ثم سأل قائلا: «لماذا تريد الحصان يا سيد ييتس؟» «أريد الوصول إلى أقرب مكتب تلغراف. وسأدفع لك مبلغا مجزيا مقابل استعارته.» «وما سبب وجودي هنا إذن؟» «عجبا، لتأكل بالطبع. سيطعمونك طعاما وفيرا في أثناء انتظارك هنا.» «مكتب التلغراف الكندي؟» «بالطبع.»
قال الفتى بازدراء شديد: «لن يفلح ذلك يا سيد ييتس . فهؤلاء الكنديون لن يستطيعوا إرسال كل ما كتبته ولو في أسبوعين. أعرفهم جيدا. وفوق ذلك، فالحكومة تسيطر على كل أسلاك التلغراف، ولا يمكنك أن تبعث برسالة خاصة إلى أن تتعافى الحكومة من الرعب الذي انتابها.»
صاح ييتس مذهولا: «يا إلهي! لم يخطر ذلك ببالي. أأنت متيقن يا فتى؟» «تمام اليقين.» «ما العمل إذن؟ يجب أن أصل إلى بافالو.»
فأضاف الفتى وهو ينصب قامته كما لو كان ينعم بحظوة خاصة من قبل حكومة الولايات المتحدة: «لا تستطيع. لن تسمح لك قوات الولايات المتحدة بذلك. فهم يمنعون كل شخص، عدا أنا.» «أتستطيع أن توصل هذه البرقية؟» «بالطبع! ولهذا عدت. لقد عرفت حالما نظرت إليك أنك ستكتب برقية من عمودين أو ثلاثة، ولعلك تتذكر أن البرقية المرسلة إليك قالت: «لا تأل أي نفقات.» لذا قلت لنفسي: «سأساعد السيد ييتس على ألا يألو أي نفقات. سآخذ خمسين دولارا من ذلك الشاب؛ لأنني الشخص الوحيد الذي يستطيع المرور وإيصال البرقية في الوقت المناسب».» «إذن، كنت متيقنا من هذا، أليس كذلك؟» «بكل تأكيد. والآن، قد أطعم الحصان وصار جاهزا، وأنا قد أطعمت وصرت جاهزا، ونضيع وقتا ثمينا في انتظار هذه الدولارات الخمسين.» «لنفترض أنك قابلت صحفيا آخر يريد إرسال برقيته إلى صحيفة أخرى، ماذا ستفعل؟» «سأطلب منه الأجر نفسه الذي طلبته منك. ولو قابلت اثنين آخرين من الصحفيين، سيكون الأجر حينئذ مائة وخمسين دولارا، ولكن إذا أردت أن تضمن أني لن أقابل أي مراسلين آخرين، دعنا نجعل الأجر مائة دولار، وسأخاطر بالاستغناء عن الخمسين الأخرى مقابل الحصول على النقود الجاهزة الفورية، وحينئذ، حتى لو قابلت دزينة من المراسلين الصحفيين، سأخبرهم بأنني ساعي تلغراف في إجازة.» «موافق. أظنك ستستطيع الاعتناء بنفسك في هذا العالم القاسي الوحشي. والآن، أصغ إلي أيها الفتى، سأثق بك إذا وثقت بي. لست دارا متنقلة لسك النقود، كما تعلم. وفوق ذلك، فأنا أدفع وفق النتائج. إذا لم تستطع توصيل هذه البرقية، فلن تنال شيئا. سأعطيك إيصالا بمائة دولار، وفور وصولي إلى بافالو، سأدفع لك النقود. سوف أضطر إلى الذهاب إلى مقر «أرجوس» كي آخذ النقود من هناك حين أصل إلى بافالو، إذا وجدت مقالي هناك، فستحصل على نقودك، وإذا لم أجده، فلن تنال شيئا. أفهمت؟» «نعم، فهمت. لكن هذا غير مقبول يا سيد ييتس.» «لماذا؟» «لأنني أقول ذلك. هذه معاملة نقدية. أي المال مقدما، وإلا لن تنال غرضك. سأوصلها كما اتفقنا بالتأكيد، ولكن لو أخفقت، فلن أخسر المال.» «حسنا، سآخذها إلى مكتب التلغراف الكندي.» «حسنا يا سيد ييتس. لقد خيبت أملي فيك. كنت أظنك حكيما بعض الشيء. ليست لديك أي حكمة إطلاقا، لكني أتمنى لك التوفيق. حين كنت في خيمتك، رأيت رجلا ذا مطرقة يخرج مجموعة رجال من الغابة. وعندما رأى أحدهم زي العمل الذي أرتديه، صاح بأنه سيعطيني خمسة وعشرين دولارا لآخذ رسالته وأوصلها. فقلت إنني سأذهب إليه لاحقا، وها أنا سأفعل. وداعا يا سيد ييتس.» «رويدك! إنك وغد صغير. سينتهي بك المطاف في سجن الولاية يوما ما، ولكن ها هي نقودك. والآن، فلتركب جوادك وتنطلق بأقصى سرعة.»
وبعدما ظل يشاهد الفتى المغادر إلى أن غاب عن ناظريه، انطلق ييتس عائدا إلى الخيمة وهو يشعر بالارتياح. راوده بعض القلق حيال اللقاء الذي جمع الفتى بهوكينز، وتساءل بعد فوات الأوان عما إذا كان الفتى يحمل تقرير هوكينز في جيبه بعد كل ذلك. تمنى لو أنه فتشه. غير أن ذلك القلق لم يمنعه من النوم كجثة هامدة حالما استلقى في الخيمة.
الفصل التاسع عشر
كانت حصيلة ضحايا المعركة أشبه في الواقع بحصيلة ضحايا حادث قطار أمريكي من الدرجة الأولى. فقد قتل ضابط وخمسة مجندين من صفوف القوات الكندية، وفقد رجل، وأصيب الكثيرون. أما عدد قتلى الفينيانيين، فلن يعرف أبدا على الأرجح. فقد دفن العديد منهم في ساحة المعركة، فيما استطاع أفراد لواء الجنرال أونيل استعادة جثث آخرين في أثناء تقهقرهم.
ومع أن نهاية المعركة جاءت كما توقعها ييتس، فإنه كان مخطئا في تقديره لقوة الكنديين. فدائما ما يستخف ذوو الخبرة في الشئون العسكرية بالمتطوعين . فقد قاتل الفتية ببسالة، حتى حين رأوا حامل رايتهم يخر صريعا أمامهم. ولو كان لهم مطلق الحرية في اتخاذ القرار في المعركة، لربما اختلفت النتيجة، مثلما تبين لاحقا حين استطاع المتطوعون، عند تحررهم من عوائق المشاركة مع الجنود النظاميين، إخماد انتفاضة أقوى بكثير في الشمال الغربي بسرعة كبيرة. لكن تحركاتهم في الوضع الحالي كانت معاقة باعتمادهم على القوات البريطانية، التي كان قائدها يحركها ببطء شديد كأنه في حرب حقيقية نظامية، وكان يزحف بها نحو الجنرال أونيل كما لو كان يزحف نحو نابليون. وهكذا كان يصل متأخرا في كل مرة؛ إذ لم يبلغ المعركة التي نشبت عند قرية ريدجواي إلا بعد فوات الأوان، وكذلك فات أوان أسر أي عدد كبير من فلول الفينيانيين الهاربة في فورت إيري. صحيح أن الجانب الكندي خطط للحملة العسكرية بإتقان لكن التنفيذ كان سيئا جدا. فقد كان مقررا أن يلتقي المتطوعون والجنود النظاميون عند نقطة قريبة من موقع المعركة، لكن القائد البريطاني تحرك متأخرا ساعتين، ولم يدرك الكولونيل الكندي ذلك إلا بعد فوات الأوان. ثم بلغت هذه الأخطاء الفادحة ذروتها بخطأ شنيع في ساحة القتال. فقد أمر الكولونيل الكندي رجاله بالهجوم عبر حقل مفتوح والانقضاض على قوات الفينيانيين في الغابة، في خطوة ذكية وحمقاء في آن واحد. استجاب المتطوعون للأمر ببسالة، لكن الآلهة تقف عاجزة أمام الغباء. فقد صدم المتطوعون عند وصولهم إلى الحقل حين أمروا بتشكيل مربع وملاقاة جنود سلاح الفرسان. فحتى تلاميذ المدارس كانوا يعرفون استحالة وجود جنود فرسان لدى الفينيانيين.
وبعدما شكل الكنديون مربعهم، وجدوا أنفسهم لقمة سائغة للفينيانيين في الغابة. ولو كانت قوات أونيل قد أطلقت النيران بدقة معقولة، لكانت مزقت المتطوعين إربا بكل تأكيد. كان المتطوعون منتصرين بالفعل آنذاك لو أنهم فقط قد أدركوا حقيقة انتصارهم ذاك، لكن الذعر سيطر عليهم في هذا المربع اليائس، وجعل كل رجل منشغلا بالنجاة بنفسه؛ وفي الوقت ذاته، كان الفينيانيون يتقهقرون أيضا بأقصى سرعة ممكنة. تعرف هذه المهزلة باسم معركة ريدجواي، وكان من الممكن أن تكون كوميدية لولا أن الموت كان يحوم حولها. وكانت الكوميديا قد جسدت، من دون تراجيديا، قبل ذلك بيوم أو اثنين في مناوشة غير دموية وقعت بالقرب من قرية صغيرة تسمى واترلو، وقد عظم هذا الاشتباك في سجلات التاريخ الكندية؛ لأنه صار يحمل اسم معركة واترلو الشهيرة.
شاهد رينمارك القتال مفعما بالقلق العاجز الذي قد يشعر به أي من يشاهد معركة دون المشاركة فيها، وصحيح أنه شارك المقاتلين الكنديين إحساسهم بالخطر، لكنه لم يكن قادرا على التأثير في النتيجة النهائية، وحين تقهقروا، حاول أن يتبعهم باتخاذ منعطف جانبي واسع ليتفادى الطلقات العابرة التي كانت لا تزال تتطاير. كان متوقعا أنه سيلقى المتطوعين على الطريق، لكنه لم ينجح. فقد وقع في عدة حسابات خاطئة أعجزته عن العثور عليهم إلى أن اقترب حلول المساء. وحين وجدهم، أخبروه في البداية بأن هوارد الصغير كان مع الكتيبة ولم يصب بأي أذى، ولكن سرعان ما كشف مزيد من التحري أنه لم ير منذ المعركة. لم يكن بين القتلى أو الجرحى، وحل الظلام قبل أن يدرك رينمارك أن كلمة «مفقود» المشئومة قد وضعت أمام اسم الفتى في قائمة المتطوعين. تذكر رينمارك أن الفتى قال إنه سيزور بيته لو حصل على إجازة، ولكن لم تطلب أي إجازات. وأخيرا، اقتنع رينمارك بأن هوارد الصغير إما أصيب بجروح بالغة أو مات. ولم يخطر ببال البروفيسور للحظة أن يكون هوارد قد فر من الجندية، مع أنه اعترف لنفسه بصعوبة تحديد مدى الذعر الذي قد ينتاب فتى حين يرى الرصاص يتطاير من حوله للمرة الأولى في حياته.
অজানা পৃষ্ঠা