ثم ضرب الحصان على خاصرته بالطرف الحر من زمام الرسن.
فصاح ييتس تاركا اللجام من يده وممسكا بعرف الحصان: «يا أنت! لا تسرع الحصان أيها الشيطان الصغير. سأقتلك حين أنزل، وسيحدث هذا قريبا.»
كرر بارتليت الشاب كلامه قائلا: «أنت تبلي حسنا»، ودهش كثيرا حين رأى أن ييتس أيضا صار مقتنعا بذلك. فحين بدأ الحصان يركض أسرع قليلا، رأى ييتس أن الحركة صارت سهلة كالتأرجح في أرجوحة ومهدئة ككرسي هزاز. «هذا أحسن. ولكن علينا الحفاظ على هذه الوتيرة؛ لأن هذا الوحش إذا عاد إلى الهرولة فجأة، فسأعاني بشدة.» «سنحافظ على هذه الوتيرة إلى حيث نرى قرية كورنرز، ثم سنبطئ سرعتنا لتصبح مشيا متمهلا. فمن المؤكد أن ورشة الحداد سيكون فيها الكثير من الرجال؛ لذا سندخلها على الحصانين بتمهل ورفق.»
قال ييتس: «أنت شاب صالح يا بارتليت. لقد شككت في البداية في أنك تدبر لي حيلة ما. يؤسفني القول إنني لو كنت مع شخص آخر واقع في مأزق كهذا، لما أخرجته منه بسهولة كما أخرجتني. كان الإغراء سيكون أشد مما يقاوم.»
وحين وصلا إلى ورشة الحداد عند كورنرز، وجدا أربعة خيول في المبنى أمامهما. ربط بارتليت حصانيه في الخارج، ثم دخل مع رفيقه إلى مدخل الورشة الواسع. كانت الورشة مبنية من ألواح خشبية غير مصقولة، وكان داخلها مسودا من أثر السخام. لم تكن جيدة الإضاءة؛ إذ كانت النافذتان محجوبتين بكم هائل من الدخان إلى حد أنهما أصبحتا بلا جدوى في تأدية الغرض الأصلي منهما، لكن المدخل، الذي كان عريضا كمدخل مخزن حبوب، كان يسمح بدخول كل الضوء الذي يحتاج إليه الحداد من أجل عمله. وفي الجانب البعيد والركن الأحلك ظلمة من الورشة، كان يوجد فرن صهر المعادن وصقلها، ومن خلفه الأكيار الضخمة، التي كانت معظم أجزائها مستترة خلف المدخنة. كانت مساحة الفرن نحو ست أقدام مربعة وكان ارتفاعه ثلاث أقدام أو أربعا تقريبا، وكان مبنيا من ألواح خشبية وممتلئا بالتراب. كان أعلاه مغطى بالرماد وهباب الفحم، بينما توهج في منتصفه لب النيران المستعر الذي كانت ألسنة اللهب الزرقاء تحوم من فوقه. كان نافخ الأكيار يمضغ التبغ، وكان بين الحين والآخر يبصق العصارة الناتجة من المضغ بدقة متناهية وسط النيران بالضبط؛ حيث كانت تحدث هسهسة مؤقتة وبقعة سوداء. كان المترددون على ورشة الحدادة يعجبون ببراعة ساندي في البصق، وحاول الكثيرون تقليدها بلا جدوى. كان الحسود يقول إن هذه البراعة ترجع إلى التكوين المميز لأسنانه الأمامية؛ إذ كان الصف العلوي بارزا وكانت السنان الوسطيان متباعدتان إحداهما عن الأخرى، كما لو كان أحدهما مفقودا. لكن هذا كان محض غيرة؛ إذ لم يكن إتقان ساندي لهذه المهارة بسبب أي محاباة من الطبيعة له، بل بفضل الممارسة المستمرة الدءوبة. كان ساندي من حين إلى آخر يسحب قضيبا حديديا خارج النيران ويتفحصه بدقة شديدة بيده اليمنى المتصلبة الجلد؛ لأن يده اليسرى لم تكن تفارق ذراع الكير قط. وكان الطرف المتوهج من القضيب يشع نورا أبيض يذهب البصر من شدته وهو يسحب برفق، ويضيء رأس الرجل جاعلا وجهه الأمرد يبدو، أمام خلفيته المظلمة، أشبه بوجه ملطخ لشيطان ساخر متوهج بنيران منبعثة من داخله. ولا شك أن الطرف الذي كان ساندي يمسكه من القضيب كان ساخنا جدا على أي مخلوق بشري عادي، كما كان كل من في الورشة يعلم؛ فكل واحد منهم، في مستهل انضمامه إلى النادي الريفي، كان يعطى قطعة حديد سوداء من يد ساندي، وهذه القطعة يكون ساندي ممسكا بها بكل ثبات، لكن الشخص البريء الذي يأخذها منه عادة ما يرميها فورا وهو يصرخ. كانت هذه هي مزحة ساندي المفضلة، وجعلته يرى الحياة تستحق العيش. وربما لم تكن هذه المزحة ترقى لمستوى الحس الدعابي للحداد نفسه، لكن آراء العامة كانت منقسمة حول هذه المسألة. فكل رجل عظيم لديه مجموعته الخاصة من المعجبين، وكان البعض يقول - سرا بالطبع - إن ساندي يستطيع أن يحني حدوة حصان بإتقان كالحداد ماكدونالد نفسه. غير أن الخبراء، وإن كانوا يعترفون ببراعة ساندي العامة، لم يصلوا إلى هذا الحد.
كان حوالي نصف دزينة من أعضاء النادي موجودين في الورشة آنذاك، وكان معظمهم يقفون متكئين على شيء ما واضعين أياديهم في جيوب سراويلهم، فيما كان أحدهم جالسا على طاولة الحداد مدليا ساقيه إلى الأسفل. كانت الأدوات متناثرة بكثافة شديدة على الدكة إلى حد أنه اضطر إلى إخلاء مكان قبل أن يستطيع الجلوس، وأثبت تصرفه بهذه الحرية أنه عضو قديم ومتميز. جلس هناك حيث ظل يبري عصا بلا هدف حتى جعلها ذات سن مدبب، وتفحصها مرارا بتمعن، كما لو كان منهمكا في عملية دقيقة تتطلب تمييزا كبيرا.
أما الحداد نفسه، فكان منحنيا وظهره إلى أحد الأحصنة، وكان حافر هذا الحصان الخلفي مستقرا، من بين ركبتي الحداد، على مئزره الجلدي. كان الحصان هائجا، وكان ينظر من فوق كتفه إلى الحداد مستاء مما يحدث. فسبه ماكدونالد بطلاقة، وأمره بالوقوف ساكنا بينما كان يمسك بساقه بإحكام كما لو كانت بين شقي منجلته الحديدية، التي كانت مثبتة على الطاولة بالقرب من سكين البري. كان يمسك بيده اليمنى حدوة حصان ساخنة متصلة بمثقاب حديدي كان مغروسا في أحد الثقوب المخصصة للمسامير، وضغط هذه الحدوة على الحافر المرفوع، كما لو كان يختم وثيقة بختم ضخم. تصاعد الدخان واللهب من تلامس الحديد الساخن مع الحافر، وامتلأ الجو برائحة قرن الحافر المحترق التي لم تكن كريهة. كان كل من صندوق أدوات الحدادة، والمطرقة والكماشات والمسامير، مستقرا على الأرضية الترابية في متناول يد الحداد. كان العرق يتصبب من جبينه المكسو بالسخام؛ لأن المهمة التي كان يؤديها كانت ساخنة، ولأن ماكدونالد كان معتادا تأدية معظم عمله بنفسه. كان يوصف بأنه أكثر العمال اجتهادا في ذاك الجزء من الريف، وكان فخورا بذلك الوصف. وكان اجتهاده دائما ما يشعر مرتادي ورشته من العاطلين المتسكعين بالخجل من أنفسهم، وكان هذا يمنحه شعورا بالسعادة حين يكون برفقتهم. وفوق ذلك، لا بد أن يكون للمرء جمهور حين يكون خبيرا في السب والألفاظ النابية. كان تفوه ماكدونالد بالألفاظ النابية تلقائيا جدا - موهبة طبيعية إن جاز القول - ولم يكن يقصد به أي إساءة. ففي الحقيقة، حين كان يستشيط غضبا، كان دائما ما ينسى أن يتفوه بألفاظ نابية، لكنها في لحظات هدوئه كانت تنساب من بين شفتيه بسلاسة وروعة، وكانت تضفي طلاقة على كلامه. كان ماكدونالد يستمتع بالسمعة الرائجة عنه بأنه رجل سيئ الخلق، مع أنه لم يكن ذلك، كل ما في الأمر أن لغته كانت عكس طبيعته. وكانت هذه السمعة محاطة بهالة من الغموض بسبب ماضيه المجهول في منطقة داون إيست الغامضة التي كانت مسقط رأسه. لم يكن أحد يعرف ما فعله ماكدونالد في ماضيه بالضبط، ولكن كان الجميع يسلمون بأنه مر ببعض التجارب الشنيعة بكل تأكيد، مع أنه كان لا يزال شابا وأعزب. فقد اعتاد أن يقول: «حين تمر بما مررت به، لن تكون مستعدا لبدء شجار مع أي شخص.»
لا شك أن هذه العبارة كانت تحمل مغزى معينا، لكن الحداد لم يكن يأتمن أي شخص على أسراره قط؛ وكانت داون إيست منطقة غامضة، أشبه بأرض قفر ليس لها حدود ولا موقع محدد، تقع في مكان ما بين تورنتو وكيبيك. وكان من الممكن أن يكون أي شيء تقريبا قد حدث في هذه المنطقة من البلدة. كانت طريقة ماكدونالد المفضلة لإحراج أي خصم يجادله أن يقول له: «حين تخوض بعضا من تجاربي أيها الشاب، ستصبح أحكم من أن تتحدث هكذا.» كل هذا أضفى بعض الجاذبية على مصادقة الحداد، وكان أبناء المزارعين يشعرون بأنهم يلعبون بالنار حين يكونون برفقته؛ إذ كانوا ينالون لمحة خاطفة عن الجانب الخطر من حياته، إن جاز القول. أما العمل، فكان الحداد يتلذذ به، وجعله آفته الوحيدة تقريبا. كان يؤدي كل شيء بأقصى جهده وطاقته، وكان اجتهاده، كما قيل سلفا، مصدر إحراج دائم للعاطلين في كل أنحاء البلدة. فحين يكون بلا عمل يؤديه، كان يختلق عملا. وحين يكون لديه عمل، كان يؤديه بكل نشاط، ماسحا العرق من على جبينه المتسخ بسبابته المعقوفة، وقاذفا قطراته على الأرض بهزة سريعة من يده اليمنى، مرخيا إياها من عند المعصم، بطريقة جعلت سبابته وإبهامه تصطدمان بعضهما ببعض بطقطقة أشبه بفرقعة سوط. ودائما ما كانت هذه الحركة مصحوبة بنفس طويل عميق أقرب إلى تنهيدة، كأن لسان حاله يقول: «ليتني أحظى بأوقات مريحة كالتي تعيشونها أيها الرجال.»
لم يرفع ناظريه حين دخل الوافدان الجديدان إلى ورشته، بل استمر بكل كد في تقليم الحافر بسكين غريب الشكل؛ إذ كان منحنيا كخطاف عند سنه، وغرس الحدوة في مكانها بالحرارة، ودق على مساميرها ليثبتها، وبرد الحافر بمبرد طويل عريض حتى ساوى أطرافه مع الحدوة. ولم يتفضل بإجابة استفسار بارتليت الشاب إلا حين ترك قدم الحصان تسقط على الأرضية الترابية، وصفع الحصان النافد الصبر على خاصرته.
قال وهو يعتصر العرق من على جبينه: «كلا، لن تنتظرا كل هذه الأحصنة، ولن تضطرا إلى المجيء الأسبوع المقبل. فهذا هو آخر حافر لآخر حصان. فلا أحد يحتاج إلى المجيء إلى ورشتي ويرد خائبا ما دمت حيا. ولا أنجز العمل أيضا بالجلوس على دكة وبري عصا.»
অজানা পৃষ্ঠা