195

عقب أحد الأدباء على ما كتبناه في «عبقرية محمد» عن رواية النبي - عليه السلام - للشعر وقال: «... في ص144» يذكر أن النبي

صلى الله عليه وسلم

كان يتمثل بشطرات من أبيات يبدل وزنها كلما أمكن تبديله، فكان يقول مثلا: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود.» لأنها لا تقبل التبديل، ولكنه إذا نطق بقول سحيم بني الحسحاس: «كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا.» قدم كلمة الإسلام، فقال: «كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا.»

ثم يعقب الأديب فيقول: «وتقسيم ما يتمثل به الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلى ما يمكن تبديله لم يورد المؤلف ما يؤيده ويقتضيه، والمثال الذي ذكره لما لا يمكن تبديله غير صحيح، فإن تبديله ممكن، وقد روي أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - تمثل به هكذا: «ويأتيك من لم تزود بالأخبار».» (راجع السيرة الحلبية في باب الهجرة إلى المدينة). •••

والذي نعقب به على تعقيب الأديب هو الكلام فيما يمكن تبديله من الشعر والنثر، وكل ما له معنى من القول.

فإذا كان المقصود بالتبديل هو نقل كلمة في موضع كلمة بغير نظر إلى المعنى والسياق، فالتبديل ممكن في كل مكان بلا استثناء؛ إذ ليس للكلام قوة مادية تمنعك أن تقدم فيه وتؤخر كما تشاء، وفي وسع كل قارئ أن يعمد إلى كتاب من الكتب فيقرأه عكسا وطردا، ومن أسفله إلى أعلاه، ويضع الأول في موضع الوسط والوسط في موضع الأول، ثم يعود فيصنع به مثل ذلك إلى غير انتهاء، فلا يستعصي عليه عصي ولا يحول دونه حائل.

وليس هذا بالبداهة هو التبديل المقصود حين نقول بإمكان التبديل أو استعصائه، وإنما المقصود هو التبديل مع بقاء المعنى وبقاء المزية الكلامية، أو المزية البلاغية التي من أجلها كان الشعر أو النثر مستحقا لروايته والاستشهاد به.

وكثير من المعنى ومن المزية البلاغية يتوقف على تقديم كلمة إلى موضع أخرى، حتى في العبارة التي لا تتجاوز كلمتين أو ثلاث كلمات. «فالعالم زيد» غير «زيد العالم»، وما اختلف منهما إلا تبديل موضع الكلمتين.

لأن «العالم زيد» قد تفيد أنك تخص زيدا بالعلم وتنفيه عن غيره، وليس هذا مستفادا من «زيد العالم» على هذا الوجه.

وقد شرح علماء البلاغة دلالة التقديم والتأخير، وعرض لها الإمام الجرجاني فقال مما قال في دلائل الإعجاز: «... إنه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ولا يبالون من أوقعه، كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي يخرج فيعيث ويفسد ويكثر به الأذى، إنهم يريدون قتله ولا يبالون من كان القتل منه، ولا يعنيهم منه شيء، فإذا قتل وأراد مريد الإخبار بذلك فإنه يقدم ذكر الخارجي فيقول: قتل الخارجي زيد، ولا يقول: قتل زيد الخارجي؛ لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له زيد جدوى وفائدة فيعنيهم ذكره ويهمهم، ويتصل بمسرتهم ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقعون له ومتطلعون إليه متى يكون وقوع القتل بالخارجي المفسد، وإنهم قد كفوا شره وتخلصوا منه ...» إلى آخر ما قال.

অজানা পৃষ্ঠা