الخلافة نظام شاذ كل الشذوذ، ليس هو بسلطة روحية فقط، ولا هو بسلطة زمانية فقط. هو نظام يجمع بين السلطتين، ومزيج من قوتين يجب أن تظلا مفترقتين. هو نظام الدنيا والآخرة حصر في يد فرد واحد، فكان الحاكم بأمره في الناس، وظل الله فوق الأرض معا . خليط من حقيقة واقعة وأسطورة موروثة. سلطة لا مسلط لها، وقداسة لا سر فيها. وميراث عن بدايات كان لا بد للإسلام أن يقوم عليها، ظلت قائمة في عصور أصبح فيها ذلك الميراث عاملا من عوامل الضعف في الإسلام. ومركز للتعصب لا مبرر له. وبؤرة تشع منها مفاسد الفقهاء، فكانت على الإسلام حربا، وعلى المسلمين شواظا من نار. قوة حصرت في يد، وكان في الواجب أن توزع على أيد تتعاون على تسنم مدارج الحضارة، وفكرة تحجرت فتحجرت من حولها العقول وعميت البصائر. لقب في غير موضعه، وتاج مثل الأرض والسماء. وصولجان كانت كرته العالم الإسلامي وفيه ثلاثمائة مليون من النسمات البشرية، استعبدتهم الإماء والسراري، ومن ورائهن الفقهاء. جمود لا حركة فيه، والفلك يدور، وظلام لا ضياء فيه، والدنيا يتناوب عليها الليل والنهار. قمع للفكر، وإطلاق للشهوة. كبت للضمائر، وحرية للأوهام. تمثيل للإسلام ثم تمثيل بالإسلام؛ فناحية للبناء في الظاهر، وأخرى للهدم في الحقيقة.
والخلافة فوق ذلك نظام ورث ظاهره وترك لبه، فأصبحت ميراثا، بعد أن كانت بالبيعة فرصة انتهزها الانتهازيون من الفاتحين، والمخاطرين من اللاعبين بمستقبل الشعوب، فحصروا في يدهم سلطتين بعد سلطة واحدة، ورموا بسهمين عن قوس واحد. ثم ورث ما استولى عليه الانتهازيون المجازفون، فكان الميراث مقدسا كأصل الفكرة، وكل مقدس معبود على كل حال.
ولقد أوسعت هذه الحال مجال النفاق والكذب والترهات، بل فتحت المجال لفجرة آثمين أن يكونوا يوما خلفاء يحملون اسم الملك واسم الله؛ فأبناء غير شرعيين بحكم الدين صريحا، وقتلة آثمون منهم من قتل أباه، ومنهم من قتل أخاه، ومنهم من قتل أعمامه وأخواله، استطاعوا يوما أن يمثلوا محمدا - عليه السلام - فوق الأرض، وأن يمثلوا الله تعالى في السماء.
ولم يكن في هذا النظام من سر سحري جعل الناس يخضعون له خضوع العمي الذين لا يبصرون إلا هالة من القداسة حوطه بها فئة العلماء والأئمة والفقهاء؛ فإنهم بعد أن أقفلوا باب الاجتهاد في الشريعة، أقفلوا باب الاجتهاد في اختيار أصلح أنواع الحكم المساير لطبيعة الحالات . وبذلك تم لهم إخضاع العالم الإسلامي، ومضى المسلمون يتوارثون هذا النظام جيلا بعد جيل، فلما علا مد الحرية على الشعوب الشرقية، بان لأهلها أن هذا النظام مهما يكن فيه من روح الإسلام، فإنه غير ملائم لطبيعة الحالات والمقتضيات السياسية والاقتصادية. لهذا ألغي بثورة طاحنة، فكان لخير الشرق والشرقيين إلغاؤه، ولا جرم أن سلطة الفقهاء أخذت تتضاءل من بعد ذلك، ولن يمضي زمان طويل، قبل أن يتقلص ذلك الظل الكالح الذي حال معه لون الشرق، وحال بينه وبين الضياء، لولاه لقاد الشرق العالم إلى حضارات جديدة، وإلى صور من الرقي لم يألفها العالم حتى الآن.
وبعد، فليس لنا أن نتورط في البحث لأكثر من هذا؛ فإن العوامل التي أثرت في عقلية الشرقيين وحالت بينهم وبين الارتقاء معدودة معروفة. ولكن هذا لا يحول دون القول بأن الشرق قد خطا بالإنسانية من العصر اللاهوتي إلى العصر الميتافيزيقي، وكان لا بد دالف بقدمه يوما إلى العصر اليقيني، لولا تلك العوامل السوداء.
إن هذه الأشياء نماذج عقلية فصلها «كونت» في فلسفته أحسن تفصيل، وهي فوق ذلك، نماذج لها تدرجاتها الدقيقة المتعاقبة، التي لا يمكن أن يبلغ الإنسان إليها فجاءة، بل تدرجا وبتهيئة ظروف وحالات لا يمكن أن تدرك كيف تنشأ ولا كيف تتكون في تضاعيف الفكر البشري.
إن العقلية الأوروبية الحديثة، لم تكن نموذج الفكر قبل ثلاثة قرون، والدليل على هذا أن العقلية الآسيوية قد انتحلها الأوروبيون من أهل النصرانية إلى عصر كوبرنيكوس وغاليليو. نعم إنها لم تؤثر في الوارثات الاجتماعية، ولكنها أثرت تأثيرها البالغ في الفكر الأوروبي؛ لهذا نترك البحث في هذه العوامل لرسالة أخرى نعقدها في مثل العقلية القديمة في الشرق والغرب.
حرية الفكر
قد يخيل إلى الذين يمعنون في درس هذا الكتاب، والوقوف عند مراميه وقفات تأملية طويلة، أن الشرق قد تحرر فكره بالفعل، بقيام بعض زعماء يدعون إلى الحرية الفكرية، أو قادة قضوا على بعض التقاليد القديمة التي كانت حائلا بين الشرق وبين الارتقاء.
نعم، لا ننكر أن الارتقاء أصبح معبود فئة من رجال الشرق، خصوا بأرقى المميزات الإنسانية، وأنهم في ذلك قد جاروا الغرب وانتحلوا عنه أساليبه التي اتخذوها وسيلة للارتقاء، غير أننا لا يجب أن ننسى أننا، مع هذا، قد ورثنا عن الغرب جمود أهل المذاهب، والظاهر أنه من المستحيل على العقل البشري في حالته الحاضرة أن يتخلص من المذهبية على وجه عام.
অজানা পৃষ্ঠা