الفصل التاسع عشر
البندقية في عهد إدارة مانين
آب 1848-آب 1849
وبعد أن خضعت صقلية وطوسكانه وروما؛ لم يخفق علم الحرية الإيطالي إذا استثنينا بيمونته إلا فوق مدينة واحدة، وهي البندقية، ظلت هذه المدينة تزدري بشوكة الإمبراطورية النمسوية من دون أن تنال أية مساعدة منذ شهر آب في السنة المنصرمة، ولم يطل عهد الحكومة الشبه بيمونته بعد صدور قرار الانضمام في شهر تموز أكثر من شهر واحد، ولما وردت أخبار هدنة سلسكو لم يكن قد مضى على وصول المندوبين البيمونتيين أكثر من خمسة أيام، وكانت هذه الهدنة قد أنهت حكم بيمونته القصير المدى.
وقد أدى الهياج العام الذي حدث بعد هذه الأخبار إلى انسحاب المندوبين، فأصبح مانين دكتاتورا بالفعل، فسارع إلى إلغاء قرار الانضمام بعد أن خانت بيمونته البندقية بعقدها الهدنة، وأعلن بأن حكومته وقتية، وأن المجلس التأسيسي الإيطالي سوف يبت في مصير المدينة في المستقبل، وكانت حكومته جمهورية فعلا، وكان أول ما يشغل البال في ذلك الحين إيقاف النمسويين عند حدهم وحين رفضت البندقية بإباء التخلي عن حريتها أجابت النمسة بتطويق المدينة.
وكانت الهدنة قد منعت البيمونتيين من إسداء المعونة لها وإن ظل أسطولهم رأسيا خارج نطاق الحصار، وكان مانين يتوقع لبلده خيرا من إنجلترة وفرنسة، بيد أن بالمرستون أعلن بصراحة أن إنجلترة لا تشترك في حرب ما، وأنه سيبذل جهده سياسيا لإقناع النمسة بالتنازل عن مطالبها بشأن المدينة.
أما موقف فرنسة فكان لا يختلف عن موقفها السابق المزري، فبينما كان ساستها يصرحون من جهة بأنهم لم يتخلوا عن البندقية؛ كانوا من جهة أخرى يفاوضون النمسة على سلم لا يبقي للمدينة سوى حكمها الذاتي، وظل مانين يعتمد على مظاهرة فرنسة رافضا كل حل يربط البندقية بإمبراطورية النمسة، ولما أكد له لويس نابليون في شهر شباط أن لفرنسة من المشاكل الداخلية ما يحول دون دخولها في حرب ما، اقتنع مانين بأن البندقية يجب أن تعتمد على نفسها، وأنه لا ينقذها إلا نصر إيطالي أو هنغاري عدو للنمسا.
ومع أن نطاق الحصار أخذ يشتد طول الشتاء؛ فإن البندقيين ظلوا لا يثبط أي إخفاق عزائمهم أو يوهن جلدهم، واستولى النمسويون على القسم البري بأجمعه ما عدا رأس جسر «مالفيرا» وعلى الرغم من وجود الأسطول الإفرنسي والبيمونتي، فإن الحصار قد ضيق الخناق على المدينة، فانقطعت صلتها بالخارج نحو ستة أشهر، وكانت دار الصناعة ما تزال تحتوي مقدارا كبيرا من العتاد الاحتياطي، وكان القائد ببه ينفخ في جنده حماسة لا تقهر، وقد اختار للعمل هيئة أركان حرب بارعة، ومع أنه خسر جنوده النابوليين الذين رجعوا إلى بلادهم بعد الهدنة؛ فقد ظل تحت إمرته نحو عشرين ألفا، من أربعة عشر ألفا من أهل البندقية، والباقي من أهل روما وشمالي إيطالية.
وقد تجلت شجاعة الحكومة والشعب في أجلى مظاهرها، وكانت مهمة مانين ورفقائه في اللجنة الثلاثية تأمين إعاشة مائة وثلاثين ألفا من النفوس، وذلك يقتضي يدا حازمة ولطيفة في آن واحد، وقد دلت الحوادث على أن البندقيين كانوا جديرين برئيسهم، وكانوا يرون القتال جهادا مقدسا؛ فلذلك يسارعون إلى تلبية الداعي بتقديم ما لديهم، فقدم الأغنياء دراهمهم عن طيب خاطر.
ولما طلبت الحكومة آنيتهم لتصنع منها النقود لبوا الطلب بحماسة، وأخذت المراسح تتبرع بوارداتها لشراء سفينة تجارية وأخذ الطلاب يقتصدون من غذائهم، وكنت تقرأ على جدار المدينة «البندقية تطلب الدراهم من الكنائس والحلي من النساء والبرنز من النواقيس والنحاس من المطابخ والحديد من قنابل العدو، كل هذا ولا الخرواتيين من أهل خرواتية.»
অজানা পৃষ্ঠা