أما المستر ه. ك. فما أظنه قال شيئا، بل صمت كزكريا بعد خروجه من الهيكل.
أما أولاده وزوجته فكانوا يرقصون فرحا، مؤمنين أشد الإيمان بحكاية «بابا نويل » ...
أم نخول
... قبل هاتيك الحرب
سمعت باسم أم نخول وأنا ابن خمس، فكنت أكبر ويكبر معي، إذا دبرت امرأة تدبيرا فيه صلاح لعيلتها نوهوا باسمها قائلين: «عاشت أم نخول.» وإن عز شيء في الضيعة ووجدوه عند واحدة قالوا: «هذي أم نخول ثانية.» وإن مرت على الطريق امرأة مترجلة لا تبالي بمن يتشمسون قدام الأبواب، تنحنحوا وتغامزوا قائلين: «إحم ... أم نخول.» وهكذا انطبع هذا الاسم في ذهني كالأبانا والسلام؛ فالمرحوم - على قلة تقديره للمرأة - كان يلقبها أخت الرجال فيحفظ أمي ولا يبالي، بل يصب النفط على النار فيقول: «آه على امرأة مثلها!»
ورأيت بيتها وأنا ابن سبع، كنت مع والدتي في طريقنا إلى البترون، فأومأت بأصبعها إلى بيت معلق على صدر جبل وقالت: «هذاك بيت أم نخول.» فمشيت ولكن نظري ظل عالقا بذاك البيت فقلت: «وأين هي أم نخول؟» فضحكت أمي وقالت: «من يعلم؟ أشغالها كثيرة.» فقلت: «حجارة بيتها بيضاء.» فقالت: «عجل يا صبي، امش، هذا كلس.»
لم يخرج كر السنين ذاك الاسم من رأسي، بل قامت إلى جانبه صورة بيتها، وسمعت عنها أحاديث أغرتني بزيارتها، ولكني تهيبت العقاب القائمة دونه. وأخيرا، ولا أدري كيف ... رأيتني على مقربة من بيتها، وكلبها «غبار» يستقبلني استقبالا صارخا كان له النهر والأودية والكهوف كمضخمات الصوت، لو كان «غبار» وحده لاتقيته، ولكن أسرته الكريمة معه، وكانت أشد احتفاء بي منه، تسمرت في مكاني أنتظر العون فإذا براع صغير يصيح من ورائي في الجبل المناوح، ويسألني أين أقصد، فأجبته وركني - خشية الكلب - أزور، فصاح الولد على البيت فردت عليه أنثى بصوت يسمعه من هم على الشط، وما عتمت أن انتصبت بالباب، فقال لها: «ردي الكلاب.» فأجابته: «ما عليك، انتبه لعنزاتك.» ثم نادت قائد الكلاب باسمه، ففهم عنها ولف الذنب الذي كان لرأسه إكليلا، وعاد وجيشه.
وجدتني تلقاء امرأة لا هي طويلة ولا قصيرة، لا ضخمة ولا هزيلة، لا جميلة ولا قبيحة، لا صبية ولا عجوز، تعصب جبهتها بقدة سوداء، وتلف رأسها بفوطة بيضاء نظيفة كأنها من ممرضات اليوم، تلبس فسطانا منتفخا على كتفيها كأن هناك رمانتين، قماش كثير من الزنار ونازلا، فكأنها خابية من خوابي بيت شباب.
وقبل أن أبلغ البيت الأبيض مررت بين أشجار كلها حوامل، بعضها مؤزر بشباك ترد عنها الطير فلا تفسد ثمارها، وعلى رءوس الغصون الشامخة جماجم غنم ومعزى، وقشور بيض مرفوعة على قصب مغروز في الأرض، وعلى شناخيب مساميك العريش قدد من نسيج مختلفة ألوانه، كأنها سمات أوسمة منحتها أم نخول أشجارها المتفوقة في الحمل، تمائم وتعاويذ تتقي بها عيون الحساد فلا تصيب مزروعاتها. أما الأوابد فلها دواء آخر: هنا نطار على هيئة رجل، وهناك لعين بشكل امرأة، أشكال وألوان تقشعر لرؤيتها جلود البشر، فكيف لا تفزع ابن آوي والعصافير! خلتني وأنا مار بينها كأنني بين خفراء مختلفي السحن، وكلهم فظ غليظ القلب.
وحدجني «غبار» بعينه المحمرة، وكشر عن أنيابه البيضاء، وتحسحس كمن يريد الوثوب فقالت له: «غبار، سد بوزك، هذا ضيف.» فتبدلت ملامحه في الحال، واستخذى وزحف صوبي حتى دنا مني يشمني، فقالت لي: «لا تخف، أهلا وسهلا.»
অজানা পৃষ্ঠা