في كل أمة قلة حاكمة وكثرة محكومة. ويتشبع أفراد الطائفة الأولى بحب النفوذ والسلطان، وقلما يحرك نفوسهم الإحساس بواجبهم نحو المجتمع. وهم عادة يتصفون بالكبرياء والقسوة والشره. ومما يدعو إلى العجب أن المحكومين في أكثر الأحيان يتقبلون التبعية لأولي الأمر منهم دون ثورة أو اعتراض، بل ويسلمون بالظلم والاستبداد. والشعوب قلما تثور، فالقاعدة العامة هي الطاعة، والثورة هي الاستثناء.
إن من أهم حقائق التاريخ وأدعاها للعجب ذلك الصبر الذي يتحلى به عامة الناس. إن أكثر الرجال والنساء يحتملون ما لا يحتمل ويطيقون ما لا يطاق. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب؛ أولها الجهل؛ فإن أولئك الذين لا يعرفون إلا أن يحتملوا الصعاب والمشقات لا يدركون أن نصيبهم من هذه الحياة الدنيا يمكن أن ينقلب إلى ما فيه خيرهم ومصلحتهم. وهناك عامل آخر، وذلك هو الخوف؛ فالناس قد يدركون أن الحياة شاقة عصيبة، ولكنهم يخشون عواقب الثورة. ثم إن إحساس الناس بضرورة التماسك الاجتماعي يحملهم على تحمل الإذلال والمشقة دون ثورة أو عصيان؛ فالفرد العادي يشعر بعضويته في المجتمع حتى إن أساء معاملته أولو الأمر في الحكومة. وإنك لترى العمال (وهم من طبقة المحكومين) - إذا ما حزب الأمر - يناضلون في سبيل الأمة (أي في سبيل استقرار الحكم الذي هم عليه ساخطون) ضد العمال من أبناء الدول الأخرى.
كما أن العادة وسلطان الماضي لهما قوة لا تقاوم، والخروج من مأزق من المآزق الحرجة يتطلب من المرء مجهودا أكبر مما يستطيع أن يبذل. يقول برايس
bryce
في كتابه «دراسات في التاريخ والشرع»: إن أهم ما يدفع الناس إلى الخضوع للقانون هو الكسل؛ فالكسل هو الذي يجعل الغني والفقير على السواء جامدا لا يطمع في تغيير حاله. أليس من العجيب أن يتشبث الفقير بمركزه الوضيع كما يتشبث الغني بثروته؟ وقد أصاب البوذيون وبعض المسيحيين - حينما عدوا التراخي من أمهات الكبائر. ولقد قلت من قبل إن الشجرة تعرف بثمارها، وعلى هذا فقد كان البوذيون وأولئك المسيحيون على حق؛ فإن من بين الثمار السامة الكثيرة التي ينبتها التراخي الحكم الدكتاتوري والخضوع له؛ ولذا فإني أرى أن من واجب المصلحين أن ينقذوا الناس من وهدة التراخي والكسل، كما ينقذونهم من براثن الطمع والشره وشهوة الحكم والسلطان. إن أي إصلاح لا ينقذ الجماهير من حمأة الخضوع لأصحاب النفوذ والسلطان لا يعد رقيا في نظام المجتمع.
1
إن الإشادة بفائدة الكسل والخضوع والخوف، وتبريرها تبريرا عقليا، من العقائد الفلسفية؛ فالشعوب تطيع حكامها لأنها - بالإضافة إلى الأسباب الأخرى - تعتقد في بعض النظم الميتافيزيقية الدينية التي تلقي في روعهم أن الدولة يجب أن تطاع، وأن الثورة على أولي الأمر كفران بالله وبالدين. كما أن الحكام من ناحيتهم قلما يقنعون بتحقيق أطماعهم رضي الناس أم سخطوا، وإنما هم يطمعون كذلك في حكم الناس بالحق الشرعي. إن أكثرهم يصل إلى منصب الولاية بالعنف وبالمكر والخديعة، ولكنهم يحاولون بعدئذ أن يستندوا في حكمهم على تأييد الشرع والقانون. وبعضهم يزعم أنه يحكم بالحق الإلهي فيعزز بذلك مركزه أمام المحكومين، ويبرر لنفسه أمام ضميره القلق حقه في الحكم والسلطان. وليست الكثرة العظمى من النظريات السياسية سوى حيل عقلية يخترعها الفلاسفة لإثبات حق القائمين بالأمر في الحكم، وقليل من النظريات السياسية من وضع المفكرين الثائرين. وهذه النظريات الثائرة نفسها، إن كانت لا تبرر الحكم للحاكمين بالفعل، فهي تراه من حق زعماء الأحزاب التي ينتمون إليها، ولا يأبه واضعو هذه النظريات بالدعوة للعدالة واللين في وسائل الحكم. ولست أحب أن أناقش هذه الآراء لأنها تبعد بنا عن الغرض الأساسي من هذا الكتاب. إننا إن أردنا أن نفكر في النظام السياسي تفكيرا سليما، كان حتما علينا أن نفعل ذلك باعتبارنا من علماء النفس، وليس باعتبارنا مدافعين عن الحكام المستبدين، أو من نحب لهم أن يكونوا حكاما مستبدين. وإن أردنا أن نقدر للدولة قيمتها وجب علينا أن نحكم عليها في ضوء المثل العليا التي يريدها لنا كبار المصلحين والأنبياء . أجل إن هجل يعتبر هذه الأحكام «ضحلة» للغاية، ولكن إذا كان «التعمق» يؤدي بنا إلى تضحية الفرد في سبيل الدولة - كما أدى بهجل إلى ذلك - فمرحبا بضحولة الأحكام. وإني لأوثر أن أكون سطحيا إن كان ذلك في مصلحة المجموع. إننا لن نفهم شيئا عن مشاكل الحكومة إلا إذا درسنا الحقائق السيكولوجية والمبادئ الأولى للأخلاق.
ومما تقدم يتضح لنا أن كل المجتمعات المتمدنة في العالم الحديث تتألف من طبقة صغيرة من الحكام أفسدتها زيادة السلطة، وطبقة كبيرة من المحكومين أفسدتها شدة الخضوع والخنوع. ولا مراء في أن الاشتراك في مثل هذا النظام الاجتماعي يجعل من العسير على الفرد أن يكون حرا عاملا في حياته، فيصبح بذلك إنسانا مثاليا ممتازا. وإنا إذا لم نوفر للأفراد درجة لا بأس بها من التحرير، وإذا لم نفتح لهم مجال العمل، فلا أمل لنا في تحقيق المثل الأعلى للجماعة، الذي يريده لنا كبار المصلحين. إن النظام الاجتماعي الطيب هو ذلك النظام الذي ينقذنا من الشر الذي يمكن تفاديه، والنظام الاجتماعي الخبيث هو ذلك الذي يوقعنا في شرور ما كان أحرانا أن نتحاشاها لو أننا أحسنا تدبير الأمور. وهمي الآن أن أكشف عن الإصلاح الذي يمكننا من تفادي الشر الذي ينجم عن طغيان الحاكم وخضوع المحكوم. وقد بينت في الفصل السابق أن الإصلاح الاقتصادي - وهو عزيز جدا على المجددين من المفكرين - لا يكفي لترقية المجتمع أو ترقية الأفراد الذين يتألف منهم المجتمع. ثم إن أي إصلاح لا ينفذ في الجو الحكومي والإداري والتعليمي الصحيح لا يؤتي الثمرة المطلوبة. ولكي نوجد الجو الملائم للإصلاح الاقتصادي يجب أن نصلح آلتنا الحكومية، وطرقنا في الإدارة العامة والتنظيم الصناعي، ونظامنا في التعليم، ومعتقداتنا الميتافيزيقية والخلقية، وسأعالج التعليم والمعتقدات في الجزء الأخير من هذا الكتاب. أما الآن فسأتعرض للحكومة وإدارة الشئون العامة وشئون الصناعة، وهذه الموضوعات المنوعة هي في الواقع أجزاء من كل واحد لا يمكن فصل أحدها عن الآخر؛ فإن طرائق الحكم السائدة، والنظم الصناعية القائمة ، لا يمكن أن يقوم بإصلاحها إلا قوم تعلموا الرغبة في الإصلاح. كما أن الحكومات - بصورتها الراهنة - لا يمكن أن تصلح نظام التعليم السائد إصلاحا يؤدي إلى قلب طرائق الحكم رأسا على عقب؛ فالمشكلة هنا حلقة مفرغة، لا مفر لنا منها إلا بجهد عظيم يبذله في مصلحة المجموع أفراد أحرار أذكياء، على علم عظيم وخلق متين، ائتلفت قلوبهم واجتمعت على فعل الخير والجميل. وسأتحدث فيما بعد عن ضرورة ائتلاف هؤلاء الأفراد، وعلى الدور الهام الذي يستطيعون أن يلعبوه في مستقبل البشر وفي إصلاح المجتمع. أما الآن فسأبحث في الأداة الحكومية وفي إدارة الصناعات.
الفصل السابع
المركزية واللامركزية
অজানা পৃষ্ঠা