What Next: Towards a True Victory for Palestine
ماذا بعد نحو نصرة حقيقية لفلسطين
জনগুলি
وماذا بعد .؟
أخى المسلم .. أختى المسلمة:
شاهدنا ما حدث لإخواننا في غزة على أيدي اليهود المجرمين.
تأثرنا كثيرا بما شاهدناه من الدماء التي أريقت والشهداء الذين سقطوا، والدمار الذى حل بهذا المكان العزيز.
دعونا الله كثيرا، وتبرعنا بالمال والدم لنجدة أهلنا هناك.
خرجت المسيرات الغاضبة فى كل أنحاء الأمة العربية والإسلامية تندد
وتشجب وتحرق أعلام الصهاينة ...
نعم، هدأ العدوان ولكن بقى الجُرح نازفًا مستصرخًا:
وماذا بعد؟!
أخي المسلم .. أختي المسلمة:
لقد تكرر هذا المشهد كثيرًا في العقود الأخيرة، وتكررت وتشابهت ردود أفعالنا الغاضبة مع كل عدوان، وتكرر كذلك تحولنا من حالة الغضب إلى حالة الهدوء والحياة الطبيعية، والإنشغال بأمورنا الشخصية بعد انتهاء أو هدوء العدوان، رغم أن الجراح التي يخلفها كل عدوان تستقر في جسد الأمة وتظل الدماء النازفة تلح في السؤال: وماذا بعد؟!
ألايوجد حل حقيقي يُنهي مأساة فلسطين، وينهي كذلك مآسي المسلمين المستضعفين في كل مكان؟!
بلا شك يوجد حل، ولكن لابد وأن تكون نقطة الانطلاق نحوه هى وضوح الرؤية لطبيعة المشكلة التى تعاني منها الأمة.
إن الرؤية الصحيحة لقضية فلسطين ينبغى أن تتسع لتشمل الأمة الإسلامية ووضعها البائس وحالها المزري، وأي انطلاق للتفكير في الحل الجذري لهذة القضية دون هذه الرؤية سيجعلنا ندور في حلقة مفرغة، ونراوح في أماكننا كما هو الحال الآن.
لقد تساءل الكثيرون وقت أحداث غزة وغيرها: ماذا نفعل لكي تنتهي هذه المأساة، فقد التهبت مشاعرنا، وامتلأت قلوبنا غيظًا على أعدائنا، وشفقة على إخواننا .. نشعر بالقهر لعدم قدرتنا على فعل شيء إيجابي يوقف شلال الدم، ويعيد الحق لأهله.
هل يوجد شيء يمكننا فعله غير ما فعلناه؟!
من أجل الإجابة عن هذا السؤال كانت هذه الصفحات ..
فإلى المتسائلين وغيرهم.
إلى الدعاة والعاملين للإسلام.
إلى التواقين لرفعة الأمة وعودة مجدها من جديد.
إلى هؤلاء جميعا .. نضع بين أيديهم هذه الرؤية، أو بمعنى أدق الخطوط العريضة التى يمكنها أن تشكل "نقطة انطلاق" نحو الطريق الصحيح.
سائلين الله ﷿ أن يتقبل منا ما وفقنا إليه، وأن يفتح القلوب لكل خير تضمنته هذه الصفحات ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا لنا ألا ما علمتنا﴾ [البقرة:٣٢].
أحداث غزة
شهد العالم بأسره حدثًا خطيرًا، وزلزالًا شديدًا، تمثل في العدوان الصهيوني الغادر والوحشي على إخواننا في غزة، والذي بدأ في يوم ٢٩/ ١٢/١٤٢٩هـ الموافق السبت ٢٧/ ١٢/٢٠٠٨م، واستمر لأكثر من ثلاثة أسابيع
العالم بأسره شاهد قطاع غزة محدود المساحة، الخالي من أسلحة الجيوش المعتبرة وهو يُضرب ضربًا عنيفًا بأعتى آلات الدمار، وبمئات الأطنان من القذائف برًا وبحرًا وجوًا.
شاهدت الملايين في شتى أنحاء المعمورة بعضًا من آثار هذه الحرب المدمرة .. مئات القتلى وآلاف الجرحى .. أطفالا ونساء .. شبابا وشيوخا ..
هُدِّمت المنازل على رءوس ساكنيها .. ضربت المساجد والمستشفيات والمدارس ومخازن الأغذية والوقود.
1 / 1
لقد فاق هذا العدوان البربري كل وصف، وخلَّف من الدمار ما لا يمكن أن تصوغه العبارات، وابتُلى أهل غزة وزلزلوا زلزالًا شديدًا.
ارتفعت أكف المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بالدعاء والإلحاح على الله بأن ينصر المجاهدين الصامدين في غزة، وأن يربط على قلوب ساكنيها، وأن يدحر اليهود وينكس رايتهم، ويرد كيدهم في نحورهم .. ومع الدعاء خرج الآلاف من أبناء الأمة في مسيرات حاشدة تندد بالوحشية الصهيونية وتطالب، وتطالب ..
وعندما فُتحت أبواب التبرع لإغاثة غزة، سارع الكثير من المسلمين ببذل أموالهم، آملين أن يكون ذلك سببا في تخفيف معاناة إخوانهم هناك وأن يرفع عنهم حرج التقاعس، وواجب النصرة.
ومع أهمية هذا كله في تخفيف آثار ما حدث، إلا أن السؤال الذي يتردد في نفوس الكثيرين هو: هل من نهاية لهذه المأساة؟ وماذا نفعل كيلا تتكرر؟
إن التضحية العظيمة التي يُقدمها أهل غزة البواسل، وتفاعل مشاعر الأمة بأسرها مع هذا الحدث من مشاعر محتقنة بالضيق والكراهية لليهود، وفي الوقت نفسه مشاعر فياضة بالاستبشار والفرح بأي نصر تحرزه المقاومة، وما صاحب ذلك من دعاء، وتبرع بالمال والدم، ومسيرات حاشدة جابت جنبات المعمورة، إلا أن هذا كله -مع أهميته- لا يكفي لوقف المأساة التى بدأت منذ عقود.
لابد من نظرة شاملة وتحليل دقيق للحدث، وبخاصة أن الأمة قد مر عليها مآس متشابهة في العقود الماضية، في فلسطين والعراق والبوسنة والهرسك وكوسوفو وأفغانستان والصومال. لابد من نظرة شاملة تقوم بتحليل ما وراء تلك الأحداث .. لعل ذلك يُفيد في تحديد مكامن الداء ومن ثم معرفة الدواء.
* * * *
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾
إن أي تحليل للأحداث التى تمر بالأمة لابد وأن ينطلق من الحقيقة التي تقوم عليها الحياة، وهي أن هذا الكون له رب قائم عليه .. يديره ويسيره، فما من شيء يحدث في هذه الأرض إلا وهو يحدث بعلم الله وبإذنه ومشيئته ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [الحشر:٥]، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ ... [الأنعام:١١٣].
فالكون كله قائم بالله، السماء والأرض .. السحاب والجبال .. الماء والهواء .. النبات والدواب ..
حركة البشر جميعًا، من يقظة ونوم، وقيام وقعود، كلام وصمت وضحك وبكاء .. كل ذلك يحدث بعلم الله وإذنه ومشيئته، ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [يونس:٢٢]. ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم:٢٥].
لا إكراه على الإيمان:
عندما خلق الله ﷿ الإنسان وأسكنه الأرض، فقد خلقه ليسعده لا ليشقيه .. فهو سبحانه يريد الخير للناس جميعا. ﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر:٧].
ويحب لهم جميعا أن يدخلوا الجنة. ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة:٢٢١].
لقد أعد الله ﷿ الجنة دارًا للإقامة الأبدية والنعيم المقيم، وجعل ثمن دخول هذه الجنة النجاح في اختبار الدنيا .. اختبار العبودية له -سبحانه- بالغيب في ظل وجود الإرادة الحرة، وحرية الاختيار التي أتاحها الله للإنسان .. هذه الحرية جعلت الكثير من الناس يسير في طريق الضلالة والكفر، في ظل وجود نفس أمارة بالسوء، وشيطان يوسوس، ودنيا تتزين للناظرين، ولأنه سبحانه أعطى للإنسان حرية الإختيار لذلك فهو لم يكره أحدًا على الإيمان به ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس٩٩].
ومع ذلك؛ فلأنه سبحانه يحب الخير للناس جميعًا فلقد أرسل إليهم رسالات تبشرهم بالجنة وترسم لهم طريق الوصول إليها، وتحذرهم من النار وتدلهم على كيفية اتقائها.
فالرسالات التي حملها رسل الله للبشر لها وظيفة بالغة الأهمية في تحذير الناس وإنقاذهم من دخول النار ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء:١٦٥].
* * * *
1 / 2
بنو إسرائيل والرسالة
اختص الله ﷿ بالرسالة -في السابق- أمة بني إسرائيل، وفضلهم على غيرهم من الأمم، وجعل فيهم الأنبياء ليقوموا بحق الرسالة في ذواتهم أولًا بالتطبيق، ومع البشرية بالإبلاغ والدعوة ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:١٢٢].
فزعموا أن هذا التفضيل خاص بهم وبذواتهم وجنسهم السامى، فاغتروا بذلك وتكبروا على الجميع وادعوا قائلين ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة:١٨].
لقد أعماهم الكبر والشعور بالتميز والاستعلاء على الآخرين عن القيام بحق الرسالة مع أنفسهم، فلم يؤدوا حقها العظيم باتباعها وتبليغها لمن حولهم من البشر، بل واعتبروا الجميع دونهم بكثير في المرتبة والمنزلة ومن ثم فهم لا يستحقون الهداية ولا ينبغى أن يتعرفوا عليها، بل عليهم أن يظلوا هكذا كالأنعام .. وقاموا بتحريف الرسالة بحيث تخدم كبرهم واستعلاءهم على الجميع، وتتيح لهم استباحة أموالهم ودمائهم .. تقول أحد نصوص أسفارهم المفعمة بالدعوة إلى الإبادة الجماعية: (ونهب الإسرائيليون لأنفسهم كل غنائم تلك المدن، أما الرجال فقتلوهم بحد السيف فلم يبق منهم حي) (١).
ويقول أحد حاخاماتهم (إبراهيم أفيدان): على غير اليهود أن يقبلوا بالعبودية، وعليهم الا يسيروا ورؤسهم مرفوعة في وجوه اليهود (٢).
الإستبدال الخطير:
استمر طغيان بنى إسرائيل قرونًا عديدة، واستمر حلم الله وصبره عليهم لعلهم يعودون إلى رشدهم، وينتبهون لمهمتهم، وتوالت عليهم الابتلاءات المتنوعة من الله ﷿ لعلهم يرجعون إلى الحق ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف:١٦٨].
ومع توالي الآيات المذكرات لهم، إلا أنهم لم يفيقوا من غرورهم وصلفهم، ولم يعودوا إلى الخالق، ولم يلتزموا بما كُلِّفوا به ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة:٢١١].
ماذا حدث بعد ذلك؟!
ماذا حدث بعد توقفت مسيرة هداية البشرية سنوات طوال؟! ..
حدث أمر بالغ الأهمية للبشرية جمعاء، فلقد استُبدلت هذه الأمة الخائنة لأمانة ربها، لتحل محلها أمة الإسلام، فتحمل الأمانة وتتولى المهمة.
* * * *
النعمة العظمى لأمة الإسلام
لقد أكرم الله ﷿ أمتنا واختصها برسالة الإسلام، وهذا فضل عظيم منه سبحانه على كل مسلم في هذه الأمة
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣].
هذه النعمة العظيمة تستوجب من أبناء الأمة أمرين عظيمين:
الأول: أن يقوموا بأداء تكاليف الرسالة في ذواتهم، ويكونوا بذلك مثلا عاليًا للناس.
والثانى: أن يعملوا على توصيل هذه الرسالة، وتبليغها للبشر في شتى أنحاء الأرض، وأن يبذلوا في ذلك غاية جهدهم، وأن يسعوا سعيًا حثيثًا لإيصالها إلى من يمكنهم الوصول إليه من الناس في مشارق الأرض ومغاربها حتى ينقذوا -بإذن الله- كل من بداخله خير وشوق إلى الهداية، وحتى لا يكون لأحد حجة أو ذريعة يتذرع بها لكفره أو شركه بربه ... فإذا ما كان يوم القيامة قام أبناء أمة الإسلام في كل عصر بالشهادة أمام الله ﷿ على أبناء عصرهم بمدى قبولهم أو رفضهم الإيمان بما تضمنته الرسالة.
1 / 3
الخير المخبوء:
إن أغلب البشر فيهم خير مخبوء في كينونتهم، لكنهم يحتاجون فقط إلى من يحسن مخاطبة هذا الخير، واستخراجه وإظهاره -بإذن الله- والقليل منهم هم المجرمون الذين يبغونها عوجًا؛ تكبرًا في أنفسهم، وحرصًا على امتيازاتهم التى يضمنها لهم بقاؤهم على الكفر ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ [الجاثية:٣١]. ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [التوبة:٦٦].
ولعل في قصة موسى ﵇ ما يؤكد ذلك، فكل من فرعون والسحرة قد شاهدوا العصا تتحول إلى حية عظيمة، فآمن السحرة ولم يؤمن فرعون، ليظهر الفارق في سبب كفرهم واضحًا، فالسحرة قد منعهم الجهل من الإيمان بالله، لذلك عندما شاهدوا الآية العظيمة أذعنوا واستسلموا ﴿قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (٤٨)﴾ [الشعراء].
أما فرعون فكان سبب كفره هو إجرامه وكبره وحرصه على مصالحه ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى﴾ [طه:٥٦].
وعندما آمنت بلقيس -ملكة سبأ- بعد دعوة سليمان ﵇ لها، ورؤيتها الآيات الباهرات، وكانت من قبل هي وقومها يعبدون الشمس، نجد القرآن يبين سبب كفرها: أنها نشأت بين قوم كافرين، أي كانت جاهلة بالحقيقة، لذلك عندما رأتها آمنت: ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [النمل:٤٣].
* * * *
أهمية الجهاد
إذا كان الكثير من الناس ليسوا بمجرمين، بل وفيهم خير مخبوء لكنهم ضلوا الطريق الصحيح، فإن على أصحاب الرسالة أن يبذلوا غاية جهدهم في توصيلها إليهم وإلى غيرهم فيكونوا سببا في إنقاذهم من النار ..
وليس معنى هذا أنه ليس على هؤلاء الجاهلين مسئولية في البحث عن الطريق الصحيح، فالمسئولية مشتركة بينهم وبين أصحاب الرسالة .. عليهم أن يبحثوا عن الحق، وعلى أصحاب الرسالة أن يجتهدوا في توصيل الحق إليهم ..
ومن هنا ندرك قيمة الجهاد في الإسلام والحكمة من الحث في الكتاب والسنة، وتفضيله على كثير من الأعمال .. فجوهر الجهاد هو بذل الوسع والطاقة في سبيل الله، وإقامة دينه، وتبليغ دعوة الإسلام -دون إكراه- فيكون وسيلة لإنقاذ البشرية وإسعادها بالإسلام ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [الحج:٧٨].
أمة الإسلام أمة جهاد:
إن الجهاد هو الوسيلة العظيمة لتبليغ الدعوة وتوصيلها إلى الناس جميعا، ومن خلال قيام المسلمين به يتم إنقاذ الكثرين من الضلالة والنار، ولو تأملنا الحكمة من قتال الفتح كصورة من صور الجهاد -في حالة أن تكون للاسلام شوكة وخلافة- لوجدناه وسيلة لفتح الأبواب المغلقة أمام الدعوة، فعندما يحول بين تبليغ الدعوة للناس فئة من المجرمين، يتم إنذارهم وتخويفهم وقتالهم إذا ما لزم الأمر حتى تتفتح الأبواب أمام الدعاة لعرض الأسلام على الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم يتركوا لهم الحرية في قبوله أو رفضه ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:٢٩].
1 / 4
إن أمة الإسلام أمة جهاد فبه تؤدي الأمانة وتنجح في المهمة التى كلفها الله بها ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة:٤١].
لذلك عندما سئل رسول الله ﷺ: ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادواعليه مرتين أو ثلاثاكل ذلك يقول: "لاتستطيعونه" ثم قال: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يَفْتُر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد" (٣).
وغنى عن البيان أن للجهاد صورا كثيرة يجمعها معنى "الجهاد" وهو بذل الجهد في سبيل الله، تأمل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [آل عمران: ١٥٧]، فلقد جمع الله ﷿ في هذه الآية بين من يقتل في سبيل الله وبين من يموت دون قتالوهو في سبيل الله، وجعلهما مشتركين في الأجر.
إن توصيل رسالة الله ﷿ للبشر يحتاج إلى بذل حقيقى للجهد وتضحية عظيمة بالغالى والنفيس، وصبر وثبات على المحن والعقبات التى تعترض طريق توصيل الرسالة، فلا راحة للمسلمين حتى يكون الدين كله لله.
لقد (فرض الله الجهاد على كل مسلم فريضة لازمة حازمة لا مناص منها ولا مفر معها، ورغب فيه أعظم الترغيب، وأجزل ثواب المجاهدين والشهداء، فلم يلحقهم في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم، ومن اقتدى بهم في جهادهم، ومنحهم من الامتيازات الروحية والعملية في الدنيا والآخرة ما لم يمنح سواهم، وتوعد المخلفين القاعدين بأفظع العقوبات، ورماهم بأبشع النعوت والصفات ووبخهم على الجبن والقعود، ونعى عليهم الضعف والتخلف، وأعد لهم في الدنيا خزيًا لا يُرفع إلا أن جاهدوا، وفي الآخرة عذابًا لا يفلتون منه ولو كان لهم مثل أحد ذهبًا) (٤)
ماذا لو فرطنا؟!
إن اتفقت معي -أخي القارئ- على ذلك، وقرأت آيات وأحاديث الجهاد من هذا المنظور، فستدرك -كما أدركتُ- مدى التقصير والتفريط الذى وقعت فيه الأمة في حق البشرية، بتخلِّيها عن هذا الأمر الإلهي، وخيانتها لواجب البلاغ، وستدرك كذلك مدى خطورة تفريط الأمة في التطبيق الصحيح للرسالة في ذاتها، لأن التطبيق الصحيح للإسلام يُسعد أبناءه ويدفعهم لبذل غاية الجهد لإنقاذ غيرهم.
فإن كان الأمر كذلك، فإن تفريط الأمة في القيام بهذين الأمرين (أن تتمثل في ذاتها الرسالة، وأن تقوم بتبليغها) يضعها في دائرة الوعيد والغضب الإلهي، وكيف لا؟ وهي بذلك تكون قد قصرت في أداء الأمانة التى ائتمنها الله عليها، وتخلت عن موقعها الريادي للبشرية، وما ينتج عن ذلك من ضياع الكثيرين والكثيرين حين يموتون على الكفر فيضيع ما فيهم من خير مخبوء وشوق إلى الهداية.
إن الخسارة التى تخسرها البشرية بتخلى أمة الإسلام عن وظيفتها خسارة فادحة، فالآلاف -كل يوم- يموتون على الضلالة والكفر، ولو أن الرسالة قد بلغتهم بطريقة صحيحة لآمن الكثيرون منهم.
* * * *
لماذا نعاقب؟!
لعل ما قيل في الأسطر السابقة يجيب عن الأسئلة التى تتردد على ألسنة المسلمين كلما ازداد حال الأمة سواءًا، وكلما تعالت هجمات أعدائها عليها .. فمن هذه الأسئلة:
لماذا نُعاقب بهذه العقوبات المتوالية؟ إلى متى الذل والهوان الذى تعيشه أمتنا منذ أمد بعيد؟ لماذا يتركنا الله هكذا نُسام سوء العذاب من اليهود وغيرهم وهو سبحانه قادر على أن يكف بأسهم عنا وينصرنا عليهم؟
إن الرؤية الإيمانية لهذه العقوبات لابد وأن تنطلق من عدة أمور:
1 / 5
- أولهما: أن هذه العقوبات تأتى بعلم الله وإذنه ومشيئته ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران:١٦٦]. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ [النساء:٩٠].
- وثانيها: أن هذه العقوبات صورة من صور التأديب الإلهي للأمة، لأنها تخلت عن رسالتها، ولم تعمل بما تضمنته، وتركت مهمة توصيلها وإبلاغها للبشر جميعا ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران:١٦٥].
- وثالثهما: أن هذه العقوبات، وسيلة قوية لإيقاظ الأمة وإفاقتها من غفلتها، وإعادتها إلى رشدها ﴿وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨)﴾ [الزخرف].
قال رسول الله ﷺ "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لاينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (٥).
إصلاح الداخل أولًا:
لايمكن للأمة ان تؤدي أمانة البلاغ، ومن ثم الشهادة على الناس إلا إذا تمثلت في أبنائها معاني الرسالة، فيستمدوا منها - بعون الله- القوة الروحية الدافعة للعمل والجهاد، ويستشعروا من خلال تطبيقها الصحيح معنى العزة بالله، فتفيض عليهم السعادة في كيانهم، فينطلقوا راشدين لتحقيق مراد ربهم بأن يكون الدين كله لله.
وحين يهملون تطبيق الرسالة: تنحط اهتماماتهم، وينكفئون على ذواتهم، ويصبح جل تفكيرهم في كيفية تحصيل متطلبات الطين، وشهوات النفس.
من هنا نقول إن نقطة البداية الصحيحة لرفع العقوبات عن الأمة، وتغيير ماحاق بها ونزل بساحتها، هي صلاحها من الداخل ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١].
فإن لم يحدث ذلك، فستستمر العقوبات والمحن تتوالى عليها، ولن يرفعها مجرد الدعاء أو المساعدات للمنكوبين -على أهميتها- بل لابد من دفع ضريبة التغيير الحقيقي.
وحتى لو هدمت المساجد، وقتل النساء والأطفال هنا وهناك، فلن يرفع البلاء إلا إذا سرنا في طريق التغيير ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء: ٨].
والتغيير المنشود يشمل كيان الإنسان بمحاوره الأربعة:
أولًا: تغيير وإصلاح المفاهيم والتصورات في العقول، وإعادة بناء اليقين الصحيح فيهما على أساس الإسلام.
ثانيًا: إصلاح الإيمان في القلوب وتقوية الإرادة وتحريرها من أسر الهوى، ليتولد عن ذلك قوة روحية، ودافع ذاتي يدفع صاحبه للقيام بما يحبه ربه ويرضاه، مع نفسه ومع الأخرين.
ثالثا: ترويض النفس وجهادها على لزوم الصدق والإخلاص لله ﷿، مع نكران الذات والتواضع غير المصطنع.
رابعا: التعود على بذل الجهد في سبيل الله، وأن يكون هذا الجهد بالأساس في الدعوة إلى الله وتحبيب خلقه فيه (٦).
عندما تكتمل هذه الحلقات الأربع، سيحدث - بإذن الله- التغيير الحقيقي للفرد، ومن ثم الأمة.
إن التغيير المطلوب ليس تغييرًا لحظيًا بل تغييرًا يُحدث أثرًا إيجابيًا دائمًا، وهذا يستلزم التربية الصحيحة لأفراد الأمة .. هذا إن أردنا إصلاحًا حقيقيًا لها.
ولنعلم جميعا أنه مهما ألقيت الدروس والمواعظ، ومهما نثرت المقالات إلا أنها -مع أهميتها- لن يكون لها نفع حقيقي ودائم إلا إذا مُورست من خلال منظومة تربوية تُعنى بإحداث أثر إيجابي دائم -وليس لحظيا- ينتج
عنه ظهور المؤمن الصالح المصلح، الذى تتأسس عليه الأسرة الصالحة ثم المجتمع الصالح.
1 / 6
لا بديل عن التربية
إن التغيير المنشود لللأمة يستلزم تربية أفرادها تربية صحيحة متكاملة، والتربية تحتاج إلى استمرارية ممارسة معانى الإسلام، من خلال وسط تربوي تتم فيه المعايشة والتعاهد وبث الروح وضبط الفهم وتوجيه الجهد واستنهاض الهمم .. هكذا فعل محمد ﷺ وهو يبنى الأمة الجديدة .. تأمل قوله تعالى وهو يخاطبه
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..﴾ [الكهف:٢٨].
لقد كان محمد ﷺ يقوم على تربية أصحابه وتعاهدهم ودوام توجيههم، وذلك في المرحلتين المكية والمدنية .. ففي مكة كان يمارس ذلك من خلال تواجده المستمر بينهم، ولقائه الدائم بهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا، وفي المدينة استمر في التربية والتعليم من خلال المسجد، ومن خلال التواجد المستمر بين أصحابه ومعايشتهم ومتابعة أحوالهم ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة:٢].
ضرورة المعية والصحبة:
لابد إذًا من أن يقوم الدعاة بالتواجد بين الناس وممارسة معاني الإسلام معهم حتى يتم التغيير المنشود، ولقد كان هذا هو دأب الرسل -عليهم الصلاة والسلام- تأمل قوله تعالى في قصة هود ﵇ ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ﴾ [هود:٥٨].
وفي قصة شعيب ﵇: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [الأعراف:٨٨]
وفي قصة موسى- ﵇: ﴿اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ﴾ [غافر:٢٥].
فالملاحظ في هذه الآيات قوله تعالى عن اتباع كل رسول ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ﴾ وهى مهمة زائدة على"آمنوا به"، فلفظ (مع) يعطى دلالة على المعية والصحبة والمعايشة كمرحلة ضرورية بعد الإيمان به، وهذا يحمل في طياته بعض الدلالات على أن كل رسول كان يقوم على تربية من يؤمن بالدعوة، ولا يكتفي بإبلاغهم فقط.
إن الرسل ﵈ -كما يقول د. عبد الستار فتح الله- لم يأتوا بدعوات مجردة، يلقونها في الناس ثم يمضون إلى بيوتهم مطمئنين، وكأنهم قد أدوا ما عليهم من أمر الرسالة، والدعوة، والبلاغ. وإنما الذى يقرره القرآن العظيم أن الرسل ﵈ كانوا يجمعون الناس على أمرين: الإيمان، والمعية، ويجعلون من المؤمنين أمة واحدة، وجماعة جديدة، مترابطة الوجهة والحركة" (٧).
ويستطرد قائلا: "يورد القرآن العظيم لفظ (مع) بيانًا لعلاقة المؤمنين برسلهم في مختلف العصور، والتي تتطلب (أمة جديدة) من المؤمنين، يناط بها مسئولية الجهاد الدائب لإقامة حكم الله في الأرض، أو بعبارة أدق: لإعادة الناس إلى الإسلام دينهم الأصلي الذى خُلقوا عليه، ثم طمرته الأهواء والشهوات والضلالات.
إن العلاقة بين المؤمنين ورسلهم لم تكن مجرد رابطة الإيمان بدين واحد فقط، وإنما هي تجمع مترابط الأصول والفروع، والرأس والأعضاء، يشد بعضه إلى بعض برباط الإيمان أولًا، ثم المعية والصحبة المستقرة على وجه الانقياد والتبعية للدعوة ثانيًا، مع مايحمله ذلك من توحيد في الوجهة والسلوك، والمواقف، والعمل لنصرة دين الله .. والاستمرار على ذلك حتى يأتي وعد الله الحق، أو يموت الرسول والمؤمنون وهم على محجة الطريق، ونوراليقين" (٨).
1 / 7
مهمة طلائع الأمة في تربيتها:
لا بديل عن المعية والصحبة والتربية -إن أردنا تغييرًا حقيقيًا- ومن ثم فإن على جميع الدعاة والعاملين للإسلام أن يكون ذلك هو هدفهم الأساسي وهم يتعاملون مع الناس.
عليهم أن يوحدوا جهودهم ولا يبعثروها في غير هذا المجال حتى تبدأ الأمة في اليقظة الحقيقية.
لابد وأن يكون عمل كل من يريد خدمة الإسلام، من التواجد بين الناس .. يأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، وليس ذلك فحسب، بل عليه أن يكون هدفه من تواجده بينهم هو التربية وإحداث أثر إيجابى دائم في ذواتهم من خلال المحاور الأربعة للتربية السابق ذكرها.
إن المطلوب من خلال التواجد بين الناس ليس فقط مساعدة الفقراء أو البحث عن عمل للعاطلين، أو مواساة المبتلين، أو عقد الندوات، أو ...،فكل هذا مع أهميته إلا أنه لابد وأن يوضع في سياق المنظومة التربوية التي تهدف إلى التغيير الشامل والدائم في شخصية المسلم -كما أسلفنا- وألا يتم التعامل معها على أنها جزر منعزلة.
من هنا نقول بيقين: إن معركة الإصلاح والتغيير الحقيقي للأمة روحها التربية، ولابد أن يتم تطويع جميع الوسائل لخدمة هذا الأمر، فإن تركنا هذه المعركة فسنظل في أماكننا نراوح بين أقدامنا، ونشتكي من كثرة المحن والإبتلاءات التي تمر بالأمة، وسيعلو صراخنا ونحيبنا، وترتفع أيادينا بالدعاء والتضرع إلى الله كلما أصاب المسلمين جرح جديد، وسيعلو صوت الدعاة في الفضائيات وعلى المنابربأهمية العودة إلى الله، وتغيير ما بالنفس، ثم تهدأ العاصفة ويستقر الجرح في جسد الأمة ويتعود على وجوده الجميع، ثم يتكرر الأمر بعد ذلك مع جرح جديد وهكذا.
فإن قلت: ولكن هل من الضروري تربية الأمة جميعًا؟
ليس المطلوب أن يكون جميع الأفراد على مستوى عال ورفيع من الصلاح، فسيظل هناك السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه، ولكن يبقى من الضروري توافر الحد الأدنى للصلاح في الأمة.
فالمطلوب هو إصلاح المجتمع بأن تشيع فيه روح الإسلام ومعانيه، وأن يغلب عليه مظاهر العفة والتراحم، والتعاون على البر والتقوى، ونكران الذات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، واستشعار المسئولية تجاه الأمة والبشرية، وفي المقابل تختفي منه مظاهر السلبية والأنانية والإعجاب بالنفس، والتفسخ الأخلاقي والإباحية ..، وهذا لن يتم إلا بجهد تربوي يبذله الدعاة والعاملون للإسلام مع الناس .. كلٌ يعمل في محيطه.
* * * *
الجمرة المشتعلة
لكي ينجح الدعاة والعاملون للإسلام وكل من يتوق لخدمة الإسلام .. لكي ينجحوا جميعا في تغيير الأمة، لابد من أن يبدأوا مع أنفسهم، فتتمثل فيهم معانى الإسلام التى يريدون أن يربوا الناس عليها.
إن الخطأ الشائع الذى يقع فيه بعض الدعاة هو مطالبة الناس بشيء لايفعلونه هم مع أنفسهم، فتفقد كلماتهم الروح والحرارة والتأثير في الآخرين.
إن نقطة البداية الصحيحة لتربية الأمة، تنطلق من وجود الفرد المسلم المتوهج الذى تتمثل فيه معاني الإسلام والحرقة على الدين، وبدون هذه البداية لا يمكن للعملية التربوية أن تنجح.
فعلى سبيل المثال: لو أردنا إشعال مجموعة من الفحم فإننا -في الغالب- نقوم بإحضار فحمة مشتعلة متوهجة ونضعها وسط مجموعة الفحم، ثم نقوم بتحريك الهواء عليها جميعا فينتقل الإشعاع والتوهج من الفحمة المتوجهة إلى بقية الفحم .. فإن كان توهج الفحمة -الأساسية- متوسطًا كان الأثر على بقية الفحم محدودا ضعيفا، وإن كان التوهج ضعيفا فمن المتوقع ألا نرى أثرًا لتوهج في عموم الفحم، وقد تنطفىء الفحمة ذات التوهج الضعيف بمرور الوقت، فعلى قدر توهج الفحمة "الأساس" يكون الأثر على من حولها.
1 / 8
الفرد المتوهج أولًا:
من هنا يتضح لنا أنه وإن كان تغيير الأمة تغييرًا إيجابيا كما يحب ربنا ويرضى، يستلزم تربية أفرادها على معاني الإسلام، فإن نجاح هذه التربية مرهون بوجود أفراد متوهجين بدأوا بأنفسهم وساروا بها في طريق التغيير، وقطعوا فيه شوطا معتبرا حتى يستطيعوا-بعون الله- أن يأخذوا بأيدي الناس ويسيروا بهم في الطريق الذى يسيرون فيه.
تبقى نقطة أخيرة في هذه المسألة وهى أن البعض قد يفهم من هذا الكلام أن تربية الناس على معاني الإسلام من خلال المحاور الأربعة السابق ذكرها (المعرفية- الإيمانية- النفسية- الحركية) يستلزم تحققها بشكل كامل فيمن يريد ممارستها مع الآخرين.
لاشك أن الأفضل هو ذلك، ولكن لصعوبة تحققه فينا يبقى الحد الأدنى لممارسة التربية مع الآخرين، هو أن نربيهم على ماتحقق فينا بصورة مرضية، وكلما إستكملنا جديدًا في أنفسنا قمنا بتربيتهم عليه، وبذلك يمكن أن يقوم بأمر تربية الأمة عدد كبير من الدعاة والعاملين للإسلام، وكل من يتوق إلى خدمة الدين ..
الفتى عليه أن يقوم بتربية الأطفال على ما تحقق فيه، وليس على ما عرفه فقط، والشاب يقوم بتربية الفتيان على ما تمثل فيه، والرجل يقوم بذلك مع الشباب، والنساء مع الفتيات والأطفال، وذلك في كل مكان يتيسر فيه المعايشة والتعاهد، ويأتي على رأس ذلك: المسجد فهو المحضن التربوي الأول الذي ينبغي أن يستفيد منه الجميع في إنجاح العملية التربوية بإذن الله.
كلمة أخيرة عن معركتنا مع اليهود
لا يريداليهود -حتى الأن- تصديق حقيقة أن الله ﷿ استبدل بهم أمة الإسلام، وأنهم لم يعودوا أصحاب رسالة، لذلك فقد اشتدت عداوتهم وكيدهم للأمة الإسلامية على مدار تاريخها (٩)، ودأبوا على إضعافها وتفتيتها.
وفي الوقت نفسه هم لا يريدون خيرا للبشرية ..
يريدون أن يكونوا هم فقط المفضلين عند الله ﷿ -على حد مزاعمهم الباطلة-، وأن يكون بقية البشر في مقام العبيد لهم (١٠).
لذلك فإن من أهم العقبات التى تواجه الأمة الإسلامية في أداء وظيفتها هى عقبة اليهود، ولعل حديث القرآن المكي عنهم وعن شرورهم والكبر المتأصل فيهم، وعدم حبهم الخير للبشر .. لعل هذا الحديث في وقت لم يكن بين المسلمين في مكة واليهود أى احتكاك أو تعامل مباشر، فقد كان أقرب اليهود إليهم يقطن في يثرب على مسافة حوالي ٥٠٠ كيلو متر، ولكن لأن القرآن الكريم يربي المسلمين في هذا الوقت على كيفية حمل الرسالة والقيام بحقوقها وتبليغها وقيادة البشرية من خلالها، كان لابد من التذكيروالتنبية على أهم عقبة ستواجههم في مهمتهم المرتقبة، لذلك تجد سورًا مكية كثيرة تحدثت عن اليهود وتاريخهم ونفسياتهم ونظرتهم للآخرين كسور: الأعراف والأسراء وطه.
حقيقة المعركة مع اليهود:
إن حقيقة المعركة الحتمية الآن مع اليهود هى معركة بين الرسالة الحقة والرسالة المزيفة .. بين القرآن والتلمود، ولابد أن ننظر إلى الأحداث التى تمر بنا من هذا المنطلق، وأن نوقن بأن من مصلحة البشرية جمعاء هي انتصار القرآن في هذه المعركة.
1 / 9
واعلم أخى أن اليقين بالله ﷿ وبأنه يحرك أحداث هذا الكون في اتجاه التمكين لهذا الدين ونشر نوره على العالمين، يجعلنا نستبشر من وجودهم وتجمعهم في فلسطين، فمع مرارة احتلال اليهود لفلسطين، وتهجير الكثير من أهلها .. ومع المذابح التى وقعت، والقدس التى احتلت، والمسجد الأقصى المحاصر والمهدد بالهدم، إلا أن ذلك كله يحمل في طياته بشرى عظيمة، وحقيقة أكيدة، بأن وعد الله حق، وأنه لا يخلف الميعاد، فلقد وعد سبحانه اليهود -في سورة الإسراء- بأنه سوف يجىء بهم مرة أخرى إلى الأرض المقدسة بعد شتاتهم في الأرض: ﴿وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾ [الأسراء:١٠٤].
نعم، هذا التجمع ليس في مصلحة المسلمين من الناحية الشكلية، لكنه -بالتأكيد- يحمل لهم وللبشرية خيرًا عظيما .. فاليهود لم يتعظوا بما حدث لهم عبر العصور الماضية، واستمروا في الفساد والإفساد ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ [المائدة:٦٤].
فكم من الجرائم تسببوا فيها، وكم من الحرائق أشعلوها بين مختلف الأجناس، فلقد استغلوا تشتتهم وتشرذمهم في تحريك الفتن على مستوى العالم، ولم ولن يهدأ لهم بال حتى يدمروا البشرية، ولعل قسوتهم البالغة في تعاملهم مع الأطفال والنساء والعجائز في فلسطين ما ينبؤنا عن حقيقتهم النفسية القاتمة المتكبرة التى يحملونها.
من هنا كان هذا التجمع للكثير منهم في فلسطين يعد بمثابة فرصة عظيمة للإجهاز عليهم وكسر شوكتهم، وهذا ما أخبرنا به رسول الله ﷺ بقوله: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبىء اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر، يا مسلم يا عبد الله: هذا يهودي خلفي فتعال فأقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود" (١١).
إن مجىء اليهود وتجمعهم في فلسطين فرصة عظيمة لتخليص البشرية من شرورهم، وذلك من خلال قتالهم مجتمعين تحت راية واحدة.
بلا شك أن هذا لن يتم في يوم وليلة، ولكنه سيأخذ وقته اللازم حتى تكتمل عناصر النصر عند المسلمين، وأهمها تغيير الأمة تغييرًا حقيقيًا وشيوع معاني الصلاح فيها.
هيا ابدأ بإصلاح نفسك وتربية غيرك:
إن المعركة بين القرآن والتلود هى الآن تمضي على سنن الله تعالى المحددة وعلى ما علم من مفاسد اليهود وأشياعهم من إضعاف للأمة وإغراقها في بحر الشهوات، وإبعاد القرآن الكريم عن منصة التوجيه، ولكن لن يستمر هذا طويلا، فبوادر اليقظة بدأت تدب في جنبات الأمة، وصمود إخواننا في فلسطين رجالًا ونساءً وأطفالًا خير دليل على ذلك، ولكن يظل الحمل الثقيل على عاتق الدعاة، والمصلحين، والعاملين للإسلام في أرجاء الأمة، وهو أن يقوموا على تربيتها وإصلاحها، ليكون ذلك من أهم عوامل التعجيل بالنصر، شريطة أن يبدأ هؤلاء بأنفسهم قبل عملهم مع الآخرين -كما أسلفنا- ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ (٥)﴾ [الروم]
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * * *
1 / 10
المراجع
(١) سفر يشوع: ١١٢.
(٢) مجلة المجتمع الكويتية العدد (١٨٣٤) محرم ١٤٣٠هـ - من مقال بعنوان: عقيدتهم القتل.
(٣) رواه البخاري ومسلم.
(٤) رسالة الجهاد، من مجموع رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، ص٤٢١ - دار التوزيع والنشر الإسلامية- مصر.
(٥) صحيح، رواه ابو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (٤٢٣).
(٦) يمكنك اخي القارئ -إن شئت- أن تقرأ بعض التفصيل حول هذه المحاور الأربعة وضرورة تكاملها واستمرارها، وذلك في «كتاب التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم».
(٧) المدخل إلى التفسير الموضوعي، د. عبد الستار فتح الله سعيد، ص١٥٥ - دار التوزيع والنشر الإسلامية. مصر.
(٨) المصدر السابق ص: ١٤٣.
(٩) يكفيك تأكيدًا لهذا ماروته أم المؤمنين صفية بنت حيي بن اخطب عن الحوار الذي دار أمامها وهي صغيرة بين أبيها حيي بن أخطب وعمها أبي ياسر بعدما عادا من مقابلة رسول الله ﷺ بعد قدومه المدينة .. تقول سمعت عمي وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال نعم والله! .. قال: اتعرفه وتثبته؟ قال: نعم! قال: فما في نفسك منه؟! .. قال: عداوته مابقيت .. (راجع القصة في سيرة غبن هشام).
(١٠) اقرأ -إن شئت- كتاب (معركة الوجود بين القرآن والتلمود) د. عبد الستار فتح الله سعيد، لتزداد يقينًا بهذه الحقائق.
* * * *
1 / 11