فقال ذو نفر: ما تعودت أن أنطق إلا لكي يسمع عني. سلني أيها الملك أجبك صريحا؛ فهذا أجدر أن تسمع ما أقول صحيحا. وهل أملك أن أنزع نفسي من ذلك الماضي؟ وهل بقي لي من الغد ما أعلل به نفسي؟
فقال أبرهة في غضب: ما ذلك الماضي الذي ما تزال به مفتونا؟ أتخشى على شبان حمير أن ينسوا أنهم كانوا من قبل ملوكا؟ أنا وحدي الذي أنزع نفسي من الماضي وأنسى عداوتي وحقدي وكراهتي. أنا وحدي الذي أتسامح وأغضي عيني على القذى. أتسمع ما يقول يا صفوان بن قيس؟
فقال الشيخ صفوان: عفوا أيها الملك، فقد عرفنا حلمك وحكمتك، وما جاء ذو نفر إلا مظهرا للولاء.
فقال أبرهة في دفعة سريعة: أتنطق عن الشيخ؟ أما تدعه يتحدث عن نفسه وتقنع بأن تتحدث عن نفسك؟ إنك أنت كذلك لا تستطيع أن تنزع نفسك من ذلك الماضي، وتقول مثله إنك من حمير أصحاب الملك. أليس هذا ما تقوله صباح مساء في دروس الصبية؟
ووقعت الكلمة على الشيخ كأنها وخزة؛ دروس الصبية؟ أما يزيد في نظر أبرهة على هذا؟ وسكت أبرهة لحظة قصيرة ثم استأنف قوله، وكان صوته أهدأ وفيه رنين أسى: كنت أحسب أنني أكسب بالحلم أصدقاء وأمحو أثر العداوة الأولى. كنت أحسب أنني إذا قربت الذين حاربوني اقتربوا مني، وإذا أسوت جراحهم وحقنت دماءهم قضوا سائر حياتهم يعرفون الدين الذي لي في أعناقهم، ولكني وجدت آخر الأمر أنني أنا وحدي الذي نسيت العداوة.
فرفع صفوان رأسه وقال: لست أنسى أيها الملك أنك أسوت جراحي عندما حملت من المعركة، ولست أنكر أنك رحمتني وحقنت دمي حين لم أنتظر منك العفو. كنت أعرف أنني عدو، ولا أحزن لو لقيت مصير العدو المنهزم، ولكن هذا ما كان منك وقد مضى عليه حين طويل، لقيت في أثنائه من برك ما جعلني أحس ثقل ديني. وقد حاولت أن أرد لك بعض ديني بأن أكون معلما للصبية كما قلت، وحسبت أنك تقدر ذلك وتجد فيه دليلا على شكري، فإذا كنت لا تحب إلا أن تتقاضى دينك دما فهلم أيها الملك، فلست به ضنينا.
فقال أبرهة في نغمة اعتذار: لم أقصد كل هذا يا أبا عاصم، ولكني أخشى الفتنة. لم أعبأ بهذه الأقوال التي كانت تبلغني عنك، فإنما هي علالات خيال لا تنال مني شيئا. ولكني اليوم مقبل على قتال.
والتفت إلى ذي نفر قائلا: سأذهب إلى حرب قريش، فماذا أعددت للسير معي؟
فأطرق ذو نفر حينا ثم قال: سأجمع قومي إليها الملك كما ينبغي لي.
فقال أبرهة في دفعة: كلمة داهية! لم أنس بعد كلماتك التي تشبه سجع الكهان يا ذا نفر، ولكنا سنتحدث في هذا إذا عدنا من الصلاة. لا تتخلفا عن مجلسي وكونا قريبين مني لنتم حديثنا.
অজানা পৃষ্ঠা