مقدمة المترجم
1 - البيئة والعرق والتاريخ
2 - نظم العبريين وطبائعهم وعاداتهم
3 - دين بني إسرائيل
4 - الآداب العبرية
مقدمة المترجم
1 - البيئة والعرق والتاريخ
2 - نظم العبريين وطبائعهم وعاداتهم
3 - دين بني إسرائيل
4 - الآداب العبرية
اليهود في تاريخ الحضارات الأولى
اليهود في تاريخ الحضارات الأولى
تأليف
غوستاف لوبون
ترجمة
عادل زعيتر
مقدمة المترجم
كان الفيلسوف العلامة غوستاف لوبون قد وضع كتابه الجليل «حضارة العرب» في سنة 1884، ووضع كتابه الجليل الآخر «حضارات الهند» في سنة 1887، ونقلنا هذين السفرين فأصبحت ترجمتهما لدى القراء.
ومما حدث في سنة 1889 أن أخرج العلامة لوبون كتابا ضخما ثالثا سماه «الحضارات الأولى»، ولم يكن هذا السفر في درجة سابقيه أهمية، وكنا ننقله إلى العربية، مع ذلك، لو لم يكن معظمه خاصا بقدماء المصريين والكلدانيين والآشوريين؛ فقد قلبت أعمال الحفر في مصر والعراق معارفنا في حضارات تلك الأمم رأسا على عقب، فأصبح ما في كتاب «الحضارات الأولى» من المعارف عنها محتاجا إلى إعادة نظر وتجديد تأليف؛ كي يتساوى هو وما انتهى إلينا من حضارات تلك الأمم بعد وضعه.
بيد أن كتاب «الحضارات الأولى» ذلك يشتمل على جزء صغير بالغ الخطورة خاص باليهود، ففي هذا الجزء تحرر العلامة لوبون من نير التقاليد الموروثة في الغرب، كما تحرر في غيره من كتبه، فانتهى إلى نتائج مهمة إلى الغاية.
انتهى إلى أنه «لم يكن لليهود فنون ولا علوم ولا صناعة ولا أي شيء تقوم به حضارة، واليهود لم يأتوا قط بأية مساعدة مهما صغرت في شيد المعارف البشرية، واليهود لم يجاوزوا قط مرحلة الأمم شبه المتوحشة التي ليس لها تاريخ.»
انتهى إلى أن «قدماء اليهود لم يجاوزوا أطوار الحضارة السفلى التي لا تكاد تميز من طور الوحشية، وعندما خرج هؤلاء البدويون الذين لا أثر للثقافة فيهم من باديتهم ليستقروا بفلسطين، وجدوا أنفسهم أمام أمم قوية متمدنة منذ زمن طويل، فكان أمرهم كأمر جميع العروق الدنيا التي تكون في أحوال مماثلة، فلم يقتبسوا من تلك الأمم العليا سوى أخس ما في حضارتها، أي لم يقتبسوا غير عيوبها وعاداتها الضارية ودعارتها وخرافاتها.»
انتهى إلى أن «تاريخ اليهود الكئيب لم يكن غير قصة لضروب المنكرات، فمن حديث الأسارى الذين كانوا يوشرون بالمنشار أحياء، أو الذين كانوا يشوون في الأفران، فإلى حديث الملكات اللائي كن يطرحن لتأكلهن الكلاب، فإلى حديث سكان المدن الذين كانوا يذبحون من غير تفريق بين الرجال والنساء والشيب والولدان.»
وانتهى إلى أن «تأثير اليهود في تاريخ الحضارة صفر، وأن اليهود لم يستحقوا بأي وجه أن يعدوا من الأمم المتمدنة.»
انتهى إلى أن «اليهود قد ظلوا حتى في عهد ملوكهم بدويين أفاقين مفاجئين مغيرين سفاكين مولعين بقطاعهم مندفعين في الخصام الوحشي، فإذا ما بلغ الجهد منهم ركنوا إلى خيال رخيص، تائهة أبصارهم في الفضاء، كسالى خالين من الفكر كأنعامهم التي يحرسونها.»
انتهى إلى أن «فلسطين أو أرض الميعاد، لم تكن غير بيئة مختلقة لليهود، فالبادية كانت وطنهم الحقيقي.»
انتهى إلى أنك «لا تجد شعبا عطل من الذوق الفني كما عطل اليهود، فهيكلهم المشهور «هيكل سليمان» أقيم على الطراز الآشوري من قبل بنائين من الأجانب، ولم تكن قصور هذا الملك غير نسخ دنيئة عن القصور المصرية أو الآشورية.»
انتهى إلى أنه «لا أثر للرحمة في وحشية اليهود، فكان الذبح المنظم يعقب كل فتح مهما قل، وكان الأهالي الأصليون يوقفون فيحكم عليهم بالقتل دفعة واحدة فيبادون باسم «يهوه» من غير نظر إلى الجنس ولا إلى السن، وكان التحريق والسلب يلازمان سفك الدماء.»
ويلخص العلامة لوبون مزاج اليهود النفسي، فيقول: «إنه ظل قريبا جدا من حال أشد الوحوش ابتدائية على الدوام؛ فقد كان اليهود عندا مندفعين غفلا سذجا جفاة كالوحوش والأطفال، وكانوا عاطلين مع ذلك من الفتون الذي يتجلى فيه سحر صبا الناس والشعوب، واليهود الهمج إذا وجدوا من فورهم مغمورين في سواء الحضارة الآسيوية المسنة الناعمة المفسدة، أضحوا ذوي معايب مع بقائهم جاهلين، واليهود أضاعوا خلال البادية من غير أن ينالوا شيئا من النمو الذهني الذي هو تراث القرون.»
ويعرب حزقيال عن ذلك الرأي في سفره حين يذكر ظهور الشعب اليهودي الحقير وأوائله الهزيلة، وما عقب استقراره بفلسطين من الحميا، فيقول مخاطبا تلك الأمة العاقة قائلا باسم يهوه:
وفي جميع أرجاسك وفواحشك لم تذكري أيام صباك، وإذ كنت لم تشبعي، زنيت مع بني آشور ولم تشبعي، فلذلك أقضي عليك بما يقضى على الفاسقات وسافكات الدماء، وأجعلك قتيل حنق وغيرة.
واليهود مع عطلهم من الفن والصناعة عطلا تاما، يجد لهم لوبون آدابا غنية، ولوبون يقول مع ذلك: «وليست تلك الظاهرة خاصة ببني إسرائيل فقط؛ فهي تشاهد لدى جميع الأمم السامية، ولا سيما العرب الذين كانوا قبل الإسلام ذوي شعر بعيد الصيت حقا، على أن الشعر، مع الموسيقى، فن جميع الأمم الفطرية، والشعر مع بعده من التقدم موازيا لتقدم الحضارة، تجده يضيق أهمية وتأثيرا كلما ارتقت الأمم؛ فقد اقتضت الحضارة قرونا طويلة لاختراع الآلة البخارية واكتشاف سنن الجاذبية، مع إمكان ظهور قصائد كالأوذيسة والإلياذة، وأغاني أوسيان في أدوار الجاهلية.»
وعند لوبون أن الشريعة اليهودية بأسرها ليست إلا وجها بسيطا للنظام الكلداني، وأن معتقدات اليهود هي من أساطير البابليين المعقدة التي لم ينتحلها عالم الغرب المتمدن إلا بعد أن تحولت بمرورها من خلال روح الساميين البسيطة، وقد تطورت هذه المعتقدات في الغرب تطورا ابتعدت به عن أصولها، فأخذت شكلا لا يكاد يمت إلى السامية بصلة، وفي ذلك يقول لوبون: «فما كان لمبادئ كهذه أن يتمثلها ذلك الشعب اليهودي الصغير المتعصب الأناني الصلف المغرور المفترس.» وبسبب ذلك يقول لوبون: «ولما يحل الوقت الذي ترسم فيه يد الإنصاف تكوين تلك المعتقدات الكبرى، ولا يكاد فجر ذلك الزمن يلوح، ولا يزال المؤمنون والملحدون يقيمون بدوائر من التصديق أو الجحود على غير برهان، ولا يزال الرجل المعاصر يئن تحت عبء الوراثة الثقيل، ولا تزال متماسكة المؤثرات الإرثية التي حصرت نفوس الغرب في قوالب منذ نحو ألفي سنة، وإن أخذت هذه المؤثرات تنحل؛ فقد ترك الماضي في نفوسنا آثارا يجب أن تمر عليها أمواج الزمان غير مرة حتى تمحوها.» «نعم إن الشعب اليهودي لم يكن غير ذي نصيب ضئيل جدا في شيد ذلك البناء القديم، غير أن القرون بلغت من تجسيم شأنه الظاهر ما لا تبصر معه سوى أناس قليلين، حتى بين أشد الناس ارتيابا، تحرروا من سلطان الماضي فاستطاعوا أن يضعوا بني إسرائيل في مكانهم الصحيح.» «ومع إمكان جهل الرجل المثقف العصري لتاريخ الحضارات العظيمة التي أينعت فوق أرض الهند جهلا تاما، تجده لا يجرؤ على الاعتراف بأنه يجهل أعمال شمشون أو مغامرات يونان الذي التقمه الحوت.»
ويبحث لوبون في وقائع اليهود فيجدها هزيلة لحمتها المشاغبات، وسداها ضروب التوحش والمنكرات، وفي ذلك يقول: «وحوادث تافهة كتلك لا يعنى بها التاريخ، وإذا ما عني بها التاريخ فلأسباب مستقلة عن أهميتها؛ ومن ذلك أن حصار عصابة من البرابرة لمدينة تروادة الصغيرة واستيلاءهم عليها قبل الميلاد باثني عشر قرنا، مما غدا حادثا ذا بال في تاريخ العالم؛ لأن أوميروس تغنى به، لا من أجل نتائجه.
وما أتى به مؤرخو اليهود من تدوين لتلك الحوادث عقب وقوعها مع تجسيم عظيم هو دون ما صنعته الكنيسة النصرانية بعد ذلك.
ومن يقرأ سفر صموئيل وسفر القضاة بشيء من روح النقد، يبصر دور العنت الذي جاوزه بنو إسرائيل في استقرارهم بفلسطين، غير أن هذه الأقاصيص نفسها إذا ما نظر إليها من خلال أبخرة الحماسة الدينية ألقت في النفوس وهما قائلا: إن ذلك الفتح ساطع معجز.
وظلت أوروبا النصرانية زمنا طويلا تقرأ كتب مؤرخي اليهود بالروح التي أرادها هؤلاء المؤرخون، وما وده أولئك المؤرخون من تمويه على معاصريهم ارتضاه أمثال أوغوستن وبسكال وبوسويه وشاتو بريان، أكثر من ارتضاء ذلك الشعب الجاهل المتعصب الذي حاولوا إقناعه.»
ويستولي الرومان على فلسطين، «وتحير لهجة الشعب اليهودي الفارغة دولة روما العظمى نفسها، وتقتصر على احتقاره مع أنها كانت تعلم قدرتها على سحق وكر المتعصبين المشاغبين ذلك عند الضرورة، ولم تعتم فوضى ذلك الشعب الصغير المزعج وفساده وضوضاؤه أن استنفدت صبر تلك الدولة العظمى، فعزمت على إبادته لكيلا تسمع حديثا عنه، ففي سنة 70 من الميلاد استولى تيطس على أورشليم وجعلها طعمة للنيران، وبدئ بتشتيت شمل اليهود.»
وفي هذا الكتاب يذهب لوبون إلى أن بني إسرائيل كانوا من الساميين، أي من العرق الذي كان ينتسب إليه الآشوريون والعرب، ولكن بني إسرائيل قد اكتسبوا بانفصالهم من ذلك العرق تلك المساوئ التي وجدها لوبون فيهم، فظل العرب بريئين من مثلها، ومع ذلك يرى لوبون في كتابه «حضارة العرب» أن تلك القرابة تقوم على تجانس اللغات وبعض الصفات الجثمانية، وأن من الممكن أن يجادل في ذلك؛ فقد قال في ذلك السفر الجليل: «ومهما تكن وحدة تلك الصفات التي نجادل في قيمتها، ومهما تكن أهمية تلك القرابة السامية التي لا نجزم بها، نراها ترجع - على فرض وجودها - إلى ما قبل التاريخ، وقد كانت تلك الأمم السامية على اختلاف وتباين منذ أقدم عصور التاريخ كما دلت عليه الروايات.» فيكون ذهاب لوبون إلى أن بني إسرائيل والعرب من أرومة واحدة في كتاب «الحضارات الأولى» من قبيل التجوز إذن.
وفي كتاب «حضارة العرب» يقول لوبون: «ولا جرم أن الشبه قليل بين العربي أيام حضارته، واليهودي الذي عرف منذ قرون بالنفاق والجبن والبخل والطمع، وأن من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي، وأن العربي - مع إقراره لليهودي بالقرابة - أول من يحمر وجهه خجلا منها.»
وكيف لا يكون من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي «وتاريخ اليهود الكئيب لم يكن غير قصة لضروب المنكرات، وأنه لا أثر للرحمة في وحشية اليهود»، مع أن «الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم» كما قال لوبون.
وكيف لا يكون من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي ومبدأ اليهود كما في سفر يشوع: «أهلكوا جميع ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف، وأحرقوا المدينة وجميع ما فيها بالنار.» ومبدأ العرب كما جاء في وصية أبي بكر الصديق: «لا تخونوا ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.»
وكيف لا يكون من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي «وقدماء اليهود لم يجاوزوا أطوار الحضارة السفلي التي لا تكاد تميز من طور الوحشية، وتأثير اليهود في الحضارة صفر، وإن اليهود لم يستحقوا بأي وجه أن يعدوا من الأمم المتمدنة.» مع أن «العرب مدنوا أوروبا ثقافة وأخلاقا» كما قال لوبون، ولوبون قد تمنى أن يكون العرب قد استولوا على العالم، ومنه أوروبا؛ لما كان فيهم من نبيل الطبائع وكريم السجايا، ولوبون هو القائل: «إنه كان يصيب أوروبا النصرانية باستيلاء العرب عليها، مثل ما أصاب إسبانيا من التقدم والارتقاء والحضارة الزاهرة الرفيعة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوروبا، التي تكون قد هذبت، ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية وملحمة سان بارتلمي ومظالم محاكم التفتيش، وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع التي ضرجت أوروبا بالدماء عدة قرون.»
وكيف لا يكون من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي «وأنت لا تجد شعبا عطل من الذوق الفني كما عطل اليهود»، مع أن «الأمة العربية قد رغبت في تحقيق خيالاتها فأبدعت تلك القصور الساحرة التي يخيل إلى الناظر أنها مؤلفة من تخاريم رخامية مرصعة بالذهب والحجارة الكريمة، ولم يكن لأمة مثل تلك العجائب ولن يكون، فلا يطمعن أحد في قيام مثلها في الدور الحاضر المادي الفاتر الذي دخل البشر فيه» كما يقول لوبون.
تلك هي حال الشعب اليهودي الذي كان له بعض السلطان في فلسطين حينا من الزمن، فأجلاه الرومان عنها فتفرق في الأرض، فلم يقتبس من الأمم التي عاش شتيتا بينها غير أخس عيوبها، شأن أجداده، كما يثبت ذلك سلوكه الوحشي الأخير في فلسطين، ولا نبحث هنا العوامل التي حفزت إنكلترا إلى شد أزره وتوطيد دعائمه في بلد عربي لم يكن ملكا لليهود، ولا في المظالم التي اقترفها الإنكليز وغيرهم من الأوروبيين والأمريكيين مدة ثلاثين سنة، ولا يزالون يقترفونها؛ إمعانا في اضطهاد العرب وتثبيتا لأقدام اليهود في سورية الجنوبية «فلسطين»، ممثلين في أهلها العرب مأساة أندلسية أخرى؛ لأن ذلك يخرجني من نطاق الكتاب، ولعل القراء يجدون في هذا الكتاب ما يدحض به زعم اليهود الزائف القائل إن فلسطين حق تاريخي لهم، والمشتمل على أعظم دجل بشري وأفظع تضليل سياسي.
وهنا نذكر أن في الكتاب أمورا لا تلائم بعض المعتقدات ولا نوافق لوبون عليها، ولكن هذه الأمور ليست من صميم الموضوع، وهي على العموم من قبيل الاستطراد البعيد من هدف الكتاب الأصلي القائم بوجه خاص على بيان عطل اليهود من نصيب في تاريخ الحضارة، وعلى ما في اليهود من المساوئ العرقية التي قلما يوصم بمثلها قوم، وعلى أن اليهود شعب غير صالح طرأ على فلسطين التي لم تكن له بلدا أساسيا قط.
عادل زعيتر
نابلس
الفصل الأول
البيئة والعرق والتاريخ
(1) نصيب اليهود في تاريخ الحضارة
لم يكن لليهود فنون ولا علوم ولا صناعة ولا أي شيء تقوم به حضارة، واليهود لم يأتوا قط بأية مساعدة مهما صغرت في شيد المعارف البشرية، واليهود لم يجاوزوا قط مرحلة الأمم المتوحشة التي ليس لها تاريخ، وإذا ما صارت لليهود مدن في نهاية الأمر، فلما أدت إليه أحوال العيش بين جيران بلغوا درجة رفيعة من التطور، بيد أن اليهود كانوا غاية في العجز عن أن يقيموا بأنفسهم مدنهم ومعابدهم وقصورهم، فاضطروا في إبان سلطانهم، أي في عهد سليمان، إلى الاستعانة بالخارج، فجلبوا منه لذلك الغرض بنائين وعمالا ومتفننين لم يكن بين بني إسرائيل قرن لهم.
وعلى ما كان من هزال تلك القبيلة السامية الصغيرة الكئيبة في نشوئها العقلي، مثلت بالديانات التي صدرت عن معتقداتها دورا بلغ من الأهمية في تاريخ العالم ما يتعذر معه عدم الاكتراث لها في تاريخ للحضارات، ويتألف جزء أساسي في التربية من دراسة فتنها الأهلية وترهات أنبيائها وسلاسل أنساب ملوكها الغامضة، ومع إمكان جهل الرجل المثقف العصري لتاريخ الحضارات العظيمة التي أينعت فوق أرض الهند جهلا تاما، تجده لا يجرؤ على الاعتراف بأنه يجهل أعمال شمشون أو مغامرات يونان (يونس) الذي التقمه الحوت.
وسيبدو، لا ريب، ذلك الشأن الكبير الذي مثله الفكر اليهودي في تاريخ أوروبا المتمدنة منذ نحو عشرين قرنا من المسائل الجالبة للنظر لدى كتاب المستقبل، فإذا ما انقضت بضعة آلاف من السنين ولحقت حضارتنا بالحضارات السابقة في لجة الماضي، وغدت فنوننا وآدابنا ومعتقداتنا من الذكريات، وصار يبحث في أمورنا كما نبحث اليوم في أمور المصريين والآشوريين، أي بما لا تدرك بغيره حوادث التاريخ من الهدوء الفلسفي وتفسر، عد المؤرخ، لا شك، من الحوادث التي تستوقف النظر: خضوع أمدن الأمم في قرون طويلة لديانة مشتقة من معتقدات قبيلة بدو مبهمة، وتذابح شعوب قوية في جميع ميادين الغرب والشرق من أجل هذه المعتقدات، وقيام دول عظيمة وهدم دول عظيمة أخرى في سبيل المعتقدات المذكورة، وهذا إلى قلة عدد حوادث التاريخ الغربية التي تعرض على تأملات مفكري المستقبل كذلك الحادث.
ومن السهل أن نبصر أن مفكري المستقبل أولئك سيكونون على شيء من الارتياب، فبما أنهم يكونون طليقين من الأحكام المقررة المهيمنة علينا، وبما أنهم يكونون أكثر اطلاعا منا على الروابط التي تربط الماضي بالحاضر، وعلى السنن العامة لتطور الأمور، فإنهم يحكمون في ما يساورنا بعيون تختلف عن عيوننا لا ريب، فتبدو لهم المسائل التي نراها معقدة في الوقت الحاضر، بسيطة إلى الغاية؛ لما يعلمون من ردها إلى العناصر التي تتألف منها، ومما لا مراء فيه أن الديانات لا تعد إذ ذاك من صنع رجل واحد، بل تعد وليدة ألوف الرجال، بل تعد نسيج أفكار أحد الشعوب واحتياجاته، ومما لا مراء فيه أنه مؤسسي الديانات لا يعدون إذ ذاك غير أناس من ذوي النفوس العالية، تقمص فيهم المثل الأعلى لإحدى الأمم وأحد الأدوار تقمصا غير شعوري، فيرى في النصرانية والإسلام ما يرتبطان به، من خلال الدين اليهودي في الأجيال البعيدة؛ حيث نشأت الآلهة الآسيوية، ولا يجهل آنئذ أن الأديان تطورت في غضون القرون على الدوام مع احتفاظها باسم واحد، وأن من الوهم الخالص أن يعزى في كل وقت إلى موجديها في الظاهر ما اضطرت إليه من التحولات لتلائم جديد الاحتياجات، وأن الدين إذ كان، كالنظم والفنون، عنوان مشاعر إحدى الأمم، فإنه لا ينتقل من شعب إلى آخر من غير أن يتغير، وأن الهندوس والصينيين والترك مثلا، إذا أمكنهم أن يعتنقوا دينا ذا اسم واحد كالإسلام، فإن هذا الدين بانتقاله من شعب إلى آخر يعاني من التحول العميق، مثل ما تعانيه الفنون واللغة والنظم؛ وذلك ليناسب مشاعر الأمم التي انتحلته، وفي ذلك الحين ينظر بتلك العين، لا ريب، إلى الزنديق المعاصر الذي يقتصر علمه على عمله السهل في بيان النواحي الصبيانية من كل دين، وإلى المؤمن المعاصر ذي البصيرة النيرة في الموضوعات العلمية الذي ينحني أمام الخرافات الصبيانية. أجل، إن الإنكار سهل كالتصديق، ولكن الذي يطالب به كاتب المستقبل هو أن يفهم ويفسر على الخصوص، وستغيب إلى الأبد الأزمنة التي يرى المؤرخ فيها اضطراره إلى المحاكمة وإلى الحنق، فهنالك لا يكون التاريخ من صنع الأديب، بل من صنع العالم.
وسيختلف تاريخ اليهود والأديان التي صدرت عنهم عن التاريخ الذي لا يزال مدونا في الكتب اختلافا كبيرا لا ريب، وبيان الأمر أن مؤسس النصرانية، كما صنعته القصة، كان أقل الساميين سامية، فلم يكن من غير سبب أن كفر به وأن صلب، وأن هذا المتهوس الكبير مثل في التاريخ دورا كان يتعذر عليه أن يبصره، فأوجبت أحوال مستقلة عنه حاملة لاسمه ظهور آمال للعالم عندما لاح نجمه، وليس في الإحسان العظيم العام والتشاؤم القاتم اللذين قام عليهما مذهبه في البداءة، كما قام عليهما مذهب بدهة «بوذا» قبله بخمسمائة سنة، شيء من السامية، فما كان لمبادئ كهذه أن يتمثلها ذلك الشعب اليهودي الصغير المتعصب الأناني الصلف المغرور المفترس، وإنما نبتت هذه المبادئ على مبدأ التوحيد المحلي الذي مالت إليه، على الدوام، روح الساميين - من أنصاف البرابرة كاليهود والعرب
1 - الفطرية الخاثرة.
ولما يحل الوقت الذي ترسم فيه يد الإنصاف تكوين تلك المعتقدات الكبرى، ولا يكاد فجر ذلك الزمن يلوح، ولا يزال المؤمنون والملحدون يقيمون بدوائر من التصديق أو الجحود على غير برهان، ولا يزال الرجل المعاصر يئن تحت عبء الوراثة الثقيل، ولا تزال متماسكة المؤثرات الإرثية التي حصرت نفوس الغرب في قوالب منذ ألفي سنة، وإن أخذت هذه المؤثرات تنحل؛ فقد ترك الماضي في نفوسنا آثارا يجب أن تمر عليها أمواج الزمان غير مرة حتى تمحوها.
وعلى ما تراه من نشوء المذهب العقلي الحديث الذي لا يكاد يتفتح فوق أرض أوروبا، لم تزل أوروبا نصرانية إلى درجة لا يدركها الباحثون الواقفون عند حد الظواهر، وما يصدر عن حرية الفكر من مفاجآت يثبت وحده، بما يوجبه من مقاومة، عمق الأسس النصرانية التي لم تنفك مجتمعاتنا تقوم عليها.
نعم، إن الشعب اليهودي لم يكن غير ذي نصيب ضئيل جدا في شيد ذلك البناء القديم، غير أن القرون بلغت من تجسيم شأنه الظاهر ما لا تبصر معه سوى أناس قليلين، حتى بين أشد الناس ارتيابا، تحرروا من سلطان الماضي فاستطاعوا أن يضعوا بني إسرائيل في مكانهم الصحيح.
وقد يشك في شدة وطأة الماضي علينا ما يرى أقل مفكرينا سذاجة، كمسيو رينان، يكتبون مثل الأسطر الآتية في أمر اليهود، قال رينان: «لا يجد صاحب الروح الفلسفية، أي الذي يبالي بالأصول، غير ثلاثة تواريخ ذات نفع من الطراز الأول في ماضي البشرية، وهي: تاريخ اليونان، وتاريخ بني إسرائيل، وتاريخ الرومان، فمن هذه التواريخ الثلاثة يتألف ما يمكن تسميته بتاريخ الحضارة، ما دامت الحضارة نتيجة تعاون متعاقب بين بلاد اليونان واليهودية وروما.»
ولما تحن الساعة التي تعد فيها تلك الأسطر دليلا على التأثير القاطع لماضي الإنسان وتربيته في حالته الروحية. أجل، يتخلص المؤلف المشار إليه من ذلك التأثير في بعض الأحيان لا ريب، ولكن لا لطويل زمن، وهو يتخلص من ذلك عندما يبين أن النظام اليهودي بأسره ليس إلا وجها بسيطا للنظام الكلداني، وأن أساطير البابليين المعقدة لم ينتحلها عالم الغرب المتمدن إلا بعد أن تحولت بمرورها من خلال روح الساميين البسيطة، وهو لا يتخلص من ذلك عندما يعزو إلى اليهود شأنا عظيما ويطوي كشحا عن أمم المصريين والكلدانيين كانت ذات أثر عظيم في تاريخ تقدم الحضارة، على حين ترى أثر اليهود فيه تافها إلى الغاية.
لم يجاوز قدماء اليهود أطوار الحضارة السفلى التي لا تكاد تميز من طور الوحشية، وعندما خرج هؤلاء البدويون، الذين لا أثر للثقافة فيهم، من باديتهم ليستقروا بفلسطين، وجدوا أنفسهم أمام أمم قوية متمدنة منذ زمن طويل، فكان أمرهم كأمر جميع العروق الدنيا التي تكون في أحوال مماثلة، فلم يقتبسوا من تلك الأمم العليا سوى أخس ما في حضارتها، أي لم يقتبسوا غير عيوبها وعاداتها الضارية ودعارتها وخرافاتها، فقربوا لجميع آلهة آسيا، قربوا لعشتروت ولبعل ولمولك، من القرابين ما هو أكثر جدا مما قربوه لإله قبيلتهم يهوه العبوس الحقود الذي لم يثقوا به إلا قليلا لطويل زمن، على الرغم من كل إنذار جاء به أنبياؤهم، وكانوا يعبدون عجولا معدنية، وكانوا يضعون أبناءهم في ذرعان محمرة من نار مولك، وكانوا يحملون نساءهم على البغاء المقدس في المشارف.
وأثبت اليهود عجزهم التام عن الإتيان بأدنى تقدم في الحضارة التي اقتبسوا أحط عناصرها، واليهود بعد أن جمعوا ثروات وفق غرائزهم التجارية القوية، لم يجدوا بينهم بنائين ومتفننين قادرين على شيد مبان وقصور، فاضطروا إلى الاستعانة على ذلك بجيرانهم الفنيقيين على الخصوص كما تدل عليه التوراة، واليهود قد اقتصرت معارفهم على تربية السوائم وعلى فلح الأرض، وعلى التجارة بوجه خاص.
وما كان فلاح اليهود ليدوم غير هنيهة مع ذلك؛ فقد أسفرت غرائزهم في النهب والسلب، وقد أسفر تعصبهم، عن عدم احتمال جميع جيرانهم لهم، فلم يشق على هؤلاء الجيران أن يستعبدوهم، ثم إن اليهود عاشوا عيش الفوضى الهائلة على الدوام تقريبا، ولم يكن تاريخهم الكئيب غير قصة لضروب المنكرات، فمن حديث الأسارى الذين كانوا يوشرون بالمنشار أحياء، أو الذين كانوا يشوون في الأفران، فإلى حديث الملكات اللائي كن يطرحن لتأكلهن الكلاب، فإلى حديث سكان المدن الذين كانوا يذبحون من غير تفريق بين الرجال والنساء والشيب والولدان، فما كان الآشوريون ليبدوا ضراء أشد من ذلك.
والبؤس الأسود الذي صب من فوره على بني إسرائيل هو الذي حال، لا ريب، دون انحلالهم التام، وأدى إلى محافظتهم على وحدتهم العجيبة، وما أوحي به إليهم دوما من كره عميق لمختلف الأمم التي اتصلوا بها، صانهم من الزوال بانصهارهم فيها، وما حدث من سحق الدول المجاورة إياهم، ومن استعباد الدول الآسيوية العظمى لهم في كل حين، ومن استرسالهم في الفتن الداخلية الدائمة، ووقوعهم في داء الفوضى العضال عند استردادهم ظلا من الحرية، أوجب ظهور أحوال لا تعرف الروح البشرية معها سوى وساوس القنوط لما لا يكون لديها من عوامل الأمل، فهناك كان يظهر أولئك المتهوسون وأولئك المتعصبون الراجفون ذوو النفوذ العميق في نفوس الجموع على الدوام، فما كان لأمة من العرافين والملهمين والمجاذيب مثل ما كان لبني إسرائيل، وبنو إسرائيل لم يظهر فيهم من النوابغ غير الأنبياء والشعراء.
وكان الأنبياء والشعراء يغترفون إلهاماتهم من مصدر واحد، وهؤلاء وأولئك إذ كانوا يعيشون في جو واحد من المحرضات الدماغية الدائمة، بدت سمات هذا الجو في جميع آثارهم.
وإذا عدوت العهد القديم وجدت بني إسرائيل لم يؤلفوا كتابا، والعهد القديم هذا لم يشتمل على شيء يستحق الذكر، سوى ما جاء فيه من بعض الشعر الغنائي، وأما ما احتواه من أمور أخرى، فيتألف من رؤى أناس متهوسين، ومن أخبار باردة وأقاصيص داعرة ضارية.
وإذا عدوت القرآن، على ما يحتمل، لم تجد كتابا نال من الحظوة في العالم كذلك الكتاب، فالحق أن التوراة والقرآن هما الكتابان اللذان كان لهما في الدنيا من القراء ما لم يتفق لكتاب آخر، والحق أن التوراة والقرآن كانا أكثر الكتب تأثيرا في النفوس، وقد استلهمهما أعاظم الفاتحين، وبفعلهما انقض العرب على الشرق، وباسمهما قامت إمبراطوريات عظيمة وهدمت إمبراطوريات عظيمة أخرى.
وما للتوراة من نفوذ عجيب فيعد من أبرز الأمثلة على شأن الأوهام الكبير في تاريخ الأمم، والواقع أنه كان لهذا الكتاب حظ مدهش لتلاوته من قبل ملايين البشر الذين رأى كل واحد منهم أن ما أراده فيه، لا ما وجد فيه بالحقيقة، ولن يحدث مثل هذا الحادث الناشئ عن الخيال المشوه على ذلك القياس الواسع في تاريخ العالم لا ريب، وما الصفحات التي عرفت أجيال الآدميين المتعاقبة أن تجد فيها أسمى مبادئ الأخلاق، إلا أخبار ما يتألف منه تاريخ اليهود من العهارة والذبح، ومن حيل يعقوب وزناء بنات لوط وسفاح داود والبغاء في المشارف وضروب التقتيل بلا رحمة، وما إلى ذلك من أنباء ذلك الشعب المتوحش التافهة تعلم الشعوب النصرانية منذ ألفي سنة الطبيعة الحقيقية لإلهها القادر على كل شيء، ونحن إذا ما رجعنا إلى ما هو أبعد من ذلك رأينا أن النظام الكلداني الكوني القائل بالخلقة في سبعة أيام، وبآدم وحواء وبالجنة وبالطوفان وسفينة نوح، هو الذي يغذي أذهان أجيال الغرب منذ قرون كثيرة، وكان لا بد من جهد خارق للعادة يأتي به خيال الشعوب الآرية لتعرف هذه الشعوب إلهها الحليم العام، من خلال يهوه الجبار العبوس الذي هو معبود بني إسرائيل الكئيب، هذا الطاغوت الذي ما انفك يطالب بالقرابين والمحرقات واللحم المشوي والدم، وغدت الخرافات الصبيانية أو القبيحة التي وضعها كاتبو التوراة - ليعلموا قوما من الجهال أن إلههم يحكم بينهم رأسا، فيكافئهم ويجازيهم طورا بعد طور على وجه واضح، والتي لم يكن لها غير أثر يسير في كفران اليهود، فرفض أحدهم أيوب مبدأها الأساسي رفض الآمر الناهي - قاعدة للأديان التي ارتضاها الغرب مدة عشرين قرنا، فعدها أناس مثل سان أوغوستان وغليلو ونيوتن وبسكال حقيقة خالصة.
وإني حين ألاحظ مثل تلك الحوادث، أصل مستنتجا إلى أن الأوهام تمثل في تطور الأمم دورا عظيما لا مبالغة في أهميته.
ولا أعالج في هذا الكتاب تاريخ الأديان التي سيطرت على الغرب منذ نحو ألفي سنة، وتكوين هذه الأديان؛ لما يضيق به صدر كتاب كهذا الكتاب، ولا أبحث إذن في سلسلة الأحوال التي استطاع بها الشعب اليهودي، الذي هو أكثر الناس تمردا على مبادئ عرقه البسيطة الكبرى، أن ينشر هذه المبادئ في العالم، ولا أبين إذن أن النصرانية لم تكن حادثا مفاجئا خلافا لما يعلم، وأنها ترتبط بسلسلة من التطورات التدريجية في الزون الكلداني القديم، وفي أطوار الديانات الآرية الفطرية القديمة، وإنما أقتصر على بياني نصيب اليهود في تاريخ الحضارة.
والآن يمكننا أن نلخص هذا الفصل بأن نقول: إن تأثير اليهود في تاريخ الحضارة صفر، وإنه واسغ من الناحية الخلقية، وإذا كانت البشرية لا تزال سائرة وراء الأوهام على الخصوص، وجب علينا أن نعترف بأنه خرج من صدر اليهود وهم من أشد ما ساد العالم هولا؛ فقد خضع الغرب لسطانه نحو ألفي سنة، وسيظل خاضعا له عدة قرون لا ريب، ولا يزال ممثل المبادئ التي جاء بها نجار في قرية صغيرة من بلاد الجليل أقوى ملوك الأرض، ذلك الممثل الذي تعد مراسيمه خالية من شائبة الخطأ، والذي يذعن لسلطانه ثلاثمائة مليون من الناس.
واليهود لما كان من نفوذهم المذكور غير المباشر في العالم، نخصص لهم صفحات قليلة في تاريخ الحضارات الأولى، وإن لم يستحقوا أن يعدوا من الأمم المتمدنة بأي وجه. (2) البيئة والعرق
كان بنو إسرائيل من الساميين، أي من العرق الذي كان ينتسب إليه الآشوريون والعرب.
ومن المقرر اليوم أن بلاد العرب الوسطى والشمالية كانت مهد الساميين، ولكن بينما ظل معظم الساميين منتشرين في جنوب جزيرة العرب، هاجر فريق منهم إلى الشمال موغلا في بلاد بابل، حيث كان السلطان لحضارة السومريين والأكاديين، فأقاموا بها من الزمان ما أشبعوا فيه من تلك الحضارة، ثم كثر عددهم فهاجروا من جديد في أدوار مختلفة، فتقدموا نحو الشمال أكثر من قبل وتقدموا نحو الغرب.
والساميون الذين بقوا في بلاد العرب هم أجداد الشعب العربي، والساميون الذين مروا من موطن الحضارة في الفرات الأدنى وانتشروا في جميع آسيا السابقة، هم الآشوريون والإسرائيليون.
ولم تثبت إقامة أجداد بني إسرائيل بما بين النهرين من أحاديثهم التي جاء فيها نبأ خروج إبراهيم من مدينة أور في كلدة فقط، بل ثبتت أيضا بالآثار التي ظلت باقية في معتقداتهم وطبائعهم من ديانة السومريين والأكاديين وعاداتهم.
وفيما كان ساميو الجنوب، أي الأهالي العرب، يحافظون على عبقرية عرقهم النقي من كل تأثير أجنبي، فلا يزالون يبدون لنا مثال أولئك البدويين ذوي المبادئ البسيطة والعبادة القليلة التعقيد والطبائع الفطرية الثابتة التي نتمثلها وفق ما جاء في سفر التكوين من الأوصاف، كان ساميو الشمال يعقدون نظامهم الكوني فيثقلون عبادتهم بالشعائر والجزئيات، فينتحلون طائفة من الآلهة المجهولة في البادية، ويشيدون المدن ويضعون مختلف النظم ويحاولون تأسيس أمم منظمة قوية على غرار الأمم التي بهرتهم فنونها وعلومها فقلبت خيالهم.
والعرب في إبان سلطانهم الكثير الاتساع وفي عهد حضارتهم العظيمة، ظلوا في مبادئهم العامة وعبادتهم أبسط من الآشوريين والفنيقيين واليهود مع ذلك، والإسلام بعد كل شيء هو الدين الوحيد الوثيق التوحيد الذي جاء به الساميون، وهو الدين الوحيد الخالي من أي أثر لوثني، وهو الدين الذي يرفض الأنصاب رفضا تاما.
والله في سموه وجلاله وروحه هو خلاف يهوه الضاري الذي لم يكن بغيرته وغضبه وهزال انتقامه غير أخس صغير لمولك وكاموش.
ومحمد، حين قال بالنظام الكوني اليهودي، لم يقل في الحقيقة بغير نظام قدماء الكلدانيين الكوني، ووجدت مبادئ الساميين المبهمة جسدا في تلك المذاهب المادية المعينة التي لم يكونوا مخترعين لها، والتي لولاها لتعذر عليهم أن يكونوا ذوي هيمنة على روح الآريين الإيجابية التصويرية.
وهكذا يثبت ما يشاهد من الفرق بين ساميي الجنوب وساميي الشمال، أن ساميي الشمال ابتعدوا عن مثال عرقهم الأصلي لاتصالهم الطويل بأمم أرقى منهم كثيرا، وتثبت قصة التوراة، وتثبت بأحسن من ذلك آثار المعتقدات الكلدانية الواضحة، والنظام الكوني المقتبس من بابل، أن تلك الأمم التي أقام ساميو الشمال بينها هي الأمم السومرية والأكادية، أي الآدميون الذين استقروا منذ القديم بسهول الفرات الأدنى.
وبنو إسرائيل، بعد أن تركوا أولئك، أقاموا بوادي الأردن القليل الأهمية في الظاهر، وذلك في أحوال بالغ مؤرخوهم في روايتها.
ولم يجل بنو إسرائيل في البحر كما كان يجول جيرانهم الفنيقيون؛ وذلك لأنهم لم يكادوا يكونون سادة للساحل، وكان قد جاء من إقريطش، على ما يظن، شعب غير سامي يعرف بالفلسطينيين فملك الساحل واستوطنه بنشاط، واليهود لم يملكوا من الساحل لطويل زمن سوى القسم الممتد من يافا إلى رأس الكرمل، وهناك يقع سهل شارون العجيب الذي تمتد مروجه وحصائده إلى البحر، غير أن الشاطئ نفسه رملي قليل الإصلاح لإنشاء مرفأ فيه.
ولم تكن مجاورة البحر هي التي جعلت امتلاك فلسطين أمرا نافعا، ولا خصب فلسطين وحده هو الذي كان عظيما عندما كانت ذات غاب لم تقطع تماما كما في أيامنا، وإنما كانت فلسطين إحدى طرق العالم القديم الرئيسة كبابل، ولكن على درجة أقل من درجة بابل، فكان يتألف من أوديتها الضيقة الطريق البرية الوحيدة بين مركزي حضارة العالم الكبيرين، بين العراق ومصر، فيتصل أحد هذين المركزين بالآخر بتلك الطريق، فيتبادلان بها محصولاتهما أيام السلم، ويسوقان بها جيوشهما أيام الحرب.
وكانت «مجدو» مفتاح تلك الأودية في الجنوب، وكانت «قادش» مفتاحها في الشمال، وأعارت تانك المدينتان من اسميهما كثيرا من المعارك المشهورة الدامية.
ولم يكن ذلك الوضع المتوسط غير ذي تهلكة، فأمة إسرائيل الصغيرة إذ قامت بين نينوى المرهوبة ومصر القوية، وكانت تستند إلى إحداهما لمقاومة الأخرى، كانت تشترك في الصراع في الغالب فتسحق فيه نهائيا.
ولكن القوافل المثقلة بالنسائج والحلي والتبر والعاج المشذب كانت تجوب فلسطين بلا انقطاع في فواصل الحروب، فلا يدع الإسرائيلي، الماهر في التجارة في كل زمن والطامع في الربح، تلك الثروات تجاوز أرضه من غير أن يحتفظ بشيء منها لنفسه.
وحق المجاورة هو مصدر الرخاء الرئيس الذي كان ينمو في الغالب وبسرعة في اليهودية، وكان منبع الزرابي الجميلة والنسج الثمينة والثياب الزاهية والحلي اللامعة والمرصوفة الحجارة، التي كانت تستهوي أبناء يعقوب على الدوام، فيرفع الأنبياء عقيرتهم ضدها، هو ذلك الوضع المتوسط وأولئك السماسرة اليهود الذين غدوا مدينين لموقع البلد الذي سكنوه.
وروح اليهود التجارية التي هي آية قومهم الكبرى نشأت، أو اشتدت على الأقل، بالدور الذي كان عليهم أن يمثلوه في القرون الخالية بين آسيا ووادي النيل، وبمشاهدتهم القوافل الكثيرة تمر من طرقهم ناقلة من بقعة إلى أخرى نفائس الحضارتين اللتين كانتا أرقى حضارات العالم وألطفها.
ثم إن فلسطين، كإقليم وكإنتاج، كانت من البقاع المفضلة في آسيا الغابرة، فهي إذ كانت مستورة بفروع لبنان بدت جامعة لجميع الفصول ولمحاصيل البقاع الأخرى بفضل اختلاف مرتفعاتها.
وفيما كنت ترى تحت ذرى الثلج اللامعة منحدرات مغطاة بالغاب والمراعي، كنت تشاهد في السهول حقولا خصيبة منبتة للكتان والشعير والبر.
وخصب فلسطين في القرون القديمة كان مشهورا؛ فقد بهرت العبريين عندما خرجوا من جزيرة سيناء الجديبة، وكان روادهم يأتونهم بما يثير الحماسة من وصف لتلك البقعة «التي تجري فيها جداول من لبن وعسل»، فيرونهم نماذج من أثمارها اللذيذة، وقطوف عنبها العظيمة التي لا يستطيع الرجل الواحد أن يحمل واحدا منها.
وكان يتألف من شجر العنب والتين والزيتون أهم مصادر ثروة البلاد، فأكثرت التوراة من ذكرها.
وكانت جميع الأشجار المثمرة تنبت في المنحدرات الكثيرة المتموجة في كل ناحية من نواحي البلاد الممتدة بين بلد الجليل الباسم وشواطئ البحر الميت.
واليوم أسفر قطع الغاب وإهمال الإدارة الإسلامية «العثمانية» وهول الأعراب النهابين عن امتداد رمال الصحراء إلى الأراضي، ودخول رخاء الماضي في عداد الذكريات، مع أن يد الإنسان في القرون القديمة كانت تغني عن بخل الطبيعة في تلك الأماكن، فكان الري المصنوع يمن على الأرض بما تعطي به ما لا تعطيه لعدم الماء، فكانت جميع فلسطين تقريبا تشابه بطرائها وخصبها، الواحات الساحرة التي لا تزال تنشأ على ضفاف السيول المتوجهة متدحرجة نحو البحر الميت أو نحو البحر المتوسط.
وعرف بنو إسرائيل أن يستفيدوا من تلك البقعة السعيدة، وكان بنو إسرائيل زراعا ماهرين، وبنو إسرائيل لم يحذقوا شيئا غير هذا، وهم إذ كانوا عاطلين من أي فن ومن أي علم ومن أية صناعة، وهم إذ لم يزاولوا التجارة إلا كوسطاء، وجهوا عنايتهم إلى حقولهم وإلى مواشيهم.
وتجد كتبهم المقدسة حافلة بالنعوت الرعائية وبالمقايسات والأمثلة المقتبسة من حياة الفلاحين والرعاة، وكان لأولئك القوم شعور بالطبيعة إلى درجة بعيدة، وأراد مؤلف سفر الملوك أن يوجه نظرنا إلى كثير من أمثال سليمان ونشائده، فقال: «وتكلم في الشجر من الأرز الذي على لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط، وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك.»
ولم يمح السامي البدوي حتى بفعل القهر والعادة، وهو الذي لم يغادر صحاري جزيرة العرب إلا قاصدا سهول العراق المحرقة، وهو الذي أبصر في مصر أراضي مستوية تقطعها القنوات من أرض جاسان، وهو الذي بهرته أماكن فلسطين المختلفة وتلالها الضاحكة ومحاصيلها المتنوعة.
وإليك كيف ينبئ النبي إرميا بخلاصهم من إسارة بابل:
هكذا قال الرب: إني أبنيك بعد، فتبنين يا عذراء إسرائيل! تغرسين بعد كروما في جبال السامرة، فيغرس الغارسون ويبتكرون.
فيأتون ويرنمون في مرتفع صهيون، ويجرون إلى جود الرب إلى البر والسلاف والزيت وأولاد الغنم والبقر.
وظل بنو إسرائيل قوما من الزراع والرعاة حتى بعد صلتهم الطويلة بالحضارة الكلدانية الساطعة، حتى بعد إقامتهم بمصر، وما فتئت العادات القديمة التي اتفقت لهم في المراعي الابتدائية الواسعة والطبائع السامية البسيطة تستحوذ عليهم، ولم تؤد المؤثرات الأجنبية - التي أبصرناها في طبائعهم وديانتهم، فيختلفون بها عن إخوانهم عرب البادية - إلى غير تغيير سطحي فيهم من حيث النتيجة.
وبقي بنو إسرائيل، حتى في عهد ملوكهم، بدويين أفاقين مفاجئين مغيرين سفاكين مولعين بقطاعهم، مندفعين في الخصام الوحشي، فإذا ما بلغ الجهد منهم ركنوا إلى خيال رخيص، تائهة أبصارهم في الفضاء، كسالى خالين من الفكر كأنعامهم التي يحرسونها.
وإذ كان بنو إسرائيل متمردين على الفنون تمردا مطلقا، ولم يكن لهم غير ميل هزيل إلى حياة المدن، فإنهم لم يقيموا معابد وقصورا إلا عن غرور، والذي كان بنو إسرائيل يفضلونه بعد الذبح والتقتيل هو «السكون تحت شجر العنب والتين» على حسب تعبيرهم.
وعيد المظال هو أجمل أعيادهم، وفي هذا العيد الذي يدوم ثمانية أيام كانوا يغادرون بيوتهم ليعيشوا في ملاجئ مرتجلة مذكرة بحياة البادية.
وإذا ما أريدت معرفة الإسرائيلي كما هو، وجب ألا يحكم فيه بآثاره المكتوبة التي ليس معظمها سوى ذكريات من كلدة، بل يجب أن يزال عنه أثر الحضارة الخفيف الذي عانى كثيرا من اقتباسه من الدول القوية التي عاش فيها، وأن ينظر إلى مكانه من خلال سفر التكوين مثلا، حيث وصفت حياته المفضلة، حياة الرعاء، أو أن يبحث عنه في السكان الحاليين بالبقاع التي استولى عليها، وفي القبائل البدوية الصغيرة بشمال جزيرة العرب وبسورية، تلك القبائل التي لم تغير طبائعها وعاداتها منذ ستة آلاف سنة أو ثمانية آلاف سنة.
ولم تكن فلسطين، أو أرض الميعاد، غير بيئة مختلفة لبني إسرائيل، فالبادية كانت الوطن الحقيقي لبني إسرائيل، والبادية، لما عليه من نمطية وسكون منظر وحياة واحدة وصلاح لأبسط الاحتياجات، وقد وسعت روح الساميين وبسطتها، فألقت فيها الشعاع الخالد الهادئ لآفاق لا حد لها.
والبادية، بجعلها خيال الساميين عقيما عقم ترابها، لاشت فيهم بذور مختلف الخرافات التي استحوذت على النفس البشرية في أماكن أخرى، لمشابهتها النبات الخطر حتى بزخره، والساميون بما لديهم من مبادئ دينية عاطلة من أية صورة محسوسة، ابتدعوا بفضل البادية الرب البعيد الجليل الأزلي الذي لاح فيما بعد ذا صفاء خالص روحي، لتعذر تعريفه وتشخيصه، فبسط سلطانه على أمدن أمم العالم.
والإسرائيلي قد خسر، ذات مرة، ذلك الرب بازدحام خرافات مصر وآسيا فيه، بيد أن أنبياءه آذنوه، فغدا أولاد يعقوب قادرين على هداية الناس إلى إيمانهم بردهم إلى عنعناتهم السامية الخالصة. (3) تاريخ اليهود
لا يبدأ تاريخ اليهود بالحقيقة إلا في عهد ملوكهم.
كان بنو إسرائيل أقل من أمة حتى زمن شاول، كانوا أخلاطا من عصابات جامحة، كانوا مجموعة غير منسجمة من قبائل سامية صغيرة أفاقة بدوية، تقوم حياتها على الغزو والفتح والجدب وانتهاب القرى الصغيرة، حيث تقضي عيشا رغيدا دفعة واحدة في بضعة أيام، فإذا مضت هذه الأيام القليلة عادت إلى حياة التيه والبؤس.
وتكونت زمرة بني إسرائيل السامية كجميع العشائر، فكانت مؤلفة في بدء الأمر من أسرة واحدة ذات جد واحد، وهذا الجد كان يدعى لدى بنى إسرائيل بيعقوب أو إسرائيل، وإسرائيل هذا هو من ذرية إبراهيم - وإبراهيم هذا كان أول من هجر كلدة من عرقة طلبا للرزق.
وهنالك عدد غير قليل من الأقوام الصغيرة، كالأدوميين والعمونيين والإسماعيليين، يرجعون أصلهم إلى إبراهيم، ويزعم العبريون أنهم وحدهم ذرية إبراهيم الشرعيون مع اعترافهم بقرابة الآخرين لهم.
ولم يقع انقسام في الأسرة الرئيسة بعد يعقوب الملقب بإسرائيل، فسمي أعضاء هذه الأسرة ببني إسرائيل لذلك السبب.
ودفع القحط يعقوب وبنيه إلى دخول مصر في عهد الملوك الرعاة، فأقاموا بالدلتا وكثر عددهم واستعبدهم المصريون، فسئم أبناؤهم من بؤسهم، فاغتنموا فرصة فتن اشتعلت ففروا من بلاد العبودية بعد عهد سيزوستريس الكبير بزمن قليل.
ولحق ببني إسرائيل عدد من المصريين الساخطين، ومن الأسارى ومن العبيد المتمردين، ولما جاوز بنو إسرائيل بحر القلزم بدوا عشيرة، أي جماعة مصرة على الظهور بأنها نسل رجل واحد، وإن كانت فاتحة صفوفها بالحقيقة لجميع الفرار المستعدين لانتحال اسمها وتقاليدها ومعبوداتها الأهلية.
وفي البداءة وجد بنو إسرائيل حياة البداوة التي أضاعوا عادتها قاسية، فثاروا على الزعيم الذي اختاروه غير مرة.
وكان هذا الزعيم الذي تدعوه القصة بموسى - وهو الذي لا نعرف اسمه الحقيقي على ما يحتمل - من المهارة ما حملهم به على الإيمان بأنه ذو صلة بالسماء، فيأتيهم بالأوامر من إله خاص، من إله قبيلتهم، وذلك ردا لهم إلى النظام، واهتبل موسى فرصة هبوب أعاصير هائلة فوق سيناء وعلى جوانبه، فألقى في روع عصابة العبيد تلك هولا شافيا، ما دامت سماء مصر الصافية وآفاقها المبسوطة لا عهد لها بما تعرفه البلاد الجبلية من العوارض الطبيعية.
وجزيرة سيناء، إذ كانت بالحقيقة فقيرة جديبة إلى الغاية، لم تصلح لإعاشة أهل البدو أيضا، فتوجه بنو إسرائيل إلى الشمال وحاولوا دخول أراضي الشعوب الكنعانية الصغيرة، وهم لما دنوا من هذه الأراضي بهرهم خصبها، فاشتعلت نيران الحسد في قلوبهم.
وتلك هي حال غنى البلاد المجاورة للأردن في ذلك الحين، ولم تلبث الرعاة التائهة التي خرجت من جزيرة العرب طلبا للمراعي أن استقرت بها، تاركة طبائعها الرعائية لتكون زمرا زراعية.
وعانى العبريون مثل هذا التطور، فتحولوا من أناس بدويين إلى أناس حضريين عندما رسخت أقدامهم في تلك الأراضي التي كانت محط أحلامهم، في أرض الميعاد، تلك التي طمعوا فيها غلاظا مدة طويلة.
ولم يكن هنالك فتح بالمعنى الصحيح على الرغم من أقاصيص مؤرخيهم المملوءة انتفاخا، ومن تعداد الانتصارات وتقتيل الأهالي وانهيار أسوار أريحا بالنقر في النواقير، ووقف يوشع للشمس إمعانا في الذبح.
أجل، فتح بعض الضياع عنوة، ويفسر انقسام العشائر الكنعانية الكبير حقيقة النجاح الذي ناله بنو إسرائيل القليلو الذوق والضعيفو الأهلية للحرب والسيئو السلاح، غير أن استقرار العبريين بفلسطين تم بالتدريج على ما نرى، فالعبريون قضوا زمنا طويلا ليكون لهم سلطان ضئيل في فلسطين لا أن يكونوا سادتها.
والعبريون إذ كانوا منقسمين كالكنعانيين إلى عدة عشائر تسمى أهمها بأبناء يعقوب رمزا إلى الأسباط، فلم يتفقوا فيها بينهم حتى على إكمال الفتح.
ومضى جميع دور القضاة الذي عد دور بطولة العبريين التاريخي في القتال الجزئي بجماعات صغيرة؛ وذلك بأن تدافع كل جماعة بمشقة عما استولت عليه من قطعة أرض.
وذلك النوع من القتال بين الزراع الرعاة وبين الحضريين والبدويين مما هو معروف جيدا، وهو لا يزال يحدث اليوم في سورية والجزائر وفي كل مكان تتجلى فيه طبائع الساميين التي لم يقدر الزمن على تغييرها.
وما يقع أحيانا أن يكتفي البدوي بغزو البلاد الزراعية، فإذا ما أنزل ضربته وحمل خيله وجماله ما غنمه لاذ بالفرار وأوغل في الصحراء وتوارى فيها، ولكن الذي يقع في الغالب هو أن يميل إلى حياة الزراع المطمئنة المنتظمة، فينساب بينهم ويقيم عندهم قهرا، فإذا مضى دور الخصام رضي به جيرانه واختلط بهم.
ولم يكن غير ذلك غزو بني إسرائيل لفلسطين، وذلك مع الفارق القائل إن عدد بني إسرائيل واحتياجاتهم وبؤسهم في مصر وحرمانهم الهائل في التيه مما جمع بينهم وأقنطهم، فصاروا كقطيع من الذئاب الهزيلة التي دفعها الجوع إلى الاقتراب حتى من المدن.
ثم خروج بني إسرائيل قبل الميلاد بنحو خمسة عشر قرنا تقريبا، وهم لم يفكروا في تأليف أمة واحدة منهم ونصب ملك عليهم، إلا في أوائل القرن الحادي عشر قبل الميلاد.
والواقع أن فتح فلسطين في عهد شاول كان بعيدا من التمام، وفي فلسطين كان يعيش اليبوسيون والعصمونيون وطائفة من الأمم الصغيرة بجانب بني إسرائيل، وكان السلطان في فلسطين للفلسطينيين، والعرق الوحيد الذي هو آري على ما يحتمل، فاجتمعت الأسباط تحت لواء زعيم واحد للمرة الأولى منذ دخول بلاد كنعان؛ وذلك لكيلا لا تسحق.
والحق أنك لا تجد قاضيا استطاع أن يبسط سلطانه على جميع بني إسرائيل، فكل واحد من هؤلاء الحكام أو الشيوخ كان يتسلم قيادة زمرة واحدة، عندما تهدد هذه الزمرة تهديدا مباشرا، وهو إذا ما كتب له النصر لم يحتفظ حتى بتلك القيادة.
وقد استمر الأمر على هذه الصورة، أي من غير تبديل، مدة أربعة قرون.
وحوادث تافهة كتلك لا يعنى بها التاريخ، والتاريخ إذا عني بها كان ذلك لأسباب مستقلة عن أهميتها، ومن ذلك أن حصار عصابة من البرابرة لمدينة تروادة الصغيرة واستيلاءهم عليها قبل الميلاد باثني عشر قرنا، مما غدا حادثا ذا بال في تاريخ العالم؛ لأن أوميرس تغنى به، لا من أجل نتائجه.
ثم أنعم سراب الخيال النصراني بعظمة أكبر من تلك على منازعات هزيلة كانت تقع منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، بين عشائر صغيرة من البدويين النهابين في سبيل واد يكون خصيبا بأحد الجداول.
وما أتى به مؤرخو اليهود من تدوين لتلك الحوادث عقب وقوعها مع تجسيم عظيم، هو دون ما صنعته الكنيسة النصرانية بعد ذلك.
ومن يقرأ سفر صموئيل وسفر القضاة بشيء من روح النقد، يبصر دور العنت الذي جاوزه بنو إسرائيل في استقرارهم بفلسطين، غير أن هذه الأقاصيص نفسها إذا ما نظر إليها من خلال أبخرة الحماسة الدينية، ألقت في النفوس وهما قائلا إن ذلك الفتح ساطع معجز.
وبشاول بدأ بنو إسرائيل يؤلفون أمة، فاستحقوا أن تفتح لهم صفحة صغيرة عن التاريخ الحقيقي الذي كان لهم في العالم.
أنقذهم ملكهم الأول ذلك من هول الفلسطينيين الدائم، بأن أنزل على هؤلاء الأجانب ضربات هائلة.
وكان خليفته داود صورة تاريخية طريفة إلى الغاية، فأشبه - مختارا - ببابر المغولي، مع أنه لا يساوي بابر هذا الذي كان في مقتبل عمره رئيسا لقرية، فافتتح شمال الهندوستان مبديا إقداما لا يصدق، قاتلا معذبا الألوف من البشر، بابر ذلك الذي كان شاعرا أديبا مع همجيته!
وأمثلة كتلك لا تجدها إلا في الشرق تحت تلك الشمس المحرقة التي تقتطع من الطبيعة محاصيل عظيمة، وتنبت أضخم الأشجار وأجسم الحيوانات وأقوى الأبطال، وأما في غربنا فترى المتغلبين والطامعين ذوي نفوس أكثر عنفا وأشد اتزانا، فلا يقايضون سيفهم الدامي طائعين بالمزهر، ولا يخافتون بصوتهم الذي خلق للقيادة في سبيل وزن لين للأشعار.
ويعوزنا أن يشابه داود الملك التقي المتعطش إلى العدل، المختنق بشهيق التوبة، الأواب في مزامير الاستغفار التي حفظتها الرواية لنا.
ومما نعرفه أن داود كان مرتلا شاعرا، ولكنك إذا عدوت رثاءه لشاول ويوناتان اللذين ماتا وهما يقاتلان الفلسطينيين فوق جبال جلبوع، وجدتنا نجهل ما وضعه من النشائد، وفي المزامير قليل جدا من الذي صنعه منها كما نرى.
ومعرفتنا لداود المحارب أحسن من تلك، وآية مجده في منحه بني إسرائيل عاصمة، وفي حسن اختياره لهذه العاصمة، فلولا أورشليم «القدس» لكان شأن اليهود ضئيلا إلى الغاية. وأورشليم أضحت رأس بني إسرائيل وقلبهم، وأورشليم أوج، وأورشليم رمز، وأورشليم لا تزال تلقي أشعتها على العالم من خلال ماضيها مع إكليل نسجته حماسة ملايين البشر وإيمانهم وأوهامهم لا ريب، ولكن لا جدال في نور هذا الإكليل.
وأي اسم كرر مع التمجيد والولوع أكثر من اسم تلك المدينة الدينية؟ لا تزال مقاطع ذلك الاسم السحرية تجري على شفاهنا القليلة التصديق بحلاوة تأخذ بمجامع قلوبنا، فتنقلنا إلى خيال رائع بعيد المدى، ولن تنسى الإنسانية من فورها أن توجه أنظارها إلى تلك المدينة الإلهية، حتى إن الإنسان اليقظ إذا صار لا يبحث عن نجاته فوق الجبل الذي هو محل رمزه العظيم، فتنه هذا الجبل بسحر ذكرياته.
وداود، لكي ينعم على قومه بتلك العاصمة الواقعة في أصلح مكان وأسهل محل للدفاع عن فلسطين، اضطر إلى طرد اليبوسيين، سادة جبل صهيون، ولم يكن اليبوسيون وحدهم هم الأعداء الذين وجب على داود أن يقهرهم؛ فقد أظهر داود في عهده من النشاط الكبير ما أقام به الوحدة اليهودية، جاعلا المملكة العبرية الصغيرة على رأس جميع الأمم التي كانت تقتسم سورية.
قال مسيو رينان في صفحة ممتعة من كتابه «تاريخ بني إسرائيل»: «إن داود هو مؤسس القدس، وهو أبو الأسرة التي أسهمت في عمل بني إسرائيل إسهاما وثيقا، وهذا ما دل الأقاصيص القادمة عليه، وليس مما يمضي بلا عقاب أن تمس، ولو على وجه غير مباشر عظائم الأمور التي تنضح في سر البشرية.
وسنشاهد تلك التحولات بين قرن وقرن، فنرى أن لص عدلام وصقلغ يكتسب بالتدريج أوضاع القديس، فيكون واضع المزامير والممثل المقدس ومثال المنقذ المقبل، ويغدو «يسوع» ابنا لداود، وتبلغ التراجم الإنجيلية من البهتان في طائفة من الأمور ما تجعل معه حياة المسيح نسخة عن مقومات حياة داود! ألا إن الأتقياء حين يسيرون بالمشاعر المملوءة تسليما وحسرة في أجمل الكتب الدينية يعتقدون اتصالهم بذلك اللص، ألا إن البشرية تؤمن بالعدل النهائي في شهادة داود مما لم يصدر عن داود، في الرواية الإلهية الهزلية!»
واقتطف سليمان بن داود أثمار ما أبداه أبوه من نشاط ضار، وفي عهد سليمان بلغ مصير الشعب اليهودي ذروته، فلما مات سليمان دخل هذا الشعب دور الانقسامات والفوضى.
والملك سليمان، الذي عاش حاكما شرقيا حقيقيا بكثرة آلهته، وبدائرة حريمه المشتملة على مئات النساء، وبثيابه الزاهية وبقصوره وبحرسه الأجنبي، اتفق له في خيال الناس من التحول ما لا يقل عما اتفق لأبيه من غفران وتطهير.
والملك سليمان شاد الهيكل عن زهو لا عن زهد؛ وذلك تقليدا لأبهة ملوك مصر وآشور، واستنساخا لطرزهما البنائية.
وانهمك سليمان فيما لا عهد لأسباط بني إسرائيل الجليفة به من ضروب الملاذ الآسيوية، فلم يفكر في غير التمتع بعمل داود تمتع ذي أثرة، فأثقل كاهل الشعب بالضرائب؛ ليقوم بنفقات شهواته معدا بذلك مقبل الفتن.
ومع ذلك جعل من سليمان ذلك الرجل المرتاب النبيه المتكلم في سفر الجامعة، وأغمضت العيون عن عيوبه تفكيرا في شبابه؛ حيث تقول القصة: إن الرب خاطبه رأسا مبصرا إياه نقي اليدين خليقا بأن يبني هيكله.
وكان سليمان ماهرا في ربط شعبه بروابط المحالفات، فصار ملك مصر صديقا له مزوجا إياه بإحدى بناته، وارتبط فيه ملك صور حيرام بصلات الصداقة والتجارة، وفي القصة أن ملكة سبأ أتت من أقاصي جزيرة العرب حاملة له بعض الهدايا، مختبرة علمه وحكمته ببعض الأسئلة.
وامتدت مملكة إسرائيل، إذ ذاك، من دمشق إلى مصر، ومن البحر المتوسط إلى حد بعيد من البادية الشرقية.
وإذا كان سليمان لم يشهر حربا، افتتح أراضي كثيرة متغلبا على الرمال، وذلك بأن وسع رقعة الأراضي الصالحة للزراعة، وبأن شاد مدينة تدمر الرائعة في مكان يلوح لنا اليوم أنه غير نافع للسكن، غير أن مصير تلك المدينة كان مؤقتا كما يظهر، فمركز كبير للسكان كذلك المركز لا يمكن أن يدوم في سواء البادية بعيدا عن مجاري المياه المهمة إلا بمعجزات الصناعة والعمل، فلما مات سليمان نهكت الفتن الأهلية بني إسرائيل، فهجرت تلك المدينة الشرقية إلى أن استولى عليها الرومان وجددوا بناءها، واليوم ترى أعمدة تلك المدينة قائمة في اعتزال، فيقضي السائح منها العجب ممتلئة نفسه بغم غريب.
ولا يزال اسم سليمان وتدمر الكبيران يبهران الفكر؛ لما يبدو من سطوعهما في تاريخ بني إسرائيل الكئيب، والمرء إذا ما صدف عنهما لم يبصر غير هوة مظلمة دامية تزلق فيها هاوية بما يثير الحزن، تلك المملكة الصغيرة التي من عليها داود وابنه بعظمة مدة سنوات قليلة.
ولبضعة قرون تحافظ أورشليم، حيث يملك آل داود، على شيء من التفوق الأدبي، فتكون مركزا ثقافيا لفلسطين؛ وذلك بأن غدا الكهنة يؤلفون الأقاصيص، وبأن صار عظماء الأنبياء يسمعون أصواتهم مجدين مع أولئك، على غير جدوى، في إعادة وحدة بني إسرائيل بوحدة تقاليدهم ودينهم.
وأما مملكة الأسباط العشرة التي أقامها يربعام متخذا شكيم «نابلس»، ثم السامرة «سبسطية» عاصمة لها، فقد كانت مسرحا لأفظع الفجائع، وما كان يقع فيها من اغتصاب ومذابح واستعانة بالأجنبي فقد أثار ازدراء الأمم المجاورة دوما، فلم تنفك هذه الأمم تطالب بإبادة بؤرة الفوضى والتمرد تلك.
وتحل سنة 721 قبل الميلاد، فيهدم ملك نينوى «سرجون» مملكة السامرة، وتحافظ مملكة أورشليم، وهي أصغر من تلك بمراحل، على قليل من النظام والكرامة والنفوذ، فتدوم نحو قرن ونصف قرن بعد تلك، على أن مملكة أورشليم تلك مدينة في بقائها المؤقت هذا للثورات التي كانت تقلب كبريات دول آسيا، فكان من نتائج سقوط نينوى تأخير سقوط أورشليم.
بيد أن ملوك اليهودية أثاروا غضب نبوخذ نصر بمخالفتهم لفرعون مصر، فاستولى ملك بابل القوي على أورشليم في سنة 586ق.م، فجعل عاليها سافلها، وهدم هيكلها وجعل من اليهود أسارى، فغدت أورشليم أثرا بعد عين.
ومن العبث أن أصدر كورش مرسوما أذن فيه للعبريين في العودة إلى فلسطين، وإعادة بناء مدينتهم وهيكلهم، فهم لم يجددوا بناء أورشليم إلا مرتجفين مهددين من قبل ملوك فارس الذين كانت تساورهم الريب حول كل حجر يضاف إلى الأسوار، آمرين قساة بوقف العمل في غير مرة مستمعين في ذلك لتقارير كاذبة.
والواقع أن استقلال اليهود لم يكن غير اسمي بعد ذلك، وما فتئ الفرس والأغارقة والرومان يبسطون سلطانهم المرهوب بالتتابع على تلك المملكة الهزيلة، فتتميز هذه المملكة غيظا من هذا الاستعباد المتصل، فلا تجد ما تتعزى به عن عجزها سوى إلقاء فارغ الخطب.
وما كانت الأحلام العظيمة التي صدرت عن أنبيائها - وهم الذين لم يستطيعوا أن يمنوا عليها بالوطنية ولا بالنشاط ولا بالركون إلى مصيرها - لتؤدي إلى غير إسكارها في خزيها وبؤسها، وإلى غير زيادة انتفاخها كأمة سحقت ودقت.
والشعب اليهودي إذ كان على جانب كبير من الجبن العميق، عاد لا ينتظر نهوضه بغير معجزة، وذلك على الرغم من إبدائه شيئا من اندفاعات البطولة في دور القضاة وعهد داود وحين مقاتلته اليائسة لبابل، وأوجب تفسير أسفار كتبته الوطنيين والدينيين امتلاءه أوهاما عجيبة، وحيرت لهجته الفارغة دولة روما العظمى نفسها، فاقتصرت على احتقاره مع أنها كانت تعلم قدرتها على سحق وكر المتعصبين المشاغبين ذلك عند الضرورة، ولم تعتم فوضى ذلك الشعب الصغير المزعج وفساده وضوضاؤه أن استنفد صبر تلك الدولة العظمى، فعزمت على إبادته لكيلا تسمع حديثا عنه.
ففي سنة 70 من الميلاد استولى تيطس على أورشليم وجعلها طعمة للنيران، وبدئ بتشتيت شمل اليهود.
ولكن ذلك الشعب المتعصب فيما كان يخرج من صف الأمم، وفيما كانت تذهب ريحه، وفيما كان يهد في طريق العالم حتى يداس بازدراء تحت أقدام الشعوب في قرون كثيرة، وفيما كان يقضي تلك الدقيقة الحرجة من حياته فتلوح أنها آخر دقائقه؛ إذ ظهر منه ذلك المتهوس الشهير الذي سيسود اسمه الغرب نحو ألفي سنة؛ إذ ظهر منه عامل جليلي غامض الأمر؛ ليكون الإله المرهوب لدى أمدن شعوب الأرض.
الفصل الثاني
نظم العبريين وطبائعهم وعاداتهم
ظل اليهود حتى آخر مرحلة من تاريخهم في أدنى درجة من الحضارة قريبين من دور التوحش الخالص.
ولم يجاوز اليهود طبائع أمم الزراع والرعاة إلا قليلا جدا، وخضع اليهود لنظام رعائي ولم يكادوا يدخلون دائرة التطور الاجتماعي.
وتوزيع الأعمال من العلائم التي تتجلى بها حال الحضارة لدى أحد الشعوب، والعبريون لم يكادوا يفرقون بين الحرف في عهد الملوك، فنرى كل أسرة في دور تاريخهم الطويل تتدارك احتياجاتها الخاصة، فتخبز خبزها، وتفتل غزلها وتحوك نسجها فتصنع منها ثيابها، وتزرع حقولها، وتربي أنعمها فتذبحها وتعد جلودها.
والحداد هي أول صنعة بدت مستقلة، غير أن المعادن لم تكن كثيرة لدى بني إسرائيل، فكانت الأدوات الحجرية والخشبية أكثر الأدوات انتشارا، وما كانت الأسلحة نفسها مصنوعة دوما من الحديد ولا من النحاس، ومن الحق أن كانت الصوانة التي تؤخذ من السيل أمضى من الرمح في يد هؤلاء الرعاة الجنود، فبالمقلاع قتل داود جليات الجبار.
وتلك العادات هي عادات الأعراب الذين لا يزالون يعيشون في أطراف البادية، وتلك العادات لم يغيرها بنو إسرائيل حتى بعد أن أبصروا حضارات مصر وآشور الساطعة.
وبنو إسرائيل ظلوا قوما من الزراع والرعاة فقط، فانحصر علمهم في تربية المواشي وزراعة القمح والتين والزيتون والعنب على الدوام.
وما كان عمل أبطال بني إسرائيل قبل قيادتهم إلى النصر غير جر المحراث وجز الشياه، فكان جدعون يدرس البر ويذروها حينما بدا له الملك، فأمره بأن ينقذ قومهم من نير المدينيين، وكان شاول يبحث عن أتن أبيه حينما أخبره صموئيل بأنه سيكون ملكا، واجترأ داود على الحرب برده الضواري التي أتت لتهاجم ماشيته حينما كان راعيا.
وتوزيع الأعمال بحصره مهارة العامل في مادة واحدة يؤدي إلى تحسين الصناعة، ويسهل ازدهار المهنة، وما كان العبريون ليسيروا بهذا التوزيع إلى الحد الذي ينالون به مثل هذه النتائج.
ولم تكن في فلسطين أية صناعة مهما كان نوعها، وإذا حدث أن صنع اليهود شيئا فعلى ألا يستحق الإصدار، وفي عهد سليمان حينما لاح الترف كان هذا الترف يغذى بالمنتجات التي يؤتى بها من الخارج.
وكان يقوم إصدار العبريين على ثمرات الأرض من بر وخمر وزيت ودهن وما إلى ذلك، فترسل هذه المحاصيل، على الخصوص، إلى فنيقية التي لم يكن لديها غير أراض ضيقة لا تكفي لإعاشة مدنها الكبيرة، فتدخل فنيقية إلى بلاد اليهودية في مقابل ذلك ما تصنعه في مصانعها، أو تأتي به من العالم، الذي كانت ذات علاقة به، من الحلي والرياش والسلاح والنسج والخشب والعاج.
وكذلك كان بنو إسرائيل عاطلين، حتى في إبان أبهتهم، عطلا تاما من العمال المهرة في الحرف الغليظة كالنجارة مثلا.
قال سليمان لملك صور حيرام: «والآن فمر بأن يقطع لي أرز من لبنان، وعبيدي يكونون مع عبيدك، وأجرة عبيدك أؤديها إليك بحسب جميع ما ترسم؛ لأنك تعلم أن ليس فينا من يعرف بقطع الخشب مثل الصيدونيين، والآن أرسل إلي رجلا حاذقا بعمل الذهب والفضة والنحاس والحديد والأرجوان والقرمز والسمنجوني.»
وكان سليمان يعطي حيرام في كل عام عشرين ألف كر من الحنطة، وعشرين ألف كر من زيت الرض، فيدل هذا بما فيه الكفاية على أي شيء كانت تقوم ثروة بني إسرائيل.
ومن فنيقية أيضا أتى عامل ماهرا جدا، فجاء في التوراة أنه: «صانع نحاس، وكان ممتلئا حكما وفهما ومعرفة في كل صنعة من النحاس»، ورقب هذا العامل صهر ما زين به الهيكل من الأعمدة والآنية النحاسية ووضعها.
وإذا لم تخرج الصناعة في بلاد اليهودية عن أدنى الأطوار البدائية، أمكننا أن نبصر من ذلك حال الفنون في تلك البلاد، أو عدم وجود هذه الفنون فيها على الأصح؛ لما كان من عدم وجود أي شيء يتجلى فيه ذلك هنالك.
ولا تجد شعبا عطل من الذوق الفني كما عطل اليهود.
والشريعة التي حرمت على اليهود منحوت الصور لم تحرم العالم آثارا نفيسة بذلك، وما وقع من مخالفة اليهود للوصية الثانية غير مرة لم يؤد إلى غير العجول النحاسية أو الذهبية، التي هي أصنام اليهود المفضلة المصبوبة صبا رديئا على أوتاد غليظة عدت رموزا للرجولة، والمنصوبة تحت غياض عشتروت، تلك الأصنام القومية، أو الترافيم، التي هي ضرب من اللعب المثيرة للسخرية، والتي أضجعت إحداها على فراش داود مستورة الرأس بعناية زوجته لتعطى، بطريق العوض، جنود شاول المرسلين ليقتلوه.
إذن، لا ينبغي لنا أن نحدث عن وجود شيء من فن النحت أو التصوير لدى بني إسرائيل، وقل مثل هذا عن فن البناء، فانظر إلى هيكلهم المشهور «هيكل سليمان» الذي نشر حوله كثير من الأبحاث المملة، تجده بناء أقيم على الطراز الآشوري المصري من قبل بنائين من الأجانب كما تدل عليه التوراة.
ولم تكن قصور ذلك الملك غير نسخ دنيئة عن القصور المصرية أو الآشورية، ولا تعتقد أن ذلك الملك أقام في مدينة تدمر التي أسسها تلك الأعمدة الفخمة التي قاومت عمل القرون، فلا تزال تثير العجب، فتلك الأعمدة قد وضعت بعد ذلك بزمن، وكان نبوخذ نصر قد دك جميع تدمر سليمان، فلم يبق فيها حجر واحد.
ولم يمارس العبريون من الفنون الجميلة سوى الموسيقى التي هي فن جميع الشعوب الابتدائية، وكانوا شديدي الحب لها، فيمزجون بها ملاذهم وتمريناتهم العسكرية وأعيادهم الدينية، ومما لا مراء فيه أنها قليلة التعقيد شبيهة بألحان النواح لدى العرب المعاصرين، ونعد من آلات الطرب المعروفة عندهم: المعزف والطنبور والصنج والمزمار والبوق والطبل.
وعلى ما كان من ممارسة بني إسرائيل للحرب باستمرار لم تصبح الحرب فنا ولا علما عندهم، فكانت تعوزهم التعبئة، وما كان ليكتب لهم فوز إلا بضرب من الصولة المشابهة لغارة البدويين المعاصرين، وبنو إسرائيل إذ كانوا جبناء خوفا بطبيعتهم لم يبدوا مرهوبين إلا بما كان يحاول إلقاءه زعماؤهم وأنبياؤهم فيهم من حماسة مؤقتة.
جاء في سفر الملوك: «فسمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطيني «جليات» هذا، فارتاعوا وخافوا جدا.»
ولما سار جدعون إلى المدينيين خاطب جنوده بقوله: «من كان خائفا مرتعدا فليرجع وينصرف.» فتركه من هؤلاء اثنان وعشرون ألفا من اثنين وثلاثين ألفا ليعودوا إلى منازلهم!
ويعرف جميع قراء التوراة وحشية اليهود التي لا أثر للرحمة فيها، وما على القارئ ليقنع بذلك، إلا أن يتصفح نصوص سفر الملوك التي تدلنا على أن داود كان يأمر بحرق جميع المغلوبين، وسلخ جلودهم ووشرهم بالمنشار، وكان الذبح المنظم بالجملة يعقب كل فتح مهما قل، وكان الأهالي الأصليون يوقفون فيحكم عليهم بالقتل دفعة واحدة، فيبادون باسم «يهوه» من غير نظر إلى الجنس ولا إلى السن، وكان التحريق والسلب يلازمان سفك الدماء.
جاء في سفر يشوع أنهم بعد الاستيلاء على أريحا «أهلكوا جميع ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف، وأحرقوا المدينة وجميع ما فيها بالنار إلا الذهب والفضة وآنية النحاس، فإنهم جعلوها في خزانة بيت الرب.»
وكان اليهود يمارسون الرق على مقياس واسع، ولم يكن حال الرقيق عندهم لا يطاق، شأنه لدى جميع الشرقيين؛ فقد كان الرقيق من العرق الإسرائيلي يعامل كفرد من أبناء الأسرة، وكان يحق له بعد انقضاء سبع سنين أن يخير بين العتق والبقاء رقيقا، فإذا ما استحوذ عليه غم الغد أو الشعور بالعجز عن كفاية نفسه بنفسه، أو حب سيده الصالح، اختار النجد الثاني فظل رقيقا مدى حياته، وإذا ما اختار النجد الأول وجب ألا يسرح بغير أسباب للمعاش.
جاء في سفر التثنية: «إذا أطلقته حرا من عندك فلا تطلقه فارغا ، بل زوده من غنمك وبيدرك ومعصرتك، واذكر أنك كنت عبدا في أرض مصر.»
وفي سفر اللاويين نرى الحكم القائل بمعاملة بني إسرائيل الذين يباعون من أجل الدين كأجراء لا كأرقاء.
ويضيف المشترع إلى ذلك قوله: «من الأمم التي حواليكم تقتنون العبيد والإماء.»
وكان أفراد كل سبط يؤلفون لدى اليهود أسرة متحدة متبادلة العون على الدوام، كما عند جميع الشعوب القائلة بالنظام الرعائي.
جاء في سفر التثنية: «إذا كان عندك فقير من إخوتك في إحدى مدنك في أرضك التي يعطيكها الرب إلهك، فلا تقس قلبك ولا تقبض يدك عنه، بل ابسط له يدك وأقرضه مقدار ما يعوزه.»
وكان الربا محرما بشدة بين بني إسرائيل مع أنه عملهم المفضل تجاه الأجانب في كل زمن، وكان مبدأ التضامن القومي الزاجر القوي الوحيد الذي يضع حدا لجشع اليهودي.
ولم تنطفئ بعد الفتح روح الأسرة، أي ذلك الشعور القديم الذي نشأ تحت الخيمة وغذي في البادية، فقدس سلطان الأب على الدوام، فكان للمباركة واللعانية الأبويتين قدرة تكاد تكون خارقة للعادة في كل حين.
ومع ذلك خسر رب الأسرة حق الحياة وحق الممات على أبنائه، كما خسر حق تغيير نظام ولادتهم بأن يعترف بحق البكرية لمن يشاء منهم.
على أن حق البكرية لم يكن ليمنح صاحبه في فلسطين سوى زيادة تافهة في الميراث، ما دامت التركة تقسم بين جميع الأولاد، ومنهم البنات.
وكانت كثرة الذرية تلوح أعظم ما يمن به يهوه على الرجل، وكان عقم المرأة يعد عارا.
وكان الرجل إذا مات عقيما تزوج أخوه الأصغر بأرملته وصلا لسببه، كما جاء في التوراة.
وإذا كان الميت غير ذي أخ تزوج بأرملته أقرب آله إليه، فكان من الفضائح رفض ذلك في مثل تلك الحال.
وكان على المرأة التي يرفض سلفها أن يتزوجها أن تراجع باب المدينة حيث يجلس الشيوخ، والباب كان له عند اليهود - كما في جميع الشرق - شأن الساحة أو المحكمة لدى الرومان، ومثل هذه العادة مما لوحظ في أبواب آشور الكبيرة.
فأمام الشيوخ تقول الأرملة المرفوضة: «قد أبى أخو زوجي أن يقيم لأخيه اسما في إسرائيل، ولم يرضني زوجة.»
وهنالك يستدعي الشيوخ المتمرد ويدعونه إلى القيام بما هو مفروض عليه، فإذا أصر على رفضه خلعت كنته نعله من رجله وتفلت في وجهه أمام الشيوخ، وقالت: «هكذا يصنع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه.» «فيدعى في آل إسرائيل بيت المخلوع النعل.» كما جاء في سفر التثنية.
ومبدأ تعدد الزوجات شائعا كثيرا لدى بني إسرائيل على الدوام، وما كان القانون المدني أو الشرعي ليعارضه، ومما حدث في الدور الرعائي أنه كان لإبراهيم ويعقوب أزواج كثيرات، ويعقوب قد تزوج بانتظام الأختين ليئة وراحيل، وسليمان كان له عدة مئات من النساء، وكانت النساء تنال بالشراء كما هو عند العرب المعاصرين.
وكانت البكارة أمرا مقدرا كثيرا لدى اليهود، فإذا أثبت الزوج أن زوجته الفتاة لم تكن عذراء، مع أن أبويها زوجوه بها على أنها بكر قتلت رجما، وإذا ثبت كذب الزوج ألزم بدفع مائة من الفضة إلى أبويها، ومنع من تطليقها.
ومن يغتصب فتاة يحمل على تجهيزها والزواج بها.
ومن يغتصب فتاة مخطوبة يعد عمله مساويا لزنا الزوج فيقتل.
ومن الغرابة بمكان أن كانت الفتاة تعد مذنبة، فترجم إذا حدث الجرم في مكان مسكون؛ لعدم استغاثتها فيه مع إمكان ذلك، وأن كانت الفتاة تبرأ إذا وقع الجرم في البرية؛ لإمكان استغاثتها من غير أن يسمع صوتها.
وكان الوفاء الزوجي أمرا محترما لدى بني إسرائيل، وكان زنا الأزواج يعد جرما فظيعا فيعاقب مقترفه بالقتل، وزنا المرأة، لا زنا الرجل، هو المقصود هنا؛ وذلك لاستطاعة الرجل أن يتزوج بالعدد الذي يرغب فيه من الزوجات الشرعيات وغير الشرعيات ما سمحت وسائله له بذلك، وما كان الرجل ليعد مجرما إلا إذا زنى بفتاة مخطوبة أو بامرأة متزوجة، فهنالك يقتل.
وليس زنا الأزواج هو الجرم الوحيد الذي تحرمه الشريعة على مزاج بني إسرائيل الداعر، ففي شريعتهم تعداد لدعارات عنيفة مع شدة عقوبة من يقترف إحداها، وتثبت هذه الشدة كثرة المخالفات.
وسفاح ذوي القربى، أي الزنا بالأخت والزنا بالأم، واللواط والمساحقة ومواقعة البهائم من أكثر الآثام التي كانت شائعة بين ذلك الشعب الذي نص تاسيت على شبق له لا يروى غليله.
وأريد لدى بني إسرائيل - كما عند كل شعب ذي غلمة - خلط أفظع الملاذ بالطقوس المقدسة، وموافقة الشريعة على هذه الملاذ، فعدت ضروب البغاء تكريما لعشتروت، وعد الانهماك في السكر على بسط الأزهار وتحت ظلال شجر الزيتون في الليالي الرطيبة نوعا من العبادة التي لم تفتأ تمارس آنئذ في فلسطين، على الرغم من غضب الأنبياء.
وما في الفصل الثامن عشر من سفر اللاويين من المحظورات، كسفاح ذوي القربى واللواط ومواقعة الرجال والنساء للبهائم، وما إلى ذلك من الأمور التي يحرمها معظم الشرائع لعدم فائدة النص على ذلك، فيدل على درجة غلمة الشعب اليهودي.
وفي المجتمع اليهودي، كما في جميع المجتمعات الابتدائية، كانت المرأة كثيرة التبع، فتعد مملوكة تشترى من أبيها عند النكاح، فيكون زوجها سيدها المطلق.
ولم يكن لنذر أو قسم تبديه المرأة أية قيمة ما لم يؤيده زوجها.
ولم تكن المرأة محصورة كالمرأة الشرقية في أيامنا، فالمرأة إذا ما كانت ذات مواهب خاصة، أمكنها أن تمثل دورا كمريم أخت موسى، وكدبورة التي كانت قاضية.
وللنساء حق الميراث عند اليهود، وللأم في الأسرة حق الاحترام كالأب؛ فقد جاء في سفر الخروج: «أكرم أباك وأمك.» وكان الموت جزاء من يضرب أباه أو أمه.
وقانون العقوبات لدى بني إسرائيل كان كله يقوم على مبدأ القصاص الفطري الجاهلي، ويلخص في الأسطر الآتية التي جاءت في سفر اللاويين:
ومن قتل إنسانا يقتل قتلا، ومن قتل بهيمة فليعوض مثلها رأسا بدل رأس، وأي إنسان أحدث عيبا في قريبه فليصنع به كما صنع، الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن، كالعيب الذي يحدثه في الإنسان يحدث فيه.
حتى إن هذا الحكم كان يطبق على الحيوانات أيضا.
فإذا ما نطح ثور رجلا أو امرأة فمات النطيح، رجم الثور من فوره.
وكان المجرمون يحاكمون ويجازون باسم المجتمع، ومع ذلك بقي من الطبائع الابتدائية في المجتمع اليهودي ما كان يحق للمظوم أن يقتص به لنفسه، ومن هذا القبيل حق القريب في الانتقام للقتيل، وكان لهذا القريب المعروف بولي الدم أن يقتل القاتل في غير المعبد وفي بعض الملاجئ.
ولم يرتق اليهود إلى ما هو أعلى من درجة التطور الدنيا هذه التي لم تكن وحيدة في عاداتهم، ولم تكن سنة الإبراء عند اليهود إلا وجها مخففا من الشيوعية الابتدائية.
وفي كل تسع وأربعين سنة، أي ما يعدل أسبوع سنوات في سبع سنوات، كما كان يقول اليهود، كانت تفتح سنة الإبراء، وهي السنة الخمسون، فتترك الأرض بائرة فيها، ويحرر العبيد فيها، وفيها تسترد كل أسرة ميراث آبائها في الحصة التي أعطيت لأجدادها عند القسمة.
وإذا عدوت سنة الإبراء وجدت لدى اليهود سنة البطالة، وفي هذه السنة تؤجل الديون، وفيها يسترد الإسرائيليون الذين غدوا أرقاء بسبب فقرهم حريتهم؛ «لكيلا يكون بينكم فقراء» كما جاء في الشريعة.
ومن خلال ذلك تبصر الشيوعية القديمة المانعة من كل تقدم، والتي تود الاشتراكية الحكومية أن تسوقنا إليها، ومن المحتمل أن يجد الباحث في دوام تلك النظم الابتدائية أحد الأسباب التي حالت دون تقدم اليهودي في الصناعة والفن والثقافة.
وكان الاعتداء على المال يعد ذنبا عظيما، فيجازى مجترحه برد ضعفي قيمة المال المسروق أو ثلاثة أمثال قيمته، وقد يبلغ ذلك خمسة أمثال قيمته أو سبعة أمثال قيمته في بعض الأحيان.
وكان الفصل من المجتمع الإسرائيلي من أقسى العقوبات التي تفرض في غير حال؛ لما يتضمنه من الموت المدني، وكان الذي يحتمل هذا الجرم يخسر المنافع الثمينة التي يمن بها لقب الإسرائيلي عليه، ويخسر فوائد التضامن الذي كان ينتفع به أدنى شخص من ذرية يعقوب.
وتذكرنا حكومة العبريين على الدوام بالنظام الرعائي الخاص الذي يشاهد لدى جميع البدويين.
وحافظ الشيوخ، حتى في عهد الملوك، على كبير سلطان في كل مدينة.
وفي غضون القرون كان الشيوخ أو القضاة يتسلمون القيادة في زمن الحرب على غرار رؤساء العصابات البدوية.
حتى إن الملوك أنفسهم كانت لهم تلك المزية الأبوية أو العسكرية التي يشتق منها كل سلطان لدى بني إسرائيل، وما كان الملوك هؤلاء ليشابهوا عاهلي آسيا المتكبرين الذي هم ضرب من أشباه الآلهة، فلا يقترب منهم إلا بارتجاف، إلا بتعريض النفس للموت، وكان شاول وداود وسليمان نفسه، وجميع خلفائهم، يعيشون قريبين من الشعب بلا تكلف، ليني الجانب تجاه الجميع، معنفين من الأنبياء، مهانين بلا عقاب في بعض الأحيان، شأن داود الذي رجمه شمعي بالحجارة.
وكانت حياة بني إسرائيل الخاصة بسيطة، وكان ثرواتهم الكبيرة تتألف من المواشي والأثمار والبر والثياب المعدة ليبدل منها بغيرها.
وكان لباسهم كلباس العرب المعاصرين، وكانوا يحتذون نعالا، وكانوا يتذوقون الحلي، وغدا غناج نسائهم عظيما في أواخر عهد الملوك، وأثار حبهم للحلي غضب الأنبياء، وما ذكرته بسبب النفائس في بابل عدد زخارف بنات الشرق الزاهيات أولئك، كما ورد على لسان إشعيا الحاد.
وفي بلاط سليمان تجلت أكبر أبهة عرضت لدى بني إسرائيل، جاء في سفر أخبار الأيام الثاني: «رأت ملكة سبأ البيت الذي بناه سليمان، وطعام موائده ومسكن عبيده وقيام خدامه ولباسهم وسقاته ولباسهم ومحرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب.»
ويمكننا أن نبصر، من خلال الاحترام الممزوج بالدهش في وصف المؤرخ لتروس الذهب التي زين بها سليمان قصره، ولعرشه العاجي المرصع بالذهب وآنيته الذهبية، درجة ما كان يمكن أن يؤثر به مثل هذه النفائس في روح العبريين الساذجة.
ومن الطريف أن يلاحظ منذ ذلك الدور سرور اليهود في عرض الأموال والنفائس عرضا غليظا، وفي اتخاذ المصنوعات الفنية الثمينة بفعل التقليد.
ولم يجر على فم مؤلف سفر أخبار الأيام الثاني غير كلمة الذهب في وصف مظاهر الترف لدى سليمان، وقد كررت هذه الكلمة اثنتي عشرة مرة في بضعة أسطر:
عمل الملك سليمان مائتي مجنب من ذهب مطروق، للمجنب الواحد ستمائة مثقال ذهب مطروق، وثلاثمائة مجن من ذهب مطروق، للمجن الواحد ثلاثمائة مثقال ذهب، وعمل الملك عرشا كبيرا من عاج وألبسه ذهبا خالصا، وكان للعرش ست درجات مع موطئ من الذهب، وكانت جميع آنية شرب الملك سليمان ذهبا، لم يكن فيها فضة؛ إذ لم تكن الفضة تحسب شيئا في أيام سليمان.
وما كان من عرض ذلك الذهب بجميع الأشكال في القصور والهيكل العاطل من كل جمال فني، فيدل على الروح اليهودية الساذجة الغليظة.
والتجارة كانت مصدر تلك الثروات، ولا سيما في دور التجارة البحرية، تلك التي جربها سليمان تجربة لم تدم طويلا، وما كان بنو إسرائيل ليفكروا في أمر البحر؛ فقد كان ما يتخذه الملك من السفن والملاحين يؤخذ من فنيقية، كما كان يؤخذ خشب الأرز والبناءون منها لشيد الهيكل. «وأرسل له حيرام على أيدي عبيده سفنا وعبيدا عارفين بالبحر، فأتوا أوفير مع عبيد سليمان، وأخذوا من هناك أربعمائة وخمسين قنطارا من الذهب.
وكان للملك في البحر سفن ترشيش مع سفن حيرام، فكانت سفن ترشيش تأتي مرة في كل ثلاث سنين، حاملة ذهبا وفضة وعاجا وقردة وطواويس.»
ولم تختلف بيوت بني إسرائيل قط عما يشاهد اليوم في سورية، فكانت بيوت الموسرين من الحجارة وبيوت المعسرين من الآجر.
وكانت تلك البيوت بسيطة في داخلها، وكان رياشها يتألف من سرر وموائد ومقاعد وقوارير عطور عادية مادة وشكلا كما يظهر.
والنظافة هي الترف الأول الذي حاول المشترعون نشره بين بني إسرائيل، فلاقوا كبير أذى في الوصول إلى ذلك، والنظافة كانت أمرا ضروريا لذلك الشعب الوخيم أكثر مما لأي شعب آخر؛ وذلك لكيلا تقرضه القروح والجرب والقوباء والجذام، وآية تراث بني إسرائيل المستقلة عن مواعيد يهوه المشكوك فيها، هي الدم الفاسد الذي من شأنه أن يستر بنو إسرائيل بالأمراض الجلدية على الدوام.
ولاحظ مشترعو بني إسرائيل أن لحم الخنزير واللحوم الدامية والحيوانات الهلامية - اللافقرية - والمحار مما يؤدي إلى زيادة الأمراض الجلدية، فحرموا عليهم هذه الأغذية لهذا السبب لا ريب، وكان أكل الخنزير مما يمقته يهوه، وكان لا يجوز استعمال لحم المواشي إلا بعد استنزاف كل دم منه.
وكان لا بد من الأوامر الشرعية الصارمة لمنع بني إسرائيل من أكل لحم الكلب والميتة وجميع أنواع الأوساخ.
وكان التطهير والغسل مما أمروا به، وغدا الختان تدبيرا صحيا، ووجب على النساء أن يقمن بالعناية الشديدة في كل حال تقضي الطبيعة عليهن به من الدنس المحتوم.
ويحمل كل واحد من هذه التدابير مؤيدا دينيا، فتعد مخالفته أمرا مرهوبا. وفي سفر اللاويين فصول تامة خاصة بوصف الأمراض الجلدية وبوقايات العزل الضرورية؛ منعا لسريانها بالعدوى، فإذا أصيب المرء ببثرة وجب عليه أن يمثل أمام الكهنة ليقرروا خطر الإصابة أو عدمه، وكان لا معدل عن حرق ثياب المرضى والأدوات التي يمسونها.
ولولا مثل هذه الوقايات ما وفق بنو إسرائيل للبقاء.
واليهود، على خلاف معظم الشرقيين، كانوا يخشون الموت؛ لما لا يبصرون وراءه سوى راحة كئيبة في مكان مظلم، فكانوا يحتفلون بعيد الحياة احتفال تمجيد، فيبكون من يفقدونهم مبدين من الألم المفرط ما وجب منعه.
وكانوا يولولون وينتحبون ويضربون صدورهم ويشقون ثيابهم ويغمرون أنفسهم بالرماد إظهارا لحدادهم، ولا مبالغة في الألم يوم المأتم كما يظهر، وكان الميت ينقل إلى قبر الأسرة المنحوت في الصخر، فيستقبله آباؤه كما جاء في التوراة.
وكانت المظاهر الصاخبة تظهر في الفرح ظهورها في الترح، ومن ذلك أن داود أبدى من السرور، حين جلب إلى أورشليم تابوت يهوه، ما خلع معه ثيابه وأتى من الوثوب بما أوتي من قوة، صاخبا صخب الفرح، مسيئا لزوجته ميكال بنت شاول إساءة عدته مجنونا من أجلها!
وإذا أريد تلخيص مزاج اليهود النفسي في بضع كلمات كما يستنبط من أسفارهم، وجد أنه ظل على الدوام قريبا جدا من حال أشد الشعوب ابتدائية؛ فقد كان اليهود عندا مندفعين غفلا سذاجا جفاة كالوحوش والأطفال، وكانوا مع ذلك عاطلين في كل وقت من الفتون الذي يتجلى في سحر صبا الناس والشعوب، واليهود الهمج إذ وجدوا من فورهم مغمورين في سواء الحضارة الآسيوية المسنة الناعمة المفسدة، أضحوا ذوي معايب مع بقائهم جاهلين، واليهود أضاعوا خلال البادية من غير أن ينالوا شيئا من النمو الذهني الذي هو تراث القرون.
وإذا أريد وصف المجتمع اليهودي من ناحية النظم، أمكن تلخيصه في كلمتين وهما: نظام رعائي من طبائع المدن الآسيوية الهرمة وذوقها وعيوبها وخرافاتها.
ويعرب حزقيال عن ذلك الرأي في الفصل السادس عشر، حين يذكر ظهور الشعب اليهودي الحقير وأوائله الهزيلة وما عقب استقراره بفسلطين من الحميا، فيقول مخاطبا تلك الأمة العاقة قائلا باسم يهوه:
وفي جميع أرجاسك وفواحشك لم تذكري أيام صباك، وإذ كنت لم تشبعي زنيت مع بني آشور ولم تشبعي، فلذلك أقضي عليك بما يقضى على الفاسقات وسافكات الدماء، وأجعلك قتيل حنق وغيرة.
الفصل الثالث
دين بني إسرائيل
لم تكن الديانة اليهودية في كل زمن مطابقة لما نسميه اليوم باليهودية.
وكان لا بد من انقضاء قرون طويلة قبل أن تصبح مناحي الساميين التوحيدية الموحدة في كونية بابل، والمحررة بالتدريج من الإشراك الآسيوي؛ الدين الذي زاوله اليهود منذ يسوع المسيح والذي يرد إلى زمن العودة من إسارة بابل تقريبا.
ولا شبه بين إله اليهود الراهن، الذي يوحد بأبي المخلص إله النصارى، وإله سيناء يهوه الذي يراد اشتقاقه منه، وهو أكثر مشابهة من ذلك بإله الرعاة الغامض الكبير إلوهيم، الذي لا تجد له شخصية يهوه الضيقة الشديدة.
وإلوهيم هو الاسم الذي نراه قد أطلق بالحقيقة على الألوهية في أقدم أسفار اليهود.
ولا يمكن أن يقال إن إلوهيم هو إله واحد؛ لجمعية اسمه، ولأن جميع الكلمات التي ترجع إليه قد وردت بصيغة الجمع.
فبنو إسرائيل كانوا يعبدون إذن إلوهيمات في أثناء حياتهم البدوية التي قضتها أجيالهم الأولى.
ولذلك لا ينبغي أن يطلب من هذا الشعب البسيط تعريف وثيق لموضوع عبادته، ولمبادئ الروح السامية ما لآفاق الصحراء من الوجه الفخم النمطي المبهم، والروح السامية لا تحدد شيئا، والروح السامية لا تحتوي شيئا على أوجه واضحة مقررة كثيرة كالتي أسفر عنها الخيال الآري بسهولة، واليوم لا تجد لدى البدوي الحاضر سوى دين مبهم يكترث له، وذلك على الرغم من إسلامه الظاهر.
وما كان من فقدان الأوثان بين الساميين ومن احتياجهم إلى البساطة، فقد كان يعدهم إلى التوحيد فانتهوا إليه بسرعة.
على أن من الإفراط في التوكيد أن يخلط توحيد حياتهم الابتدائية المبهم بما أعلنوه بعد زمن من الإيمان بإله واحد.
والحق أن إلوهيم الأجيال القديمة السديمي العاطل من الجنس والاسم، والواحد والمتعدد في آن واحد، يقرب من إله الأديان الكبرى الحديثة العام أكثر من قربه من يهوه الجائر الذي يقطر من دم الشعوب المذبوحة، ومن لحم القرابين، والحامي الوثيق لشعب صغير هزيل، والأخ لمولك وبعل.
ومن الصعب، مع ذلك، أن يسهب في بيان دين اليهود الابتدائي؛ وذلك لأننا لا نستطيع أن نحكم في أمره إلا من خلال حال شعوب الجنوب السامية، أي شعوب ذلك العرق التي لم تعان نفوذ الأجنبي.
ومهما نعد بعيدا إلى تاريخ ساميي الشمال - العمونيين والإسماعيليين واليهود - لم نستطع أن نعرف من ديانتهم غير ما كان عقب إقامتهم بما بين النهرين، تلك الإقامة التي طبعت بطابع الفكر الكلداني الثابت.
وعم الإشراك آسيا منذ أقدم أزمنة التاريخ اليهودي، حتى في آل إبراهيم، وثلاثة من الموجودات الإلهية هي التي أوحت إلى هذا الأب الراعي بهدم سدوم، وراحيل أخذت معها الأصنام لابان حين تركت بيت أبيها.
ومما يبصر من قصة إسحاق كذلك، وجود القرابين البشرية منذ ذلك الزمن، ودوام هذه القرابين لدى بني إسرائيل زمنا طويلا.
وأسفرت إقامة العبريين بمصر عن قليل أثر في ديانتهم، ومن غير الحق أن أريدت رؤية ذكرى أبيس في العجل الذهبي على ما يحتمل.
وكان ذلك العجل، الذي هو رمز الرجولة، منتشرا في جميع آسيا، وكان ذلك العجل من أصل كلداني، وكان بنو إسرائيل يعبدون العجول المعدنية بعد خروجهم من مصر بطويل زمن؛ لارتوائهم من مبادئ ما بين النهرين الدينية، وكان هذا هو الوجه المفضل الذي يرمزون به إلى يهوه.
ومن مصر لم يقتبس بنو إسرائيل سوى جزئيات ظاهرية، أي صدرة الأحبار وتابوت العهد أو الناووس السهل النقل المشتمل على يهوه في شكل حجرين.
ومما يذكر أن فرعون مصر، وهو المساوي للآلهة، هو الذي كان يحق له وحده أن يفتح الناووس وأن يرى الشعار المرهوب الحافل بالأسرار.
وفي اليهودية كان يحق للحبر الأعظم وحده أن يدخل مرة واحدة في العام الواحد قدس الأقداس، حيث تابوت العهد.
والويل كل الويل لمن يجرؤ على مس ذلك الصوان المقدس؛ فقد أصيب الفلسطينيون الذين كانوا قد أخذوه معهم بين غنائمهم بشرور مرهوبة لم ينجوا منها إلا بعد أن أعادوه، واعتقد أحد ضباط داود سقوط ذلك التابوت، فأراد دعمه فمات من فوره.
وكل ما استطاعه بنو إسرائيل هو أنهم اقتصروا على اقتباس تلك الخرافات من الحضارة المصرية العظيمة، التي هي أسمى من مستواهم بمراحل، وبنو إسرائيل كانوا يتركون تلك الخرافات كلما أشبعوا من المعتقدات الآسيوية، وآخر ذكر لتابوت العهد ورد في سفر إرميا، فبعد أن تكلم هذا النبي عن انتصار إله روحاني واحد بين بني إسرائيل أضاف إلى ذلك قوله:
لا يعودون يقولون تابوت عهد الرب ولا يخطر لهم ببال، ولا يذكرونه ولا يفتقدونه ولا يصنع من بعد.
وفي وادي الفرات نشأت ديانة بني إسرائيل، أو على الأصح مختلف العبادات التي مارسها بنو إسرائيل، وذلك بين إقامتهم بفلسطين وعودتهم من إسارة بابل.
حتى إن أسماء آلهتهم تدل على أصلها الأكادي في الغالب.
فكلمة إلوهيم هي جمع لكلمة إيل التي تجيء في كلدة بمعنى الإله الأعلى، وكلمة بابل فيما بين النهرين تجيء بمعنى باب إيل، كما أن بيت إيل تجيء في اليهودية بمعنى منزل إيل.
والمكان الذي قاتل يعقوب الرب فيه سمي فنوئيل، وتسمى هذا الراعي فيما بعد باسم إسرائيل - الذي هو أقرب من إيل.
وليست الإلهة الكبرى الشهوانية عشيرا أو عشتروت التي كان العبريون يعبدونها في الأماكن العليا بين الغياض، والتي كانوا يأتون بالدعارات المقدسة تكريما لها، إلا زهراء «فينوس» بابل عشتار.
وليس بعل الذي جعله بنو إسرائيل منافسا ليهوه، والذي اختلط به نهاية الأمر، بعل كلدة، وإنما انحدر منه على وجه غير مباشر، أي بعد أن جاوز فنيقية؛ حيث استعاره العبريون.
وإذا عدوت دائرة الأسماء التي هي أمر ظاهري إلى الغاية، وجدت أساس الدين يدل على أية دائرة من الأساطير صدرت عنها معتقدات اليهود.
فمن ينظر إلى نظام الكون البابلي القديم، الذي وجد في الكتابات المسمارية، والذي هو أقدم من تاريخ التوراة بعدة قرون، يبصر مشابهته للكونية التي وردت في سفر التكوين، والتي ليست غير نسخة بسيطة عنه.
على أن الرأي البابلي القائل بخلق الدنيا في ستة أيام، أي في أدوار متعاقبة، مما كان كثيرا على الدور الذي بدا فيه، فليس تبين ذلك بالذي يصدر عن شعب سامي ذي أفكار مبهمة.
وما تراه أيضا في أقاصيص سفر التكوين من نوع المنطق، ومن براعة التأليف وقوة الخيال، فما يجاوز قابليات بني إسرائيل بمراحل لا يحصيها عد.
وترى الكنيسة معجزة في تفتح تلك الكونية العظيمة في صميم عصابة من البدويين الجاهليين الأجلاف، فتستنتج من ذلك صدورها عن وحي إلهي بحكم الطبيعة.
ويتضح سر المعجزة ويزول افتراض الوحي عندما ترى فاتحة التوراة في كتابات حكماء كلدة، التي هي أقدم من سفر الخروج بزمن طويل.
ومن الإصابة قول مسيو رينان: «لم يخترع الراعي البدوي تلك الأقاصيص الرائعة، بل أوجب نجاحها، ولم تكن الكونية الكلدانية لتعم العالم بشكلها الزائد الوارد في النصوص الآسيوية، فكان لا بد من القريحة السامية لتبسيط تلك الكونية في الوقت الذي أرادت النفس البشرية فيه مبادئ واضحة حول ما لا يعرف بوضوح، فغدت الغرائب التي كانت تظل مختنقة في حشويات الشرق من الأمور البديهية، وتمت هذه المعجزة بفضل خيال بني إسرائيل الجلي القانع، وما كان غريبا في تاريخ كلدة بدا في أقاصيص التوراة من الصحة والسهولة ما رأت فيه سذاجتنا الغربية تاريخا، معتقدة أنها إذا ما انتحلت هذه الأقاصيص قطعت صلتها بالأساطير الأولى.»
ولا تبصر الأساطير الكلدانية في سفر التكوين وحده، بل تجد آثارا لها في أسفار أقل قدما منها على وجه أقل وضوحا، ومن ذلك قصة شمشون التي وردت في سفر القضاة.
يمثل شمشون الهركول الإسرائيلي بقدرته الغريبة وأعماله التي كان ينجزها بوسائل بسيطة جدا، والواقع أن هركول من أصل بابلي، ويتجلى مثاله في نينيب المعروف، ذلك الإنسان الآشوري الأكادي العجيب الذي كان يقتل الأسد بيد واحدة ! ولم يكن اسمه شمشون مع ذلك، بل كان شمشون الذي معناه: «الشمس» أي نصف الإله الذي كان يوجد كثيرا على ضفاف الفرات.
وليس لدينا من الوقت ما نعرض فيه هنا ما أسفر عنه تفسير التوراة الحديث حول تلك المسائل، وإنما نقتصر على ذكر أمر اقتبسه اليهود من عبادات كلدة.
إن من الأقاصيص التي انتحلها بنو إسرائيل طوعا هي قصة تموز الإلهي ابن عشتار، الذي ذهبت الآلهة لتبحث عنه حتى سواء الجحيم.
وكان يمثل موت تموز الذي غدا أدونيس الإغريق نهاية الخريف، وكان ذلك الإله الجميل يموت في كل سنة ليبعث بعد كل شتاء، فإذا دل حر الصيف على فقده بكي باحتفال، فكانت النساء تقوم بالشعائر المأتمية نادبات طالعه.
ومما رواه حزقيال أنه كان في زمنه نساء تبكي تموز في معبد الرب.
ولنبحث الآن في صفات أهم آلهة بني إسرائيل وأخلاقها، وذلك من غير دخول في التفاصيل.
كان للآلهة، يهوه وبعل وعشيرا، طبائع وصفات خاصة بالسيارات والجو والشمس، كما كان لجميع آلهة كلدة.
وانتقل إلى جميع الساميين الذين سكنوا ما بين النهرين ما كان يساور قدماء سكانه من التأثير العميق الثابت الصادر عن منظر السماء الساطع الصافي، وعن عوارض العواصف المفاجئة المرهوبة.
وظلت عبادة الشمس والقمر والنجوم قائمة طويل زمن لدى جميع أمم سورية، ولدى بني إسرائيل على الخصوص.
وفي زمن حزقيال، حوالي أواخر أيام مملكة يهوذا، كان يمكن أن يرى - حتى في هيكل أورشليم - يهود كانوا يسجدون أمام الشمس مولين وجوههم شطر الشرق.
وكانت عبادة الشمس تختلط آنئذ بعبادة الحيوانات؛ وذلك لما كان من تصوير القوم على جدر معبد يهوه صور الزحافات والبهائم والأشياء الكريهة، وجميع آلهة آل إسرائيل الفاضحة كما روي النبي ذلك.
ومع ذلك أسفر الإصلاح اليهودي العظيم الذي قام به الملك يوشيا قبل ذلك بقليل سنوات عن تطهير الهيكل من الأصنام التي كان حافا بها.
فقد أمر ذلك الملك الكهنة كما جاء في سفر الملوك:
أن يخرجوا من هيكل الرب جميع الأدوات المصنوعة للبعل والعشتاروت ولجميع جنود السماء فأحرقها.
وأزال الخيل التي أقامها ملوك يهوذا للشمس من عند مدخل بيت الرب، وأحرق مراكب الشمس.
ولكن شعب إسرائيل كان قد بلغ من الغرق في الإشراك ما كان يتعذر معه على عزيمة ملك أو خطب نبي تخليصه منه.
وكان إله النار مولك الهائل الذي هو من الأصنام المفضلة، يمثل بتماثيل نحاسية، فيوضع صغار الأولاد على ذرعانها المحماة.
وكان التقي يوشيا يحارب تلك الخرافات الظالمة: «فنجس توفت التي في وادي بني هنوم؛ لكي لا يجيز أحد ابنه أو ابنته في النار لمولك.»
وكان مولك إله النار الضارة، وكان يمثل الصاعقة التي تحرق الحصاد وحرارة الشمس الضارية التي تجعل السهول جديبة، وكان مولك إلها مرهوبا فيجب تسكينه.
وكان بعل على عكس مولك، يمثل الشمس النافعة، فينضج أثمار الأرض ويحمر القطف العطري بين خضرة الغصون، وكان الفنيقيون على الخصوص يعبدون بعلا، فأدخلته إيزابل الصيدونية على الخصوص إلى العبريين.
وظهر في عهد زوج الأميرة أحآب جفاف عظيم، فتصارع نبي يهوه إيليا والكهنة ليعرفوا أي آلهته ينزل المطر ويمن على الحقول بالخضر، وظهر أن دعاء إيليا أعظم أثرا من دعاء منافسيه، فأساء هذا الأمر الملكة إيزابل كثيرا.
وكان لعشيرا، وهي عشتارتا الفنيقيين وعشتار بابل، أو ميليتا بابل، عظيم حظوة لدى شعب إسرائيل الشبق؛ وذلك لما كان لها من شعائر شهوانية.
وكانت هياكل ذلك الإله تقوم على تلال ذات هواء منعش رطيب فوق سهول محرقة ذات بعوض مفسد لبقاع الدنيا، وكانت تحاط تلك الهياكل بغاب الزيتون حيث يسمع للحمائم العاشقات سجع وهديل، وحيث كانت الفتيات اللائي يتألف من أجسامهن اللطيفة ضحايا حية معدة على الدوام لتكتوي بنيران إلهة الحب، يقضين نهرهن في تطريز الخيام للغياض، ولياليهن في قضاء أوطار المؤمنين الذين يتقاطرون إلى هنالك.
وكان وتد صغير مغروز في الأرض، رمزا غليظا لعضو التذكير، يكفي لتلقين مبدأ عشيرا وتقديس الغابة.
وغدت تلك العهارات المقدسة تكتسب شكلا كريها عندما صار الخصيان، لا النساء، هم الذين يبيعون أنفسهم من المؤمنين في ليل الغاب الكثيف الفاتن، وعلى ما كان من نعت الأنبياء لهؤلاء الخصيان بالكلاب، وعلى ما كان من حظر نذر أجور هؤلاء الفاسقين لم ينفك بنو إسرائيل عن مضاجعتهم، فمن أجل هذه المنكرات وصف الأنبياء إشعيا وإرميا، وحزقيال على الخصوص، أورشليم بالمدينة العاهرة التي لا تشبع من الفجور.
قال يهوه لتلك المدينة الآثمة: «اتكلت على جمالك، وزنيت على اسمك، وسكبت فواحشك على كل مجتاز كان له ما تبتغين، وأخذت من ثيابك فصنعت لك مشارف ملفقة الشقق، وزنيت فيها زنى لم يكن ولن يكون.»
ويهوه، ذلك الذي بدا كثير الغيرة للمعبودات المنافسة، كان الإله الذي يتخذه الأنبياء لدعوة بني إسرائيل إلى مبدأ التوحيد السامي.
والأنبياء كانوا يختارونه لأنه الإله القومي، ولأنه - وقد تشخص الشعب فيه - حكم بني إسرائيل في السراء وفي الضراء، فكان له من النصيب في الارتضاء به وحده أكثر مما بغيره.
وكان نشوء يهوه في سيناء بسبب الهول الذي أوجبه في بني إسرائيل منظر ما يجهله وادي النيل من مناظر عواصف الجبل المرهوبة.
وكان يهوه في بدء الأمر إله الجو فقط، وكانت الصاعقة والرياح والسحب تعد جيادا له، رسلا له، دلائل عليه.
وقد مثل يهوه في تابوت العهد بحجرين سقطا على الصحراء تحت نظر بني إسرائيل المبهوتين.
ولا يزال يهوه يتجلى في عمود الدخان وعمود النار اللذين كانا دليلين لبني إسرائيل في التيه، مع صدورهما عن الريح التي تعبث بالصحراء.
وفي جميع أسفار التوراة، حتى في أحدثها، ترى العوارض الجوية ملازمة لذلك الإله مخبرة به على الدوام.
وقد أنزله إيليا على الهيكل في صورة حمامة، ولقيه على جبل الكرمل في نسيم خفيف، وسمع أيوب صوته يخرج من عاصفة.
وفي المزمور الثامن عشر ذكر ظهور ذلك الإله كما يأتي:
سطع دخان من أنفه ومن فيه نار آكلة، جمر متقد، طأطأ السماوات ونزل والضباب تحت قدميه، ركب على كروب وطار وخطف على أجنحة الرياح، جعل الظلمة حجابا له مظلة حوله، ظلام المياه ودجن السحب، من بهاء حضرته مرت سحبه، برد وجمر نار، أرعد الرب من السماء وأسمع العلى صوته، برد وجمر نار.
ولم ينشب ذلك الإله الذي هو وليد هول البادية، أن عد بين بني إسرائيل إلها خاصا بهم، وإن شئت فقل ملكا قوميا لهم.
ومن العادات العامة بآسيا، حتى في مصر، حتى لدى جميع الأمم القديمة، أن كان لكل مدينة، لكل قبيلة، إلهها الخاص الحافظ، مع اعترافها بطائفة من الآلهة، فكان لمؤاب الإله خموس، ولصور الإله ملكارت، وللفلسطينيين الإله داجون، ولبني إسرائيل الإله يهوه.
ولم يعبد بنو إسرائيل - حتى دور الإسارة، حتى عند أكثر أنبيائهم توحيدا - إلها يمكن أن يكون رب الأمم الأخرى، ولم يكن لإصلاحات الأنبياء غير صبغة محلية في كل حين، وكل ما كان يطلبه هؤلاء الأنبياء هو أن تسود بني إسرائيل عبادة يهوه على حساب المعبودات الأجنبية، ففي فلسطين لم يفكر أحد في إله إزلي شامل قبل إشعيا وإرميا، أي نبيي المنفى الكبيرين اللذين لم يكادا يبصران تلك النتيجة المجيدة.
وعلى ما في أسفار اليهود من دفاع عن أفضلية يهوه، لم تمار هذه الأسفار قط في وجود آلهة أجنبية.
جاء في سفر التثنية: «أي شعب كبير ذي آلهة قريبة منه قرب يهوه منا، حينما نبتهل إليه في كل مرة.»
وسفر التثنية هذا يأمر بني إسرائيل بهدم جميع مدن الشعوب المغلوبة وبيوت عبادتها وتحطيم أصنامها؛ لكيلا يضطروا إلى خدمة آلهة البلدان الأجنبية، ومعنى هذا أن لولا هذا التخريب لاقتضى انتحال الآلهة التي تشتمل عليها تلك المحال بطبيعة الحال.
إذن، أضحى يهوه إله بني إسرائيل القومي، بيد أنه كان لا معدل لهذا الإله - مع غيرته - عن العيش متفاهما هو وطائفة من الآلهة والإلهات، والحيوانات المقدسة كالعجل والثعبان، حتى الزمن الذي أدى فيه تطور بني إسرائيل الديني إلى عودة هذا الشعب إلى ميوله الأولى التي أفسدتها الإقامة بما بين النهرين، أي إلى التوحيد السامي.
وكان يهوه ذلك ضاريا على الخصوص، فالدماء إذا لم ترق، والشحم إذا لم يقتر على المذبح؛ لم يرتض.
وكان تقدم إليه قرابين عظيمة، وبلغ ما ذبحه سليمان دفعة واحدة من الثيران والخرفان الكثيرة ما ظهر معه المذبح النحاسي - الذي يذبح عليه عادة - صغيرا جدا، فجلس هذا الملك في فناء الهيكل وهو يذبح أو يأمر بالذبح بلا انقطاع مدة أسبوع كامل، فبلغ ما ذبحه، بحسب رواية أخباره، اثنين وعشرين ألف ثور، ومائة وعشرين ألف خروف؛ إرضاء لميول إلهه الدامية!
ولم يكن يهوه ليرتضي بالقرابين الحيوانية وحدها، بل كان لا بد من تقديم القرابين البشرية إليه، ودامت هذه العادة لدى بني إسرائيل طويل زمن، فضحى يفتاح بابنته، وكاد إبراهيم يضحي بابنه، وضحى صموئيل بملك العمالقة أجاج فقدمه قطعا إلى يهوه في الجلجال.
وتتجلى سجية يهوه الدامية في معظم أوامره إلى شعبه، وقد قال إلى الشعب المختار:
إذا ما دخلت مدينة لم يفتك أن تقتل سكانها بحد السيف، وأن تستأصلهم أطلة الدم، وأن تبيد كل ما يكون في تلك المدينة وأن تذبح حتى بهائمها.
فهذا هو المعبود الهائل الذي كان يسوع الحليم يسميه «أبي»، وأمام هذا المعبود تضم النساء النصرانيات الناعمات أيادي أطفالهن منذ عدة قرون.
ومع ذلك رأت النصرانية بالغريزة ألا تستعمل كلمة يهوه منتحلة كلمة الرب على العموم، وهذا الاسم رائع مبهم كاسم إلوهيم الرعاة.
ومن العمل المطول الذي لا نصنعه هنا أن نتعقب خطوة خطوة التطور الطويل الذي تحول به سنة بعد سنة وقرنا بعد قرن، الإله الطاغية الممثل بحجرين، يهوه سيناء، والذي بدا به في بدء الأمر معبودا ضاريا مشبعا من ضحايا داود وسليمان، والذي ظهر به بعدئذ أزلى إشعيا المدعى بحكم العالم، والذي تجلى به في نهاية الأمر أبا ليسوع، فمزج بطبيعته هذا المصلح الحليم، كما أننا لا نبين هنا كيفية ظهور بعض العقائد النصرانية، ونشوء هذه العقائد كالبعث والحياة الآخرة التي سكتت عنها التوراة تقريبا، وليس الموت لدى بني إسرائيل غير نوم عميق بلا يقظة، وفي هذه الحياة الدنيا، لا في الحياة الآخرة، ما يجب أن يتحقق وعد يهوه ووعيده حول مراعاة الشريعة الشديدة.
ودام، حتى زمن الإسارة، دين اليهود القائل بتعدد الآلهة كما وصفناه، وذلك بعبادته الكثيرة وطقوسه المتنوعة وأساطيره المتكاثفة.
ثم كانت خطوة نحو التوحيد، وكانت هذه الخطوة من المفاجأة ما يظن معه أنها وليدة طفرة حقيقية، لا تطور منتظم.
وثغرة كتلك مما كان لا يتجلى في تاريخ بني إسرائيل ولا في فكرهم، بل في أسفارهم المقدسة.
إن التوراة كتاب ألف في أدوار مختلفة أشد الاختلاف، وإن التوراة مملوءة بالارتباطات والاختلاطات والروايات المرتبة المصنوعة بعد قصير وقت، ويعقب شعر إشعيا الروحاني السامي في تاريخه ومكانه في العهد القديم إشراك الأجيال القديمة وأقاصيصها الجاهلية، ومما لا ريب فيه وجود ثغرة عدة قرون في ذلك لا تسدها وثائق التوراة.
وليس علينا أن نبحث هنا كيف يمكن ذلك؛ فقد سرنا واليهود حتى الزمن الذي عادوا لا يؤلفون فيه أمة، فلا نرسم التحولات التي عاناها فكرهم بتعاقب الأجيال بعد ذلك، وقد بينا بما فيه الكفاية، التطور الذي أضحت به المذاهب الكلدانية دين اليهودية، بعد أن انتحلها هذا الشعب الجديد، فمن مجاوزة حدود هذا الكتاب أن نبين كيف صار دين اليهود المشتق من المعتقدات الكلدانية، الدين الكبير الذي هيمن على أمم أوروبا المتمدنة نحو ألفي سنة، وذلك باقترانه بالأساطير الآرية.
الفصل الرابع
الآداب العبرية
إذا كان اليهود قد عطلوا من الفن والصناعة عطلا تاما، وإذا كان اليهود قد ظلوا بمعزل عن كل جمال يفوق المال، فإنك تجد لهم آدابا غنية منوعة يجدر ذكر بعض أجزائها.
وليست تلك الظاهرة خاصة ببني إسرائيل فقط؛ فهي تشاهد لدى جميع الأمم السامية، ولا سيما العرب الذين كانوا قبل الإسلام ذوي شعر بعيد الصيت حقا، على أن الشعر مع الموسيقى فن جميع الأمم الفطرية، والشعر مع بعده من التقدم موازيا لتقدم الحضارة تجده يضيق أهمية وتأثيرا كلما ارتقت الأمم؛ فقد اقتضت الحضارة قرونا طويلة لاختراع الآلة البخارية واكتشاف سنن الجاذبية، مع إمكان ظهور قصائد كالأوذيسة والإلياذة، وأغاني أوسيان في أدوار الجاهلية.
وحالت حياة البداوة، على الدوام، بين أهل البدو دون ظهور فنون شاخصة، وأدت إلى عدم اكتراثهم لتركيب الخطوط المنسجمة، وهي لم تحفز ملكاتهم إلى غير سبيل الشعر ، ولا سيما الشعر الغنائي.
وأقدم أغاني العرب هي الأجمل، ولما أقام العربي بالمدن بعدئذ حافظ على عادة الذهاب إلى تحت الخيام ليقوي وحيه، والعربي في قصده إخوانه الأعراب، يكون كما لو ذهب المدرسة ليتعلم اللغة الفصحى والوزن الرنان وأخيلة البطولة.
وعند العبريين سار الشعراء أو الأنبياء على سنة الشعوب السامية، حتى في زمن الرخاء، حتى في زمن الجاه، حتى في أيام العهد الملكي الأولى، كان أولئك الذين يسمعون أقوى الكلام يتمثلون هذا الكلام في العزلة، فيبدون من ذوي الهوس والجرأة والخيال.
وللساميين في البادية فتنة لا تقاوم، فكان يحن إلى آفاقها الواسعة حتى في قصور الأرز والذهب التي شادها سليمان، والبادية كانت توحي إلى كبار مرتلي بني إسرائيل، كانت توحي إلى أيوب وإشعيا وإرميا وحزقيال، وأقدم المزامير أسنى من غيره بدرجات، والمزامير وضعت لا ريب تحت الخيمة قبل الاستقرار النهائي بفلسطين.
وعند بني إسرائيل أسفر الشعر الغنائي، الممتاز جدا لدى جميع الأمم السامية، عن آثار لا مثيل لها، وعلى ما تراه من تنوع فروع الأدب الأخرى عند بني إسرائيل لا تعدل هذه الفروع ذلك الشعر الغنائي أبدا، وإذا كانت فروع الأدب تلك عزيزة علينا، فلما لم تترك الأمم المنتسبة إلى الحضارات من المدونات بمقدار ما كتبه اليهود.
وتشتمل أسفار الكتاب المقدس، وهي لا تمثل سوى قسم من آثار بني إسرائيل الأدبية، على نماذج لمعظم الأنواع التي مارستها الروح البشرية.
وفي التوراة تبصر التاريخ والأساطير والأقاصيص الخيالية، والقصائد الرعائية، والقطع الروائية، والنبذ التعليمية، والأناشيد الدينية، والأغاني الحربية، والقصائد الغزلية، والمجموع الحكمية والنسبية والشرعية ... إلخ. فنظر إلى ذلك نظرة خاطفة.
وأهم الأسفار التاريخية هي أسفار القضاة والملوك والأخبار وأستير ونحميا والمكابيين.
وأما أسفار موسى الخمسة التي كانت تصنف بين تلك الأسفار فيما مضى، فتتألف من أساطير كلدانية ومن عدة قوانين دقيقة يرجع نشوءها وتطبيقها إلى زمن أحدث من الزمن الذي وصف في سفر التكوين وسفر الخروج، وكتبت تلك الأسفار الخمسة في عهد الملوك، ويمتاز سفر التثنية، الذي هو أحد تلك الأسفار والذي هو أحدثها، من بقية تلك الأسفار بروحه المثالية.
وليس من الممكن عد موسى مؤلفا لتلك الأسفار الخمسة فقط، بل إن موسى شخص أسطوري أكثر من كونه شخصا تاريخيا، أي إن ذاتيته رتبت كما رتبت ذاتية بدهة «بوذا» بعد حين.
ومما يلاحظ في جميع الأسفار الإسرائيلية، التي تعد كتبا تاريخية، ميل ظاهر إلى استخراج نظرية من انتظام الحوادث، وهذه الأسفار لم تكتب لحفظ ذكرى الوقائع الممتعة فقط، بل كانت غايتها إثبات شيء، وهذه الأسفار جميعها إذ وضعت بصيغة الجزم بدا حسن النية فيها هزيلا.
وما تركه العبريون لنا من تاريخهم فقد دونه أحبار ملكيون كانوا يهدفون إلى نصر مبدأ الحكومة الملكية الإلهية.
وكان هؤلاء لا يألون جهدا في إظهار بني إسرائيل مسوسين من إلههم القومي يهوه الذي يعد القضاة أو الملوك مترجمين مفاوضين له بكثرة دالة، وكل عصيان ليهوه كان يؤدي إلى جزاء فوري، وكل تقوى نحوه كانت توجب أعظم رخاء.
وكان يصعب على المؤلف إذا ما تناول الحوادث الحديثة المعروفة جدا أن يشوهها تشويها كليا، فيكتفي بجعل تفسيره التي يمليها الهوى ملائمة لها.
ويمكن أن يعتمد تقريبا على كتاب اليهود في معظم تاريخ بني إسرائيل بعد شاول، وتتجلى مزيتهم الكبيرة، ولكن مع غير شعور، في حفظهم لنا حفظا صحيحا وصف المجتمع الذي تمت فيه الحوادث، لا هذه الحوادث على الدوام.
وتجد جميع معتقدات اليهود في أسفارهم حيث أودعت منذ عدة قرون، ولكن حيث كان عمى الوساوس الدينية يحول دون رؤيتها.
وظلت أوروبا النصرانية زمنا طويلا تقرأ كتب مؤرخي اليهود بالروح التي أرادها هؤلاء المؤرخون، وما وده أولئك المؤرخون من تمويه على معاصريهم ارتضاه أمثال أغوستن وبسكال وبوسويه وشاتوبريان، أكثر من ارتضاء ذلك الشعب الجاهلي المتعصب الذي حاولوا إقناعه.
وكتاب اليهود إذا لم يكونوا مؤرخين صادقين كانوا وصافين أوفياء، ومن الوثائق التي لا يعدل قيمتها شيء ما أتوا به من الأوصاف الساخطة حول وثنية بني إسرائيل المتأصلة، والأوصاف الساذجة للطبائع الرعائية، وسلاسل الأنساب التي لا حد لها، وسمات الأخلاق الهائجة .
ومن الناحية الأدبية عرضوا علينا صفحات جميلة إلى الغاية، وتعد فصول سفر التكوين الأولى أثرا ممتازا للعظمة والبساطة، وعلى هذا الوجه وبمثل هذا العرض وهذه اللغة، يمكن المرء أن يتمثل بدء الرواية البشرية الكبرى.
وإذا كان الأساس كلدانيا فإن الشكل عبري، وكان لا بد من قناعة السامي لوصف تلك المبادئ الهائلة في بضع كلمات، ومنحها حتى بالوسائل الساذجة مظهرا غريبا من ظاهر الحق والحياة.
وبجانب أسفار العبريين التاريخية والخرافية تجد القصة الصرفة التي لا يزعم صدقها، والتي لا يبالى فيها بالغلط التاريخي، والتي لا غاية لها سوى افتتان القارئ وثقافته الخلقية في بعض الأحيان.
وحذق كتاب اليهود ذلك النوع، فأشربوه حياة وطبيعة وفتنة في الجزئيات على وجه خاص.
وإذا عدوت ما قد تشعر به من اللذة في قراءة تلك الأقاصيص المؤثرة أو الفاجعة، كقصة يهوديت وراعوت وطوبيا وأستير ... إلخ، وجدتها تشتمل على تفصيلات مهمة عن الطبائع، وذلك كالوسواس الذي يساور يهوديت مع استعداد لاقتراف جرم القتل، حول أكل لحوم الحيوانات التي لم تذبح وفق الطقوس، وذلك كالوجه الذي دعت به راعوت بوعز، أقرب إنسان إلى زوجها، فوجب من حيث النتيجة أن يتزوجها بوعز ذلك وفق شريعة إسرائيل، على الرغم من الفرق العظيم في مقاميهما الذي يجعل تلك الفتاة كثيرة الخجل.
وقصة راعوت هذه من أطرف الأقاصيص الرعائية التي كتبت.
وإن خلق تلك الباسلة الناعم الخلي المحتشم، وإن خلق بوعز النبيل المستقيم الصادق، وإن غم نعمي الممزوج بالتسليم، مما صور بسلامة ذوق ورقة صنعة، فيلوح أنه آخر كلمة للفن، وإن السهول المثقلة بالسنابل الذهبية مع نشاط الحاصدين الجافي وراحتهم بعدئذ تحت السماء ذات الكواكب، وفي جلال ليالي الشرق مما عرض كدائرة للقصة.
ومن الطرافة أن ينتج اليهود آدابا خفيفة عاطفية ذات عفاف على الرغم من تحللهم، وما عندهم من أخبار الدعارة تجده في تاريخهم الخاص، لا في كتبهم التي هي وليدة الخيال الخالص.
وتجد سفر نشيد الأناشيد، الذي هو أكثر أسفارهم شهوانية، يصف أشد الغرام بعبارات شعرية أكثر منها شبقية، وليست لذة الحواس وحدها هي موضع هذا الشعر الفتان، وهذا الشعر يأخذ بمجامع القلوب على حسب التعبير المألوف، وفي هذا الشعر ترى سلامية عاشقة رقيقة متوقدة معا، وترى التعبير عن نار الرغبة فيها مقيدا بصور تنقذ بها وعورة بعض الميول.
ولم يجد الحب المنغص من النبرات المثيرة في أي كتاب مثل ما في سفر نشيد الأناشيد، ولم يستر الولوع العنيف بأرق الصور في أي كتاب مثل ما في سفر نشيد الأناشيد.
وسفر نشيد الأناشيد هو أجمل ما انتهى إلينا من الشعر الغرامي السامي. أجل، إن الآثار التي هي من هذا الطراز غير قليلة لدى العرب الذين لم يتغنوا بغير المرأة والجياد والملاحم، غير أن الحواس هي التي كانت تستحوذ على هؤلاء، فلا تكاد ترى في شعرهم الخيار والتفضيل، أي المشاعر، بل كانوا يصنعون ما يثير اللذات، فتبدو لهم كل امرأة حسناء إذا كانت فتاة حسنة الخلقة.
وفي سفر نشيد الأناشيد تبصر، بالعكس، أن سلامية وراعيها كانا يتحابان حبا فيألمان كلما تباعدا، ومن المحتمل أن يكون هذا المبدأ، الذي هو أقرب إلى الشعور الروائي في أيامنا منه إلى النعيم الحسي الشرقي الأعمى، أبرز ما في ذلك الشعر الغرامي.
وأرادت الكنيسة النصرانية أن ترى في ذلك النشيد الغرامي الولهان أثرا في الأخلاق الزاهدة، مصورا ضروب النعيم عند الاتصال الوثيق بالله.
ولا نرى مثالا أبرز من ذلك على روحية الأحكام البشرية، وقد خلقت نساء طاهرات زاهدات في قرون ليفكرن في صوغ جمل متأججة كالجمل الآتية:
في الليالي على مضجعي التمست من تحبه نفسي، التمسته فما وجدته.
هلم يا حبيبي، لنخرج إلى الصحراء، ولنبت في الضياع، فنبكر إلى الكروم وننظر هل أفرخ الكرم، وهل تفتحت زهوره، وهل نور الرمان، وهنالك أبذل لك حبي.
لا يعوز الآداب اليهودية آثار خلقية خالصة مستقلة عن التصانيف الدينية الكبيرة، فيعد بعض الأسفار، كسفر الأمثال وسفر الجامعة وسفر الحكمة، مجموعات أمثال عملية معدة لتوجيه سير الحياة، ولكن من غير كبير صلة بالآلهة مهما كان نوعها.
والروح العامة في تلك الأمثال هي أبيقورية ارتيابية، وما فيها من قول مؤكد بأن أوضح واجب علينا هو أن نتمتع بالحياة العتيدة لعدم وجود شيء وراءها، وبأن من الجنون أن نضحي بالساعة الراهنة في سبيل أوهام باطلة، لم يسبقه ما أتى به أناكريون وهوارس في العالم الوثني القديم.
وفي تلك الأسفار ترى درجة عطل اليهود من كل أمل فيما وراء القبر.
جاء في سفر الجامعة القول الجافي الآتي: «إن الكلب الحي خير من الأسد الميت.»
ولا تجد في سفر الأمثال، كما أنك لا تجد في سفر الجامعة، قولا عن نظرية الكتاب الملكيين في عدل يهوه بعد هذه الدنيا، فيكافئ الأبرار ويجازي الأشرار.
جاء في سفر الجامعة: «يوجد صديقون يصيبهم مثل عمل الأشرار، ويوجد أشرار يصيبهم مثل عمل الصديقين.»
وفي كل زمن كان لمجموعات الأمثال أهمية عظيمة في آداب كل أمة، وذلك لما تؤدي إليه من النفوذ في فكرها الصميمي.
ولم تشذ أمثال بني إسرائيل عن ذلك.
ولسنا هنالك أمام عمل مقرر قائل بنشر ما يصعب قبوله من الحقائق، ولسنا هنالك أمام رؤى الأنبياء العظيمة الشخصية.
ومن خلال تلك الأمثال، التي لم تكن من وضع رجل واحد، والتي كانت تتداولها الأفواه فتتكاثف فيها تجربة طويل القرون، تبصر فكر بني إسرائيل الحقيقي.
وكان ذلك الفكر نفعيا عمليا، وهو الفكر الذي سيطر على شعب إسرائيل منذ دور الفتح، منذ الزمن الذي علم فيه هذا الشعب الشهواني قيمة جميع خيرات الأرض، فجعلته متحرزا ماهرا طامعا جشعا في الربح، ضيقا في آفاقه، غير مستعد للتضحية بفائدة الساعة الحاضرة في سبيل منافع حياة قادمة غير محققة، وفي سبيل أنعم إله مثيب.
الحكيم يخاف فيجتنب الشر، والسفيه من يسير على غير ذلك.
الغني يكثر الأخلاء، والفقير يفارقه خليله، وجميع إخوة المعوز يبغضونه.
في كل تعب منفعة، وكلام الشفتين إنما هو إلى الفقر.
اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها وكن حكيما.
العامل بيد رخوة يفتقر، أما يد المجتهدين فتغني.
من يجمع في الصيف فهو ابن عاقل، ومن ينم في الحصاد فهو ابن مخز .
توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت.
وتمتدح الأمثال نوعا من الحكمة ليس سوى الحذر الدنيوي، ولكن مع سموه أحيانا كما يبدو، ومن ذلك:
قليل مع عدل خير من كثير مع جور.
بيد أن سفر الجامعة أكثر ارتيابا؛ فقد جاء فيه:
قلت في قلبي: إن الذي يحدث أهل يحدث لي أنا أيضا إذن، فلم حكمتي هذه الوافرة؟ فقلت في قلبي: هذا أيضا باطل.
وقد خلط سفر الجامعة بالملك سليمان عن غلط يتعذر إدراكه، فلا شيء يبتعد عن ذلك السفر العسير العميق أكثر مما نعرفه من حياة هذا الملك وأخلاقه، وإذا كان واضع ذلك السفر قد أجرى أقواله على لسان ذلك الملك القوي، فلافتراض جار في الآداب، ولرغبة ذلك المؤلف في مضاعفة الوزن والرجل لكي يدعي بأنه أزال وهمه عن كل شيء في هذا العالم يجب عليه أن يعرف كل شيء، كالغنى والسلطان وجلال العرش وأبهة القصور وملق الرجال.
جاء في سفر الجامعة: «كنت ملكا، فزدت عظمة ونموا على جميع الذين كانوا قبلي، وجمعت لي فضة وذهبا من أموال الملوك والأقاليم، وكل ما ابتغته عيناي لم أدعه يفوتها، ولا منعت قلبي من الفرح شيئا، فإذا الجميع باطل.»
ولم يشتمل سفر الجامعة على جميع ما يرنو إليه أقصى الطموح من المحاسن فقط، بل يشتمل أيضا على بصيرة واسعة؛ فقد نفذ إلى أساس الحكمة البشرية.
فمما جاء في سفر الجامعة: «رأى قلبي كثيرا من الحكمة والعلم، ووجهت قلبي لمعرفة الحكمة والجنون والحماقة.»
وبطل ذلك السفر - وهو مؤلفه - كامل، فلا يعوزه شيء، وهو يملك كل ما يجوز دعوته بالسعادة، سواء أمن الناحية الذهنية أو الناحية الجثمانية.
وإليك كيف يرجع إلى نفسه فيسألها وهو أوج السلطان وذروة العلم الإنساني وهو في سواء ألذ الشهوات:
هل بلغ الغاية التي وجد من أجلها في العالم؟ أفيعرف هذا الهدف وحده؟ ما هو أساس جميع الأشياء؟ آلشرور؟ أصاحب سفر الجامعة سعيد؟
جاء في سفر الجامعة: «قلت في قلبي من جهة أمور البشر: إن الله يمتحنهم ليريهم أنهم كالبهائم ؛ لأن ما يحدث لبني البشر هو يحدث للبهيم، وللفريقين حادثة واحدة، كما تموت هي يموت هو، ولكليهما روح واحدة، فليس للإنسان فضل على البهيمة؛ لأن كليهما باطل، كلاهما يذهب إلى مكان واحد، كان كلاهما من التراب، وكلاهما يعود إلى التراب.»
ولكن الأمر ليس كذلك تماما، فلا يشابه الإنسان الحيوان مشابهة تامة؛ لأن الحيوان يأكل ويتمتع بجميع حواسه ويموت هادئا غير شاعر، وإنما يحمل الإنسان في نفسه بذرة الألم الخفي الخالد.
وصاحب سفر الجامعة إذ عرف أكثر من كل إنسان ذلك الغم الغريب والأمل القاهر والهم من العدم، رفع صوته متحسرا قائلا:
في كثرة الحكمة كثرة الغمة، ومن ازداد علما فقد ازداد غما.
وتنحصر أخلاق صاحب سفر الجامعة والنصيحة التي يسوقها إلينا في تقريبنا، إذا أمكن، من دائرة اللاشعور الموحشة الهادئة، وفي طردنا من نفوسنا كل هم حول ما هو عادل أبدي غير محدود، وفي إغماض عيوننا وجعل أصابعنا في آذاننا، وخنق الصوت المقطوع الرجاء في قلوبنا، والتمتع بالأمور المحسوسة الملموسة التي نستطيع بها قضاء أوطارنا الجثمانية ومدارة كبريائنا.
جاء في سفر الجامعة:
ليس للإنسان خير من أن يأكل ويشرب ويرى نفسه خيرا من تعبه، رأيت هذا أيضا أنه من يد الله.
والأحياء يعلمون أنهم سيموتون، أما الأموات فلا يعلمون شيئا، وليس لهم من جزاء بعد إذ قد نسي ذكرهم.
حبهم وغيرتهم قد هلكت جميعا، وليس لهم حظ بعد إلى الأبد، في شيء مما يجري تحت الشمس.
فاذهب كل خبزك بفرح واشرب خمرك بقلب مسرور، ولتكن ثيابك بيضا في كل حين، ولا يعوز رأسك الدهن.
تمتع جميع حياتك الفانية بالعيش مع المرأة التي أحببتها وأوتيتها تحت الشمس لتقضي أيامك الفانية، فإن ذلك حظك من الحياة، فليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها.
تلك هي النصائح التي يأتي بها صاحب سفر الجامعة، ويستشف من اللهجة التي ذكرها بها أنه يحسد بحرارة من يقدر على العمل بها.
وذلك لأنه يشعر أكثر من أي شخص آخر أنه مقيد بالغموم والرغائب التي يكافحها ويسحقها ويسخر منها فاترا حاقدا، ولأنه يمقت ذلك العدم الذي يبصره حذرا مذعورا، ولأنه لم يتذوق بسلام المسرات المادية التي يمدحها، وهي مسممة عنده بالسؤال «لماذا؟» الخالد الذي يؤذي أنبل النفوس منذ قرون كثيرة.
جاء في سفر الجامعة:
قلت للضحك: فيك الجنون. وللفرح: ماذا تنفع؟
وقلت في قلبي: إن الذي يحدث للجاهل يحدث لي أيضا، إذن فلم حكمتي هذه الوافرة؟ فقلت في قلبي: هذا أيضا باطل.
فإنه ليس من ذكر للحكيم وللجاهل كليهما إلى الأبد؛ إذ في الأيام الآتية كل شيء ينسى، وا أسفا، يموت الحكيم كالجاهل!
فكرهت الحياة إذ ساءني العمل الذي يعمل تحت الشمس؛ لأنه كله باطل وكآبة الروح.
ومذاهب التطور التي أولع بها فلاسفة زماننا مما كان صاحب سفر الجامعة قد أبصره، فلم تجد سوداؤه فيه سلوانا.
وذكر صاحب سفر الجامعة أنه إذا لم يقتطف في هذه الحياة الدنيا ثمرة آثاره، فإنه يتركها ميراثا للأجيال القادمة، وأنه إذا لم يهلك تماما فلما يراه من بقاء فكره بعده، وأن الفرد إذا ما باد فإن البشرية حية متقدمة، وأنه لا يضيع أي عمل عظيم ولا أي جهد، وأنه لا عامل كثير الخضوع.
ولم يكف ذلك الفكر عنده أن يعوض الإنسان من كرب الحياة العظيم ومن مداجاتها؛ فقد قال:
وكرهت جميع ما عانيت تحت الشمس من تعبي؛ لأنني سأتركه لإنسان يخلفني.
ومن يدري هل يكون حكيما أو أحمق، مع أنه سيستولي على كل عملي الذي أفرغت فيه تعبي وحكمتي تحت الشمس، هذا أيضا باطل.
غبطت الأموات الذين درجوا من قبل، على الأحياء الذين هم باقون حتى الآن، وخير من كليهما من لم يوجد حتى الآن؛ لأنه لم ير العمل الشرير الذي يفعله تحت الشمس.
تلك هي آخر كلمة لصاحب سفر الجامعة، ولا تظن أنه خرج من فيه الكلام النهائي الآتي الذي تسرب في سفره بتحشية صادرة عن تقوى، فجاء مكذبا له بأسره:
اتق الله واحفظ وصاياه، فإن هذا هو الإنسان كله.
وليس ما فرغنا من تحليله أثر تسليم تقي، وليس ذلك صوت تمرد إلحادي ما دام التمرد غرورا، وليس ذلك تجديفا، بل هو أسوأ من ذلك كله؛ وذلك لأنك تجد الشهوة والحياة في الألم الساخط وفي التجديف، فيكون هذا كأمل خفي يرى من مخاطبة من يسمع كلام الغضب.
وسفر الجامعة من أمر الإنكارات التي نطق بها كل ذي شفتين؛ فهو أنشودة قنوط المحكوم عليهم بالهلاك الأبدي، وهو ينفع كتابة قبر للجنس البشري حينما تسجى الأرض الخالية من سكانها الأخيرين تحت كفن من الجليد!
والذي ستر حتى يومنا هذا ما في ذلك السفر الباقي من الواقعية الباردة والطيرة القاتمة، هو ذلك الشعور الديني الذي ما انفك يشوه التوراة منذ ألفي سنة، فإذا ما تخلص المرء من الأباطيل المتأصلة، استمع إلى سفر الجامعة منقبض الصدر بما يفوق الوصف، وأية فلسفة أو أي أمل يقاوم هذا التحليل الهائل؟
والذي يمسك البشرية فوق العدم هو حب الاطلاع، لا سرور الحياة على رأي ذلك الكاتب الكئيب.
جميع الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن، لا تشبع العين من النظر ولا تمتلئ الأذن من السماع.
وإذ ليس من الممكن أن يكون هذا الشعور أجوف فارغا غير مثمر، أضاف صاحب سفر الجامعة إلى ذلك قوله:
ما كان فهو الذي سيكون، وما صنع فهو الذي سيصنع، فليس تحت الشمس شيء جديد.
رب أمر يقال عنه: انظر! هذا جديد، فهو قد كان في الدهور التي سلفت قبلنا.
ويعد سفر أيوب عذبا معزيا بجانب سفر الجامعة.
بيد أن ما في القسم الأول من سفر أيوب من الضيق الخلقي الكريه لا يداوي إلا بثقة عمياء بالله، وعند مؤلف هذا السفر أن ما يمكننا أن نناله من السكينة هو في العدول عن البحث، وفي العدول عن الفهم، وفي الإذعان للسنن التي تسير مصايرنا من غير حب شديد للاطلاع ومن غير تذمر.
وبأي دم بارد، وبأي إصرار، وبأي حذق، وبأي بصر حديد استبر متشائمو اليهود أولئك جروحنا الأبدية؟
لما يجد العلم ما هو مقرر في الجواب عنهم مع انقضاء ما يزيد على ألفي سنة!
إن الوهم التقي في سفر أيوب، وإن الوهم الشهواني في سفر الجامعة، قد اقتسما الناس لتعليلهم بالباطل، إن لم يكن لشفائهم، ولما يكتشف شيء أحسن من ذلك لسوق البشرية إلى مستقبل لم يصنع من أجلها على ما يحتمل.
ولا يزال العالم منقسما بين التمتعيين والمثاليين، أي بين أتباع سفر الجامعة وأتباع سفر أيوب.
وترى في هذا العصر بعض المفكرين الذين أعياهم ذانك النجدان، فأخذوا يصنعون من المسائل ما كان صاحبا ذينك السفرين العبريين قد جادلا فيهما بجرأة.
ولكن أين سوداؤنا من سودائهم؟ وما هي طيرتنا الحديثة التي أقدمت على توكيد العدم في أيلولة البشرية كما وكدوا بلا التواء وكلام فارغ؟ وأين ذلك الذي أغلق أبواب الأمل أمام الإنسان بحزم مثلهم؟
ولا تصلح قراءة مثل تلك الأسفار، ولولا تلطيف الشعور الديني لها، ولولا اشتمال الشعر الرائع عليها، فوجب حصرها في سرداب عميق وتكديس مداميك بعض الأهرام العظيمة فوقها؛ منعا لسماع صوتها المؤلم، ودرءا لتعطيلها قلب الإنسانية المسنة العاجز.
على أن ذلك السفر العجيب الموجع، سفر أيوب، يعد من أنفس الآثار التي نشأت عن النفس البشرية.
ولذلك السفر صورة رواية إشيل الفاجعة، بيد أن هذا الشاعر اليوناني لم يحلق طويل زمن في سماء عالية، ولا تجد أثرا، مهما سما، قد أبدى وحدة أتم مما في ذلك السفر.
وفي تلك الرواية المحزنة تجد خمسة أبطال: أيوب، وأصحابه الثلاثة، والرب.
ولا نتكلم عن أليهو الذي لم تعد جميع أقواله حد التحشيات التي دست بعد زمن كما هو ظاهر؛ وذلك تلطيفا لصبغة السفر الفاجعة التي يتكلف معها أليهو تكلفا مطلقا.
وأيوب هو الرجل الذي يألم ويسأل: لماذا؟ والأصحاب الثلاثة هم ممثلو المذهب الإسرائيلي المعروف الذي يزعم أن يهوه يكافئ الأبرار ويجازي الأشرار، وأن كل ألم يفترض ذنبا سابقا.
ولم يجد أيوب عسرا في إبطال ذلك المذهب، حتى إنه ذهب إلى أقصى العكس في سورة غضب، فقال موكدا: إن الأشرار وحدهم هم الذي ينعمون في هذه الحياة الدنيا .
فقد قال صارخا: «لماذا يحيا الأشرار ويشيخون؟ ولماذا يعظم اقتدارهم؟ نسلهم قائم وأعقابهم لدى أعينهم، بيوتهم آمنة من الفزع، وقضيب الله لا يعلوهم.»
ولما طال الحوار بين أيوب وأصحابه بما فيه الكفاية، بدا الرب وصرح بلهجة شعرية ممتازة أن الإنسان هو من شدة الجهل والضعف ما لا يستطيع معه أن يسأله، فلا ينبغي له أن ينفذ سر سبله.
ولم تكن نتيجة ذلك واحدة لا ريب، غير أنها النتيجة الوحيدة التي يمكن النفس الدينية أن تصل إليها، ألا إن علم الحياة والموت الأعلى أمر خفي علينا، ونستطيع أن نتكلم عنه على الدوام مع أيوب القائل:
أين توجد الحكمة وأين مقر الفطنة؟
العمر قال: ليست في. والبحر قال: ليست عندي.
إنها محجوبة عن عيني كل وحي، ومتوارية عن طير السماء.
الهلاك والموت قالا: قد بلغ مسامعنا خبرها.
ولا شيء يعدل سفر أيوب جلالا وجمال شكل، وتناسب لغته، وسمو موضوعه.
ومن العسير اقتطاع فقر من هذا السفر الذي يجب إيراده بأسره.
والحق أن الأزلي إذا ما تكلم ووصف عجائب الطبيعة التي خلقها، ظن المرء سماعه صدى صوت إلهي.
فقد وصفت سعة الكون وروعة السماء ذات الكواكب وعظمة البحر المحيط، وتنوع النبات والحيوانات تنوعا لا حد له، وجمال الخيل وبأسها، وقوة النسر وخيلاؤه؛ وصفا دقيقا جزيلا.
وتجد عظمة ذات أثر مؤثر في هذا السؤال الذي كرره الرب للإنسان الضعيف الذي يسأله:
أكنت تصنع هذه الأشياء؟ أفتعلم كيف صنعت؟
أترسل البروق فتنطلق وتقول لك: نحن لديك؟
من وضع الحكمة في الأعصار أم من آتى النوء الفهم؟ ومن يحصي الغيوم بحكمته؟ ومن يصب زقاق السماوات؟
أأنت الذي يؤتي الفرس قوة؟ أبحكمتك يستقل البازي في الجو ويبسط جناحيه نحو الجنوب؟
وبلغ شعر العبريين، الذي تركته لنا المزامير وأسفار صغار الأنبياء وكبارهم، والقطع المنثورة في جميع أجزاء العهد القديم، من الغنى في التآليف ما لا نقدر معه على غير تقديره بسوى أوصافه العامة.
وذلك الشعر غزير عال، رفيع في الغالب، خصيب في الصور، ذو بلاغة مؤثرة.
ولم تكن الموضوعات الدينية مصدر الإلهام الوحيد فيه، ففيه تنويه بالخمر والنساء والحرب، غير أن أناشيد التقوى هي التي جمعت وبقيت لنا.
ونعد من أقدم الشعر العبري أغنية حرب دبوره التي توجد في سفر القضاة.
وترجع المزامير إلى أدوار مختلفة. أجل، إن داود الذي عزيت المزامير إليه طويل زمن كان شاعرا ممتازا لا ريب، بيد أنه يستحيل أن نعرف بين الأغاني العبرية أي المزامير من صنعه، والمزمور الوحيد الخاص به هو النشيد المحزن الذي وضعه بعد موت شاول ويوناتان على التحقيق.
والشعر الإسرائيلي الغنائي ذو روعة كبيرة، وهو في تعبيره وفي وحيه العام أفضل من القصائد الحربية أو الدلالية لدى الساميين الآخرين، حتى لدى العرب.
والشعر الإسرائيلي لم يؤلف من أبيات بالمعنى الصحيح، بل يشتمل على إيقاع خاص ناشئ عما يسمى بموازنة الأجزاء.
ويقسم كل دور في الشعر العبري إلى جزأي جملة مشتملين على الفكر الواحد المعبر عنه بكلمات متماثلة تقريبا، وذلك على وجه يسمع به صدى الجزء الأول في الجزء الثاني، وهذا الصدى ذو أثر مؤثر في الأذن وفي الفكر معا.
وإليك مثالا، إليك قطعة من المزمور المائة والثاني العجيب:
الرب رءوف رحيم طويل الأناة وكثير الرحمة
ليس على الدوام يسخط ولا إلى الأبد يحقد
لا على حسب خطايانا عاملنا، ولا على حسب آثامنا كافأنا
بل بمقدار ارتفاع السماء عن الأرض عظمت رحمته على الذين يتقونه.
ولا تجد عند العرب، ولا عند الساميين الآخرين، موازنة الأجزاء تلك الخاصة بالشعراء العبريين والتي هي من مميزاتهم، وتجدها بالعكس، في بعض الآثار الأكادية القديمة إلى الغاية، وفي هذا دليل جديد على إقامة ساميي الشمال بما بين النهرين، وعلى اقتباس اليهود لموازنة تلك الأجزاء من كلدة.
إذن، لم يكن تفتح الآداب العبرية الرائع ذلك أمرا غريزيا، بل يرتبط بشكله ومبادئه الدينية في بيئة ثقافية شرقية قديمة جدا.
والعبقرية السامية إذا ما تركت وحدها لم تبلغ مثل ذلك السمو، وروح السامي تشابه جسمه الجاف العصبي؛ فهي جليلة رشيقة لبقة مع قلة عمق وفقر خيال.
وما أبصر من أمور فيما مضى، وما سمع من أقوال في غضون القرون القديمة على ضفاف الفرات؛ فقد مازجا بني إسرائيل في جميع تاريخهم.
وفي كلدة اتفق لبني إسرائيل ذلك التعطش إلى معرفة بداءة كل شيء ونهايته، أي حب الاطلاع الضاري الذي كان يؤلم قدماء المجوس.
والإسرائيلي لو بقي تحت خيمته في سهوب جزيرة العرب النمطية، ما وجد من النبرات ما يزعزع به العالم ويقنعه ويولعه.
ولم يكن أنبياء اليهود منصفين نحو بابل.
وينبئ إشعيا بخراب بابل فيصرخ قائلا:
ستأتي عليك كلتا المصيبتين: الشكل والترمل، فيتمان عليك من أنواع سحرك وقوة رقاك الكثيرة.
وقد وثقت بخبثك وقلت لا يراني أحد، إن حكمتك وعلمك هما أفتناك في قلبك أنا وليس غيري.
امكثي علي رقاك وأنواع سحرك الذي عنيت به منذ صباك.
فليقف راصدو السماء الناظرون في النجوم المعروفون عند رءوس الشهور، وليخلصوك مما هو آت عليك.
وتلوح تلك السخرية قاسية في فم أحد أولئك الشعراء اليهود الكبار المدينين كثيرا لكلدة.
ويشابه أسمى تفتحات العبقرية البشرية أزهار الشجر التي تستمد جمالها ونضارتها ونورها من جذورها السود البعيدة المطمورة في التراب المظلم، ويتطلب نشوء الشجرة سنوات طويلة، وتتفتح الزهرة في يوم واحد، وليس من الحق أن تزهو الزهرة فتستخف بالفنن الخشن الذي يحملها والذي لا تكون بغيره.
ونحن أولاء الذين يكونون أمام أروع المعلومات، فيسعون في الرجوع إلى العلل الوضيعة، نبصر أمرين وراء روعة القصائد العبرية.
نبصر الخيمة في البادية صغيرة تجاه الآفاق النمطية التي لا حد لها، ثم نبصر على ذروة معابد كلدة، المجوسي المفكر وهو يحاول استخراج سر مصايرنا من السماء الصامتة.
فذكرى الخيمة الوضيعة، وذكرى المعبد المتكبر قد عظمتا مقدار الأحلام التي سحرت الإنسانية حين أوحتا إلى الشاعر اليهودي.
অজানা পৃষ্ঠা