وتتضح الفجوة الثقافية الناجمة عن اللغة في مفاوضات العمل والتجارة بين الأطراف العربية والأطراف الأخرى، سواء من الشرق أو الغرب. والمسألة لا علاقة لها بالترجمة، فربما تحدث الجميع نفس اللغة، وربما قام المترجمون بواجبهم بأمانة، لكن دلالة الكلمات تختلف بين الطرفين؛ فالعربي يكره أن يقول: لا. وهو يستعيض عنها بكلمة: ربما، عندما لا يريد تنفيذ شيء، وعندما يقول نعم فهو يقصد عادة: ربما. أو أن الأمر ممكن تنفيذه.
وقد قامت الثقافة العربية في بدايتها على الأذن نظرا لأنها ازدهرت في مجتمع تسيطر عليه الأمية (انظر كتاب الداء العربي باب «ثقافة الأذن»).
وكان من أهم آثار ذلك أن العقل العربي يقبل الحقائق عن طريق الأذن، فاليقين بالنسبة له هو ما يسمعه، في حين أن اليقين في معظم الحضارات الأخرى، هو ما يراه الإنسان رأي العين.
ومنذ اختراع التصوير الفوتغرافي والسينما والتليفزيون تقهقر دور الأذن وزاد دور العين في المعرفة، لكن سحر اللغة العربية والمكانة التي تحظى بها في ثقافتنا تجعل المجتمعات العربية لا تزال تتمسك باليقين عن طريق الأذن والكلمات، بينما الآخرون يصلون إلى اليقين عن طريق العين والعقل.
وربما يفسر ذلك أن الشائعات تنتشر في مصر والعالم العربي بسرعة أكبر كثيرا من أي مكان آخر في العالم، فالإنسان العربي، منذ أن أفل نجم حضارتنا، ميال بفطرته إلى أن يصدق ما يسمعه دون أن يخضعه للتفكير والنقد. ويكاد الحس النقدي يكون منعدما في الثقافات العربية منذ قرون طويلة، فالعربي يثق في اللغة وبالتالي يثق فيما ينقل إليه عن طريق هذه اللغة. •••
ومن أبرز خصائص اللغة العربية خاصية الإبداع في التعبير عن الفكرة بأسلوب غير مباشر؛ فالأسلوب المباشر غير محبب في العربية، ويعتبر ضعفا وركاكة في التعبير. وبرغم ما يقال بأن البلاغة في الإيجاز فإن الواقع عكس ذلك على خط مستقيم، فبراعة الشاعر والكاتب تقاس بمقدرته على اللف والدوران حول المعنى، والوصول إليه من طرق ملتوية ومعقدة ربما تزيده جمالا في عيون المستمعين.
ومن المؤكد أن هذه الخاصية قد انعكست على العقل العربي وخاصة في القرون الأخيرة حيث يؤثر العربي عدم مواجهة الواقع والالتفاف حول الحقائق بقدر المستطاع، خاصة تلك التي تصدم قناعاته.
ويظهر الميل الفطري لعدم المباشرة في أسلوب التعامل اليومي، سواء في العمل أو في الحياة الخاصة، فعادة ما يبدأ العربي بديباجة طويلة ومقدمات لا آخر لها، قبل أن يدخل في الموضوع الذي يريد الخوض فيه. ومع تزايد سرعة الإيقاع في مصر ظهر تعبير جديد كرد فعل هذه الظاهرة وهو: «هات من الآخر»، أي قل ما تريد بغير مقدمات. •••
ومن أخطر الخصائص النفسية التي تلعب فيها اللغة دورا لا يستهان به، هي علاقة العربي بالزمن، فقبل ظهور الإسلام لم يكن هناك أي تقويم زمني بالأعوام، وكان هم عرب الجزيرة الوحيد في مجال الزمن هو معرفة الشهور؛ لأسباب تتعلق بحياتهم العملية.
أما الحضارات الأخرى التي ظهرت قبل الإسلام فقد عرفت التقويم بالشهور والسنين. وقد أصدر يوليوس قيصر مرسوما بالعمل بما عرف بالتقويم الروماني في عام 45 قبل الميلاد أي نحو 700 عام قبل أن يشعر العرب بضرورة التقويم بالسنين. وقبل يوليوس قيصر كانت الحضارة اليونانية تعرف التقويم بالسنين، وبفضل تقويمهم نعرف الآن أن سقراط ولد عام 470 قبل الميلاد ومات عام 399 قبل الميلاد، وكذلك أفلاطون (428 ق.م-348ق.م) وأرسطو (384ق.م-320ق.م).
অজানা পৃষ্ঠা