوري
1517
العثمانيون يفتحون مصر
1520-1566
سليمان القانوني
1522
فتح رودس
1534
استيلاء العثمانيين على تبريز وبغداد
1543
إخضاع المجر
1550
بناء جامع السلطان سليمان في القسطنطينية
1566
وفاة السلطان سليمان
1566-1574
سليم الثاني
1570
استيلاء العثمانيين على قبرص
1574-1595
مراد الثالث
1577-1585
الحرب ضد فارس. استيلاء العثمانين على تفليس وقبرص
1651
انتصار الأسطول البندقي على العثمانيين قرب بادوس
1665
الأسطول الفرنسي يقصف الجزائر وتونس
1681
العثمانيون يتخلون عن كييف للروس
1683
العثانيون يخسرون المجر
1688
النمساويون يستولون على بلغراد
1689
هزيمة العثمانيين في بنش
1690
العثمانيون يستردون بلغراد
1696
بطرس يستولي على آزوف
1697
هزيمة الأتراك
1711
هزيمة بطرس الأكبر عند نهر البروث
1735-1739
انتصار العثمانيين على النمسا والروسيا
1740
ظهور محمد بن عبد الوهاب في الدرعية
1757
الوهابيون يستولون على الأحساء
1761
معاهدة صداقة بين العثمانيين وفردريك الأكبر
1770
الحرب ضد الروس وتدمير الأسطول العثماني
1773-1789
عبد الحميد الأول
1783
الإمبراطورة كاترين تخضع تتار القرم
1789
نابليون في مصر
1789-1807
سليم الثالث وأولى محاولات الإصلاح على النمط الفرنسي
1801
الوهابيون يغيرون على كربلاء
1803-1804
الوهابيون يستولون على مكة والمدينة
1811
محمد علي باشا يفتك بالمماليك
1812
استخلاص طوسون مكة والمدينة من أيدي الوهابيين
1818
إبراهيم باشا يخضع الوهابيين
1821-1829
الثورة اليونانية على الدولة العثمانية
1826
محمود الثاني يبيد الإنكشارية
1830
احتلال فرنسا للجزائر
1832
إبراهيم باشا يهزم العثمانيين قرب قونية
1835
عبد القادر الجزائري يهزم الفرنسيين
1836
استرداد السلطان طرابلس الغرب
1839
الحرب العثمانية المصرية. هزيمة العثمانيين في نصيبين
1839-1861
عبد المجيد الأول
1840
مؤتمر لندن لتسوية العلاقات العثمانية المصرية
1842
ثورة الدروز
1843
تأسيس السنوسية في طرابلس
1848
وفاة محمد علي
1849
إخراج المصريين من الحجاز
1853
حرب القرم
1854-1863
سعيد باشا صاحب مصر
1856
بدء الأدب التركي الحديث
1860
بدء العمل في فتح قناة السويس
1863-1880
إسماعيل باشا يلقب بالخديوي 1866
1869
افتتاح ترعة السويس رسميا
1870
ظهور المهدي في السودان
1857
المحاكم المختلطة في مصر
1876
مؤامرة مدحت باشا على السلطان عبد العزيز
1876-1909
عبد الحميد الثاني
1876
إعلان الدستور
1878
مؤتمر برلين
1880-1892
توفيق باشا خديو مصر
1881
فرنسا تحتل تونس. هزيمة عرابي
1882
المهدي يخرج المصريين من السودان
1885
الهجوم على الخرطوم. مقتل غوردون
1896
كتشنر يقضي على المهديين في أم درمان
1906
حادثة دنشواي. استقالة كرومر
1908
ثورة رجال تركيا الفتاة
1911-1912
إيطاليا تستولي على طرابلس الغرب
1912
حرب البلقان
1914
الدولة العثمانية تحارب إلى جانب ألمانيا. حسين كامل سلطان مصر
1915
الهجوم على ترعة السويس
1917
البريطانيون يحتلون بغداد. فتح القدس. فؤاد سلطان مصر
1918
فيصل ولورنس يحتلان دمشق. بدء حركة الوفد في مصر
1919
مصطفى كمال في الأناضول. الميثاق الوطني. الاضطرابات الوطنية في مصر.
1920
الخلفاء يعودون إلى الأستانة. بعثة ملنر في مصر. الفرنسيون يخرجون فيصل من سوريا
1921
الغازي مصطفى كمال يهزم اليونانيين. نفي زغلول إلى سيشل. فيصل ملك العراق. ثورة عبد الكريم في الريف المراكشي
1922
طرد اليونان من آسيا الصغرى. السلطان فؤاد يصبح ملك مصر. وضع الدستور الفلسطيني
1923
إعلان الجمهورية التركية وإلغاء السلطنة
1924
إلغاء الخلافة. فؤاد يحل البرلمان المصري. زغلول رئيس الوزراء. ابن سعود يستولي على الحجاز
1925
الثورة السورية
1926
زغلول يعود إلى رئاسة الوزارة. الجمهورية اللبنانية. المؤتمر الإسلامي العام في مكة. القضاء على ثورة عبد الكريم
1927
وفاة زغلول
1928
استبدال الأحرف اللاتينية بالعربية في تركيا
1929
الاضطرابات في فلسطين
1930
تحديد عدد المساجد في تركيا
1932
فتنة الأشوريين في العراق
1933
الاضطرابات في فلسطين. وفاة الملك فيصل. غازي ملك العراق
1934
الحرب بين ابن سعود والإمام يحيى
1935
اشتداد المقاومة العربية في فلسطين. تحرير المرأة في إيران
1936
عقد المعاهدة البريطانية المصرية. وفاة الملك فؤاد. فاروق ملك مصر. اللجنة الملكية في فلسطين. الانقلاب العراقي على يد بكير صدقي
1937
تركيا تنتزع لواء الإسكندرونة. وزارة محمد محمود باشا في مصر. هرب المفتي من فلسطين
1938
وفاة أتاتورك. عصمت إينونو يخلفه في رئاسة الجمهورية. حل البرلمان المصري. اللجنة الملكية في فلسطين تقدم أول مشروع للتنظيم
1939
مؤتمر الدائرة المستديرة في لندن لدرس القضية الفلسطينية. الكتاب الأبيض. وفاة الملك غازي. فيصل الثاني ملك العراق
الدول الإسلامية في عهد الخلافة من سنة 661 إلى سنة 1258 «معربة عن خريطة وضعها الأستاذ ستانلي لين بول»
অজানা পৃষ্ঠা