وفي كتاب «العقل العربي» الصادر عام 1973م، يورد المفكر روفائيل بطي دراسة ميدانية عن الأطفال العرب، يتضح منها أن 88٪ من الأمهات يعترفن بقيامهن بتهديد أطفالهن بالكلمات، ثم لا يتبعن ذلك بالتنفيذ. ونظرا لما تحتويه العربية من كلمات رنانة وعبارات فضفاضة، فإن التهديد الكلامي يكون عادة عنيفا للغاية ومفزعا بالنسبة للأطفال.
وتلجأ الأمهات إلى الأسلوب العربي اللغوي في التهويل والمبالغة بأن يهددن أطفالهن بالضرب وربما بالقتل والحرق وقطع الأيدي وغير ذلك، ثم لا ينفذن هذا الوعيد بسبب الرحمة أو الشفقة وحبهن لأطفالهن. ولا شك أن التهديد والوعيد والتخويف هي عمليات تنفيس تقوم بها الأم العربية لكيلا تؤذي طفلها الحبيب، لكن المشكلة أن هذا الأسلوب يترك في نفوس الأطفال آثارا لا تنمحي، وتترسخ في عقلهم الباطن عادة الكلام الذي يعبر عما في داخل النفس من رغبات كامنة، لكنه لا يعبر عما ينوي الإنسان أن يقوم به من أفعال (الكلمة بديلا عن الفعل)، فالكلام في واد والواقع في واد آخر.
وهناك مئات من الأمثلة تؤكد ميل العربي إلى استعواض الأفعال بالكلمات، والشعر العربي منهل لا ينضب لهذه الأمثلة، من امرئ القيس إلى يومنا الحالي؛ فالشعراء الذين يتحدثون عن الفضيلة وأفعالهم تتناقض مع أبسط قواعدها، والشعراء الذين يتحدثون عن القناعة وهم يتكالبون على الحياة، كلهم قد ملئوا سماء الأدب في القرون الماضية. ربما كانت أشعارهم الجميلة تشفع لهم الفجوة بين كلماتهم وأفعالهم، لكن وقع أشعارهم على النفسية العربية كان سلبيا للغاية.
وكان حسان بن ثابت شاعر الرسول من الأمثلة البارزة على ما نريد أن نثبته؛ فقد كان حسان أفضل من يتحدث عن الحرب والقتال واليأس، لكنه لم يرفع سيفه يوما واحدا في ساحة معركة. وفي تلك الأيام لم يكن هناك محاربون ومدنيون في الجزيرة العربية، فكل من يستطيع حمل السلاح كان يشارك في الذود عن قبيلته أو مهاجمة قبيلة أخرى، لكن الرسول كان يعفي حسانا من القتال لعلمه بأنه ليس قادرا عليه.
وتروي صفية بنت عبد المطلب وهي بنت عم الرسول، وقت غزوة الخندق في كتاب «الأغاني»:
وكان حسان معنا مع النساء والصبيان، فمر بنا رجل من اليهود، وليس بيننا وبينه أحد يدافع عنا. قالت: فقلت: يا حسان، انزل إليه فاقتله، فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.
فما كان من صفية إلا أن هوت على رأس اليهودي بعصا فقتلته. وكان يهود بني قريظة يساندون أعداء النبي خلال غزوة الخندق ويناصبون المسلمين العداء في ذلك الوقت كما هو معروف.
في كتاب «البخلاء» أورد الجاحظ قصة طريفة تبرز بوضوح نزعة الكلام الذي لا يعبر عن الحقيقة، فيحكي الجاحظ عن محمد بن يسير، وهو شاعر بصري، أن أحد الولاة بفارس استمع في أحد الأيام إلى شاعر أخذ يمدحه مدحا مفرطا، فقال الوالي لكاتبه: أعطه عشرة آلاف درهم ففرح الشاعر، فقال الوالي للكاتب: اجعلها عشرين ألفا، فتضاعفت فرحة الشاعر، فقال الوالي: اجعلها أربعين ألفا، وهنا طار الشاعر فرحا وقال للوالي ما معناه أنه سينصرف حتى لا يحرجه ويزيد هذا المبلغ.
ولما انصرف الشاعر أمر الوالي كاتبه بألا يعطيه شيئا. فلما أبدى السكرتير استغرابه، قال الوالي مفسرا موقفه: إن الشاعر زعم أنه أحسن من القمر وأشد من الأسد وهكذا، وهو يعلم أن كل هذا غير صحيح، لكنه فرح بهذا الكلام الذي لا علاقة له بالواقع. وعندما وعد الشاعر بأربعين ألف درهم، فرح الرجل فرحة كبيرة، فكما أفرحه الشاعر بالكلام فهو أيضا قد أفرحه بالكلام.
وتذكر هذه القصة بالمثل الذي يقول: «كلام ابن عم حديت.» •••
অজানা পৃষ্ঠা