من الممكن أن نجد تبريرات فلسفية ونفسانية عميقة لذلك، لكني أرى سببا بسيطا يقفز إلى العقل على الفور: إن الفصحى - بشكلها الحالي - ليست لغة صالحة للتعامل اليومي نظرا لصعوبتها وتعقيداتها. •••
وكان لانتشار العربية خارج الجزيرة مع الفتح الإسلامي آثار حاسمة على لغتنا. ومع الزحف العربي في كل اتجاه شمالا وشرقا وغربا بعد وفاة الرسول وجهت العربية ضربة قاضية إلى كل اللغات التي كانت متداولة في المنطقة، وأهمها الآرامية وهي لغة المسيح عليه السلام والقبطية وهي لغة أهل مصر قبل الفتح، وإلى اليوم فمن الصعب أن نجيب عن السؤال الآتي: لماذا سيطرت العربية على لسان الناس في الشام والعراق ومصر وشمال إفريقيا، لكنها لم تستطع اقتلاع لغات مثل الفارسية والتركية ولغات شعوب أخرى كثيرة في آسيا؟
وهناك نظريتان أساسيتان في هذه القضية، تقول الأولى إن العربية ارتبطت بالتعريب أي بانتقال العناصر العرقية العربية وامتزاجها بالشعوب المفتوحة. وبطبيعة الحال فقد كانت الهجرة العربية إلى البلاد الأقرب جغرافيا؛ لذلك فإذا نظرنا إلى خريطة العالم الإسلامي اليوم نجد نواة أساسية، هي العالم العربي، تحيط بها بقعة أكبر كثيرا هي العالم الإسلامي. لكن هذا العامل لم يكن حاسما نظرا لأن عدد العرب الذين خرجوا من الجزيرة للفتح والإقامة في الأمصار لا يتجاوز 200 ألف شخص وفقا لموسوعة «يونيفرساليس»، وهذا الرقم تقريبي كما تقول الموسوعة لكنه ليس بعيدا جدا عن الواقع. ولا شك أن هؤلاء قد تاهوا وسط عشرات الملايين من سكان الأقطار المفتوحة.
أما النظرية الثانية فتقوم على أساس لغوي بحت، فهي تقول إن العربية انتصرت في البلاد التي كانت تتحدث لغات سامية - حامية وهي نفس الأسرة اللغوية العربية - فاستساغت شعوب هذه البلاد مثل مصر والشام اللغة الوافدة مع الفتح؛ لأن لها نفس جذور اللغة التي يستخدمونها .
وربما لعبت عوامل كثيرة دورا في انتصار العربية على لغات البلاد المفتوحة، لكن المهم في هذا البحث هو أن الفصحى لم تنجح في فرض نفسها كلغة تعامل، وانتشرت اللهجات وفقا للعادات اللغوية في كل بقعة من بقاع العالم العربي.
وقد أطلق الجاحظ على اللهجات الجديدة تعبير: «لغة المولدين والبلديين»، والمولدون هم الأبناء المخلطون، أي الذين لهم أم أو أب غير عربي. وكان غالبية المولدين من أب عربي وأم «أعجمية» أي غير عربية. ويبدو أن العرب قد انبهروا بالفتيات الأجنبيات من فارس ومن بلاد الروم حيث كانت هاته الفتيات، وخاصة الروميات منهن، يتميزن بالشعور والعيون الملونة وهو ما لم يشهده غالبية العرب من قبل. ومع طول مدة الفتح والحروب كثر الزواج من غير العربيات أو اتخاذ جاريات يلدن الأبناء. وقد لعب المولدون دورا هاما في تاريخ الأمة العربية الإسلامية وخاصة في العصر العباسي، لكن دورهم في تطوير أو «تشويه» العربية لم يدرس بما فيه الكفاية إلى اليوم.
ومع الوقت أصبح اللحن والخطأ في اللغة العربية هما القاعدة بالنسبة لعامة الناس، ويروي ابن قتيبة أن أعرابيا دخل السوق فسمع الناس يخطئون في العربية ويلحنون فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون، ونحن لا نلحن ولا نربح!
ويؤكد أحمد أمين في ضحى الإسلام أن اللحن كان فاشيا حتى في العلماء؛ فقد لحن - كما يقول مستندا إلى البيان والتبيين والعقد الفريد وطبقات الأدباء - كل من الإمام أبي حنيفة وعمرو بن عبيد وبشر الميسي. وإذا كان هؤلاء العلماء الأجلاء عاجزين عن التحدث بلغة عربية سليمة مائة في المائة، فما بالنا بعامة الناس في عصرهم، وما بالنا بعامة الناس في عصرنا الحالي، الذي لم يعد فيه الإنسان قادرا على ملاحقة إيقاع الحياة وكم المعلومات التي يضطر إلى استيعابها في كل لحظة حتى يستطيع الالتفات إلى سلامة اللغة التي ينطق بها.
ومن أبرز الأمثلة التي تضرب في فساد اللغة كتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس. وهو بالفعل يستخدم لغة ركيكة في نظر كتاب التاريخ الفكري والأدبي، حيث يستخدم كلمات وتراكيب عامية، فيقول مثلا واصفا أحد الأمراء: «وأما عسكره فكانوا جيعانين العين، نفسهم قذرة، وعندهم عفاشة في أنفسهم.»
وباختصار، وحتى في العصور الذهبية للدولة الإسلامية، كان الناس يخطئون في العربية عندما يتحدثون بها كما يخطئ فيها العرب في القرن الحادي والعشرين، وكانوا يؤثرون عليها اللهجات التي سيطرت على اللسان العربي تماما مع الابتعاد الزمني عن عصر النبوة ونزول القرآن. •••
অজানা পৃষ্ঠা