ويعتقد أصحاب فكرة العقوبات أن مجرد إظهار القوة العسكرية من جانب أعضاء العصبة يكفي لإرهاب الدول التي تعتزم الاعتداء، فتكف عن عزمها. إنهم يزعمون أن القوة كلما زادت قل احتمال استخدامها؛ ولذا فهم يقولون بإعادة التسليح في سبيل السلام. بيد أن حقائق التاريخ لا تؤيد هذا الزعم؛ فإن التهديد لا يرهب أمة قويت عزيمتها، واليائس لا ينكمش من رؤية القوة الساحقة. وليس هناك ما يحملنا في العصر الحاضر على الفرض بأن القوة المتجمعة ضد الدولة المعتدية ستكون قوة ساحقة، نصرها محقق عند الاحتكاك؛ إذ المنظور أن تكون دول العصبة والدول التي تعاديها طرفين متكافئين من مجموعتين من الدول المتحالفة، بل إن هذين الحلفين قد أخذا الآن فعلا في الظهور؛ ففرنسا والروسيا، وقد تنضم إليهما إنجلترا، سوف تمثل دول العصبة. وإيطاليا وألمانيا واليابان هي المعادية. وستبقي الدول الصغيرة محايدة، أو تنضم إلى الطرف الذي تتوقع له النصر. والخلاصة أن من يستعد للحرب يبدأ سباقا في التسليح، ويؤجج في النهاية سعير الحرب التي كان يستعد لها.
وبناء على نظرية العقوبات تقوم العصبة بالعمل العسكري كي تصل إلى تسوية عادلة بين الخصمين، ولكن الأمل في الوصول إلى تسوية عادلة في نهاية حرب تشنها العصبة أمل واه ضعيف. إنما تنتهي الحروب بالتسوية العادلة حينما يتشبع الظافرون بروح العدل والتسامح وحسن المعاملة. وإذا كانت الحرب شديدة طويلة الأمد، والخسائر التي تسببها فادحة كبيرة، كان الظافر أبعد ما يكون عن العدل والتسامح؛ ففي الحرب الماضية مثلا، اشتدت الحماسة والعداوة إلى حد بات معه من المستحيل من الناحية النفسية أن يرضى المنتصرون بصلح إنساني عادل. وبرغم ولسن وشروطه الأربعة عشر انتهت الحرب بمعاهدة فرساي، وهي المعاهدة التي جعلت من الضروري أن يظهر في ألمانيا رجل مثل هتلر يطالب بالانتقام لما لقيت ألمانيا من ذل وهوان. وإن حربا يشنها أعضاء العصبة المتحالفون كي يفرضوا عقوبة عسكرية على المعتدي لا بد أن تنتهي كما انتهت حرب 1914-1918 بالفتك والدمار، بل لقد تكون أشد فتكا. فهل هناك ما يدعونا إلى افتراض أن دول العصبة المنتصرة ستكون أشد تسامحا من الحلفاء في عام 1918؟ كلا ليس هناك ما يدعونا إلى مثل هذا الفرض. إن أصحاب فكرة العقوبة يعتنقون ذلك الوهم القديم الذي يقول: «إن الحرب تنهي الحرب» أو «القتال أنفى للقتال» وهذا رأي بعيد عن الصواب؛ فالحروب لا تنهيها الحروب، بل إنها كثيرا ما تنتهي بسلم ظالمة تجعل اشتعال حرب انتقامية أمرا لا مفر منه.
ويجدر بنا هنا أن نذكر كلمة عن مشروع «القوة البوليسية الدولية» ويجب أولا أن نشير إلى أن هذه العبارة مضللة إلى حد كبير؛ وذلك لأن عمل البوليس ضد الفرد المجرم يختلف كل الاختلاف عن العمل الذي تقوم به أمة أو جماعة من الأمم ضد أمة مجرمة. البوليس العادي يعمل في دقة بالغة؛ فهو يلقي القبض على المجرم دون سواه. أما الأمم التي تحب أن تتخذ لنفسها سلطة الشرطة على الأمم الأخرى فهي تؤدي عملها باستخدام قواتها المسلحة، وهذه القوات لا تستطيع إلا أن تعمل بغير دقة، فهي تقتل الملايين أو تشوهم أو تفتك بهم جميعا، وأكثر هذ الضحايا أبرياء لم يرتكبوا جرما من الجرائم؛ ولذا فإن المشابهة بين الجيش وقوة البوليس، وبين الحرب ومنع الجرائم مضللة خاطئة. إن قوة البوليس الدولية ليست في حقيقتها قوة بوليسية، وأولئك الذين يطلقون عليها هذا الاسم إنما يخدعون الجماهير. والمرء لا يستطيع أن يفكر تفكيرا سليما إلا إذا سميت الأشياء بأسمائها الصحيحة. وقوة البوليس الدولية - إذا هي أنشئت - لن تكون قوة بوليسية بالمعنى الذي نفهمه من هذه العبارة، بل ستكون قوة للفتك بالناس بغير تمييز، وهذه خطة لا يقرها أحد. وليس من حقنا أن نخدع الشعوب البريئة بأن نطلق على قوة كهذه نفس الاسم الذي نطلقه على القوة التي تدير حركة المرور، وتلقي القبض على اللصوص.
إن هذه القوة الدولية لم تنشأ بعد، ولا يحتمل أن تنشأ، ولكن من حقنا أن نسأل مقترحيها: كيف يمكن تجنيدها؟ وكيف نمدها بالضباط؟ وكيف نسلحها؟ وأين نضعها؟ ومن ذا الذي يقرر متى تستخدم، وضد من تستخدم؟ ولمن يكون ولاؤها، وكيف نضمن إخلاصها؟ هل من المحتمل أن الضباط الملتحقين بهذه القوة يشتركون في غزو بلدهم وهزيمته؟ وهل يحتمل أن يقذف الطيارون أبناء أمتهم بالقنابل؟ وكيف يمكن إقناع جميع الأمم بمساعدة هذه القوة بالرجال والمواد؟ وهل تقدم كل دولة من المعونة مثلما تقدم الأخرى؟ وإذا لم تكن المعونة متساوية، وأمد عدد قليل من الدول الكبرى الجزء الأكبر من هذه القوة، فماذا يمنع هذه الدول من استبدادها بالعالم بأسره؟ ومن هذه الأسئلة يتبين لنا أن المشروع خيالي غير عملي.
ولذا فلا داعي للتفكير فيه، ويجب أن تلغى المادة السادسة عشرة من قانون العصبة؛ لأن محاولة وقف القتال - بعد نشوبه - بفرض العقوبة العسكرية، أو باستخدام جيش دولي وقوة جوية دولية أمر مقضي عليه بالفشل. إن الحرب لا توقفها الحرب، والقتال لا ينفي القتال. إن محاربة الدول المتحاربة إنما يوسع رقعة التخريب، ويضع عقبات جديدة في طريق الوصول إلى تسوية عادلة للنزاع الدولي. وينبغي أن تجعل العصبة من واجبها تركيز جهودها لمنع الحرب من الاشتعال، ولا يكون ذلك بإعلانها الحرب على الأمة المعتدية، إنما يكون بالتسوية السلمية للنزاع الدولي، وبتوسيع نطاق التعاون الدولي في دراسة المشاكل الاجتماعية البارزة ومحاولة حلها، ثم بالتفكير في وسائل منع أسباب النضال. وهذه الوسائل قائمة بالفعل اليوم بصورة نظرية، وإنما تحتاج منا إلى قوة العزيمة وصدق النية كي نجعلها وسائل فعالة ذات أثر.
وليست بنا حاجة إلى الإفاضة في القول في طريقة التسوية السلمية والتعاون الدولي. إن هذه الطريقة قد تكون أداة حسنة حقا ، ولكنها تمسي عديمة النفع إذا رفضها الناس أو أساءوا استخدامها. وكثيرا ما ترفض الدول استخدامها إذا كان في الأمر ما يمس «الشرف القومي» أو «المصالح الحيوية». وتؤثر الدول حينئذ أن تسلك طريق العنف والقتال. وحتى في الأحوال التي تقبل فيها الدول التسوية السلمية وسيلة لحسم النزاع تراها تقدم عليها بنية سيئة تقضي على كل أمل في نجاحها. وقد حدث هذا في الخلاف الذي نشب بين شيلي وبيرو عام 1883، والذي لم ينته بالصلح - رغم كل محاولات التسوية السلمية - إلا عام 1929، وذلك حينما تدخل الرئيس هوفر في الأمر وأمكنه أن ينقع الفريقين. وحدث هذا أيضا في مؤتمر القوات البحرية سنة 1927، ومؤتمر نزع السلاح الذي انعقد بين عامي 1932 و1934؛ حيث لم يمكن الاتفاق بين الدول لأنها لم تقبل على المؤتمرات بنية حسنة. وقد فشلت كذلك مؤتمرات أخرى كثيرة اقتصادية ومالية لسوء نية المؤتمرين، مع أن وسيلة المؤتمرات في حد ذاتها وسيلة حسنة للتفاهم.
وهناك نظام آخر يلائم الدول المتأخرة، وهو نظام الانتداب، ولكن الدول المستعمرة لا تحب أن تتنازل عن مستعمراتها لتنفيذ هذا النظام، كما أن الدول المنتدبة كثيرا ما تحول الانتداب إلى استعمار. وثمة مثال آخر لسوء نية الدول، وذلك حينما وضعت عصبة الأمم مشروعا لضمان حقوق الأقليات، فرفضت الدول ذات الأقليات المشروع، وأصرت على ظلم الأقليات.
ومما تقدم يتبين أن العصبة لا يمكن أن تعمل على نشر السلام؛ لأنها بتعريفها وفي حقيقتها عصبة من أمم متأهبة للقتال؛ ولذا فلا يمكن تحويل الأمم الحربية الحاضرة إلى أمم ترغب في السلام وتعمل على تحقيقه إلا بجهد الأفراد المستقلين الذين يعملون وحدهم أو في جماعات. وهؤلاء عملهم شاق عليهم عسير، وسأتحدث عنه في الفصل المقبل. أما ما بقي من هذا الفصل فسأعود فيه إلى ذكر أسباب الحرب السيكولوجية التي تحدثت عنها فيما سلف، ثم أبين كيف يمكن لنا أن نعالج هذه الأسباب: (أ)
وأول هذه الأسباب أن الكثيرين من الناس يرحبون بالحرب لأن أعمالهم وقت السلم مملة مذلة، تافهة لا معنى لها. فلو أنا طبقنا مبدأ الحكم الذاتي في الصناعة وميادين العمل الأخرى استطعنا بذلك أن ننقذ العمال من إحساسهم بالذلة التي تبعثها ضرورة الطاعة للأوامر التحكمية التي يمليها عليهم رؤساء لا يحسون بالتبعة. ثم إن عضوية الفرد في جماعة تعاونية صغيرة تجعل حياة العامل محتملة مقبولة. ويجب - فوق ذلك - لكي نحبب العمل إلى العامل ألا نرغمه على أداء عمل لا يحبه ولا يرضاه. وقد أصر فوريي
Fourier
অজানা পৃষ্ঠা