ومما يدعو إلى افتخار إيطالية أن الزعماء في روما كانوا يتحلون بصلابة أشد منها عند غيرهم، وقد تألفت فيها لجنة تنفيذية أو إجرائية تقلدت سلطة الجمهورية العليا، وكان على رأسها الحاكم أرمللني ومن وزرائها الحبر موزاريلي وهو من الأحرار، وقد علمت الحكومة أن أول ما تحتاج إليه البلاد هو الحرية؛ حرية التعليم وحرية التنظيم وحرية تنمية واردات الدولة.
ويتلخص منهج أرميلليني بقيام إدارة مالية نزيهة، وإصلاحات قضائية بلدية، وتأمين حرية العمل، والإشراف العلماني على التعليم، والعدل، والمشاريع الخيرية، ونقل أملاك الكنيسة إلى الأمة، وقد شرعت الحكومة بتنفيذ هذا المنهج بدراية وثبات.
وكان مازيني الذي ألهم هذه التعاليم نائبا بسيطا، فتم له ببلوغ هذا المنهج نصف المثل الأعلى الذي كان يحلم به وهو مثل روما المقدسة الخالدة، لكن المنهج لم يتناول تنفيذه جانب مشاريعه الاجتماعية، فأخذ ينتقد المجلس بإضاعة وقته بالمشاحنات الحزبية بينما النمسة واقفة بالمرصاد، ويقول: متى نالت إيطالية حريتها، حينئذ وقت وضع الدساتير، أما الآن فيجب قبل كل شيء محاربة النمسة ووقوف روما الجمهورية بجانب بيمونته الملكية ورغم رفض اليمين والوسط اقتراح مازيني بإرسال النواب للنواحي لاستنهاض الشعب ودعوته للدفاع، فإن البلاد قد استعدت للحرب بعض الاستعداد.
فلما شاعت أخبار نوفاره كانت القطعات في طريقها نحو الحدود، حينئذ توجهت جميع الأنظار نحو مازيني بصفته الزعيم الوحيد في تلك الأزمة، فانسحب موزاريلي وتألفت لجنة ثلاثية من «مازيني، وسافي، وراميللي» وتولت شئون الحكم ومنحت سلطة غير محدودة لإدارة الحرب والدفاع عن الجمهورية، وقد أسرع مازيني لإرسال القطعات ولكنها قبل أن تصل إلى ضفاف نهر بو وردت أخبار الهدنة فقضي بذلك على آخر أمل في الاشتراك في الحرب في لمبارديه، وبعد أن ضاعت فرصة إنقاذ إيطالية الشمالية تفرغت اللجنة الثلاثية للإصلاحات الداخلية.
وكانت آخر الإصلاحات تتعلق بالمشكلة العويصة؛ أي مشكلة علاقة الكنيسة بالدولة، ولم تتخذ كلمة الإكليروس في معارضة الجمهورية، فالحبر موزاريلي مثلا رفع القناع في المعارضة، وأما الحبر فانتورا فبعد أن حاول عبثا في تأليف البين بين البابا وأهل روما؛ انحاز إلى أهل روما.
ولما تأكد الرهبان ورجال الدين في القرى من أن إصلاحات مازيني تزيد في رواتبهم؛ انحازوا إلى جانبه ما عدا بعض الرهبان في بعض المناطق الزراعية الذين أبوا مباركة نكاح الذين اشتركوا في الاقتراع مؤيدين، ومع أن الحكومة أصرت على أن يخضع الإكليروس للدولة فإنها حالت دون اضطهادهم وعاملتهم بالحسنى حتى إنه ترك أسقف جيفيتا فيكيا يتآمر مع جابته واكتفى بنفي أحد إخوان البابا إلى خارج الحدود حين شوهد يحرض الناس على الخيانة، وكانت الجرائد البابوية تقرأ بحرية وكان مثل مازيني في هذه السياسة «تشدد في المبادئ وتساهل مع الأشخاص».
وطبيعي أن يؤدي هذا التساهل إلى ضعف فاضح في الإدارة، وكان أعداء الجمهورية يقبضون على ناصية الشئون العامة، وكان راميلليني «صفرا» وسافي وديعا وفيلسوفا، أما مازيني فتعوزه الكفاية في الشئون المالية والإدارية، فلم يكن بمقدور هذه السلطة الإجرائية العاجزة أن تطهر البلاد من الجراثيم.
وراحت أحقاد عهد جرجوار القديمة تتحين الفرصة لتتفجر، وظل أشد الموظفين فسادا مسترسلين في فسادهم، واستعد المتطرفون للاستيلاء على الحكم بعد أن غاظهم ضعف الحكومة، وأخذ البعض من متطوعة غاريبالدي يشاغبون، ومع ذلك فقد استطاعت الحكومة أن تقبض على ناصية الحكم بمساعدة الحرس المدني .
بيد أن الغموض الناشئ من طول المفاوضات السرية وتوهم الناس بأن هناك مؤامرة تحاك في المدينة وبتحريض بعض الرهبان لم ينفع احتياطات الحكومة في توطيد النظام، فانتشرت الفوضى في روما مدة من الزمن أعدم في أثنائها ثمانية رهبان لإطلاقهم النار على الجنود وثلاثة قرويين بتهمة التجسس وخرب بعض الأهلين حدائق البابا احتجاجا على لين مازيني.
أما في إيالتي الروماني والمارك فحدثت وقائع مؤسفة جدا؛ إذ شجع ضعف الحكومة المجرمين فيها على الفتك بالناس، فأخذت عصابات صغيرة تغتال الموظفين وتفرض الغرامات على الأجانب، أما في أنكونه فقد بلغ الإرهاب غايته؛ إذ اغتيل ثمانية وعشرون رجلا من جماعة السنانفيديست، ومع ذلك كله فقد كانت الجمهورية تلقى تعضيدا يسهل عليها أمر الاستمرار في الحكم، ولا يفوتنا أن نعلم أن الجمهوريين من ذوي المبدأ كانوا قلائل، وفضلا عن ذلك فإن عددا قليلا من هؤلاء كان يجهل مثل مازيني الأعلى، أما الأكثرية فكانت لا تبالي بمبدأ، ولكنها سئمت من التبدلات السياسية واغتبطت بأنها تخلصت من حكومة الرهبان، ولم تكن راضية عن ضعف المعتدلين وترجرجهم وتريد التملص من حكم الإكليروس مهما كلفها الأمر، فكان ذلك سر انحيازها إلى الجمهورية؛ باعتبارها الحكومة الوحيدة التي تؤمن هذه الغاية.
অজানা পৃষ্ঠা