مثال المدرسة الأولى: الأستاذ قابيل آدم (1)
إن العقلية الأوروبية هي العقلية التي تتسق وحاجات هذه الحياة الدنيا، ونحن إنما نتبع وحي هذه العقلية، بحكم أننا وجدنا في هذه الحياة. أما العقلية الآسيوية، فالعقلية التي تلائم الحياة الآخرة، فإذا انتقلنا إلى الحياة الباقية، فهنالك نتبع وحي هذه العقلية (ص3). «إن الأمم الحية في العصر الحاضر تعيش فيما يلي الحدود الغربية من الشرق، بينما يعيش في الشرق مجموع من الأمم لم يعترف لهن بحق الحياة في عصر من عصور التاريخ، إن الناس في الشرق وفي الغرب يتفقون في كل الصفات العضوية، فلكل منهم رجلان وساعدان، فمن أين أتى ذلك الفرق البين الواقع بين الناس في الغرب والشرق» (ص4).
لا شبهة في أن الغرب وحده هو الذي يمتع الآن بأسعد حالات الحياة، وفيه أقوى النظم الحكومية، والحياة فيه أقرب ما يستطاع إلى ما يجب أن تكون عليه الحياة الإنسانية، إذن يجب علينا أن ندرس فن الحياة الغربية لنعرف حقيقتها.
لقد استأنست أمريكا واعترف لها بحق الحياة من طريق العلم الغربي، وتحضرت اليابان بأن اتبعت وسائل العقلية الغربية، وكذلك ممالك البلقان فإنها درست هذا الفن، وقبلت مبادئه، فاستطاعت أن ترفع عن كاهلها نير الاستعباد، فلا مرية إذن في أن هذا الفن جرب واختبر، فدلت نتيجة التجاريب العديدة على صدق موحياته.
لقد ناضل رجال الغرب ضد رجال الدين وصارعهم، لا لشيء، إلا ليفوز بتكوين هذه العقلية، وما زال يصارع ويناضل، حتى استطاع أن يقيم للحياة فنا جديدا، هو الآن قبلة الغرب بل ومعبوده الأعلى.
لم يكن لمذاهبنا القديمة سوى قاعدة منطقية واحدة، ولم تتكون فيها سوى عقلية بعينها، وتلك القاعدة، وهذه العقلية، لم ينصرفا طوال الأعصر عن شيء واحد، هو أن يرجعا بكل شيء استنتاجا واستقراء إلى الكتب الدينية. هذا بينما كانت العقلية الغربية تنظر في الحياة بعين إنسانية، وتنظم الحياة على مقتضى ما ترى هذه العين من حقائق الوجود، وإنه لمن أشد الأشياء خطرا أن نبحث الحياة الغربية بعقلية شرقية؛ لأن من الجائز أن يغوينا هذا النهج، فنقبل جزءا من مجموع الحياة الغربية، أو أجزاء نكيفها تكييفا خاصا أو نرفض قبول ناحية من نواحيها، أو نكل تطبيق شيء إلى المستقبل، ثم نقول: إن لدينا من الحياة الغربية أجزاء ونتفا.
وما من شك في أن هذا النهج كان سببا في وقوع أكبر المصائب وأعظم الكوارث التي انتابت الشرق في الماضي. ولقد عملنا بأقصى الجهد لكي نوفق بين الناحيتين، فدلت التجاريب على أن التوفيق بينهما مستحيل؛ فإن أهل الغرب إنما يعتقدون بأن الناس للناس (أي إنسانيون)، بل إن مطامعهم الأولية في الحياة، تنحصر في أن يعيشوا في هذه الدنيا على أكمل وجه تتطلبه الرجولة الكاملة. أما أهل الشرق فموقنون بأن الناس ملك لله، ويحاولون دائما أن يحققوا وجود الحياة الأخرى في هذه الحياة.
ولا جرم أن هاتين النظرتين لا يمكن التوفيق بينهما (ص7)، على أننا لم نعترف بهذه الحقائق في الماضي ولم نواجهها بما تتطلب من الشجاعة الأدبية والاستقلال في الرأي. ومن هذا كله نجد أنفسنا في أشد الاحتياج لأن نصطبغ بصبغة العقلية الأوروبية الحديثة. وما من سبب لذلك التنابذ الشديد الذي قام بين فريقي الأمم الشرقية (فريق الجامدين وفريق المجددين على النمط الغربي) إلا وجود هذه العقلية في ناحية، حيث تقوم في ناحية أخرى العقلية الدينية العربية. وهذا أخطر ما يتعرض له الشرق من الأحداث. (2)
لم تسلم الأمم الآسيوية يوما من الفقر والتعاسة، وليس لهذا من سبب سوى أنها اعتادت أن تستقرئ أحكامها المعاشية كلها من تشريعها الديني المقدس، ولن تقف على طابع آخر غير هذا إذا ما قلبت تاريخ مصر والهند وفارس واليابان القديمة والصين وطوران وبلاد العرب؛ فإن هذه الأمم لجهلها، قد نسبت لأمرائها وسلاطينها، أو لغيرهم من مقدمي الانتهازيين، صفات قدسية حينا، أو سلطة إيحائية حينا آخر.
وكان من نتائج هذه العقلية أن تردت الأمم الآسيوية في وهدة التعاسة والشقاء (ص14).
অজানা পৃষ্ঠা