وكان الرأي الشائع أن الحكومة لم تقدم على التضحية بامتيازات التاج وهيبة البرلمان فحسب، بل إنها أقدمت على تقديم امتيازات تجعل مقام الدولة في خطر، واتفق ذوو الرأي الحر والقوميون الذين ورثوا تقاليد إشراف الدولة على الكنيسة على مهاجمة المشروع معتقدين بأنه سيتخلى عن حقوق ثمينة، وسيلقي على الأجيال القادمة حملا ثقيلا شديد الخطر عظيم الضرر، وقد امتنع عدد كبير من هؤلاء عن الموافقة على هذا المشروع؛ لأنه يهمل جانبا من حقوق طبقة الإكليروس الدنيا والعلمانيين، وينذر بعودة الأساقفة في روما إلى عهود الاستبداد، أما أعداء الإكليروس المتطرفون - ومن بينهم غاريبالدي - فاعتبروا المشروع هبة جديدة تمنح للطائفة الممقوتة، ونادوا بضرورة استخدام أملاك الكنيسة، وهي من أملاك الأمة في حاجة الدولة ورعاية الفقراء.
وسرعان ما تبين أن المشروع لا يمكن أن يقبل وكان ريكاسولي قد أغفل عرضه على الوزارة، وأصبح زملاؤه الذين كانوا يتسامحون في المفاوضات مع روما أكثر فتورا وصدوفا عن مشروع الكنيسة الحرة، ولما انتشر الشغب في البلاد أضاع ريكاسولي التوازن واشتد في تفسير القانون خلافا لمبادئه وتنفيذه بشدة؛ لكي يستطيع أن يمنع الاجتماعات العامة التي أخذت تنعقد في فنيسيه، وكانت أكثر صخبا من غيرها فسهلت على اليسار مهاجمته واتهامه بالرجعية وتخلى عنه بعض أفراد الحزب الوزاري، ثم وجه المجلس إليه اللوم على عمله هذا في 11 شباط بمائة وستة وثلاثين صوتا ضد مائة وأربعة، فلم يبق أمام ريكاسولي سوى الاستقالة أو حل المجلس واستفتاء الأمة فآثر الرأي الأخير، وقد حوى النداء الذي وجهه إلى الناخبين خلاصة معقولة للسياسة الحرة التي سينهجها وتتلخص بما يلي:
مشروع الكنيسة الحرة مع ضمانات الطبقة الإكليروس الدنيا والاقتصاد في النفقات ومد السكك الحديدية وسياسة ليست بسياسة مغامرات ولا هي بسياسة رهيبة، وكانت هيبة الحكومة قد هبطت بسبب الضرائب الباهظة وفضائح حياة الملك الخاصة، وجرت الانتخابات في 10 آذار بكفاح جديد لا مثيل له وزج الدموقراطيون غاريبالدي في معركة الانتخابات في فنيسيه، فوجه للإكليريكيين وشركائهم مطاعن عديدة قد هزت سامعيه وأثارت حماستهم إلا أنها لم تؤثر في نتيجة الانتخابات، فانتخبت فنيسيه أفواجا من المعتدلين، وبنتيجة الانتخابات ظلت نسبة قوة الأحزاب في المجلس كالسابق، وظهر أن المجلس الجديد معارض لسياسة ريكاسولي كالمجلس السابق، وكان الملك قد ظاهر ريكاسولي إلى ذلك الحين، غير أن نفوذ رتازي قد جذب الملك نحو المعارضة بحجة أن سللا غير محبوب من الشعب، فاضطر ريكاسولي إلى الاستقالة في 4 نيسان سنة 1867.
الفصل التاسع والثلاثون
لائحة قانون الكنيسة الحرة
أيلول 1866-نيسان 1867
حصلت إيطالية على فنيسيه إلا أن ثمنها كان باهظا؛ إذ كانت الحرب نكبة عليها في البر والبحر، ولم يغسل عار الهزيمة فوز المتطوعين اليسير، ولم يجد التفوق العددي شيئا؛ لأن سوء التنظيم وعدم كفاية القادة ذهبا بقيمة التفوق، وقد أذعنت النمسة؛ لأن بروسية لا إيطالية قد تغلبت عليها وفلتت منها ترنتينة وإيسترية بعد ما كانتا في متناول اليد، أما فنيسيه فكانت هدية قدمها الأجنبي إليها، وقد غدر بإيطاليا حليف لا ضمير له، ولا ننسى أن الهزيمة في ميدان القتال قد جرحت كرامتها، أضف إلى ذلك أن ماليتها كانت لا تزال مرتبكة وأن سياستها كثيرا ما منيت بالخذلان، وها هي تصبح منعزلة من دون صديق، وها هي الآن تنتقل من حلم الانتصار إلى صحوة زلزلت اعتقادها في الناس وفي المؤسسات القائمة، وعم فيها السخط على الزعماء والحنق على الموظفين العاجزين الذين سببوا الهزيمة.
وبينما كانت فنيسيه تغتبط بخلاصها ساد القسم الباقي من إيطالية شعور قوي بأن في كيان الدولة فسادا يستطيع في كل حين أن يكون مصدر الفرقة، ومنه يسهل نزول الكارثة، ولم يكن أحد يفكر في إعادة الأسرات المالكة الساقطة إلى عروشها وخسرت الحكومة سمعتها حتى كادت تفقد الأمل في استرجاعها، وعاد المتطوعون من ميدان القتال فأصبحوا قوة مستقلة، وفي خلال المفاوضات التي انتهت بالصلح كان ثمة خطر حقيقي ينذرها باحتمال هجوم المتطوعين على النمسويين بمحض رغبتهم، وكان مازيني يصطاد في الماء العكر، وقد دل الاستمرار على انتخابه في مسينة على الرغم من تأجيل البرلمان إجراء هذا الانتخاب في كل مرة وتقديم استدعاء يحمل أربعين ألف إمضاء بالتماس العفو عنه؛ على بوادر الاستياء السياسي بين الناس، وكان كثيرون من الناس يعتقدون اعتقاد مازيني: «الملكية هي التي كانت سبب الفساد.»
وكان هذا التشخيص للداء لا شك سطحيا، وقد نسي الشعب ما لقيته إيطالية من مصاعب في الوصول إلى ما وصلت إليه، وأخذت طبقات العمال تتذمر وتقول ها إن الوحدة لم تأت بالعهد الذهبي الموعود، وعم السخط على الضرائب التي أخذت تزداد، وانتقد الناس كون التقدم التجاري لم يحقق الآمال المفرطة التي عقدت عليه مضافا إلى ذلك كله أن جروح الجنوب الاجتماعية الدامية لما تضمد.
ووجهت للحكومة حملات؛ لأنها أصبحت خاضعة للبورقراطية تقتفي في الأغلب أثر الاستبداد، ولا تنجو من فساد الطريقة القديمة، ولا ننسى في هذا المجال عناصر الشعب القديمة التي ظلت صامتة حينما طغت الحماسة القومية فأخذت الآن ترفع صوتها، ولا بد لإخماد هذا الشعور الصاخب من أن يمر جيل تتولى الأمور فيه حكومات صالحة حازمة.
অজানা পৃষ্ঠা