ومع هذا فنحن لا نزهى بشيء كما نزهى بفرط الحس، وفرط الوعي وفرط الخيال ... فهل رأيت إلى بعد ما بين الحقيقة والدعوى، وبعد ما بين وصف الداء ووصف العلاج؟!
املأ النفس بالحس والوعي والخيال تملأها بالحركة والإرادة غير منفصلين، وانظر إلى الطفل الدارج لماذا لا يهدأ؟ ألأنه قرأ الفصول والمباحث في فضل الحركة والنشاط؟ ألأن أحدا أمره أو أحدا أغراه؟ كلا! ولكنه يتحرك وينشط؛ لأنه شبعان من الحس شبعان من إرادة العمل الذي يهواه، ولو سبب غير ذلك دعاه إلى الحركة والنشاط لما استجاب، إذا أحسسنا لم نصبر على الركود، وإذا نفضنا الركود، فماذا أمامنا غير الحركة والعمل؟ وماذا أمامنا غير الظفر والفلاح؟
لننس كل النسيان وأشد النسيان أننا - معاشر الشرقيين - قوم مصابون بفرط الحس والوعي والخيال، فإننا لأبرأ الناس من هذا المصاب إن كان مصابا، وإننا لأحوج الناس إلى الشفاء، وهو شفاء.
وآية ذلك أن نسأل كم عدد المعبرين عن الحس والخيال في الشرق كله؟ وكم عدد هؤلاء في أمة واحدة من أمم الدنيا المريدة العاملة؟
كم في أمة واحدة من أمم الدنيا المريدة العاملة السيدة الأيدة من مصورين ومثالين؟ وكم فيها من موسيقيين ومنشدين؟ وكم فيها من ممثلين ومخرجين، وكتاب روايات وشعراء وأدباء؟ وكم فيها من متاحف وتماثيل؟ وكم فيها من باعة أزهار وأساتذة تجميل؟ وكم فيها من مغامرين مقاديم يبيعون الواقع بالخيال، ويستغنون عن الممكن الميسور بما يلوح للعاجزين كأنه محال؟
كم من هؤلاء في أمة واحدة؟ وكم منهم في الشرق كله هذا الزمان، وأخشى أن أقول في جميع الأزمان؟
إن لم تكن الحقيقة أن الشرق مسكين غاية المسكنة مدقع غاية الإدقاع في أزواد الحس والخيال، فالأسطورة الكبرى ولا ريب هي أنه مسرف في حسه وخياله، مفرط في شطحاته وآماله.
فما بالنا نحار كيف نعمل، وأولى بنا أن نحار كيف نحس ونتخيل، وما بالنا ننشد أسبابا للحركة والعمل غير أن نملأ نفوسنا بالإحساس، كأنما هذا وحده غير كاف، وكأنما نحتاج بعد الإحساس إلى مزيد؟
إن الإنسان ليثور من السخط والغضب حين ينظر إلى شعرائنا العجزة المعدمين، وهم يتيهون من الغنى الموهوم، ويتغطرسون بالثراء المعدوم، واسمعهم يتغنون بالحب مثلا، والحب فيض في الشعور واتساع في آفاق الوجدان، واسمعهم يتغنون به وهو صنوف لا تنحصر في معنى واحد ولا في نمط فريد: حب الناشئين غير حب الكهول، وحب التفاهم والتعاطف غير حب المتع والشهوات، وحب المرأة المطواع اللعوب غير حب المرأة العصية الشموس، وحب المنكوب اللاجئ إلى حرم العاطفة غير حب السعيد الناعم بما في يديه، وحب الواثق غير حب المرتاب، وحب الوسيمة القسيمة غير حب الرشيقة الظريفة، وحبك الأول غير حبك بعد تجربة ومراس، وصنوف غير ذلك تتعدد بعداد الرجال والنساء، وعداد الأحيان والأعمار والمناسبات.
اسمعهم يتغنون بهذه العاطفة الشاملة الداوية العميقة الرحيبة التي لا عداد لها بالألوان، وإن عدت باللفظ في كلمة واحدة، وقل لي ماذا تسمع غير نغمة واحدة معروضة في شتى أساليب؟ ماذا تسمع غير أن حبيبة هاجرة أبدا، وحبيبا سيموت أبدا وفوق ذلك قطرات هنا من دموع وشهقات هناك من أنين؟
অজানা পৃষ্ঠা