كانت ليالي الشتاء كثيرا ما تشهد إقامة وليمة مبهجة مفعمة بالصخب والمرح، وكانت مثل هذه الولائم تسهم في تخفيف حمولة الأرفف وإثقال درج النقود. فعادة ما كانت تشهد الإنفاق ببذخ على محار الخلجان الصغيرة. كان محار الخلجان يرد من بالتيمور بالطبع في علب قصدير دائرية؛ إذ كان يدخل إلى كندا قبل وقت طويل من العلب القصديرية المربعة التي صارت تأتي الآن في فصل الشتاء من المدينة نفسها الشهيرة بالقواقع ذات الصدفتين. كان محار الخلجان يطهى جزئيا قبل تعليبه، كي يحتفظ بصلاحيته في أي مناخ، كما تقول الإعلانات. ولم يكن يحتاج إلى وضع ثلج من حوله، كما يحدث مع العلب القصديرية المربعة التي تحوي المحار النيئ في العصر الحاضر. وعادة ما كان أحد الحاضرين يقترح إقامة الوليمة قائلا: «ما رأيكم في تناول وجبة من محار الخلجان؟»
ثم كان يجمع اشتراكا نقديا قيمته عشرة سنتات أو نحو ذلك من كل عضو، وكان المبلغ الإجمالي ينفق على عدة علب من محار الخلجان وبضعة أرطال من البسكويت. ثم كان المحار يطهى في طست قصديري فوق سطح الموقد. وكانت محتويات العلب تفرغ في هذا الصحن السهل الاستعمال، ثم يضاف إليها الحليب وقطع البسكويت المكسورة، لإضفاء ثخانة وتماسك على المنتج النهائي. ودائما ما كان يوجد كم وفير من الأطباق؛ إذ كان المتجر يلبي احتياجات الحي من الأواني الفخارية. وكان يوجد كذلك كم وفير من الملاعق؛ لأن متجر البقالة كان يجب أن يحوي كل شيء. ما الذي قد يحتاج إليه أكثر الرجال طمعا أكثر من ذلك؟ وفي إحدى الليالي التي شهدت إسرافا أشد تهورا من المعتاد، اختتمت الوليمة بعدة علب قصديرية من الخوخ، الذي لم يكن يحتاج إلى طهو، بل مجرد رشة من السكر. ودائما ما كان البقال خبيرا في طهو محار الخلجان وفتح علب الخوخ.
كان ثمة شعور عام بين الأعضاء بأنهم يواكبون الحياة العصرية بعض الشيء بالانغماس في هذه الولائم، وكان بعض الرجال الأكبر سنا والأكثر خبرة يحتجون احتجاجا واهيا على ما وصل إليه العصر من انغماس في الملذات، ولكن كان يلاحظ أنهم لم يمتنعوا قط عن تناول نصيبهم من هذه الولائم.
أما الرجال الأصغر والأكثر طيشا، فكانوا يقولون: «الإنسان لا يعيش سوى حياة واحدة.» وكأن ذلك يبرر الإسراف؛ إذ نادرا ما كان أحد الأعضاء يغادر المتجر بعد تلك الولائم من دون أن يكون قد أنفق خمسة عشر سنتا، لا سيما حين يتناول الخوخ بالإضافة إلى المحار.
لم يكن متجر البقالة الكائن في كورنرز قد أنشئ إلا مؤخرا، وحتى ذلك الحين، لم تكن تعتبره ورشة الحدادة منافسا. فقد كان ماكدونالد هو ملك المنطقة التي يعيش ويعمل فيها بأكملها، وكانت ورشته هي الملتقى المفضل في نطاق أميال من حولها. وكذلك كانت ورشة الحدادة هي المركز الوطني للحي، شأنها في ذلك شأن أي ورشة حدادة بالطبع ما دام يمكن أن تحل السنادين محل القذائف المدفعية في إطلاق التحيات الرسمية والعسكرية. ففي الرابع والعشرين من مايو الذي يوافق عيد ميلاد الملكة، ويحتفل به محليا باعتباره اليوم الوحيد في العام، باستثناء أيام الأحد، الذي يكون فيه وجه ماكدونالد نظيفا ولا يؤدي فيه أي عمل ، كانت أصداء السنادين تدوي في أرجاء المنطقة. وفي ذلك اليوم العظيم، كان البقال يورد البارود اللازم، الذي كانت قيمته تساوي ثلاثة من شلنات يورك، الذي يعادل الواحد منه ستة بنسات ونصف بنس. كان حمل السندان يتطلب رجلين، مع قدر كبير من أصوات الشخير من شدة المجهود، لكن ماكدونالد، حين تكون حشود الحاضرين هائلة، كان يجعل مسألة حمله تبدو تافهة؛ إذ كان يرفعه على كتفه ثم يطوحه على المرج الأخضر أمام ورشته. كان يوجد في جسم السندان الحديدي فتحة مربعة، وحين كان السندان يوضع مقلوبا على رأسه، كانت هذه الفتحة تصبح في الأعلى. كانت تملأ بالبارود، وتدق فيها بواسطة مطرقة ثقيلة سدادة خشبية، محفور بها شق. وبذلك كان البارود يتناثر من الشق على سطح السندان، ثم تتراجع حشود الحاضرين إلى الوراء حابسة الأنفاس. كانت هذه اللحظة شائقة للغاية. فقد كان ماكدونالد يخرج راكضا من ورشته حاسر الرأس، ممسكا بقضيب حديدي طويل، ثم ينزل طرفه المترجرج الشديد السخونة على السندان، بينما يصيح بصوت مرعب: «انظروا واحذروا!» ثم يصدر البارود المتناثر صوت هسهسة وفرقعة للحظة، وبعدها تنطلق القذيفة مدوية، وتتصاعد سحابة كبيرة من الدخان إلى أعلى وسط هتافات حماسية تدوي أصداؤها من الغابات المحيطة. ثم ينطلق المساعد، حاملا وعاء البارود، إلى السندان ويسكب المسحوق المتفجر الأسود في الفتحة، بينما يقف مساعد آخر جاهزا بالسدادة والمطرقة. وبعدها يمتلئ الهواء برائحة البارود المحترق الطيبة، ويستنشقها كل الصغار باستمتاع؛ لأنهم صاروا يدركون آنذاك ماهية الحرب الحقيقية. هكذا كانت التحية المدفعية تطلق، وهكذا كانوا يحتفلون بعيد الميلاد الملكي كما ينبغي.
وحين كان يتوافر لديهما سندانان، كان العرض المدفعي يصبح أشد حيوية وإثارة؛ إذ كانوا لا يحتاجون آنذاك إلى سدادة. فقد كانت فتحة السندان السفلي تملأ بالبارود، وكان السندان الآخر يوضع فوقه. وكان هذا أسرع بكثير من دق سدادة داخل فتحة السندان، وذا مفعول تفجيري مذهل يضاهيها تقريبا. كان السندان العلوي يرتعش صعودا وهبوطا كالضفدع المثقل برصاصة على ظهره في رواية مارك توين، ثم يسقط على جانبه. وبعدها يتصاعد الدخان كالمعتاد، ويكون الصوت المدوي ممتعا كدوي فرقعة السندان الواحد.
عرف ييتس كل هذه الأشياء وهو جالس في ورشة الحدادة؛ لأنهم كانوا لا يزالون في شهر مايو، وكانت الأجواء لم تصف بعد من دخان السنادين ذات الأصداء المدوية. كان كل الحاضرين متلهفين لإخباره بعظمة هذا اليوم. وكان سماعه التفاصيل من شخص أو اثنين كافيا ليجعله يبدي ندمه على أنه لم يكن حاضرا ليرى بنفسه. بعد الحادثة التي أسقطت ييتس، صار يتعامل مع الموجودين بسلاسة بالغة وأصبح واحدا منهم، إن جاز القول. فقد جاء التصريح بحقيقة أنه كندي الأصل في صالحه، وإن كانت إقامته الطويلة في الولايات المتحدة قد أفسدته.
كان ماكدونالد يعمل بكل كد في ثني القضبان الحديدية الطويلة مشكلا بها حدوات. وعادة ما كان يوجد صف ممتد من حدوات غير مكتملة تعتلي عارضة خشبية مسودة كأنهن فرسان بلا أجساد، وكانت هذه العارضة تمر عبر الورشة من الأعلى، أسفل السقف مباشرة. كانت هذه الحدوات نتاج عمل ماكدونالد في أيامه التي تشهد بعض الفراغ نسبيا، وكانت جاهزة للتركيب على حوافر أي حصان يأتي من أجل تركيب حدوات، ولكن في هذه المرة، كان هذا المخزون قد تعرض لتكالب شديد عليه إلى حد أنه نفد، وبدا أن الحداد اعتبر نفاد المخزون عارا عليه؛ لأنه أخبر ييتس مرارا بأنه كان في أغلب الأحيان يدخر حوالي ثلاثين حدوة في الأعلى من أجل اللجوء إليها وقت الحاجة.
وعندما حان وقت العمل بالمطرقة الثقيلة، تقدم أحد الحاضرين وأرجحها طارقا بها بالتناوب مع ماكدونالد، الذي كان يطرق بمطرقة خفيفة عادية، في مهمة تتطلب أذن دقيقة لديها القدرة على تمييز التوقيت المناسب للطرق. وكان من المفترض أن يتولى ساندي تقديم هذه المساعدة، لكنه لم يكن أنانيا، كما قال، وكان مسموحا لأي شخص يريد إظهار براعته بأن يؤدي هذه المهمة. وفيما بدا أن ساندي يقضي معظم وقته في نفخ الأكيار، وحين لم يكن يردد آراء الرئيس، كما كان يناديه، كان يثني على مهارة الطارق الهاوي المؤقت في استخدام المطرقة الثقيلة. كانت هذه المهمة ممتعة للهواة، وكانت قديمة ومملة لساندي؛ لذا لم يعترض قط على هذا التدخل في مهامه، مؤمنا بإعطاء الجميع فرصة، لا سيما حين يتعلق الأمر بأرجحة مطرقة ثقيلة. أعاد المشهد كله ييتس إلى أيام شبابه، خاصة حين كان ماكدونالد، وهو يضع اللمسات الأخيرة على حدوته، يترك المطرقة ترن من حين إلى آخر بقعقعة موسيقية على السندان، مصدرة رنينا متناغما يطرب الأذن، وكأن السندان يشكل جوقة مصاحبة لمهارته الحركية التلقائية. كان رجلا يتمتع بخفة يد حقيقية، وكان السندان فرقته الموسيقية.
سرعان ما بدأ ييتس يستمتع بزيارته إلى نادي البلدة. وحين بدأ الأعضاء يتعاملون معه بألفة، وجدهم كلهم رجالا من الطراز الأول، والأهم من ذلك، أنهم كانوا منصتين له بإعجاب وامتنان. كان واضحا أن حكاياته كلها جديدة عليهم، ولا شيء يجعل المرء في حالة ذهنية ودية ولطيفة أسرع من مستمعين متعاطفين ذوي آذان مصغية. لم يكن أحد يضاهي ييتس في قدرته على سرد حكاية سوى قلة قليلة من الأشخاص، لكنه كان يحتاج إلى تجاوب من مستمعين مهتمين. كان يكره أن يشرح المغزى من حكاياته، كأي راوي حكايات بالطبع! وكان أي مستمتع بارد وناقد كالبروفيسور يجمد نبع السرد من مصدره. وفوق ذلك، كان من عادات رينمارك الكريهة أنه كان يتتبع الحكاية حتى يبلغ أصلها، وكان ييتس يتضايق من أن يسرد حكاية عصرية ثم يكتشف أن أريستوفان، أو أي متصيد آخر من عصور ما قبل التاريخ للنوادر الطريفة التي سيحكيها الرجال لاحقا، قد سبقه إلى سردها بألف عام أو نحو ذلك. أما حين يكون المستمع سريعا في فهم مغزى حكاياتك، ويضحك عليها من أعماق قلبه، فستميل غالبا إلى استحسان حسه السليم وتقدير رفقته.
অজানা পৃষ্ঠা