190

فإن طلب المال كطلب العلم فطرة لا تتوقف على التوريث، ولا على ما يعقبه الآباء للأبناء، وقد يهمل الإنسان رزقه ورزق أبنائه؛ ليتابع الدرس ويتقصى مسألة من مسائل العلم والمعرفة، وهو على يقين أنه لن يخلف لأبنائه زادا من علومه ودروسه إلا ما يخلف المعلمون للمتعلمين، وقد يفوتهم منه حتى هذا النصيب.

وبين طلاب المال من بلغ أرذل العمر، وليس له عقب ولا هو ممن يبسطون الكف بالإنفاق، فيخشى نفاد ماله الكثير، ومنهم من لو بسط يده بالإنفاق عشرات السنين لما خشي على ماله النفاد.

أعرف رجلا له نظراء كثيرون كان يملك القصور، ويدخر الأموال في المصارف، وله معاش لا ينقطع من خزانة الحكومة، وهو مع هذا يبخل على نفسه بالقليل، ويعيش معيشة الفقراء، ويراه الحوذية في الطريق فيهربون منه؛ لأنه يأبى أن ينقدهم الأجر إلا على حساب ما تعود قبل أربعين أو خمسين سنة ... يوم كان للمليم سعر القرش في هذه الأيام، وأعجب العجب أن هذا الرجل الشحيح كان مجدودا في أوراق المصارف التي يناط بها النصيب، فكان يربح جوائزها الأولى من حين إلى حين، وحدث مرة أن وكيله تسلم جائزة من هذه الجوائز وأخر إيداعها المصرف الذي يعاملونه بضعة أيام، فلما راجع الغني الشحيح حسابه قطع أرباح الجائزة في هذه الأيام القليلة من مرتب الوكيل المسكين، وهو شيء يبذله من يربح مثل هذه الجائزة هبة لمن يحمل إليه بشارتها ولا يندم عليه .

ولم يكن لهذا الرجل عقب ولا كان له مطمع في العيش الطويل بعد السن التي ارتفع إليها؛ ولكنه يطلب المال لأن طلب المال شهوة، ولا يشترط أن تتعلق بالإنفاق والتوريث.

ولو نظر الناس إلى الواقع في أمر الورثة لما حرصوا على ترك المال بعدهم للأبناء والأحفاد؛ فإن أبناء الفقراء الذين عاشوا في الدنيا عيشة راضية بغير ميراث يبلغون أضعاف الوارثين عدة، سواء ورثوا الكثير أو القليل، وإن الذين أشقاهم الميراث لا يقلون عن الذين سعدوا به وحفظوه أو زادوا عليه، وإن الذين يموتون وهم خائفون من تبديد أبنائهم أكثر جدا من الذين يموتون وهم مطمئنون إلى حسن التصرف ودوام الحال.

كان العلامة يعقوب صروف - طيب الله ثراه - يوصيني كلما لقيته أن أدخر وأن أحسب حساب المال والثراء، وكأنه أنس مني التواني في الإصغاء إلى هذه النصيحة، فروى لي حديثا جرى بينه وبين تاجر من كبار التجار السوريين العصاميين رآه مشغول البال معنى بما يخشاه على ثروته وأبنائه بعد موته من تقسم وبوار، قال: وهكذا الدنيا دواليك بين جيل عصامي يجمع، وجيل عظامي يضيع ما جمعه الآباء، ويأتي بالمعذرة لمن يتركون الأبناء فقراء ناشطين في طلب الجاه والثراء.

قال العلامة صروف: ومنذ أيام طرق علينا الباب أبناء صاحب من أصحابنا مات فجأة، وليس في الدار ما يشيعونه به إلى لحده؛ وكان هذا الصاحب مفراحا، يأكل ما يشتهي ويلبس الفاخر من الثياب، ويطعم أبناءه أحسن مطعم، ويكسوهم أجل كسوة، ويقضي سهراته بينهم ضاحكا متهللا على صينية من الحلوى أو الفاكهة، وهو لا يشغل باله لحظة بما يكون، ولا يبالي بعد موته ما يأكلون ويشربون، فأي الأبوين أسعد؟ وأي الأبناء أحظى بحسن المصير؟

وهذا السؤال الذي سأله الدكتور صروف سيظل أبد الزمان مسئولا يجيبه من يشاء كما يشاء؛ ولكنه جواب لن يجعل المفراح مشغولا بتوريث أبنائه، ولا المشغول بتوريث الأبناء مفراحا ينعم بالحاضر، ولا يعني نفسه بالغيب المجهول.

فخديعة من خدائع النفس أن تعلل حرصها على المال بحب الأبناء، ولو كان حب مانعا أن ينفق الإنسان كل ما عنده لكان حبه لنفسه وخوفه على غده أحرى أن يمنعه ويقبض يديه، ولكنها خديعة النفس كما نقول تتراءى لها في مختلف الذرائع والتعلات.

إنما تفسر أعمال الإنسان بالبواعث والدوافع قبل أن تفسر بالنتائج والغايات. وإذا قيل لنا: إن فلانا يجمع المال؛ لأنه يخاف عاقبة الفقر، قلنا: ولماذا يخاف هذه العاقبة التي لا يخافها غيره؟! إنه لا يخالف غيره إلا لاختلاف البواعث النفسية دون الاختلاف في الغايات التي قد يتفقون عليها من جانب التأمل والتفكير.

অজানা পৃষ্ঠা