وكان اليسوعيون الرجعيون واقفين لهذه التبدلات بالمرصاد، ولم يكن اليسوعيون يؤلفون حزبا قويا خطرا في بيمونته وطوسكانه وروما، وإنما كانوا يشغلون مناصب الإدارة ويقودون قسما كبيرا من الأشراف والإكليروس وهم أقوياء بتنظيمهم الدولي ولهم في كل حكومة إيطالية نفوذ ظاهر أو خفي، أما في نابولي ومودينه فظلت فكرة الإصلاحات خامدة.
وبدهي أن يصطدم بيوس في روما باليسوعيين والقسم الأعظم من الكرادلة وجماعة الإكليروس، وبما أنه رغب في ألا يتحرش بأي حزب فقد احترم جماعات سنتوريون الجياع، واحتفظ بأكثر موظفي جراجوار الرجعيين، وكان هذا خطأ فاحشا، عبثا حاول وزير فرنسة المفوض أن يقنعه بأن تطهير الإدارة يجب أن يسبق كل إصلاح؛ فلذلك أخذت بعض أوامر الكيرنيال تهمل ولا يعمل بها، وبدأت أعضاء السانفيديست تتحدث عن احتمال نشوب الحرب الأهلية، وأخذت صحافتهم تهاجم البابا.
وفي شهر آب عين البابا الكردينال «جيزي» مستشارا للدولة، وكان هذا يعد رئيسا لجماعة الإكليروس الحرة والمرشح الشعبي للبابوية إلا أن كبر سنه وجهله للأمور وتردده؛ جعله غير كفء للعمل الذي أنيط به، وإدارة يرأسها مستشار في التسعين، وبابا متردد؛ لا تثمر غير الفوضى.
وظلت جماعة السنتوريون على دأبها، تغتال الناس في ظلمات الطرق، مما جعل أحرار الروماني يطالب بتأليف حرس مدني لحمايتهم، وأخذت الدوريات تتجول في طرقات بولونيه وفراره قبل وصول جواب الحكومة، ثم جاء جوابها وإذا به بالرفض البات وبذلك أضاعت الحكومة هيبتها، ولو أنها اتفقت مع الأحرار والمعتدلين لتغلبت على الصعوبات بيد أن مثل هذا الاتفاق كان يتطلب تطهير الإدارة والموافقة على تأليف الحرس المدني.
وأخذ الرجعيون يدبرون الدسائس للوقوف دون الإصلاحات بينما بقي المعتدلون بلا حركة، مكتفين بنجاح برنامجهم الظاهر، ومعتمدين على البابا، ووجلين أمام مطالبات الأحرار الراديكاليين، وكان منهجهم لا يطمئن الرغبات، فهو يتلخص بإعادة تنظيم الشرطة وفتح مصرف في بولونيه وإصلاح الجامعات وتأسيس مجلس الدولة، ولما استرسلت الحكومة في خمودها، وظل المعتدلون يتلاعبون بكتابة البرامج؛ فقد اشتد قلق أكثر الأحرار نشاطا ولا سيما حين رأوا آمالهم تتحطم نهائيا وإلى الأبد.
وحينئذ برز مازيني للميدان؛ إذ رأى أن أحسن سياسة يتخذها بانضمامه إلى الحركة الجديدة وسوقها نحو الهدف الذي ينشده، وكان على استعداد لأن يضحي بميوله الجمهورية إذا اقتضت الظروف، وأن يرضى برئيس كالبابا أو ملك يعمل للوحدة، ومع أن أنصاره كانوا قليلي العدد فقد التحق به كثير من الأحرار أنصار بيوس، يعقدون أملا على البابا، ويرون أنه والأمراء سيرضون طوعا أو كرها بالاندماج في الحركة الدموقراطية ويؤسسون حكومة دستورية ويعلنون الحرب على النمسة.
أصبحت طوسكانه موطن استياء عام فجعل «سميني» رئيس وزرائها الشرطة في حالة الاستعداد للطوارئ تجاه الأعمال التي قام بها سلفه، ولما وافق مجلس الوزراء الرجعي على قبول اليسوعيين؛ اضطرب الرأي العام لذلك أيما اضطراب؛ لأن الناس كانوا يحملون في قلوبهم حقدا دفينا عليهم، ولما فشل البلاط في إدخالهم في فلورنسة حاول إدخالهم في بيزا إلا أن مونتا تيلي أحد أساتذة الجامعة حرض التلاميذ ضدهم ففشلت بذلك المحاولة الأخيرة أيضا، واتخذ هذا الأستاذ الصحافة السرية أداة سياسية قوية وأصبح ذا نفوذ لدى الأحرار، وفي مثل هذا الوقت وردت أخبار اعتلاء بيوس كرسي البابوية وعفوه عن المبعدين.
وكانت طوسكانه دائما في ريبة من روما إلا أن الدعاية القوية فعلت فعلها وأمالتها إلى جانب البابا، وقامت المظاهرات في أنحاء طوسكانه، يضرم نارها الاستياء من سوء الحالة الاقتصادية والسياسية المستحوذ على النفوس، وانتهز بعض الرجعيين الفرصة واتخذوا هذا الهياج ذريعة لتسويغ الاحتلال النمسوي إلا أن لئوبولد كان حريصا على استقلاله، يقاوم كل تدخل وأخذ الأشراف الأحرار في فلورنسة والراديكاليون يلحون على الحكومة بأن تصلح جهازها الإداري، فهناك حزب أولاد جورج المتيقظ بزعامة «كابوني» يقف بالمرصاد من جهة وجماعة أخرى صغيرة غير دمقراطية ولكنها تطالب بالحرية الاجتماعية التامة وبحكومة دستورية من جهة أخرى، وكان يرأسها «ريكاسولي»، فاتفق الحزبان على المطالبة بتخفيف وطأة مراقبة المطبوعات وكان الرئيسان يرغبان في أن يقيما الصحافة العلنية مقام الصحافة السرية وأخذ كابوني يسوق الوزراء رويدا رويدا نحو سياسة أكثر حرية وتساهلا، ثم أبطل الصحافة السرية، ونشرت الحكومة أخيرا قانون المطبوعات الجديد وبعد صدوره ببضعة أسابيع وعدت بتأسيس مجلس الدولة.
أما في ممتلكات البابا فقد عيل صبر رعية البابا، وخبت الآمال حين رفضت الحكومة إيجاد الحرس الأهلي وحين رأى الناس التلكؤ في تنفيذ الإصلاحات وإنشاء السكك الحديدية، فأخذ أهل الروماني من جديد يسمعون النغمة القديمة وهي نغمة التهديد بالانفصال، أما أهل روما فكانوا يلقون تبعة هذا البطء على عاتق الكرادلة واليسوعيين حتى إنهم أخذوا يهتفون: «ليعش بيوس وحده.»
ولما زار البابا كلية اليسوعيين راح الأهالي يصيحون: «أيها الأب المقدس لا تذق شكولاتهم.» يرمزون بذلك إلى أن اليسوعيين يتآمرون على حياة البابا، وقد اتفق زعماء روما على شل أعمال الحكومة واعتمدوا على برونيتي الملقب «شيشراكيو» لقيادة العامة، وكان هذا الرجل قوي العزيمة، خالص النية وضع نفسه موضع الصديق الخاص للبابا.
অজানা পৃষ্ঠা