হে ভ্রাতৃগণ
يا إخوتي: قصائد مختارة من شعر أنجاريتي
জনগুলি
هذا الشاعر الذي كانت مصر - بنيلها وريفها وناسها وعراقة ثغرها المبتسم الحبيب - هي على حد تعبيره حلمه المألوف، وسرت أسرار روحها وهدير وهمس بحرها وغموض صحاريها في شعره الصارم البسيط الذي يشبه شذرات مبتورة يتخللها من الصمت والسر والكتمان والأصداء أكثر مما يسمع منها من الأصوات والأنغام.
هل آن الأوان لأن نتذكر هذا الشاعر ونقرأه، ونحاول التعرف إلى تأثير لؤلؤتنا وعروسنا الخالدة عليه بعد أن طال نسياننا وإهمالنا له، ولم ينشغل به - على مبلغ علمي - أحد من إخواننا المجيدين للغة الإيطالية والعارفين بآدابها؟ أقول: هل آن الأوان لإنصافه أو بالأحرى لإنصاف أنفسنا بالاقتراب من عالمه وتجربته الشعرية المؤثرة على الشعر الإيطالي والأوروبي كله، والتعرف إلى تجربة حياته التي عكستها مرآة شعره وصفتها؟
فلنحاول في البداية أن نتابع طريق حياته خطوة خطوة، قبل أن ننظر بصورة مؤقتة وعاجلة في تجربة حياته التي لم تخرج تجربته الشعرية عن أن تكون مجرد انعكاسات لحظية خاطفة لها، وشديدة التركيز والتكثيف على مرآة لغته الجديدة والوحيدة. (2) ولد أنجاريتي في العاشر من شهر فبراير، سنة 1888م في الإسكندرية، لأبوين هاجرا إليها من مدينة «لوكا» في منطقة توسكانيا مع الأعداد الغفيرة من المهاجرين الأوروبيين الذين ازدحمت بهم المدينة منذ أواخر القرن التاسع عشر - في حمى الاحتلال البريطاني - أوائل القرن العشرين. كم يؤسفني غاية الأسف ألا تساعد المراجع الشحيحة التي تحت يدي على معرفة شيء عن تفصيلات حياته وتجربة طفولته وصباه؛ الحي الذي نشأ فيه، والشارع والبيت الذي ولد فيه ولعب على أعتابه، والمدارس التي تعلم فيها، والثقافة التي حصلها وربما التقط من شجرتها بعض الزهور والثمرات، التي تختزن عبق التاريخ السكندري، وإشراق أنواره العلمية والباطنية منذ العصر الزاهي لمدرسة الإسكندرية والكتابات الهرمسية في القرون الأولى بعد المسيحية حتى الفتح العربي الإسلامي، وما جاء بعده من تاريخها الوسيط والحديث.
2
يؤسفني هذا كما قلت ويضطرني - ولو إلى حين - لمتابعة الخطوات الأساسية على درب حياته الذي امتلأ بحفر الحرب ومآسيها، وتركت على مواقف الوحدة والقلق والغربة، وفقد الأحباب ولواعج الشوق اللاغب إلى المطلق واللا محدود؛ آثار جراحها الدامية.
عاش أنجاريتي مع عائلته في الإسكندرية، ولم يتركها على أرجح الاحتمالات قبل بلوغه الثالثة والعشرين من عمره، وسافر حوالي سنة 1911م إلى روما لاستكمال تعليمه، ثم لم يلبث أن اتجه إلى باريس التي أقام بها لأول مرة ما يقرب من ثلاثة أعوام (1912-1915م)، كانت من أخصب أعوام حياته وأشدها تأثيرا على وجدانه وعقله وعلى طموحه، إلى تجديد لغته وشعره تجديدا جذريا بوحي من الصراعات والمنازعات والمحاورات التي كانت تدور وتصطخب في باريس بين التقليديين من جهة، والمجددين والمستقبليين والحداثيين في الفنون الجميلة وفي الشعر والأدب من جهة أخرى. هنا تعرف إلى الجديد الذي سيكتسح كل الحواجز والعقبات التي وقفت في وجه الأدب والفن الأوروبي، وهنا سيتاح له أن يقرأ نيتشه وبودلير ومالا رميه (الذي لا أشك لحظة واحدة في تأثيره الطاغي عليه ...) وأن يستمع إلى محاضرات برجسون، ويستوعب ما فيها من حديث عذب متدفق عن «الديمومة» والشعور المباشر، والتطور الخالق والدفعات والانبثاقات الروحية التي تنتصر على المادة، وتتحرر منها وسوف تؤثر كلها بطرق غير مباشرة على الشاعر الشاب والشيخ أيضا. وهنا أخيرا تعرف إلى عدد من الشعراء والمصورين الذين انعقدت بينه وبين بعضهم أواصر صداقة ومحبة عميقة. يكفي أن نذكر منهم الشاعرين: جيوم أبو للينير، وماكس جاكوب، والفنانين المصورين بيكاسو وبراك ومود يلياني. كل هذا بجانب قراءته لعدد كبير من الشعراء الذي سيشتهر بترجماته الرائعة لهم بما لا يقل عن شهرته الكبيرة بعد ذلك في الثلاثينيات كشاعر مجدد يصدم أذواق الجماهير، وتؤسس المجلات خصيصا للهجوم عليه، أو للدفاع عنه وشرح قصائده. من هؤلاء الذين كان له الفضل في ترجمتهم بعد ذلك بودلير ومالارميه - وهما قطبا التجديد اللذان سبق ذكرهما - وبول فاليري وسان - جون - بيرس، الذين أضاف إليهم بعد ذلك ترجمات يشاد بها إلى اليوم عن شكسبير وراسين وشارل بيجي ووليم بليك.
كان المستقبليون بزعامة مارينيتي يثيرون في ذلك الوقت ضجة شديدة حول دعواتهم الصارخة للثورة على القديم، وللتجديد في بناء لغة الرسم ولغة الشعر، وأخذه أصدقاؤه الإيطاليون الذين كانوا يعيشون في باريس - وهم الأدباء والنقاد بالأتزيسكي وسوفيتشي وبابيني - لزيارة أحد المعارض الهامة للوحات المستقبليين، ولفتوا انتباهه إلى مجلتهم «لاتشيريا»،
3
التي نشر فيها بعض قصائده الباكرة ... (3) وفي سنة 1915م تطوع للاشتراك في الحرب العالمية الأولى، وانخرط في الكتيبة التاسعة عشرة مشاة، وقضى معظم سنوات الحرب في الجبهة النمسوية؛ حيث كتب في الخنادق المظلمة وتحت وابل القنابل المدوية أغلب قصائد مجموعته الأولى «الميناء المدفون»، التي ظهرت سنة 1916م في مدينة أودين. لم تكن قصائد تحث على الحرب أو تنفر منها، وإنما كانت نفثات إنسان وجد نفسه على حين فجأة متورطا في السير على شارع الحرب الذي لم يحسب حسابه، ولم يخطر له على بال. راح يسأل في مواجهة الفواجع البشعة: لماذا؟ ولم يكن هو وحده الذي يردد السؤال الذي استعصت إجابته على جنود كثيرين مثله. كانوا يقفون في بؤسهم وتعرضهم كل لحظة للجرح والموت كما تقف أوراق الشجر في الخريف، وقد كتب عليها أن تسقط حتما دون أن تستطيع أن تقول شيئا؛ لأنه لم يبق من شيء يمكن أن يقال. وهكذا تنشأ وتنمو قصيدة نادرة من أربعة سطور وتسع كلمات، لكن كم تدوي منطلقة منها أحزان الورق الذابل في صمت في رياح الخريف وكآبته، وأحزان الجنود الذين يروحون كل يوم ضحية «مجزرة الإخوة الأوروبيين»، ولسانهم وقلبهم يرددان السؤال الذي لا جواب له:
هكذا
অজানা পৃষ্ঠা