وقد تحدثت عن المدرسة القديمة والمدرسة الجديدة في الشعر العربي الحديث، فما هي حدود كل من المدرستين، وما هي غاياتهما؟
أما المدرسة القديمة، فهي تزعم أن للغة العربية مزاجا خاصا لا يسيغ إلا ضروبا محدودة من التفكير والحس والخيال، وهي تنقم على المدرسة الحديثة أنها تستحدث في الأدب العربي فنونا من البيان مشبعة بما في الروح الأجنبية وآدابها من طرائف التفكير والخيال والإحساس، وهي تدعي أن ذلك لا يلائم طبيعة اللغة العربية، ولا ينسجم على ما تسميه «الأسلوب العربي الصميم».
وأما المدرسة الحديثة فهي تدعو إلى كل ما تكفر به المدرسة القديمة بدون تحرز، ولا استثناء، هي تدعو إلى أن يجدد الشاعر ما شاء في أسلوبه وطريقته في التفكير والعاطفة والخيال، وإلى أن يستلهم ما شاء من كل هذا التراث المعنوي العظيم الذي يشمل كل ما ادخرته الإنسانية من فن وفلسفة ورأي ودين، لا فرق في ذلك بين ما كان منه عربيا أو أجنبيا، وبالجملة فهي تدعو إلى حرية الفن من كل قيد يمنعه الحركة والحياة، وهي في كل ذلك لا تكاد تتفق مع المدرسة القديمة إلا في احترام قواعد اللغة وأصولها، بل إن فريقا من متطرفي المدرسة الحديثة لا يعدل بحرية الفن شيئا، ولا يحفل في سبيل ذلك حتى بقواعد اللغة وأصولها، غير أن صدى هاته الطائفة قد أخذ يخفت ويضمحل ولا شك أنه سيفنى مع الزمان؛ فهو ليس إلا طفرة جامحة لكل الطفرات التي تصحب كل انقلاب في حماسة الدعاية الأولى.
ولكن، ما غاية هاته المدرسة الحديثة وما حدودها؟
أما إذا أردت يا صاحبي أن تجعل لهاته المدرسة حدودا مضبوطة فاصلة على النحو الذي كان عليه المذهب الرومانتيكي أو الرمزي أو البرناسي أو الواقعي، أو غير هاته المذاهب التي سيرت الأدب الفرنسي في طرق خاصة، وأملت عليه من روحها القوي الثابت، أقول إذا أردت ذلك فإنك غير واجده؛ فالمدرسة الحديثة لم تصبح بعد مذهبا واضح الحدود والمعالم، ولكنها ما زالت ثورة مشبوبة هائجة، وإيمانا قويا عميقا، ثورة في سبيل حرية الشعر وكماله، وإيمانا بسمو الغاية وجلال المبدأ. أجل، هي ثورة ما زالت تختلط فيها المطامح والميول، وتضطرب فيها أصول المذاهب اضطراب البذور في حميل السيل، وآية هذا ما أسلفت من اختلاف في المقاييس الأدبية ، والأساليب والنزعات، وذلك سر هاته الحيرة العميقة الغائمة التي تعانق أرواح أغلب شعراء هاته المدرسة، فكل واحد منهم واقف بشعره على تخوم عالم مجهول، لا يعرف له مبدأ ولا غاية، تستفز نفسه أصوات وأنغام، وتستهوي خياله أشواق وأحلام، وتسحر طرفه أشعة وأطياف، ولكنها لا تأسر نفسه حتى تتوارى وراء السحب البعيدة النائية، ثم تضمحل وتفنى في سكون الفضاء. وما أشبه حال شعراء هاته المدرسة اليوم بحال «البحار وجنية البحر» فيما تقصه الأساطير! ولذلك فكل شاعر من شعراء هاته المدرسة يكاد يمثل في نفسه مدرسة مستقلة لها مذهبها الخاص، وطابعها الممتاز، ولها وجهتها في فهم الشعر وإنشائه.
على أنك تستطيع أن تلمس في آثارهم رغم ذلك روحا قوية متأججة مشرقة كالصباح، متوهجة كاللهيب، هاته الروح هي طلاقة الحياة والحنين إلى المجهول ... فالحياة الحرة المطلقة، والأشواق التائهة المبهمة، أو «الطموح» بأشمل معانيه، هو الروح الغالبة البادية في آثار هاته المدرسة التي تجاهد في سبيل الكمال الفني المنشود.
وأبو شادي كشاعر من شعراء هاته المدرسة المجددة له مذهبه، وأسلوبه، وروحه الخاصة الممتازة.
أما مذهبه الشعري - فيما أرى - فهو أن يحرص الشاعر كل الحرص على التعبير عما يدوي في أعماق نفسه من أصداء الحياة، وما يخالجها من وحي هذا الوجود، وعلى ألا يضيع من ذلك شيئا ما استطاع إليه سبيلا. ولعله يؤمن بأن كل تقصير في ذلك يعد خيانة لأمانة الفن؛ فالشاعر لم يوجد إلا ليؤدي رسالة هذا الكون الذي لا تسكت ألسنة الهواتف فيه، وكلما قصر الشاعر في أداء هاته الرسالة كان خائنا لرسالته، وغير مخلص لفنه، وهذا هو السر في وفرة إنتاج أبي شادي بالنسبة لغيره من الشعراء.
فهو إذن صاحب مذهب جديد في الشعر، وأنا أعتقد أن مذهبه هذا يرجع إلى طبعه أكثر من كل شيء آخر، فهو ذو طبع عملي ممتلئ بالعزم، والحياة لا تكاد تولد الفكرة في أعمال نفسه حتى تحولها طبيعته العملية إلى كائن موجود؛ ولذلك فهو لا يستطيع أن يحس إحساسا لا يعبر عنه، ولذلك فهو يعجب كيف يؤثر الشاعر وأد عواطفه على بعثها حية في شعره تتنفس بروح الحياة! وكيف يقتل الكسل والاستسلام روح الخلق في الفنان الذي لم يوجد إلا ليخلق! وهو يعبر عن مذهبه هذا في كثير من نثره وشعره، ولكنه يعبر عنه بحرارة وإيمان في قصيده الجميل الرائع: «التجدد» من هذا الديوان.
وأما أسلوبه فهو يمتاز بجمال الطبع والسهولة، والبساطة الحرة الواضحة التي لا تحب التكلف ولا تسعى إليه، وهو يرسله إرسالا، كما قال «مثل الأتي ومثل الجدول الجاري» لا يتأنق فيه ولا يتعمل، ولا يحرص على ما يحرص عليه بعض الشعراء من ظهور آثارهم بمظهر المترف الأنيق، ولكنه يحرص كل الحرص على أن يكون صادقا دقيقا في التعبير عن ذات نفسه ولو أدى به ذلك إلى الغموض أحيانا.
অজানা পৃষ্ঠা